بني هلبة والسلامات: الدعم السريع وسيطاً في حرب داخل حرب (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
في حين يخوض “الدعم السريع” حربه مع الجيش السوداني وجد نفسه مضطراً إلى الالتفات لحرب تدور في مناطق نفوذه ومناصريه، بل بين منتسبيه. فاندلعت منذ منتصف أغسطس (آب) الماضي حرب بين شعبي بني هلبة والسلامات في جنوبي دارفور. وفشلت مساعي عدد من زعماء القبائل حتى يوم 16 منه في نزع فتيلها.

ووقعت الاشتباكات المسلحة بينهما في منطقة كبم التابعة لمحلية عد الفرسان، مركز إدارة قبيلة بني هلبة، وأدت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى من الطرفين.
وجاء في المصادر أنه تم نقل عدد من الأسر من قبيلة السلامات من بلدة كبم إلى منطقة أم دخن الحدودية بين السودان وتشاد بما يعيد للأذهان تهجير أسر من السلامات أنفسهم إلى أم دخن بعد صراع قديم لهم مع شعب المسيرية في أكتوبر (تشرين الأول) 2013. وقالت مصادر من القبيلتين إن لجنة المساعي عقدت جلسات عدة مع ممثلين للقبيلتين كل على حدة، لكنها لم تستطع التوفيق بين الطرفين للتوصل إلى تفاهمات تضع حداً للمواجهات المسلحة بين الجماعتين.
ومما له علاقة بالحرب الراهنة في السودان تحول منتسبو “الدعم السريع” في الجماعتين كل إلى قبيلته التي تؤويه، فعاد كل فريق منهم من ساحة الوغى في الخرطوم ونيالا وزالنجي للحرب مع أهلهم بالأسلحة الثقيلة والسيارات ذات الدفع الرباعي، وغالبه من عتاد “الدعم السريع”.
للسلامات، الطرف في هذه الحرب داخل الحرب، سيرة في الصراع على الوجود في السودان تضافرت على نسجها عوامل إيكولوجية وسياسية واجتماعية وثقافية، بل وعالمية. وسيساعد الوقوف عندها في فهم نزاعها هذا مع بني هلبة في غمرة حرب وطنية ماحقة.
أصل العرب السلامات منطقة أم تيمان في تشاد، وجاؤوا إلى السودان في جماعات بسبب سياسات فرنسية وسياسية ووطنية وطبيعية، وأقاموا بين عرب التعايشة البقارة التي تحاذيهم من جهة السودان، وكانوا يحصلون على الجنسية السودانية حتى 1979 باسم التعايشة صاحبة الدار، أو الحاكورة.
ومن أعراف المستجير بحاكورة ألا يطمع في ملكية الأرض التي قد يزرعها أو يرعى فيها ويسقى منها، وعليه رسوم عينية يدفعها لقاء هذا الانتفاع، ومتى لم تكن للجماعة دار تجردت من الحقوق السياسية التي تتمثل في رتبة “النظارة” التي لها التصريف على الدار وتكون مقاليدها بيد شيخ الجماعة مالكة الحاكورة.
ويسمح قانون الإدارة الأهلية وأعرافها لمثل السلامات بمناصب دون النظارة على خاصة أهلهم مثل الشيخ أو العمدة خاضعة للناظر. ومسمى هذا الوضع عرفياً هو “التبع”، ويعرف أهله بـ”الأكالة”، أي أن تكتفي من الحقوق بما تأكل مما تزرعه في أرض غيرك، ولا شأن لك بسياساتها، وهو وضع مهين ضرج الريف السوداني بنزاعاته الفادحة. ومتى تكاثرت الجماعة كان أول ما تفعل هو الانعتاق من هذا الوضع المهين لحيازة دار باسمها ونظارة. وغالباً ما تنازعت طويلاً مع الجماعة صاحبة الدار لتأكيد ذاتيها في معارك تكاد لا تنتهي. فاحتربت السلامات من أجل تأكيد ذاتيتها لا مع التعايشة الذين أجاروها أولاً فحسب، بل مع جيرتهم من عرب بني هلبة والهبانية.
ومع ذلك كان أقصر الطرق إلى الخروج من التبع إلى الدار المعززة أن تعقد مثل السلامات صفقة مع الحكومة المركزية في الخرطوم جائزتها الدار والنظارة. وكانت دولة الإنقاذ (1989-2019) حالة مثالية لعقد مثل تلك الصفقات مع كل مطالب بالنظارة. فمعلوم أنه قامت ضدها في دارفور منذ 2003 حركات مسلحة احتاجت حكومتها للاستعانة بوكلاء محليين لحربها.
واختلفت أدوار السلامات مع الإنقاذ حرباً وصلحاً في سعيهم للخروج من ربقة التبع. فحاربوا مع الإنقاذ “تمرد” بولاد الإسلامي في دارفور عام 1999 والقبائل غير العربية من 2003 إلى 2005، والتقوا بالرئيس عمر البشير في 2008 وبايعوه على المنشط والمكره ليصدق لهم برتبة النظارة، ووعدهم ولم يوف، واضطرت السلامات إلى إنشاء حركتها المسلحة لمقاومة الإنقاذ باسم “الحركة الثورية للمهمشين”، ولكنها عادت لتتصالح مع الحكومة بفضل زعيم جديد لها جاء من القوات المسلحة السودانية. فنجح في دمج المسلحين من جماعته في الاستخبارات العسكرية وحرس الحدود. ونالت القبيلة أخيراً رتبة النظارة في 2011 من فوق بعض دار كانت لغيرها مما أوغر أهلها عليها.
ومن المثير أن توقف محمود ممداني في كتابه الذائع “المنقذون والمنقذون: دارفور والسياسة والحرب على الإرهاب” (2009) عند السلامات في سياق الحرب الباردة. فسعى، في قوله، معمر القذافي بعد نزاعه مع أميركا إلى سبيلين، تعزيز علاقاته مع الاتحاد السوفياتي وتعبئة عرب تشاد المبعدين من آلة الحكم في بلدهم لفتح جبهة شرقية ضد تشاد التي كان يحاربها طمعاً في استكمال مشروع توسعه فيها منذ 1978 إلى 1987. فكانت حروب تشاد الأهلية في سنوات ما بين أوائل السبعينيات إلى التسعينيات قد ألجأت طوائف كبيرة من النازحين إلى السودان.
وتقول الإحصائيات إن نسبة النازحين من تشاد إلى دارفور بلغت 10 في المئة من سكانها. فمن جاؤوا فرادى ذابوا في جماعات أهلهم بدارفور وفقدوا هويتهم التشادية، ووجدت حكومة الإنقاذ في هذا الفيض من النازحين مصدراً للتجنيد في الدفاع الشعبي وغيره من نظمها شبه العسكرية متى دعا الداعي. وحصل هؤلاء التشاديون على الجنسية السودانية متى تجندوا. أما من جاء بجماعته مثل السلامات فدخل في مطب أعراف الحاكورة ومقتضاها كما رأينا.
وترتب أمران على هذا التجييش لعرب تشاد، أولهما وفود كتلة من البشر لدارفور أحسنت استخدام السلاح خلال انتسابها لحركات معارضة في تشاد، أما الأمر الثاني فهو نشوء أيديولوجية عربية للتضامن من فوق مظالم هذه الجماعة كرعاة في الساحل الأفريقي تجسدت في مثل التجمع العربي ووثائقه التأسيسية مثل “منفستو قريش”.
واندلق السلاح على دارفور عبر تشاد التي تسلحت بسخاء من أميركا في حين فعل الاتحاد السوفياتي المثل مع القذافي. وبلغ رخص السلاح حد أن لم يزد سعر الكلاشنيكوف على 40 دولاراً. ومن تلك البيئة المسلحة حتى أسنانها خرجت ظاهرة الجنجويد، وهم خلعاء القبائل الذين يحترفون النهب ويؤجرون بندقيتهم بالثمن. وقال ممداني إن الجنجويدية هي محنة الرعاة على نطاق الساحل. واضطر عدوان هؤلاء العرب على المزارعين في جبل مرة إلى إنشاء المزارعين لحركاتهم المسلحة التي تذود عنهم.
لفت ممداني النظر إلى أن العرب البادية قليلة الاكتراث للحدود السياسة التي تواضعنا عليها. فليس من أرض تمتنع عليهم طالما كان فيها كلأ لسعيتها، كما نبه إلى أن الحالة المشاهدة في دارفور هي أثر من الحرب الباردة وبالوكالة بين أميركا وروسيا.
ونواصل

بني هلبة والسلامات: الدعم السريع وسيطاً في حرب داخل حرب (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
في حين يخوض “الدعم السريع” حربه مع الجيش السوداني وجد نفسه مضطراً إلى الالتفات لحرب تدور في مناطق نفوذه ومناصريه، بل بين منتسبيه. فاندلعت منذ منتصف أغسطس (آب) الماضي حرب بين شعبي بني هلبة والسلامات في جنوبي دارفور. وفشلت مساعي عدد من زعماء القبائل حتى يوم 16 منه في نزع فتيلها. ووقعت الاشتباكات المسلحة بينهما في منطقة كبم التابعة لمحلية عد الفرسان، مركز إدارة قبيلة بني هلبة، وأدت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى من الطرفين.
وجاء في المصادر أنه تم نقل عدد من الأسر من قبيلة السلامات من بلدة كبم إلى منطقة أم دخن الحدودية بين السودان وتشاد بما يعيد للأذهان تهجير أسر من السلامات أنفسهم إلى أم دخن بعد صراع قديم لهم مع شعب المسيرية في أكتوبر (تشرين الأول) 2013. وقالت مصادر من القبيلتين إن لجنة المساعي عقدت جلسات عدة مع ممثلين للقبيلتين كل على حدة، لكنها لم تستطع التوفيق بين الطرفين للتوصل إلى تفاهمات تضع حداً للمواجهات المسلحة بين الجماعتين.
ومما له علاقة بالحرب الراهنة في السودان تحول منتسبو “الدعم السريع” في الجماعتين كل إلى قبيلته التي تؤويه، فعاد كل فريق منهم من ساحة الوغى في الخرطوم ونيالا وزالنجي للحرب مع أهلهم بالأسلحة الثقيلة والسيارات ذات الدفع الرباعي، وغالبه من عتاد “الدعم السريع”.
كان لا بد لـ”الدعم السريع” أن يحتوي نزاع بني هلبة والسلامات الدموي. فدارفور وجنوبها بالذات من مناطق نفوذه القوية، وتواصى زعماء قبائلها قبل أسابيع بالوقوف بصفه في الحرب ضد القوات المسلحة. علاوة على انفضاح هشاشة نظمه للتجنيد على وتيرة القبيلة. فما اصطرع بنو هلبة والسلامات حتى صار للقبيلة المكان الأول عند منتسبيها دون “الدعم السريع”. فاجتمع “الدعم السريع” بقيادة الكولونيل حامد أبيلو بزعماء القبيلتين في حضور وسطاء آخرين لعقد الصلح بينهما بعد فشل الساعين قبله من صفوة القبائل في عقده. ونشرت “سودان وور مونيتور” (17 أغسطس)، الموصولة بمجريات دارفور، وثيقة الصلح التي تراضى الجمعان عندها. و”المنيتور” على شك إن كان الصلح قد وقع في غير الوثيقة.
لم يخرج مجلس الصلح الذي عقده “الدعم السريع” بين بني هلبة والسلامات عن دارج ما اتفق للدولة السودانية في مقاربة مثل هذا النزاع منذ الاستقلال. فتغطي عليه بـ”باركوها”. فلا تتقصى البواعث من ورائه في الذي عرضنا له أعلاه. ولا يلبث أن يتجدد النزاع فتعيد الدولة كرة طقس الصلح بحذافيره. فلن تجد في بيان الصلح الصادر عن اجتماع “الدعم السريع” بالقبيلتين ما لم تسبق إليه كل البيانات مثله عبر تاريخ الحكم الوطني. وهي بيانات مبلغ همهما ضبط الأمن لا معالجة “جذور الأزمة” التي بين أيديهم.
و”جذور الأزمة” هي العبارة الطاغية في خطاب المسألة السودانية، ولذا كان مثل هذا الصلح قصير العمر ليعود النزاع مجدداً، كما درجت هذه البيانات على الاختباء وراء نظرية مؤامرة ما دون رد النزاع إلى الأصل في قيامه. فقال البيان بشكل عام إن حرب القوم هذه لم تكن لتقوم لولا “العنصرية والقبلية” بلا تفصيل، وهو مستغرب من حركة مسلحة القبيلة قوام جيشها، ثم يذهب البيان كالعادة إلى اتهام طرف ثالث بتدبير مكيدة الحرب.
ولن يعدم “الدعم السريع” بالطبع من تعيين الملام في هذه الحرب، فأشار بإصبع الاتهام إلى القوات المسلحة التي لم تسمع للعالم وهو يناشدها أن تكف عن الحرب وترعى وطنها، وحدد الجهة القائمة بالفتنة مباشرة، وهي جهاز استخبارات الجيش الذي يفسد ما بين القبائل ليغطي على الحرب القائمة، وليخفف الضغط على قوات الجيش في الخرطوم ونيالا، ثم يختتم البيان بتذكير المتخاصمين بأنهم إخوة في الدين والدار والوجود والأنساب ليحذروا مما “ارتكبه شباب طائش خالف ما تواثقت عليه 88 قبيلة في دارفور لنبذ الفرقة والحرب”، وناشدهم ألا يرفع أحد في بلدة كبم عصاة على أحد. ولنعد بدلاً عن ذلك للتزاوج في بعضنا، ومزج الدم، والمحاصيل والسوق.
لربما ظن السلامات وبنو هلبة أن زمالة السلاح، التي انعقدت بينهما في “الدعم السريع” لبناء سودان غير ما عاشوا تحته لعقود، منجية، لكن ظل الحال في حاله. فما اصطرعا حتى تلاشت هذه الزمالة وعاد كل فريق منهم إلى قبيلته التي تؤويه. ولم يتغير شيء سوى أنهم تأبطوا سلاحاً من “الدعم السريع” أشد فتكاً. واضطرت الحرب القبلية السلامات ذات الأزمة الوجودية في السودان إلى اللجوء في أغسطس 2023 إلى البلدة الحدودية نفسها فراراً من ويلاتها. ومع ذلك لم يعرف أي منا في التاريخين ما كان خطبهم سوى أنه ثائرة نزاع قبلي مجهول السبب لأنه لا أحد حرص على فض لغزه. والصلح خير.

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدعم السریع المسلحة بین فی السودان فی الخرطوم فی دارفور حرب داخل عدد من

إقرأ أيضاً:

من انتقام الدفتردار (1822) إلى حملة “الدعم السريع”: تاريخ مستعاد

من انتقام الدفتردار (1822) إلى حملة “الدعم السريع”: تاريخ مستعاد
ملخص
(تقرأ أن اجتياح “الدعم السريع” قتلاً ونهباً وحصاراً لشمال وشرق الجزيرة هو حملة انتقامية. ولا أذكر من استدعى مماثلاً لها من تاريخنا حتى لو كان في شهرة “حملة الدفتردار الانتقامية)”.
لم يكُن من مهرب للحرب الأهلية القائمة في السودان من استدعاء فصول من تاريخه في محاولة لفهمها على ضوئه. وكانت فترة الثورة والدولة المهدية (1881-1898) هي مربط فرس هذه الاستدعاءات. وبلغ تواتر هذه الإحالات لتاريخ المهدية مبلغاً حدا بنشرة “سودان وور مونيتر”، التي صدرت لتبلغ عن الحرب، لتخصص عدداً لنقض رواية عن شعب الرزيقات الذي يُزعم له أنه حاضنة قوات “الدعم السريع” في حربها ضد القوات المسلحة، عن دوره في المهدية ثورةً ودولة. وبدا من هذه الاستدعاءات وكأن التاريخ يعيد نفسه. وعقيدة إعادة التاريخ لنفسه من مكروهات علم التاريخ والمجتمع حتى سخر منها كارل ماركس قائلاً “يعيد التاريخ نفسه حقاً، في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمسخرة”. ولكن لا مهرب أمام الناس مع ذلك من إحالة حاضرهم إلى ماضيهم بالطبع. وربما كانت العبارة الأمثل عن استدعاء الماضي في زحام الحاضر هي ما جاء على لسان الكاتب الأميركي مارك توين الذي قال إن التاريخ لا يعيد نفسه، فكل ما في الأمر أنه يأتي للحاضر “على قافية” (rhyme)، في قول المصريين.
يخضع شمال ولاية الجزيرة وشرقها منذ الـ20 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لانتهاكات فظة على يد قوات “الدعم السريع” ثأراً لانسلاخ قائده في الولاية أبو عاقلة كيكل (52 سنة) عنهم وانضمامه إلى الجيش السوداني. فاقتحمت “الدعم السريع” المنطقتين لانتماء كيكل إليهما، خصوصاً بلدتي تمبول والهلالية اللتين احتلت وقائع استباحتهما الخطوط الرئيسة للوسائط الإعلامية. وكيكل من جنس مغامري “دولة الإنقاذ” (1989-2019) ممن أدوا خدمات مشبوهة أو أخرى لها، وانتهى مهرباً رباطاً. وكان أول ظهوره قائداً لقوات “درع السودان” بين ضباط معاشيين من القوات المسلحة قبيل الحرب بقليل، رأوا سخاء الدولة مع مسلحي دارفور في اتفاق جوبا (عام 2020) وأرادوا مثلها لقومهم في الشمال والوسط والشرق.
وما قامت الحرب حتى انضم إلى “الدعم السريع”، وكانت معركته الأولى قبل احتلال ولاية الجزيرة، هي الهجوم على ضاحية العيلفون بالخرطوم وتهجيره القسري لأهلها منها. ثم عيّنه محمد حمدان دقلو، قائد “الدعم السريع”، قائداً لمنطقة الجزيرة التي يقال إنه هو من احتلها لـ”الدعم” ربما بغير أمر من أعلى. وارتكب مع غيره من قادة “الدعم السريع” في الجزيرة انتهاكات واسعة بحق المدنيين من بينها القتل والنهب والحرق. وسلمت تمبول والهلالية إلى حين لما ذاع أنهما قبلتا بالتعايش مع “الدعم السريع” تحت مظلة كيكل
حتى زكّى ياسر عرمان، القيادي في تنسيقية القوى الديمقراطية والتقدمية “تقدم” ذلك التعاقد بين البلدتين و”الدعم السريع” لتأمين المدنيين، وقال إنه نموذج يسمح للمواطنين بإدارة أمورهم ووصى باستمراره وتعميمه في كل مناطق النزاع.
وأزعج انسلاخ كيكل، “الدعم السريع” بأنه جاء كمثل نصر مؤكد للقوات المسلحة عليه في سلسلة انتصارات أخيرة دفعت “حميدتي” إلى إلقاء خطابه الأخير الغاضب الذي حمّل فيه مصر مسؤولية انتكاساته. ولم يلطف الأمر على “الدعم” خروج أهل تمبول وغيرها بعد انشقاق كيكل في احتفالات بتحررهم من “الدعم السريع” غشتها أطواف من القوات المسلحة، ولكنها لم تبقَ وغادرت المكان مما جعل أهل البلد صيداً سهلاً لحملتهم التأديبية.
تقرأ أن اجتياح “الدعم السريع” قتلاً ونهباً وحصاراً لشمال الجزيرة وشرقها هو حملة انتقامية. ولا أذكر من استدعى مماثلاً لها من تاريخنا حتى لو كان في شهرة “حملة الدفتردار الانتقامية”. وهذا اسمها في لسان العامة وفي المناهج. وصدر عنها من قريب كتاب مستقل بقلم حاتم الصديق محمد أحمد وعنوانه “فظائع الدفتردار في السودان”. واشتهرت قصة للروائي بشرى الفاضل عنوانها “حملة عبد القيوم الانتقامية” جزئياً لصدى عنوانها التاريخي.
والدفتردار هو محمد خسرو الدفتردار (ت 1824) الموظف بإدارة محمد علي باشا في مصر وزوج ابنته نازلي. وكان بعثه في جيش على رأسه ابنه إسماعيل باشا لغزو السودان عام 1821. وكانت مهمة الدفتردار أن يستولي على منطقة كردفان التي كانت تحت حكم سلطنة دارفور. ونجح، ولكن ما عتم أن جاءته أخبار مقتل إسماعيل باشا على يد “المك نمر” زعيم شعب الجعليين في مدينة شندي على النيل. ووقع مقتل الباشا في سياق ثورات أهل مدينة الحلفاية شمال الخرطوم وغيرها في وجه السلطة المصرية من فرط مساوئ الجند التركية عليهم. وفي هذه الظروف كان إسماعيل قرر العودة إلى مصر. ووصل شندي في أكتوبر عام 1822. وكان يتهم “المك نمر” بأنه يقف وراء الثورة. فقرّعه وأمره بدفع جزية جرى تقديرها بـ30 ألف دولار و6 آلاف رأس من الرقيق خلال يومين. ولما قال المك للباشا أن ذلك فوق استطاعته، وبّخه ولطمه على وجهه بغليونه. فأسرّها في نفسه ليدعو إسماعيل وقادته إلى وليمة بقصره. وطوال ما كانوا يتناولون مطايب الأكل والشرب كان قوم “المك نمر “يطوقون المكان بالحطب والقش. وأشعلوها حريقاً قضى على إسماعيل وصحبه. ثم أحاطوا بالجنود الذين كانوا في موضع آخر فقتلوهم عن بكرة أبيهم. وانتظمت بين شعوب الحسانية والجموعية والجميعاب والقريات على النيل والنيل الأبيض ثورة بعد الحريق في وجه الحاميات المصرية في الدامر وسنار وكرري والحلفاية.
وما سمع الدفتردار بمقتل إسماعيل حتى قاد قوة ضاربة من كردفان إلى النيل ليعينه محمد علي باشا لاحقاً ساري عسكر السودان. وقتل عامله على بربر 7 آلاف من الجعليين في الدامر ممن أحدقوا بمدينة بربر، وحرق مسجد السادة المجاذيب “كأنه دار أصنام”. ولم ينتظر “المك نمر” حملة الدفتردار، ففر بجماعته شرقاً مطارداً من موضع إلى آخر في اتجاه جنوب شرقي الحبشة. ثم توجه الدفتردار جنوباً مروعاً القرى في طريقه، فقاومه أهل العيلفون فهزمهم، وقتل فيهم وأهان من وقع في يده، ولاحق “المك نمر”، قاطعاً النيل الأزرق عند بلدة أبو حراز إلى الدندر والرهد. وبلغ نهر العطبرة، وحارب شعب الهدندوة والشكرية، يقتل وينهب ويخرب. وعلى رغم ذلك الخراب والتنكيل لم يعثر على “المك نمر” الذي لاذ بالحبشة وأقام ملكه هناك. وكان محمد علي باشا واقفاً على حيثيات الحملة الانتقامية تلك. فيأمرهم بالتوجه مثلاً لشعب الشكرية والبشاريين لينزلوا عليهم العقاب ويوبخهم للتقاعس. ومن سخرية القدر، أو مأساته، أن الجمعية الجغرافية في باريس قبلت الدفتردار عضواً في مجمعها للخرائط التي كان يرسمها بالدم في حملاته الانتقامية وأعجبتهم.
اختلفت حملة “الدعم السريع” الانتقامية عن حملة الدفتردار في أنها لم تجعل كيكل صيدها الملاحق تخوض له بحور الدم كما فعل الدفتردار. فاكتفى “الدعم السريع” بخوض بحور الدم في قبيلة كيكل دونه. فأرادوا إفراغ انشقاقه عليهم من معناه بشهادة من أهله في محاكمات نصبوها لهم في الجزيرة. فرأينا منادي منهم في بلدة السريحة التي خلت عن بكرة أبيها، ينادي لا أحد في طرقاتها المهجورة، “يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، يا كيكل، ناس السريحة بسلمو عليك”. ينعى عليهم تباعة قائد خذول لم ينجدهم ساعة الحارة.
وفي فيديوهات أخرى، ينتزع منسوب “الدعم السريع” (الدعامي) إدانة كيكل بأفواه من سعدوا بانشقاقه أول مرة. فعلى فيديو ثانٍ تجد الدعامي يتحدث إلى رجل فوق الـ60 من العمر:
-كيكل ركبكم زوط (مقلب، وقاموسياً هي تناول لقمة كبيرة تثقل على الفم فيضطر إلى ازدرادها) واللا ما ركبكم؟
-والله ركبنا خمسة أزواط.
-رسالتك ليهو شنو؟ (ما هي رسالتك له؟)
-المقلب العملتو فينا ربنا يرده عليك
وظهر على فيديو آخر دعامي أمامه جماعة من الشباب جلوساً على الأرض يلقنهم عار هيكل فيهم وسطوة “الدعم”:
-كيكل مالو؟
-عرد (هرب).
-السبب شنو؟
-عرد عرد
-ما سامع ما سامع عرد مالو؟ كلكم!
-الجاهزية (بسبب الدعم السريع).
وتحدث دعامي وصف نفسه بأنه من “أبناء البيشي”، والبيشي قائد في “الدعم السريع” كان الجيش قتله، إلى أحد أقرباء كيكل في الهلالية. واستحصل منه إدانة له غالية:
-علاقتك بكيكل شنو. دا عم كيكل
-ود عمتي في الحسبة.
-كان كيكل بجيك في بيتك لشنو؟
-يجينا ويشرب قهوة ويسلم ويمشي.
-بتقول لكيكل شنو؟
-انت خائن. خنت ناسك.
ليست من خصائص بعينها تأذن لنا بالقول إن حملتي “الدعم السريع” والدفتردار مما يستعيد أحدهما الآخر سوى في وقوعهما في نطاق جغرافي واحد حتى في السودان، النيل والجزيرة. ولا تحتاج حملات “الدعم السريع” التأديبية إلى التاريخ لتواقع حملة من جنسها عليه. فتأديب “المتمرد” هو في الوصف الوظيفي الأصل في نشأة الدعم في دولة الإنقاذ الآفلة. فسجله في إخضاع “العصاة” مما سود الصفحات في دارفور في منتصف العقد الأول من القرن معروضاً أمام المجتمع الدولي ومؤسساته ومحاكمه. فليس ما اقترفه “الدعم السريع” في دارفور في 2004، ولا يزال، تاريخاً بعد. ولربما صدق هنا مارك توين في أن التاريخ “يقافي” (إذا صح التعبير) الحاضر لا يعيده كما تذهب العبارة. وهي “مقافاة” نطمئن بها على أن زمام الأمر مهما يكُن بيدنا لا يزال.
بنى الدفتردار قصره مع زوجته نازلي محمد علي باشا في الأزبكية التي صار سورها معرضا قومياً للكتاب في القاهرة

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • القوة المشتركة: استولينا على إمدادات عسكرية كانت في طريقها إلى الدعم السريع
  • مواجهات في الفاشر تتزامن مع قطع إمدادات للدعم السريع
  • مشروع قرار في مجلس النواب الأمريكي لحظر بيع الأسلحة للإمارات بسبب الدعم السريع
  • من انتقام الدفتردار (1822) إلى حملة “الدعم السريع”: تاريخ مستعاد
  • ناشطون: 42 قتيلا برصاص الدعم السريع في قرية وسط السودان
  • والي غرب دارفور يعفي 42 من قادة الإدارة الأهلية لموالاتهم الدعم السريع
  • قناة القاهرة الإخبارية: ميليشيا الدعم السريع تقصف الفاشر غربي السودان
  • السودان.. قوات الدعم السريع تهاجم قرية وتقتل 40 مدنياً
  • 40 قتيلاً بهجوم لقوات الدعم السريع في وسط السودان
  • تقدم ملحوظ للجيش السوداني.. والبرهان: لا وقف لإطلاق النار إلا بانسحاب الدعم السريع