الجزيرة:
2024-07-06@12:05:24 GMT

فرنسا والمغرب بعد الزلزال.. أزمة جديدة بجذور قديمة

تاريخ النشر: 19th, September 2023 GMT

فرنسا والمغرب بعد الزلزال.. أزمة جديدة بجذور قديمة

شهدت مرحلة تدبير كارثة الزلزال بمنطقة الحوز في المغرب بوادر ومؤشرات زلزال آخر على مستوى العلاقات بين المغرب وفرنسا، وهي العلاقات التي كانت تعرف نوعا من البرود خلال السنوات الأخيرة بفعل عدة أسباب، لكن رد فعل الإعلام والنخب السياسية الفرنسية، وفي مقدمتها الرئيس إيمانويل ماكرون، كشف عن هوة حادة في العلاقات، كما خلق شروط أزمة جديدة تضاف تبعاتها إلى الأزمة القديمة.

ويرجع هذا في جانب منه إلى العقل الكولونيالي الفرنسي، الذي لم يتخلص بعد من الرؤية التقليدية التي ظلت تحكم سلوكه مع المغرب وغيره من الدول الأفريقية في شمالها وغربها، مما يجعله أسير أزمات متتالية في كامل أفريقيا، ولعل ما جرى مع المغرب يكشف تجليات تلك الأزمة التي لم تكن منتظرة.

تجليات وتناقضات الموقف الفرنسي

أسفر الزلزال في أرض المغرب عن موجة من ردود الفعل الدولية المتعددة بخصوص تقديم الدعم والمساندة للسلطات المغربية من أجل تجاوز مخلفات الكارثة الطبيعية، ومن ضمن تلك الدول كانت فرنسا التي تربطها علاقات متعددة الأوجه مع المغرب، يتداخل فيها التاريخي الاستعماري بالاقتصاد والسياسة والثقافة، غير أن طريقة التدبير التي انتهجتها السلطات المغربية للزلزال، وتحديدها لنوعية المساعدة المطلوبة وطريقتها وقبول دول بعينها، هي إسبانيا وبريطانيا وقطر والإمارات، دفع الموقف الفرنسي على المستوى الإعلامي والسياسي إلى نزوع أكثر حدة تجاه المغرب، كانت له تجليات متعددة وتناقضات في الآن نفسه، يمكن رصده كالآتي:

أولا: هجوم الإعلام الفرنسي على المغرب

كان الهجوم الإعلامي من خلال الصحف والبرامج المرئية مركزا بشكل أساسي على نقطتين اثنتين، عاهل البلاد الذي يعيش بلده -المغرب- وضعا أشبه بنكبة، بينما لم تقبل السلطات المغربية استقبال الدعم من دول صرحت بذلك، ومنها فرنسا.

ثانيا: ممارسة ضغط ضمني على المغرب

كان هذا الضغط من قبل ممثلي الدبلوماسية الفرنسية، ونقصد هنا الخروج المتكرر لوزيرة الخارجية الفرنسية والسفير الفرنسي في الرباط. هذا الحديث للإعلام من ساسة فرنسا باعتماد التأويل أو التوقعات يعكس انسداد قنوات التواصل المباشر بين الرباط وباريس بخصوص الزلزال، وقد صرحت وزيرة الخارجية بأن الرئيس الفرنسي كان قد اتصل بالعاهل المغربي، لكن ملك المغرب لم يجب، لوجوده في لقاء خاص بالخلية التي تدبر شؤون الزلزال. وإذا كان الأمر كما ورد في تبرير وزيرة الخارجية الفرنسية، فقد كان من الممكن أن يتجدد التواصل لاحقا، لكن هذا لم يحصل، مما يعني أن العاهل المغربي رفض استقبال الاتصال من ماكرون، وهذه ليست المرة الأولى، ذلك أن هذا الرفض للتواصل يعد امتدادا لأزمة سابقة سنتحدث عنها لاحقا.

يهيمن على العقل الفرنسي حالة من التضخم والأنا المفرطة في تدبير العلاقة مع دول أفريقيا والعالم الثالث

ثالثا: توجه ماكرون بالحديث مباشرة إلى الشعب المغربي

مخاطبة الرئيس الفرنسي للمغاربة عبر كلمة مباشرة، بمقدار ما تعبر عن إخلال بالأعراف الدبلوماسية والسياسية، فإنها تعكس حالة توتر يعيشها العقل السياسي الفرنسي ناجمة عن أزمته مع المغرب، ذلك أن قبول الدعم من دول بعينها، واستبعاد فرنسا، يعتبر مؤشرا دالا على طبيعة الشراكات المتعددة التي ينهجها المغرب، والتي ستؤدي حتما إلى التخلص من الهيمنة الفرنسية.

رابعا: حديث وزيرة الخارجية الفرنسية

حديث وزيرة الخارجية الفرنسية عن زيارة مبرمجة للرئيس ماكرون إلى المغرب، مقابل نفي المغرب من خلال مصدر رسمي، يعتبر تتويجا لحالة من الضغط الفرنسي والرفض المضاد من المغرب للمسالك التي سلكها الرئيس ماكرون، الذي تعيش فرنسا في فترة حكمه وضعا مأساويا في أفريقيا، كما تعيش جدلا داخليا مستمرا.

محددات المغرب لقبول الدعم ورفضه

يهيمن على العقل الفرنسي حالة من التضخم والأنا المفرطة في تدبير العلاقة مع دول أفريقيا والعالم الثالث، فالعقلية الفرنسية تجر خلفها تغولا، على مستوى الأنا، واستصغارا للدول الأخرى، معتمدة على تاريخها الاستعماري الطويل إذ كانت تؤسس قوتها على استضعاف الآخرين من ناحية ومن ناحية أخرى على كونها كانت مصدرا للتحولات الفكرية الكبرى في العالم ونظم الاجتماع الحديثة، والوقوع في أسر هذا المخيال التاريخي المتضخم حول الذات من دون القدرة على النقد الجذري، هو الذي يجعل فرنسا واقعة في وحل مشكلات لا حصر لها في قضايا الهجرة والتعددية والموقف من الآخر داخل المجتمع الفرنسي، والتي اتخذت طابعا هوياتيا حادا بأفق سياسي يصعب التنبؤ بتبعاته ونتائجه، كما جعلها في مشكلة مع الآخر على مستوى أفريقيا والعالم العربي والإسلامي، في حالة فريدة لا تشاركها فيها أغلب دول الاتحاد الأوروبي.

أما عن السياق الأفريقي والمغاربي، فيمكن القول إنه ما لم تعمل فرنسا على مراجعة إستراتيجيتها في التعامل مع هذه الدول التي أضحت مجتمعاتها شديدة الحساسية -بوعي- تجاه فرنسا، فإن الأزمة ستتعمق مع المغرب وغيره من الدول، بل إن السياق الإقليمي والدولي والمجتمعي يساعد على التخلص من علاقات ظلت لعقود مصطبغة بصبغة الهيمنة والاستغلال، وحديث الرئيس ماكرون نفسه للمغاربة لم يخل من عقلية التاجر الذي يفكر في الإعمار ومنافعه، أو الذي يوظف الأدوات الممتدة على مستوى المجتمع المدني، والتي تمثل بشكل أو بآخر أداة لخدمة المصالح الفرنسية، ويبدو أن حصر المغرب للمساعدات في دول بعينها لتجنب هذه الوضعية، إذ يكون الدعم في الغالب مشروطا بحصول الشركات على امتيازات الإعمار ومنافع أخرى، تفقد فيه الدول -الواقعة في كوارث- سيادتها واستقلاليتها.

لم يرفض المغرب المساعدات من الدول التي تقدمت بذلك، ومنها دول عربية وإسلامية تشترك معه في وحدة المصير، لكنه كان حريصا على ضرورة عقلنتها لتدبير زمن الكارثة، وتوحيد تدبيرها لصعوبة جغرافيا مكان الزلزال في جبال الأطلس تجنبا للوقوع في فوضى قد تنجم عنها كارثة أخرى، ثم انتقاء دول بعينها للمساعدة بناء على الحاجة المطلوبة والخصاص الذي يمكن أن تسده تلك الدول.

ذلك أن تدبير كارثة الزلزال كانت بإشراف مباشر من ملك المغرب باعتباره رئيس الدولة. أما ما يخص شؤون الإنقاذ، فقد تم إدماج معظم القوات المدنية والعسكرية بها، وهي قوى مدربة تدريبا عاليا للتعامل مع الأزمات والكوارث، وحسب النسق السياسي المغربي، فإن الإشراف الملكي المباشر يجعل خطوات باقي الفاعلين تابعة بالضرورة أو مقيدة بسلوك رئيس الدولة، والخلية الموكول لها ذلك، كما أن تدخل المؤسسات الصلبة مثل الجيش الذي يعد ملك البلاد قائده الأعلى، من خلال فرق خاصة، قد يجعل الحاجة إلى دعم قوات مدنية محدودا.

لقد كان قبول الدعم من دول أوروبية وعربية واستثناء فرنسا التي تعتبر شمال أفريقيا والمغرب في القلب منها امتدادا لمصالحها الحيوية والإستراتيجية كالجرح الذي أصاب حكومة ماكرون

لكن هل كان قبول طلب المساعدة من دول بعينها خاليا من السياسة والمصالح السياسية كما كان رفض دول أخرى بعيدا عن السياسة؟

لماذا بريطانيا وإسبانيا بدلا من فرنسا؟

ربما لا نحتاج إلى الحديث عن مدى تميز علاقة المغرب بالدول العربية التي هبت لمساعدته، وطبيعة العلاقات الإستراتيجية التي تربط بين المملكة المغربية ودول الخليج، لكن تهمنا المصالح المشتركة للمغرب مع إسبانيا وبريطانيا حتى نفهم حالة التوتر الفرنسية والرفض المغربي.

تعرف العلاقات المغربية البريطانية تطورا ملحوظا في العقد الأخير، وقد عمل المغرب على مد جسور التعاون وتعميق شراكته بشكل أكبر مع الحلف الأنجلوساكسوني، منذ بدء الحديث عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتنامت اقتصاديا وسياسيا وثقافيا في السنوات الأخيرة، ما سيجعلها في الأمد المنظور على حساب الشريك التقليدي للمغرب في الاتحاد الأوروبي، أي فرنسا، وهذه الأخيرة على وعي بذلك. نفس الأمر مع إسبانيا التي تربطها حدود بحرية مشتركة مع المغرب، ومصالح إستراتيجية اقتصادية وسياسية وأمنية، تعززت بشكل ملحوظ بعد تجاوز الأزمة الأخيرة التي كانت بين البلدين، بحيث تحولت إسبانيا إلى مدافع عن المصالح المغربية داخل أروقة الاتحاد الأوروبي كما حظيت بامتيازات اقتصادية داخل المغرب.

لقد كان قبول الدعم من دول أوروبية وعربية واستثناء فرنسا التي تعتبر شمال أفريقيا والمغرب في القلب منها امتدادا لمصالحها الحيوية والإستراتيجية كالجرح الذي أصاب حكومة ماكرون، وهذا في الواقع يشكل قلقا لفرنسا برمتها. ذلك أن ماكرون سيكون موضوع مساءلة مجتمعية وإعلامية عن نهجه السياسي الذي جعل فرنسا تفقد مراكز تواجدها في أفريقيا، إن لم يكن ذلك بشكل تام اليوم، فإن تعديد الشركاء الذي ينهجه المغرب سيتجه حتما إلى التحلل من الهيمنة الفرنسية، وهو ما يتطلب إرادة سياسية مغربية تبني على الوعي المجتمعي الذي تم التعبير عنه، سواء في الأشكال التضامنية بخصوص الزلزال أو في القضايا الوطنية الأخرى.

جذور الأزمة مع فرنسا

أما عن جذور الأزمة الراهنة بين حكومة ماكرون والمغرب، فإنها تتجاوز حادث الزلزال إلى ما قبل، وتتمثل في عدم استجابة باريس للمغرب من خلال موقف داعم وبشكل صريح في قضية الصحراء المغربية يتجاوز الموقف التقليدي الإيجابي بخصوص الحكم الذاتي، وبما يلائم الوضعية الجديدة للأقاليم الجنوبية مع الاعتراف الأميركي.

هذه واحدة من الأسباب الأولى للأزمة بين المغرب وفرنسا، ويمكن القول إنها أزمة بين الرباط وحكومة ماكرون أساسا. قد تكون لها دوافع أخرى اقتصادية تخص التنافس الإقليمي والدولي في أفريقيا، لكنها ربما لا تمتد في الزمن الراهن إلى القطيعة الكاملة، لطبيعة المصالح المتشابكة، ثم لوجود لوبي فرانكفوني في المغرب، ولوبي يخدم المصالح المغربية داخل فرنسا، وهي أزمة سيتم استيعابها.

الحاجة إلى التخلص من الهيمنة الفرانكفونية بالمغرب

سبقت الإشارة إلى تعديد الشركاء الذي ينهجه المغرب، ذلك أن هذا الخيار هو المنفذ الذي يمكن من خلاله تجاوز حالة التبعية. لكن الوجود الفرنسي بمختلف أشكاله في المغرب ظل حاضرا في كل حقب مغرب الاستقلال، إذ وضع أحد رموز الحركة الوطنية اصطلاحا بارزا لما يمثله اللوبي أو قوة الضغط الفرنسية في المغرب، وهو مفهوم "القوة الثالثة".

إن القوة الثالثة، التي تمثل تجمعا لنخب اقتصادية وثقافية وسياسية، وتعد امتدادا طبيعيا لفرنسا في مغرب الاستقلال، هي التي عمقت الشرخ تاريخيا بين جزء من الحركة الوطنية والملكية، وظلت قريبة من مركز الحكم في سياق الصراع السياسي، وإذا أردنا أن نضع لها محددات تتسم بها وتشكل عناصر إعاقة لنهضة حقيقية في المغرب، فهي من حيث جينات تشكيلها السياسي والاقتصادي معادية للديمقراطية والاستقلال بجوانبه السياسية والثقافية والاقتصادية.

إن جانبا من أزمة فرنسا والرئيس ماكرون مع المغرب، هو تعبير عن أزمة تخص داخل فرنسا

لم تندثر القوة الثالثة في المغرب، بل تمددت واتسعت لتشكل نخبا وقوى اقتصادية وسياسية وثقافية أكثر تجذرا في الإدارة والثقافة والاقتصاد، لذلك فإن الحديث عن التحرر من الهيمنة الفرنسية، يبدأ أساسا من إضعاف الامتداد الفرنسي في المغرب، في الإدارة والثقافة والتعليم والاقتصاد، ولعل القانون الخاص بالتعليم الذي وضع قبل ست سنوات فقط "القانون الإطار"، يوضح الخطأ الإستراتيجي الذي نهجه المغرب، ويحتاج مراجعة عاجلة، لأن رهن الأجيال للغة وثقافة ميتة في سياق عالمي تنافسي هو رهن لمقدرات بلد وتحويله بشكل إرادي إلى وضعية أسر في قفص فرنسا ومصالحها، وإضرار بمقدرات المغرب وممكناته في النهوض مستقبليا، ولعل اللحظة الراهنة تمثل مدعاة حقيقية لتصحيح جملة من الأخطاء التي وقعت، ومثلما يحصل في الاقتصاد من بروز قوة اقتصادية مغربية تعوض الوجود الفرنسي، فإن الخيارات الثقافية والتربوية تعد رهانا إستراتيجيا في أي استقلال أو سيادة أو نهوض حضاري شامل.

ختاما: إن جانبا من أزمة فرنسا والرئيس ماكرون مع المغرب، هو تعبير عن أزمة تخص داخل فرنسا، وبشكل أكبر تخص العقل السياسي الفرنسي، ذلك أن الصفيح الساخن الذي تعيش على وقعه فرنسا اقتصاديا واجتماعيا وهوياتيا، يوازيه لهيب آخر يخص المصالح الفرنسية في أفريقيا وفي الدول التي كانت تعد معقلا لفرنسا.

وبالإضافة إلى التحولات التي يشهدها النظام الدولي وتراجع أدوار عدد من القوى والدول ومنها فرنسا، فإن هناك حالة احتباس في العقل السياسي الفرنسي، فهو ينتج الأزمات داخليا وخارجيا، ولن يتجاوز هذه الوضعية من دون مراجعة جذرية للمرتكزات التاريخية والثقافية التي تشكل عليها، وهي مرتكزات إقصائية بطبيعتها في حق الآخر. أما بالنسبة للمغرب، فإن الديناميات المجتمعية التي عبرت عن وعي يقظ وقدرة على الفعل والمبادرة اجتماعيا، بل والرفض والاستهجان للسلوك الفرنسي، تتطلب استيعابا واستجابة من طرف الدولة بما يجعل اللحظة الراهنة لحظة تاريخية في تكامل للأدوار بين الدولة والمجتمع على قواعد متينة من التضامن المجتمعي والحرية والديمقراطية، وتفعيل آليات الحوكمة لتحقيق تنمية شاملة لمغرب الهامش مثلما يجري في المركز، ونهضة تتأسس على المقدرات الذاتية، وأهم تلك المقدرات هو الإنسان والثقافة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: وزیرة الخارجیة الفرنسیة الاتحاد الأوروبی الرئیس ماکرون الدعم من دول من الهیمنة فی أفریقیا على مستوى مع المغرب فی المغرب من خلال ذلک أن

إقرأ أيضاً:

وصول اليمين المتطرف للسلطة في فرنسا

ترجمة: بدر بن خميـس الظفري -

عاجلا أو آجلا، وربما في وقت مبكر من الأسبوع المقبل، سوف يتولى حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف السلطة في فرنسا. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعثت من الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت يوم الأحد الماضي، والتي نجح فيها القوميون المناهضون للهجرة بزعامة مارين لوبان في مضاعفة نتائجهم في الانتخابات الأوروبية بنسبة إقبال أعلى بكثير.

مخاطرة الرئيس إيمانويل ماكرون بحل البرلمان، والسعي للحصول على «تفويض» من الناخبين بعد حملة انتخابية قصيرة للغاية استمرت ثلاثة أسابيع أتت بنتائج عكسية مذهلة على أنصاره. واحتل ائتلافه الوسطي المركز الثالث بفارق كبير خلف حزب التجمع الوطني والجبهة الشعبية الجديدة اليسارية في التصويت الشعبي، ويبدو أنه سيحتفظ بأقل من 100 مقعد من مقاعده البالغ عددها 249 مقعدا في الجمعية الوطنية المؤلفة من 577 عضوا. وبعد الانتخابات الأولى التي جرت يوم الأحد، دعا ماكرون إلى «تجمع حاشد واسع النطاق لدعم المرشحين الجمهوريين والديمقراطيين» ضد اليمين المتطرف، لكن القليل من الناس يستجيبون.

لقد انتهى عصر ماكرون، حتى لو بقي الرئيس في قصر الإليزيه حتى تنتهي فترة ولايته في عام 2027، فقد رفضه الناخبون بأغلبية ساحقة للمرة الثانية خلال شهر واحد. وسوف تتضاءل سلطته على المستوى الداخلي والأوروبي إلى حد بعيد، أيا كانت نتيجة جولة الإعادة في الأسبوع المقبل.

ومن المتوقع أن تصبح فرنسا، العضو المؤسس والقوة الدافعة في الاتحاد الأوروبي، واقتصاد مجموعة السبع، والطاقة النووية والعضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، شريكاً صعبا وأكثر تركيزاً على الشؤون الداخليّة في مفاوضات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وأقل تأييدا لأوكرانيا وستكون باريس عائقا في طريق المزيد من التكامل الأوروبي.

وسواء فاز حزب الجبهة الوطنية بالأغلبية المطلقة في الجولة الثانية يوم الأحد المقبل وأصبح جوردان بارديلا، تلميذ لوبان البالغ من العمر 28 عاما، رئيساً للوزراء، أو لم يفز وتحملت فرنسا فترة من عدم الاستقرار مع برلمان مُعلّق، فإن الأمر ليس سوى مسألة وقت قبل أن يسيطر على الحكومة القوميون غير المتحمسين للعمل الأوروبي، والمؤيدون لإعطاء القضايا الفرنسية الداخلية أولوية.

وقال رئيس الوزراء (غابرييل أتال)، في نداء حزين للناخبين مطالبا إياهم ببذل كل ما في وسعهم لإغلاق الطريق أمام حزب الجبهة الوطنية: «اليمين المتطرف على أبواب السلطة». فاز الحزب الذي أسسه جان ماري لوبان، المدان بإنكار المحرقة، بنسبة 33% بحوالي 10.6 مليون صوت و37 مقعدًا يوم الأحد، وجاء الدعم في الغالب من مدن في المناطق الصناعية الشمالية (حزام الصدأ) والمناطق السياحية الجنوبية (حزام الشمس). وحصل التحالف اليساري الذي شُكّل على عجل والذي يهيمن عليه حزب جان لوك ميلينشون الراديكالي «فرنسا الجامحة» على 28% من الأصوات، وكتلة المجموعة الوسطية على 20.76%. وسجل الجمهوريون المحافظون 6.56% بعد انشقاق زعيمهم إريك سيوتي ليتحالف مع حزب الجبهة الوطنية.

وتشير التوقعات بناء على نتائج يوم الأحد إلى أن حزب التجمع الوطني سيحصل على ما بين 240 إلى 270 مقعدا بعد جولة الإعادة، بينما سيفوز حزب الجبهة الوطنية ما بين 180 إلى 200، ووسط ماكرون بـ 60 إلى 90 مقعدا، وحزب يمين الوسط (الديجولي) من 30 إلى 50 مقعدا، بينما ستذهب ما يصل إلى 20 مقعدا إلى المرشحين الآخرين. وتحتاج الأغلبية إلى 289 مقعدا، لذا تشير هذه التوقعات إلى برلمان معلق بدون أغلبية واضحة، والذي سيواجه صعوبات في تمرير الميزانية، مما قد يدفع ماكرون إلى حل الجمعية مرة أخرى في غضون 12 شهرا.

ولا تزال هناك الكثير من الشكوك، لأنه في أكثر من 300 دائرة انتخابية، فاز ثلاثة مرشحين أو أكثر بما يكفي من الأصوات لخوض الاقتراع الثاني.

يبدو دعم حزب الجبهة الوطنية قوياً للغاية، كما أن فرص توحد قوى يمين الوسط والوسط واليسار في غضون خمسة أيام فقط من الحملات الانتخابية لمنع فوزه غير مؤكدة إلى حد كبير، لدرجة أن بارديلا قد يحقق أغلبية عامة مفاجئة في الأسبوع القادم.

ذلك أن الناخبين من اليمين واليسار أجمعوا على حد سواء على رفض نهج ماكرون التكنوقراطي من أعلى إلى أسفل في التعامل مع الحكم وسياساته الرامية إلى تحرير الاقتصاد والتركيز على الإنتاج. تعكس نتائج الانتخابات يوم الأحد، جزئيًا، رد فعل عنيفا ضد إصلاحاته المثيرة للجدل، بما في ذلك التغييرات التي لا تحظى بشعبية بشأن معاشات التقاعد وأنظمة سوق العمل والتي رفعت سن التقاعد وخفضت إعانات البطالة، مما أدى إلى احتجاجات واسعة النطاق.

لقد تخلى حزب لوبان أو أَجّلَ العديد من وعوده الاقتصادية الأكثر تكلفة، وربما يتعامل بحذر مع السياسة المالية لتجنب إثارة قلق الأسواق المالية التي رفعت بالفعل علاوة المخاطر السياسية على الاحتفاظ بالأسهم والسندات الفرنسية.

ومع ذلك، يهدف بارديلا إلى تحفيز وجذب مؤيديه من خلال التركيز على القضايا الرئيسية مثل الهجرة والأمن. إن الجبهة الوطنية ثابتة في هدفها المتمثل في إنهاء حق المواطنة بالولادة للأطفال المولودين لأجانب على الأراضي الفرنسية، وتنفيذ سياسة المعاملة التفضيلية للمواطنين الفرنسيين في الرعاية الاجتماعية والإسكان والتوظيف العام. ومن المرجح أن تؤدي سياسة «التفضيل الوطني» هذه إلى إثارة صدامات مع أعلى الهيئات القانونية في فرنسا، وهما المجلس الدستوري ومجلس الدولة، مما قد يؤدي إلى أزمة دستورية إذا حاولت الحكومة تجاهل أو إضعاف سلطة المحاكم.

وعلى نحو مماثل، في أوروبا، قد تؤدي خطط حزب الجبهة الوطنية المعلنة للانسحاب من سوق الكهرباء في الاتحاد الأوروبي والمطالبة بخصم على مساهمة فرنسا في ميزانية الاتحاد الأوروبي إلى خلافات مع بروكسل. من المرجح أن تقاوم الحكومة التي يقودها حزب التجمع الوطني تنفيذ تشريعات المناخ في الاتحاد الأوروبي وتسعى إلى إلغاء الحظر المفروض على المبيدات الحشرية الكيميائية ومكافحة الأنظمة البيئية التي أثارت احتجاجات عنيفة نظمها المزارعون الفرنسيون في وقت سابق من هذا العام.

وقال بارديلا إن حزب الجبهة الوطنية سيرفض دخول الحكومة ما لم يفز بالأغلبية المطلقة في البرلمان. وقد يكون هذا مجرد تكتيك لتحفيز الناخبين، وقد يحاول تشكيل ائتلاف غير رسمي مع مجموعة من النواب المستقلين وإغراء النواب من حزب اليسار، الحريصين على إنقاذ مظهرهم السياسي مع اضمحلال حزبهم الديغولي الذي كان عظيماً ذات يوم.

حتى الآن، لا يوجد على الإطلاق بدائل لحكومة يقودها حزب الجبهة الوطنية. وتحدث أتال مساء الأحد الماضي عن السعي لبناء تحالف بين القوى الديمقراطية والجمهورية التي تشمل الاشتراكيين ويسار الوسط الأخضر إلى اليسار. لكن الأرقام غير منطقية حتى لو كان الاشتراكيون والخضر على استعداد للتخلي عن تحالفهم مع يسار ميلينشون المتشدد، وهو أمر يبدو أنه غير مرجح في الوقت الحالي.

إن لم يفز أي حزب بأغلبية واضحة، فقد يطلب ماكرون من أتال الاستمرار في منصب رئيس الوزراء ومحاولة الحكم بدعم من مجموعات مختلفة حول قضايا محددة. ومع ذلك، قد تواجه الحكومة الهشة انقلابًا سريعًا من خلال التصويت بحجب الثقة خلال مناقشات الميزانية في الخريف. وبدلاً من ذلك، يمكن للرئيس أن يفكر في تشكيل حكومة خبراء غير حزبية ذات تركيز ضيق، لكن هذه الحكومة قد تكون أيضًا قصيرة الأجل بسبب الاستياء الواسع النطاق من قيادة ماكرون.

لذا يبدو أن الاختيار هو بين حكومة حزب التجمع الوطني الآن، وحكومة حزب التجمع الوطني لاحقا، بعد المرور بفترة من الفوضى وعدم الاستقرار، تؤدي أخيرا إلى انتخابات أخرى.

بول تايلور هو زميل زائر كبير في مركز السياسة الأوروبية.

مقالات مشابهة

  • المؤسسات اليهودية في فرنسا تضغط على مارسيليا للتراجع عن ضم عطال
  • مؤرخ بريطاني: الجمهورية الفرنسية الخامسة قد تنهار هذا الأسبوع
  • وزير إسباني يدعو من مليلية للحفاظ على روابط العلاقات مع المغرب
  • غموض وتوتر قبل 3 ايام من الدورة الثانية للانتخابات التشريعية الحاسمة في فرنسا
  • الشرطة الفرنسية تنتشر في الشوارع تحسبا لاضطرابات خلال الانتخابات
  • فرنسا: نشر 30 ألف شرطي تحسبا لأي اضطرابات خلال الجولة الثانية من الانتخابات
  • تحليل : المغرب لن يتأثر بصعود اليمين المتطرف إلى السلطة بفرنسا
  • فرنسا قلقة من تصاعد التوترات جنوبا.. ميقاتي: العدوان الاسرائيلي تدميري وارهابي
  • هل تعيد فرنسا سيناريو عام 2002؟
  • وصول اليمين المتطرف للسلطة في فرنسا