بعض الكرامات وبحوث الدواء الوهمي! (1)
تاريخ النشر: 18th, September 2023 GMT
أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي
تكاد لا تخلو ديانة من الديانات ولا مذهب من المذاهب من ادعاء أصحابها بحدوث كرامات لبعض المنتسبين لديانتهم أو مذهبهم، ويستشهد البعض من هؤلاء بهذه الكرامات كدلالة صريحة على صحة إيمانهم ومعتقدهم، كما نجد عددًا ممن ينتمون إلى هذه الديانات أو المذاهب يدعون اشتباه مدعي الكرامات من الديانات والمذاهب الأخرى، وأن ما يذكره أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى غير صحيح، ونحن في هذه العجالة سنتناول صنفًا مُعينًا من هذه الكرامات، ونلقي الضوء عليها، وذلك من خلال بعض التجارب العلمية التي ربما تفيدنا في تسليط الضوء على هذا الموضوع، وتوضح لنا مدى صحة هذه الكرامات.
سيقتصر حديثُنا هنا عن صنف معين من الكرامات، وهي الكرامات المرتبطة بالعلاج من الأمراض والشفاء منها؛ حيث إن المتعارف عند أصحاب الديانات والمذاهب المختلفة بأن يلجأ البعض منهم للتشافي من الأمراض إلى مياه معينة- مثلًا- يُظَن أنها مقدسة أو من خلال التوسل ببعض الأولياء أو بالرُقى أو غيرها من الطرق والتي لا يتم اللجوء فيها للمعالجة إلى الطب، وسبب اختيارنا لهذا الصنف من الكرامات هو وجود دراسات علمية كثيرة يمكن أن نستفيد منها في إلقاء الضوء على هذا الصنف من الكرامات، كما سيتضح ذلك من خلال الحديث، لكن من المهم التأكيد هنا أن ما سنقوم بطرحه يمثل فرضية علمية قابلة للنقض والنقد، وأن الهدف من طرحها هو إثراء القارئ الكريم والكشف عن زاوية جديدة ربما يغفل عنها البعض أو ربما لم يسمع بها من قبل.
الدراسات العلمية التي سنتحدث عنها هي دراسات تحاول أن تُسلِّط الضوء على الأثر النفسي والبيولوجي للدواء الوهمي على الإنسان، وعلى الرغم من قِدَمِ هذه الدراسات، إلّا أنه يمكن أن نعتبر أن الدراسات والبحوث العلمية المنظمة في هذا الصدد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية. ففي أثناء الحرب العالمية الثانية كان الجرّاح هنري بيتشر يقوم بعمليات جراحية للمصابين من الجنود، وأثناء المعارك نفذت عنده مادة المورفين والذي كان يستخدمه كمخدر قبل القيام بهذه العمليات، فما كان من هذا الطبيب إلّا أن قام بحقن الجندي المصاب بمحلول مائي خال من المورفين ومن أي مخدر آخر، وظنَّ الجندي أنَّه تم تخديره وكأنه تناول دواء حقيقيًا وبدء الطبيب عمليته الجراحية وقام بخياطة الجرح دون أن يشعر الجندي بأي آلام مبرحة، واستمر هذا الجراح بالقيام بذلك كلما نفذ عنده المخدر وكان يحقق نجاحا باهرا في مُعظم الأوقات.
وبعد الحرب العالمية الثانية تابع هذا الجراح وغيره من الأطباء بحوثهم العلمية والتي كانوا يحاولون من خلالها رصد أثر الدواء الوهمي للعلاج والقائم على اعتقاد المريض بأثر الدواء على الرغم من أنه في الحقيقة لم يتناول ذلك الدواء.
ونظرًا للأثر الكبير الذي لاحظه الجراحون والأطباء للدواء الوهمي على المرضى، اقترح هنري بيتشر في عام 1955 أن يتم تقييم الأدوية الجديدة بصورة مغايرة لما كان معهودًا؛ إذ اقترح- ونتيجة لأثر الدواء الوهمي- أنه لا بُد من طريقة لحساب الأثر النفسي لعملية تناول الدواء، ولذا اقترح أن يتم تقديم شكل صيدلاني كالحبوب مثلًا تحتوي على مادة فاعلة جديدة يراد التحقق من أثرها، وحبوب تقدم لمجموعة أخرى لا تحتوي على المادة الفاعلة، لكن شكل الحبوب متماثل في الحالتين، ولا يتم إبلاغ المريض بحقيقة الأمر؛ بل حتى الطبيب نفسه لا يعرف أي من الحبوب تحتوي على مادة فاعلة وأي منها لا تحتوي عليها، وبهذا فإن الأثر النفسي لعملية تناول الدواء يمكن حسابه وتقييمه، وما زالت هذه الطريقة متبعة إلى يومنا هذا.
لقد كانت نتيجة هذه البحوث مُذهلة؛ حيث لاحظ المختصون في حالات كثيرة للغاية، أن أفكار الإنسان واعتقاداته تؤثر وبشكل كبير جدًا على حالته النفسية، ولاحظوا أيضًا أن الحالة النفسية تؤثر وبصورة مباشرة على بيولوجيا الجسم وتؤدي إلى تغييرات فسيولوجية وبيولوجية في جسم الإنسان.
وفي ستينيات القرن الماضي، نُشرت دراسة في إحدى المجلات الطبية أُجريت على 40 مصابًا بالربو، تم إعطاؤهم بخاخًا يحتوي على بخار ماء فقط للاستنشاق، وأبلغوا أن البخاخ يحتوي على مادة مهيجة أو مسببة للحساسية، وكانت النتيجة أن عانى 48% من أعراض الربو، و30% منهم عانوا من نوبات ربو كاملة، وبعدها تم إعطاء هؤلاء المرضى، نفس البخاخ الذي يحتوي على بخار ماء فقط، بعد أن تم إبلاغهم بأن البخاخ يحتوي على دواء يُزيل أعراض الربو المختلفة، كما يعالج نوبات الربو التي تعرضوا لها، وكانت نتيجة ذلك أن شعر الجميع بتحسن كبير وزالت آثار ونوبات الربو تمامًا؛ بل لاحظ الباحثون توسعًا في الشعب الهوائية لهؤلاء المرضى بعد تناولهم ذلك الدواء الوهمي!
وفي سبعينيات القرن الماضي، أجرى أحد الباحثين دراسة على 40 مريضًا تم خلع ضرس العقل لديهم، وتم إعطاؤهم دواءً وهميًا لتخفيف الألم، وكانت النتيجة مذهلة؛ إذ شعر أغلبيتهم بفاعلية هذا الدواء الوهمي وأنه خفف من آلامهم كثيرًا، وبعد تجارب بسيطة على هؤلاء المرضى اتضح للباحثين أن الدماغ أفرز عند هؤلاء مواد مضادة للألم بالفعل وأن شعور هؤلاء بالتحسن لم يكن حالة نفسية فقط؛ بل نتيجة لهذه الكيمياويات التي يفرزها الجسم للتخفيف من الألم، وقد نُشرت هذه الدراسة في واحدة من أهم المجلات العلمية وأكثرها شهرة وهي مجلة نيتشر "Nature" وذلك عام 1978.
وفي عام 1997 أُجريت تجربة دواء جديد مضاد للاكتئاب باسم (venflaxine) ولوحظ أن 38% ممن تناولوا دواءً وهميًا تحسّنت حالتهم النفسية تحسنًا ملحوظًا؛ بل وظهرت عليهم الأعراض الجانبية للدواء، ظنًّا منهم أنهم تناولوا دواءً حقيقيًا، ولوحظ أن هناك تغيُّرًا في أنماط موجات الدماغ لديهم، مما يدل على تغيُّر بيولوجي حقيقي حدث في أدمغتهم!
وللحديث بقية...
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
المتميزون لا يُقهرون.. إنهم النور في الظلام
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
من الصعب أن ننكر وجود أفراد يستغلون قدراتهم ونفوذهم في إفساد مساحات العمل أو العلاقات الإنسانية، بهدف خدمة مصالحهم الشخصية دون النظر إلى عواقب أفعالهم على الآخرين. هؤلاء الأشخاص يتصفون بصفات أنانية تجعلهم يعملون على تغييب الأشخاص الأكثر تميزًا أو استبدالهم بأفراد أقل كفاءة، لمجرد أنهم يجدون فيهم توافقًا مع أهدافهم الأنانية أو يرونهم أداة سهلة للتحكم.
هذا السلوك ليس مجرد خلل في أخلاقيات العمل أو العلاقات، بل هو انحراف عن القيم الإنسانية الأساسية.. إن استبدال الأشخاص المميزين بأفراد ضعيفي الكفاءة يؤدي إلى تدهور جودة العمل ويخلق بيئة سلبية تفتقر إلى الإبداع والتعاون.. مثل هذه البيئة لا تؤدي فقط إلى فشل أى مؤسسة أو أى فريق، بل تسهم أيضًا في إحباط الأشخاص المتميزين ودفعهم للابتعاد عن بيئة لا تقدر جهودهم.
من المؤسف أن هذا النوع من الأفراد يتلاعب بالنظم والقوانين ليحقق مكاسب شخصية.. إنهم يستخدمون أساليب ملتوية لإقصاء الآخرين من خلال التشويه أو التضليل أو حتى المؤامرات الصغيرة.. ويشعرون بالراحة في إحداث ضرر للآخرين طالما أن ذلك يعزز من وضعهم الخاص أو يمنحهم شعورًا زائفًا بالقوة.
لكن ما يدفع هؤلاء الأشخاص إلى هذا السلوك؟ الجواب غالبًا ما يكمن في انعدام الأمان النفسي أو المهني لديهم.. فهم يرون في الأشخاص المتميزين تهديدًا لقدراتهم، لأن هؤلاء المتميزين يعكسون ضعفهم وعدم كفاءتهم.. لذلك، يلجأون إلى محاولة السيطرة على الموقف بطرق ملتوية لإخفاء هذا الشعور بعدم الكفاءة.
إن التعامل مع هؤلاء الأشخاص يتطلب وعيًا وحكمة.. ومن الضروري أن يكون لدينا القدرة على كشف هذه التصرفات وتجنب الوقوع في شراكها.. يجب أن يتمسك الأفراد المتميزون بقيمهم وأخلاقياتهم، وأن يحافظوا على ثقتهم بأنفسهم رغم العراقيل التي يضعها هؤلاء المستغلون في طريقهم.
كما أن المؤسسات تلعب دورًا كبيرًا في مواجهة هذه الظاهرة.. يجب أن تكون هناك سياسات واضحة وشفافة تمنع هذا النوع من الاستغلال.. فعندما تكون البيئة المهنية قائمة على النزاهة والعدالة، فإنها تقلل من فرص الأفراد المستغلين للتلاعب بالآخرين.. لذلك، فإن بناء ثقافة عمل إيجابية يقوم على أساس التقدير والاعتراف بالكفاءات الحقيقية يمكن أن يكون حاجزًا ضد تصرفات هؤلاء المفسدين.
أيضًا، يجب أن نتساءل: كيف يمكننا أن نحمي أنفسنا من تأثير هذه التصرفات؟.. أولًا، علينا أن نركز على تطوير مهاراتنا وقدراتنا باستمرار، بحيث نصبح أكثر استعدادًا لمواجهة أي تحديات. ثانيًا، علينا أن نكون واعين لحقوقنا وأن ندافع عنها بطريقة محترمة وذكية.. وأخيرًا، يجب أن نُحيط أنفسنا بشبكة من الداعمين الذين يشاركوننا قيمنا ويساعدوننا على المضي قدمًا.
لا يمكن إنكار أن هذا النوع من السلوكيات يمثل تحديًا كبيرًا على المستوى الفردي والمؤسسي. لكن بالنظر إلى الصورة الأكبر، فإن التمسك بالقيم والعمل بجدية وإصرار يمكن أن يظهر مدى هشاشة هؤلاء الأشخاص الذين يعتمدون على أساليب ملتوية لتحقيق أهدافهم.. إنهم يعيشون في دوامة من عدم الثقة والخوف من الفشل، وهذه الدوامة نفسها قد تكون سببًا في سقوطهم في نهاية المطاف.
إن قوة التميز الحقيقي تكمن في أنه لا يمكن طمسه أو تجاهله لفترة طويلة.. قد يحاول البعض إخفاءه أو التقليل من قيمته، لكن في النهاية، يبقى التألق والتميز هما المعياران الحقيقيان للنجاح والتقدير. لذلك، على المتميزين أن يظلوا صامدين ومؤمنين بأنفسهم وبقيمهم، وأن يتذكروا دائمًا أن النور يسطع حتى في أحلك الظروف.
في الختام، من المهم أن نتذكر أن هذا النوع من السلوكيات لا يعكس سوى ضعف من يقوم بها.. إنهم يسعون إلى تحقيق نجاحات زائفة على حساب الآخرين، لكن هذه النجاحات تكون مؤقتة وغير مستدامة.. فالعمل الدؤوب والالتزام بالقيم هما السبيل لبناء مستقبل حقيقي ومشرق، حيث يتم تقدير الجهد والإبداع والكفاءة الحقيقية.