أثير – الإعلامي العربي زاهي وهبي

القراءة ليست مجرد هواية. القراءة طقس مثل كل الطقوس التي نمارسها في حياتنا اليومية. لا يولد الإنسان قارئاً، لكنه إذا أراد يفعل. ممارسة القراءة تشبه ممارسة الرياضة، لا بد لها من مران يومي حتى تغدو عادة لا يمكن الاستغناء عنها. ولست أغالي إذ أقول إنها من أجمل العادات، ولكل امرىء من دهره ما تعود.

القراءة في الصغر كالنقش في الحجر. لأن ما نقرأه صغاراً ينحفر في وعينا وذاكرتنا ويرافقنا إلى آخر العمر. مَن يعتاد القراءة ينضج بشكل أسرع، ومع مرور الوقت يصبح قادراً على اختيار ما يناسب ذائقته ويوافق هواه. ونافل القول إن القراءة مدماك متين لكل مهنة. فكيف الحال إذا كان القارئ عاملاً في مجال تلزمه ثقافة عامة، وهي تلزم كل مجال.

القراءة ليست فعلاً عابراً، والقارىء ليس مجرد متلقٍ لنصٍّ يكتبه سواه، إنه شريكٌ فاعلٌ في هذا النص، يُضفي عليه من عنده ويمنحه معانٍ وأبعاداً قد لا تكون في ذهن صاحبه أصلاً. تتعدد المعاني والأبعاد بتعدد القرّاء، لا غرابة في ذلك ولا استهجان. القارىء ليس واحداً، كلُّ قارىءٍ يختلف عن سواه باختلاف شخصه ووعيه وثقافته ومعرفته وموقفه من الوجود والكائنات، وكلُّ قارىءٍ يقرأ النصَّ محمَّلاً بكلِّ ما ذكرناه، وأحياناً كثيرة يمارس نوعاً من الإسقاط الذاتي على ما بين يديه، أو بالأحرى ما بين السطور التي بين يديه.

الواقع أن ما مِن قارىءٍ صافٍ مئة في المئة، يقارب النصَّ الذي بين يديه متحرراً من المكونات التي تُشكِّل  شخصيته ومنطلقاته، حتى لو شاء فإنه لن يستطيع. التجرُّد الكليُّ الخالص من الزوائد والشوائب والمؤثرات ليس من هذا العالم، لذا يغدو النصُّ، كلّ نصٍّ، نتاج طرفين: المُرسِل والمتلقي. ومن البديهي أن لكل رسالة مُرسِل ومُرسَل إليه.
أَيَعني ما تَقَدَّم أن يضعَ الكاتبُ في ذهنه شركاءَ له في كتابة النصِّ؟

سبق لي أن كتبت هنا أن ولادةُ النصِّ شيء ونشرُهُ على الملأ شيءٌ آخر مختلف تماماً. عملية الكتابة تشبه إلى حدٍّ بعيد حالة الحمل لدى الأنثى، يتشكَّل النصُّ بين يديّ صاحبه مثلما يتكوَّن الجنين في رحم أمه. إذاً هي حالة ذاتية جداً لا شريك فيها سوى الملقِّحات، أي العوامل والمؤثرات الروحية والفكرية والشعورية التي تضافرت ودفعت الكاتب إلى كتابةِ ما كَتَب. لحظةُ الكتابة نفسها تشبه الولادة الذاتية، الولادة من دون قابلة أو طبيب، يعيش الكاتب مخاض نصِّه بمفرده، وحيداً إلا من أوجاع المخاض، وهي هنا أوجاع نفسية وفكرية. أما لحظة خروج النصِّ إلى العلن فَلَهَا أن تشبه فرح الجميع بالمولود الجديد. من الآن فصاعداً ينطلق النصُّ إلى فضاء حريته، لا يعود مُلْكاً لصاحبه، بل أيضاً لشركاءَ آخرين لا يعرفهم ولا يعرفونه إلا اسماً على غلاف كتاب. شركاءٌ لا ينبغي لهم الحضور في ذهن الكاتب إلا بعد فراغه من الكتابة، لأن حضورهم أثناءها يجعلها شبيهة بما يطلبه المستمعون، و”الكاتب ليس خادماً عند القارئ” وِفق إبراهيم نصرالله، والمعنى هنا ليس تقليلاً من مكانة القارئ بل حرصاً على توازن العلاقة بين طرفيها.

حين يبدأ القارئ رحلته مع الكتاب مبحراً بين كلماته وسطوره فإنه لا يضع نفسه مكان الكاتب ولا يستحضر الظروف التي أحاطت بولادة النصِّ، هذه مهمة الباحث والناقد، أما القارئ فيدخل عالم الكتاب نفسه، يحيا بين دفتي غلافه طوال مدة القراءة، يتفاعل مع طروحاته وأحداثه، ويضفي عليه من عنده، من المعنى الذي فهمه أو استنبطه، ولا ضير إن كان مختلفاً عن المعنى الذي في قلب الكاتب!

يحدث أن يمنحَ قارئ ما النصَّ الذي بين يديه معانٍ لم تخطر في بال الكاتب بتاتاً، يمكنها أن تكون أكثر عمقاً وأبعد مدى، مثلما يمكنها أن تكون أقلّ، ليست المسألة مبارزة أو مفاضلة بين الكاتب وقارئه. كلُّ نصٍّ إبداعيٍّ حمَّالُ أوجه، وللقارئ اختيار الوجه الذي يناسب هواه ويتوافق مع مستواه المعرفي وذائقته الفنية. هذا مهم جداً، لكن الأهم هو القارئ نفسه، ضرورته من ضرورة الكاتب. كما أسلفنا لا معنى للمرسِل بلا متلقٍ. حتى الرسالة التي نكتبها ونضعها في قارورة ونرميها في بحر نتوقع ونتمنى أن يحظى بها أحدٌ ما على شاطىءٍ ما كي لا تظلّ تائهة على متن الأمواج كأنها لم تُكتَب ولم تُرسَل، ويصح فيها حينئذ قول السيدة فيروز غناءً: كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا، كتبنا مية مكتوب وما حدا جاوبنا!

حين يُخرِجُ الكاتب نصَّاً من عتمته الجنينية ويطرحه على الملأ هذا يعني أنه يرسله لقارئ ما، “لأن الكتاب الُملقى على الرفِّ أشبه بالجسم الميت تدبُّ فيه الحياة إذا ما امتدت إليـه يـَدُ القارئ” بحسب جان بول سارتر. بهذا المعنى الذي يذهب إليه فيلسوف بمكانة سارتر يكاد القارىء يضاهي بأهميته الكاتب لأنه مانحُ الحياة لما يكتبه الكاتب.

‏نكتب عن مكانة القارئ وضرورته ونحن ندرك أن واقع القراءة عند العرب ليس في أحسن حال. لئن صدّقنا استطلاعات “اليونسكو” الأوروبي يقرأ خمسة وثلاثين كتاباً في السنة، فيما يقرأ الإسرائيلي نحو أربعين كتاباً خلال الفترة نفسها مقابل ربع صفحة للعربي، أما بحساب الدقائق فيقرأ كلٌّ من الأوروبي والأميركي مئتي دقيقة في السنة مقابل ست دقائق للعربي. صدقاً لا أود تصديق نتائج هذه الاستطلاعات، لأنها إذا صحّت فهي مخيفة ومرعبة.

إذا كانت القراءة لا تشكّل جزءاً من الحياة اليومية للإنسان العربي بفعل أسباب كثيرة ومعروفة مثل شيوع الأمية والفقر والحروب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. فإن مهمة التشجيع على القراءة تغدو أكثر من ضرورية. أن تصير قارئاً ليست مسألة تلقائية، يلزمك مناخ مشجع وبيئة حاضنة والتعوُّد على أن يكون الكتاب (ورقيّ أو إلكتروني) جزءً من حياتك ويومياتك، هذه مهمة ترقى إلى مصاف المهام الوطنية والقومية. إذ لو كانت أمة اقرأ تقرأ كنا تجنبنا كثيراً من الكوارث التي حلَّت بِنَا، ووضعنا سداً أمام الخراب العميم الذي أصاب حاضرنا مهدداً مستقبلنا. حين نترك الكتاب زينةً على الرفّ فإننا لا نغلق دفتيه على الحياة الدائرة على صفحاته، بل أيضاً على بعض من حيواتنا.
القراءة عادة، عادة حميدة ومفيدة. اكتساب هذه العادة يبدأ في البيت، المدرسة، الجامعة، البيئة المحيطة من أصدقاء وزملاء، فضلاً عن المسؤولية الجماعية الملقاة على عاتق السلطات والمؤسسات المعنية المقصّرة تقصيراً يرقى إلى مرتبة الخطيئة.
**
القراءة حياة، والقارىء الحقيقي يحظى بِعَيْش أكثر من حياة.
**
ويلٌ لأمّةٍ لا تقرأ كتابها.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: أکثر من

إقرأ أيضاً:

“الزكاة والضريبة والجمارك” في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة “كبتاجون

​تمكّنت هيئة “الزكاة والضريبة والجمارك” في منفذ الحديثة من إحباط 5 محاولات لتهريب 313,906 حبة “كبتاجون”، عُثر عليها مُخبأة في عدد من المركبات القادمة إلى المملكة عبر المنفذ.
وأوضحت الهيئة بأنه عند خضوع عدد من المركبات والشاحنات للإجراءات الجمركية والكشف عليها عبر التقنيات الأمنية والوسائل الحية “الكلاب البوليسية”، عُثر على تلك الكميات من حبوب “الكبتاجون” مخبأة بطرق مختلفة، حيث عُثر في المحاولة الأولى على 86,000 حبة كبتاجون مُخبأة بداخل فتحة السقف الخاصة بالمركبة، وجزء من الكمية كان مُخبأ أسفل الملابس التي يرتديها المهرب.
وفي المحاولة الثانية عُثر على 65,116 حبة كبتاجون مُخبأة في ثلاجة خاصة بكابينة الشاحنة، كما أحبط المنفذ محاولة تهريب ثالثة، حيث عُثر على 52,907 حبوب، كانت مُخبأة بداخل أرضية إحدى المركبات القادمة عبر المنفذ. وفي المحاولة الرابعة تمكن المنفذ من إحباط تهريب 55,232 حبة، كانت مُخبأة بداخل خزان وقود إحدى المركبات القادمة، كما تم إحباط محاولة تهريب 54,651 حبة عُثر عليها مخبأة بداخل الإطار الاحتياطي لإحدى المركبات.
وأكّدت هيئة “الزكاة والضريبة والجمارك” أنها ماضية في إحكام الرقابة الجمركية على واردات وصادرات المملكة، وتقف بالمرصاد أمام محاولات أرباب التهريب، وذلك تحقيقًا لأبرز ركائز إستراتيجيتها المتمثلة في تعزيز أمن وحماية المجتمع بالحد من محاولات تهريب مثل هذه الآفات وغيرها من الممنوعات.ودعت الهيئة الجميع إلى الإسهام في مكافحة التهريب لحماية المجتمع والاقتصاد الوطني من خلال التواصل معها على الرقم المخصص للبلاغات الأمنية (1910) أو عبر البريد الإلكتروني ([email protected]) والرقم الدولي (00966114208417) حيث تقوم الهيئة من خلال هذه القنوات باستقبال البلاغات المرتبطة بجرائم التهريب، ومخالفات أحكام نظام الجمارك الموحد وذلك بسرية تامة، مع منح مكافأة مالية للمُبلّغ في حال صحة معلومات البلاغ.

مقالات مشابهة

  • “أمير الشعراء” يستعرض في حلقاته التسجيلية إسهامات أعلام الشعر العربي
  • النسخة الأولى من مبادرة “وعد” توفر أكثر من مليون فرصة تدريبية لعام 2023
  • “الزكاة والضريبة والجمارك” في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة “كبتاجون
  • بعد هروب حاملة الطائرات “لينكولن”.. لمن البحر العربي اليوم؟
  • "تعليم مكة" تطلق الدورة التاسعة لمسابقة تحدي القراءة العربي
  • “البديوي”: نشيد بالجهود التي تبذلها وزارات الدفاع بدول المجلس لتبادل الخبرات والتجارب
  • “سوق السفر العربي” 2025 يركز علي سبل تعزيز السياحة المستدامة
  • “الجيش” الذي أذهل أمريكا والغرب..!
  • “ناشئة الشارقة” تحصد جائزة خاصة في مهرجان القاهرة الدولي للطفل العربي
  • شاهد | الصاروخ الذي قصفت به السعودية “تل أبيب” .. كاريكاتير