الإسلاميان: قطب وطه.. من حبائل السياسة إلى حبل المشنقة
تاريخ النشر: 18th, September 2023 GMT
دراسة الظواهر الإسلامية مهمة لفَهْمِ الوجود الإسلامي، ولفَهْمِ دور المسلمين في الوجود الإنساني، فَهُم ذوو ثقل عالمي في مختلف الأصعدة، في الاقتصاد.. أغلب بلدانهم تمتلك ثروات داخلة في سلسلة الإنتاج وعمليات الاقتصاد عالميًا، وفي مقدمتها النفط والغاز والمعادن الثمينة. وفي الجغرافيا.. تقع المنطقة الإسلامية في قلب العالم، حيث ممراتها المائية شرايين الحركة الدولية.
المقال.. يتطرق لهذين المفكرَين بوصفهما مثالًا لمآل اشتغال المفكر المسلم بالسياسة، ويرى أنهما لو اشتغلا ببلورة فكرهما بعيدًا عن صراعها؛ لكان أفضل لفكرهما وأسلم لهما وأنفع للمسلمين. كان القرن العشرون الميلادي فورة الفكر الإسلامي المعاصر سياسيًا، الذي بدأ التنظير له مع نهاية القرن التاسع عشر، وإذا اعتبرنا شبه القارة الهندية منبعًا لتجديد الفكر الإسلامي؛ فإن مصر هي الأرض التي انساح إليها أولًا، وفيها كانت حواضنه العلمية وحركاته العملية، وأهم مبلور له هو محمد عبده (ت:1905م)، كما أن من أهم محركاته حركة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنّا (ت:1949م) عام 1928م، وفهم هذين المسارين ضروري لتحليل الظاهرة الإسلامية.
سيد قطب ومحمود طه.. من أهم المفكرين الذي اشتغلوا بالإسلام السياسي؛ أخرجهما وادي النيل، وكلاهما كانت السياسة ملعبه، وقد هيمن عليهما الفكر الإسلامي السائد حينها. ولأن الاستعمار جثم على مصر والسودان فإنهما كانا في مواجهة مباشرة مع هيمنته الفكرية والسياسية. فقطب.. الذي بدأ حياته مهادنًا للفكر الليبرالي الغربي، انقلب عليه بعنف في مرحلته الأخيرة. أما طه.. فقد كان معارضًا لهيمنة الفكر الغربي منذ بداية أمره، إلا أنه لم يكن عنيفًا في مواجهته، وإنما عمل على فهمه ونقده والاستفادة منه؛ مع اتخاذ القرآن -وفقَا لفهمه- مرجعََا له في التعامل مع هذا الفكر، فهو أقرب أن يكون ناقدًا له، بخلاف قطب الذي ختم حياته ناقمًا عليه.
سيد قطب.. ولد 1906م بعد عام من وفاة محمد عبده، قضى حوالي ربع قرن من عمره؛ أديبًا ناقدًا، ومنتميًا سياسيًا لحزب الوفد، إلا أنه لم يؤثر له عمل سياسي فاعل، ولم يكتب في السياسة إلا بمقدار العمل الصحفي المعتاد. وفي العشرين سنة الأخيرة من عمره تحوّل باتجاه تيار الإسلام السياسي، ناشطًا في حركة الإخوان المسلمين، وفي بداية مرحلته هذه كان على علاقة جيدة بمجموعة الضباط الأحرار؛ خاصةً مع زعيمها جمال عبدالناصر (ت:1970م)، الذي كان محتاجًا في مشروعه الثوري لمنظِّر بحجم فكر قطب وتأثير قلمه، فوجد فيه بغيته، لاسيما أن قطب أصبح منتميًا لجماعة الإخوان المسلمين، ذات الثقل الكبير بمصر، وكانت تتمدد سراعًا في العالم الإسلامي، مما يمهد الطريق أمام مشروع عبدالناصر التحرري، الذي لم يحسم توجهه السياسي بدايةَ ثورة 1952م، فكان طامحًا أن يقودهم ويقود بهم الجموع الغفيرة المتحمسة للتحرر من الاستعمار، والإخوان أيضًا طامعون فيه لتبني دعوتهم. وربما كان هذا سيتأتى لعبدالناصر بعد رحيل مؤسس الحركة حسن البنّا؛ الذي أبدى آخر عمره مراجعة لتوجهه السياسي، إلا أن التنافس بين الأحزاب السياسية -التي دعا قطب نفسه إلى حلها لتقوم الدولة بفرض رؤيتها، والذي أسفر بعد ذلك عن صراع دامٍ بين نظام عبدالناصر والإخوان- دفع بقطب إلى التنظير الراديكالي للإسلام السياسي، عبر كتابه الموسوعي «في ظلال القرآن» وكتابه المكثف «معالم في الطريق». وقد عرّضه نشاطه السياسي للاعتقال والسجن.
أما محمود طه.. المولود عام 1909م؛ فقد تربى تربية صوفية، أثّرت على أطروحاته الفكرية والسياسية، وبعكس قطب؛ اشتغل في السياسة منذ شبابه، وفي منتصف الأربعينات الميلادية -مرحلة تحوّل قطب- أنشأ طه الحزب الجمهوري، وكالإخوان المسلمين أطلق على أتباعه «الإخوان الجمهوريين»، وظل يناضل وفق رؤيته الإسلامية لأجل وصول حزبه للحكم، وقد تعرّض كذلك للسجن، حتى اعتقل منتصفَ الثمانينات وقدم للمحاكمة، في عهد الحكم العسكري لجعفر النميري، وأدين بالردة عن الإسلام، بخلاف قطب الذي أدين بالإرهاب الديني، وهذا من مفارقات الحياة وأحابيل السياسة.
سيد قطب.. الذي بدأ حياته مهادنًا للفكر الغربي، أصبح رافضًا كل معطيات الحضارة الغربية، ومتبنيًا الفكر الإسلامي بظاهرية نصوصه، يرى فيه خلاص الأمة الإسلامية من أزماتها، وفيه سر نهضتها، كان مشبوب العاطفة في طرحه مما ألهب نفوس المسلمين؛ لاسيما الشباب منهم، فأوقد في تيار الإسلام السياسي جذوة الحماس كتلك التي قرأناها عن رعيل الإسلام الأول، وأمد حركة الإخوان المسلمين بفاعلية منقطعة النظير، بعد أن كادت تموت بموت مؤسسها البنّا. وتحوّل فكره إلى تيار إسلامي شمل المذاهب الإسلامية. ولم أجد مسلمًا سُلِّم له بالطرح الفكري كقطب، ولذلك؛ تحوّل تنظيره إلى فكر شعبي، خاصةً؛ أن أسلوبه ينتمي إلى «الكتابة الشعبية» انظر: «الكتابة الشعبية.. وأثرها السياسي»، جريدة «عمان»، 2/ 8/ 2022م]. لكن طرحه هذا لم يُقبَل في الحقول المنهجية لمعالجة الظاهرة الإسلامية، فقد كان وعظيًا، ولم يعمل على فهم النص الديني نشأةً وتطورًا. فقطب.. كان يكتب بقلبه لا بعقله، ولذلك؛ فإن كثيرًا من المتأثرين بفكره اصطبغوا بالشدة ومارسوا العنف.
محمود طه.. استشعر هيمنة الفكر الغربي على المسلمين؛ فانطلق لمواجهته من النص الديني، لكن طريقته اختلفت عن طريقة قطب، فقد حاول أن يفهم أصل تنزّل القرآن. وإذا كان قطب يرى أن القرآن المكي جاء لتأسيس «الجماعة المؤمنة»، والقرآن المدني هو الصيغة النهاية لبناء هذه الجماعة، عبر إنشاء المجتمع الفاضل والأمة القوية، فإن طه اعتبر القرآن المكي أصل رسالة الوحي، وهو ما ينبغي أن تصير إليه البشرية، في حين أن القرآن المدني هو التطبيق الأول للرسالة الأصل، بما يناسب المجتمع حينذاك، وأن أحكامه ليست ملزِمة لكل الأزمان. فدعا إلى العودة لأصل الدعوة المحمدية، واعتبرها هي السنة النبوية، وأما الأحكام المدنية نسبة للمدينة المنورة فلم تعد قادرة على حل المشكلات المعاصرة.
وإذا كان فكر قطب سرى بين الناس بكونه طرحًا شعبيًا قريبًا إلى نفوسهم، فإن فكر طه أثر على المشتغلين بالمنهج؛ مثل: العراقي عالم سبيط النيلي (ت:2000م) والسوداني أبو القاسم حاج حمد (ت:2004م) والعراقي طه جابر علواني (ت:2016م) والسوري محمد شحرور (ت:2019م) والسعودي عبدالحميد أبو سليمان (ت:2021م). وإذا كان فكر قطب بدأ يضعف مع انحسار الإسلام السياسي؛ فإن فكر طه بدأ يخرج من قوقعة المنهج إلى الساحة الشعبية؛ مع ظهور نوافذ التواصل الاجتماعي.
قطب وطه.. صاحبا مبدأ صادقان، ناضلا لأجل مبادئهما، لكن السياسة دربها وعر وعاقبتها وخيمة، فقد أوصلتهما إلى حبل المشنقة، حيث أعدم الأول على يد النظام العسكري بمصر عام 1966م، وأعدم الثاني على يد النظام العسكري بالسودان عام 1985م.
ختامًا؛ على المفكر أن يضع بينه وبين السياسة سدًا منيعًا، ولا أقصد أن عليه ألا يفكر فيها، بل عليه أن يدرسها، فهي من أهم العوامل المؤثرة في حياة الناس، وإنما أقصد بأن عليه ألا يشتغل بالعمل السياسي، لا من موقع السلطة، ولا من خندق المعارضة، فما أن يدخل المفكر معترك السياسة حتى تُفسِد فكره وفكره يُفسِدها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإخوان المسلمین الإسلام السیاسی الفکر الإسلامی سید قطب
إقرأ أيضاً:
كيف غيرت السياسة مسار العملات الرقمية؟.. من البيتكوين إلى ترامب كوين
ينظر إلى العملات الرقمية بوصفها ثورة أعادت تعريف معنى المال في عصرنا الحالي، فهي نوع من المال الإلكتروني، ولكنها لا توجد في شكل مادي مثل النقود التي نستخدمها في حياتنا اليومية.
وبدلا من أن تكون لديك أوراق نقدية أو قطع معدنية في محفظتك، ويتم تخزين العملات الرقمية بشكل رقمي بالكامل على الإنترنت، وهذه العملات تستخدم تقنيات حديثة لتبادل الأموال عبر الإنترنت، وهي تختلف تماما عن النقود التقليدية التي تطبعها البنوك المركزية.
وأشهر هذه العملات هي البيتكوين، ولا يمكن إغفال مجموعة متنوعة من العملات الأخرى مثل الإيثيريوم، إذ تسعى العملات الرقمية جميعها إلى تغيير قواعد اللعبة المالية العالمية.
لكن، أين تكمن أهمية العملات الرقمية؟ ببساطة، العملات الرقمية تستبدل النظام المالي التقليدي الذي يعتمد على البنوك المركزية، ففي العملات الرقمية لا نحتاج إلى أي طرف ثالث مثل البنوك أو المؤسسات المالية لتمرير الأموال بيننا، ويمكننا تحويل المال مباشرة إلى شخص آخر حول العالم، وهذا يتم عبر الإنترنت بطريقة سريعة وأقل تكلفة.
كيف نفهم العملات الرقمية؟ موجة تكنولوجية جديدة.. العملات الرقمية تدخل العالم الماليمع تطور التكنولوجيا في نهايات القرن الـ20 شهدنا العديد من الموجات التكنولوجية التي غيرت كيفية تفاعلنا مع العالم، دعونا نستعرض هذه الموجات التي غيرت كيفية تعاملنا مع المال والاقتصاد.
إعلانالموجة الأولى: الإنترنت (1982)
بدأت الموجة الأولى مع اكتشاف الإنترنت الذي غيّر بشكل جذري طريقة التواصل بين الأفراد، إذ جعل من الممكن الاتصال بين الناس حول العالم بسهولة، وأصبح البريد الإلكتروني والمنتديات والمواقع الإلكترونية أدوات أساسية للتفاعل، وهذا العصر التكنولوجي مهّد الطريق للكثير من الابتكارات التي أتت بعده.
الموجة الثانية: التفاعل المباشر (بعد عام 2000)بعد ظهور الإنترنت أصبح من الممكن التفاعل بشكل مباشر وفوري عبر الإنترنت، وظهرت الشبكات الاجتماعية التي غيرت بشكل جذري كيفية تواصل الأفراد مع بعضهم البعض.
الموجة الثالثة: التجارة الإلكترونية وإنترنت الأشياء (بعد 2010)مع تطور الإنترنت بدأنا نشهد طفرة في مجال التجارة الإلكترونية جعلت من السهل شراء السلع والخدمات عبر الإنترنت، كما ظهر إنترنت الأشياء (آي أو تي)، إذ بدأت الأجهزة الذكية مثل الهواتف والسيارات والمنازل بالتفاعل مع بعضها البعض عبر الإنترنت.
هذه الموجة مثلت تحولا آخر في عالم التجارة والاقتصاد، إذ أصبحت التقنيات أكثر ترابطا وانتشارا، وأصبح من الممكن التعامل مع المال والأعمال بكافة صورها عن طريق التطبيقات الإلكترونية.
ومع تقدم هذه الموجات التكنولوجية بدأت العملات الرقمية في الظهور لتشكل تحولا جديدا في عالم المال والاقتصاد.
وفي عام 2008 عقب الأزمة المالية العالمية نُشرت ورقة بحثية على الإنترنت من قبل شخص تحت اسم "ساتوشي ناكاموتو" تحمل رسالة أن تكون هناك حرية مالية واجتماعية وسياسية، وكان مكتوبا في هذه الورقة "بيتكوين- إلكترونك كاش- من طرف إلى طرف دون وسيط"، وكان ساتوشي يهدف إلى التحرر المالي من سيطرة البنوك المركزية وقيودها ومراقبتها والتخلي عن الوسيط التقليدي في رسالته.
وكتب ناكاموتو "السياسيون ينقذون البنوك مرة أخرى"، مشيرا إلى تدخل الحكومات لإنقاذ البنوك في الأزمات الاقتصادية، مما يؤدي إلى تفاقم الفساد المالي، إذ يكون الثمن عادة مدفوعا من قبل الأفراد العاديين.
إعلانوقدّمت هذه الورقة البيتكوين باعتبارها أول عملة رقمية مشفرة، وتم التعامل عليها في يناير/كانون الثاني 2009، والتي تعتمد على تكنولوجيا البلوكتشين، وهذه التكنولوجيا ساعدت في تخزين المعاملات المالية بشكل سريع دون الحاجة إلى وسيط مثل البنوك ومركزية الأموال.
والهدف من هذه العملات تبعا لمبتكر فكرتها هو التخلص من الوسيط الذي هو رقيب في الوقت نفسه ويستطيع أن يفرض شروطه المتغيرة تبعا لسياسته والتخلص أيضا من عبء التكلفة وعدم الخضوع لسياسته الاقتصادية والسياسية التي تؤثر على أسعار العملة سلبا.
ما هو البلوكتشين؟البلوكتشين هو نوع من الدفتر الإلكتروني الذي تسجل فيه جميع المعاملات بطريقة آمنة وشفافة، بحيث لا يمكن التلاعب بها.
تخيل أن هناك دفترا في كل مكان، وكل مرة يحدث فيه تبادل للمال بين شخصين (مثل إرسال أو استقبال بيتكوين)، وتتم كتابة هذا التبادل في الصفحة الخاصة به داخل هذا الدفتر.
والجميل في البلوكتشين أنه لا يتم حفظه في مكان واحد، بل يتم نسخه عبر مئات أو آلاف أجهزة الحاسوب حول العالم، مما يعني أنه مستحيل التلاعب به.
البلوكتشين هو عبارة عن حل لمعادلات رياضية، وبناء على حل الشخص لهذه المعادلات تتم مكافأتك لأنك قمت بالحل وتُمنح البيتكوين.
كيفية عمل البلوكتشين المعاملات: كل عملية (مثل إرسال أو استقبال بيتكوين) تُسجل في "كتلة" مثل صفحة جديدة في الدفتر. التحقق: قبل أن تضاف الكتلة إلى الدفتر الكبير (البلوكتشين) يجب أن يتم التحقق من صحتها، وهذا يتم عن طريق حل معادلات رياضية معقدة. التسجيل: بعد التحقق تضاف الكتلة إلى السلسلة، وبالتالي لا يمكن تغييرها. ما معنى كلمة "كتلة"؟الـ"كتلة" هي ببساطة مجموعة من المعاملات (مثل تحويلات المال) التي تم تجميعها معا، وكلما حدثت معاملات جديدة تُجمع في كتلة (مثل صفحة) وتضاف إلى السلسلة بعد التحقق.
إعلان النموذج البسيط لتوضيح الفكرة تخيل أنك في مدرسة وتحتاج إلى تسجيل درجات الطلاب في "دفتر" كل طالب. كل مرة يتم تسجيل درجة جديدة تضاف في "صفحة" جديدة من الدفتر. المدرس لا يمكنه تغيير أو مسح أي درجة بمجرد تسجيلها في هذا الدفتر، لأنه موزع على العديد من الأشخاص في المدرسة، وكل شخص لديه نسخة منه. خصائص عمل البلوكتشين اللامركزيةفي النظام التقليدي، عند إرسال المال إلى شخص آخر يجب أن تمر العملية عبر البنك أو المؤسسة المالية التي تتحقق من صحتها وتسجلها في دفتر حساباتها الخاص.
لكن في البلوكتشين لا يوجد طرف ثالث مثل البنك، ويتم التحقق من صحة المعاملات من خلال الأشخاص الذين يشاركون في النظام، والذين يتأكدون من أن المعاملة صحيحة، كل جهاز يشارك في النظام يعمل على التأكد من ذلك.
التشفير وحماية البياناتفي البلوكتشين تتم حماية البيانات باستخدام تقنيات التشفير المتطورة، وهذا يعني أنه من الصعب لأي شخص أن يغير أو يخترق المعاملات بعد إضافتها، فالمعلومات تكون مشفرة.
إضافة المعاملاتعند إجراء معاملة مثل إرسال عملة رقمية من شخص إلى آخر تضاف كتلة جديدة إلى سلسلة الكتل (البلوكتشين)، وهذه الكتلة تحتوي على تفاصيل المعاملة -مثل المرسل والمستلم والمبلغ- بعد إضافتها، وتصبح المعاملة دائمة ولا يمكن تغييرها.
الشفافية والخصوصيةالجميع يمكنهم رؤية المعاملات التي تحدث في النظام، فبينما المعاملات تظهر فإن تفاصيل هويات الأشخاص المشاركين في المعاملات تبقى مخفية.
أمثلة لتوضيح البلوكتشين مثال: غوغل درايفتخيل أن لديك ملفا مهما على "غوغل درايف"، هذا الملف يمكن أن يكون مشتركا بينك وبين العديد من الأشخاص.
كل شخص يمكنه عرض الملف والإضافة إليه وتعديله، ولكن لا يمكن لأي شخص تعديل الملف إلا إذا كان لديه إذن، فإذا أجرى أي شخص تغييرا على الملف يتم تسجيل التغييرات بشكل دقيق، ولا يمكن التلاعب بها أو تعديلها لاحقا.
إعلانوبعد استعراض الجزء الخاص بفلسفة العملات الرقمية والبلوكتشين وتوضيحها سنتطرق في الجزء المقبل غلى توضيح نقاط مختلفة يتم تداولها من قبل الفرد العادي البسيط عن هذا النظام المالي الجديد ومزاياه وعيوبه وآثاره.
من يتحكم في البيتكوين المتداول حول العالم؟تم التطرق إلى البيتكوين لأنها العملة الأكثر رواجا عالميا، وهي التي تعتمد على النظام اللامركزي في التعاملات المالية، بالإضافة إلى تخطي قيمتها السوقية أكثر من1.7 تريليون دولار، لذلك كان لا بد من تسليط الضوء على أهم مالكي هذه العملة من دول ومؤسسات ومستثمرين.
الاستغلال السياسي للعملات المشفرة تأثير ترامب على العملات المشفرة.. من التعيينات السياسية إلى فشل "ترامب كوين"واحدة من النقاط الرئيسية التي تثير الجدل في صناعة العملات المشفرة هي التدخلات السياسية، فبعد قدوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب -الذي تلقى دعما بشكل كبير أثناء حملته الانتخابية من "لوبي العملات المشفرة"- أصبح هناك تركيز من قبل الإدارة الأميركية الحالية على العملات المشفرة، مقارنة بما كانت تتعرض له الصناعة من رقابة شديدة أثناء ولاية الرئيس السابق جو بايدن.
تعيين حليف لصناعة العملات المشفرةعندما تولى ترامب منصبه بدأ بتغيير السياسة تجاه العملات المشفرة بشكل كبير، وكان له تأثير مباشر في صناعة العملات المشفرة من خلال تعيين بول أتكينز، وهو محامٍ يعتبر حليفا قويا لهذا القطاع، ليترأس هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (إس إي سي).
هذا التعيين أدى إلى تخفيف الضغوط الرقابية على الشركات العاملة في مجال العملات المشفرة، مما سمح لها بالتوسع بدون الالتزام الصارم بالقوانين التنظيمية التي كان يدعمها المشرعون في إدارة بايدن.
"ترامب كوين".. انهيار وخسائر فادحة للمستثمرينالتدخل السياسي لم يقتصر على التعيينات فقط، ترامب شخصيا أطلق عملته المشفرة الخاصة تحت اسم "ورلد فايننشال ليبرتي"، مما منحه حصة شخصية في نجاح هذا القطاع.
هذا الانتقال إلى دعم العملات المشفرة ليس مجرد دعم سياسي، بل كان أيضا دافعا لمصالحه الخاصة، إذ كانت هناك قيمة مضافة له شخصيا في استمرار هذا القطاع.
إعلانوالأمر الذي شكّل ضربة كبيرة لمستثمري العملات المشفرة هو فشل "ترامب كوين"، فبعد أن بدأ ترامب حملته الترويجية للعملة المشفرة الخاصة به ارتفعت قيمتها بشكل مؤقت، مما جذب العديد من المستثمرين العاديين.
ومع مرور الوقت تعرضت هذه العملة لانخفاض حاد في قيمتها، مما تسبب في خسارة ضخمة للمستثمرين الذين كانوا يراهنون على نجاح المشروع.
ترامب كان قد دافع عن هذه العملة المشفرة على منصاته الإعلامية، لكن عندما انهارت قيمتها كان هذا بمثابة صدمة للمستثمرين، إذ تعرض أكثر من 800 ألف حساب إلى خسائر تزيد على 100 مليون دولار بسبب استثمارهم في تلك العملة.
وللمتابع، فإن وجود شخصيات مثل ديفيد ساكس "قيصر الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة" يشير إلى أن ترامب كان يسعى إلى الاستفادة من تكنولوجيا العملات المشفرة والابتكار التكنولوجي في تعزيز الاقتصاد الأميركي.
كما أن ترشيح شخصيات لها علاقة مباشرة بالعملات المشفرة -مثل هوارد لوتنيك- يعكس رغبة في دفع هذه الصناعة نحو المزيد من الاعتراف الرسمي والمشاركة في السياسة الوطنية.
لكن رغم ذلك فإنه يبقى من الصعب تحديد مدى التزام ترامب الكامل بالعملات المشفرة، خاصة أن مواقفه في الماضي بشأن القضايا الاقتصادية تتسم بالتقلب وتغليب الرؤية الشخصية.
التأثير السلبي للسياسيين في السوق.. الرئيس الأرجنتيني نموذجاإلى جانب ترامب كان هناك أيضا الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي الذي أثار ضجة كبيرة في عالم العملات المشفرة، ففي خطوة مفاجئة أطلق ميلي عملة ميميكوين جديدة كان يروج لها في الأرجنتين، وهي عملة مشفرة لا تتمتع بوظيفة عملية حقيقية، بل تعتمد بشكل رئيسي على النكتة أو تميمة مشهورة.
هذه العملات التي أُطلقت لأغراض تسويقية أو رمزية عُرفت بمخاطرها العالية، لكن ميلي جذب العديد من المستثمرين الأرجنتينيين، مما دفعهم إلى الرهانات عليها.
لكن، كما هو الحال مع العملات المشفرة التي أُطلقت تحت رعاية السياسيين فإن عملة ميلي شهدت انخفاضا حادا في قيمتها خلال وقت قصير جدا، وانهارت الأسعار فجأة، مما أدى إلى خسائر فادحة للمستثمرين الأرجنتينين الذين قرروا الانخراط في هذا الاستثمار المليء بالمخاطر.
إعلانهذا التراجع المفاجئ في قيمة العملة أثار أزمة سياسية داخل البلاد، إذ تكبد المستثمرون خسائر مالية تجاوزت 250 مليون دولار.
سياسيون آخرون وتأثيرهم في سوق العملات المشفرةتدخلات السياسيين الأخرى لم تقتصر فقط على ترامب وميلي، فعلى سبيل المثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان له دور في التأثير على سوق العملات المشفرة عبر سياساته الاقتصادية، خصوصا مع التصريحات التي أدلى بها عن تبني روسيا تقنيات البلوكتشين والبحث عن أسواق بديلة للمبادلات الاقتصادية بعيدا عن الهيمنة الغربية، وهذا التصريح كان له تأثير في توجيه الاستثمارات نحو أسواق مشفرة في دول أخرى.
وفي الصين أيضا، لعبت السياسات الحكومية دورا في تقلبات السوق، فعلى الرغم من أن الصين قد حظرت تعدين العملات المشفرة في عام 2021 فإن تصريحات الحكومة بشأن العملات الرقمية ساهمت في خلق نوع من الضبابية.
وفي النهاية، يتضح أن العملات الرقمية لم تعد مجرد ابتكار مالي، بل أصبحت ساحة تتداخل فيها التكنولوجيا مع السياسة والاقتصاد، ومن البيتكوين إلى العملات المشفرة المرتبطة بالسياسيين أثرت القرارات السياسية بشكل مباشر على مسار هذه الأصول الرقمية، ما بين الدعم الرسمي والتشريعات المقيدة والتلاعب بالسوق.
ومع استمرار تطور العملات المشفرة يبقى السؤال الأهم: هل ستظل أداة للتحرر المالي؟ أم ستتحول إلى أداة في يد القوى السياسية والاقتصادية؟