د. الوليد آدم مادبو

قد تعيننا زيارة الحِوارية – حِوارية لاهاي – وإعادة النظر في إشكالية الكتابة عند النخب السودانية على فك شفرة المثقف والتعرف على سيكولوجيته التي تجعله شحيحاً وضنيناً بالتوثيق، هذا لمن لديه أفكاراً أصلاً، وعاجزاً عن خوض المعترك السياسي بمعارف خالية من الغرض ومستوفية لشرط الموضوعية التي تتطلب التجرد والاحترافية التي تزهد في استخدام اللغة الأدبية كوسيلة للتعويض عن الإفلاس الفكري والأخلاقي.

مثلا لدينا أدباء يخِيْطون ملابساً سيئة الجودة ويزخرفونها بخيوطٍ زاهيةٍ فيعرضونها في سوق الملجة معتمدين على وضع لافتاتهم الأكاديمية كماركة لا يمكن تجاوزها إلى غيرها. كما لدينا مفكرون يخرجون بخلاصات ناجعة بناءاً على افتراضات خاطئة، حتى إذا ما ثبت خطلها أبدلوا الخلاصات ولم يكلفوا أنفسهم عنت المراجعة لتلكم الافتراضات. وهناك فصيل من الكُتاب يتخذ من الفضاء العمومي وسيلة لمعالجة إشكالياته النفسية وعقده الذاتية فيخلط بين الخاص والعام خلطاً يحار فيه المرء من طريقة تبدل المواقف إلى نقيضها دون أدنى مبرر فكري، فقط الانتصاف من العدو المزعوم، في هذه الحالة “الجنجويد”، بطريقة لا تفصله عن أي عنصري أو لاهوتي متعصب.

المثقف حسب تعريف زولا هو “حامل المعرفة النقدية المفضية إلى الاستقامة المؤسسة للحق والحقيقة”، هو ذاك “الشخص المستقل بالإبداع الفكري والتعبيري في صوره المختلفة”. بيد أننا يجب أن نُقر بأن المثقف ليس “كينونة صمّاء أو نسيج من فضائل محضة”، إذ أن همته تعلو وتنخفض حسب الوقائع التاريخية المحفوفة دوماً بالمخاطر (بولا، ص: 113، 107, 131). لدينا مثقفون كثر كان لديهم مواقفاً ملتبسة من الأنظمة الاستبدادية لكن ذلك لم يُسْقِط عنهم شرط النزاهة الأخلاقية، أمثال الفيتوري، ومحمد عبدالحي وصلاح احمد إبراهيم وحتى الطيب صالح (رحمهم الله جميعاً). لا أفهم كيف لمثقف ديمقراطي تقدمي علماني مثل عبدالله على إبراهيم أن يحاول إرجاع “الغرابة” (إشارة إلى غرب السودان) إلى بيت الطاعة عوض عن أن يكتفي بالتحليل ويبين الإشكال البنيوي في هيكل الدولة السودانية الذي تسبب في كل هذه الإشكالات الواضحة والظلامات الماثلة، الأخطر أن يجعل من موقفه موقفاً وطنياً وليس فقط خطاً سياسياً ملتبساً بالحمولات الثقافية والفكرية الشائهة (راجع كتابات مارتن هايدغر وجورج أورويل للتعرف على علاقة السياسة بالأدب في دركها الأسفل).

أتفهم جيد جداً موقف عشاري فهذا موقف عنصري يتمخض عن كراهيته لأبناء الحزام الرعوي وللرزيقات والمسيرية خاصة (فقد أصابت أستاذنا الجليل عقدة من جراء الهجوم غير المبرر الذي تعرض له إثر نشره وبلدو لكتيب “مذبحة الضعين”)، كما أتفهم موقف محمد جلال هاشم باعتباره موقفاً ايديولوجياً نمطياً ينطلق من فرضية أن هؤلاء “المتمردين” هم “عرب شتات”، وهو بذلك إنما يُسْقِط عن الإنقاذ جريرة التجييش لأبناء الحزام الرعوي، إفقارهم واستخدامهم كساعد عضلي كما يعفي الدولة السودانية (متمثلة في كافة مؤسساتها السيادية) من جرائمها التي تعدت فعل التهميش إلى فعل التدمير لمقومات التكامل الايكولوجي ودك مفاعيل الانصهار المجتمعي.

لا يتوقع من الكاتب أن ينجر وراء رغباته الشخصية ونزواته الذاتية، إنما يرجى منه شرح الملابسات وتبيان التقاطعات للعامة كي تتخذ موقفاً مبدئياً يرفض اعتماد العنف وسيلة لتحقيق أهدافاً سياسية. يتطلب من الكاتب ترشيد الأفكار والعواطف في مثل هذه الظروف وليس تحشيد العامة فهذه حرب بين سودانيين، وليس بين سودانيين مستحقين وآخرين مُتَغولين على ساحة الوطنية. أحب أن اؤكد لكل المثقفين السودانيين – خاصة أبناء الوسط النيلي – أنّه لا يمكن – كما لا يحبذ – كسر شوكة العطاوة، لكن يمكن ترشيد عواطفهم كي لا يصطفوا خلف قيادة جاهلة، محتالة وماكرة توظفهم لمصالحها ولا تعبأ بمصيرهم أو تكترث لمستقبل تعايشهم مع الآخرين، وذلك بتبني خط قومي سديد واعتماد فكر تنموي رشيد يقفل الباب على كل المليشيات والاستقطابات ذات الطابع الجهوي والعقائدي.

إني أعتبر أن هذه لحظة من لحظات الإخفاق وإنغلاق الأفق الذي تُعَوّل فيه الانتلجنسيا على عاطفة القطيع. عوضاً عن التفكير في مستقبل البلاد وإمكانية نهضتها على أسس حديثة، تُعَوّل النخبة من الناحيتين (المؤيدين للجيش وأولئك المؤيدين للدعم السريع) على الدفع بالقطيع نحو حظيرة التعصب، الذي لن تجنى البلاد منه غير الخراب والدمار. هذا إن دل إنما يدل على أن حركتنا الثقافية والسياسية لم تبلغ بعد طور النضج الذي يمكن أن تحدث معه قطائع في طرائق تطورها وسبل نهضتها.

أوافق حيدر إبراهيم في مقالته التي تولدت عنها “حِوارية لاهاي” أنّه لم يكن لدينا يوماً نظريات كبرى (حِوارية لاهاي/مرافعة في حق المثقفين السودانيين بقلم عبدالله بولا، إعداد وتحرير نجاة محمد علي، مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، 2023)؛ كانت لدينا فقط مجرد هرطقات تأتي من ذات اليمين تارة وتأتي من ذات اليسار تارة أخرى، وصلت بنا إلى طرق مسدودة في جميع المستويات. لكننا لم نطور بعد نظرية معرفية نستطيع أن نحدث بها قفزة نوعية نتحرر بها منهجياً ومؤسسياً من الاستبداد. صحيح أن هناك هتافات، لكنه لا يوجد تراكم فكري واحتشاد معرفي يمكن أن نتبين به سمات العصر والمستقبل. فالذين يهتفون في الندوات “حرية .. سلام .. وعدالة، والثورة خيار الشعب” لا يعرضون تصوراً لتوطين هذه المفاهيم الثورية في تربتنا، إخصابها وتوسيع دلالات تأثيرها وفاعليتها قدر ما يطرحون إشكالية النهوض الثقافي في بلدٍ يعاني نصف سكانه من أمية أبجدية، كما يعاني النصف الآخر من أمية حضارية تجعلهم في مصاف الأغبياء الذي يتوجون غبائهم بشهادات ماجستير ودكتوراة، هم في عرف اليوم عبارة عن (Accredited Fools).

هل يجوز أن نتصور أن المثقف السوداني هو ذاك الثمر الأعجف كما يقول عبدالله بولا أو أن نَصِف الحركة الثقافية السودانية بالعُقم، أم أن هذا مجرد مخاض مٌرٍ وعسير تمر به البلاد التي توشك أن تنجب أفذاذاً مثل محمود محمد طه، الذي يعتبره عبدالله بولا صنواً لغاندي وليس شبيهاً له أو التجاني الماحي الذي لا يقل عن نهرو علماً وقدرة على تأسيس العلمانية والأخلاق الوطنية، أو عبدالخالق الذي يَرْجَح فكره بنكروما في توطين فكرة الاشتراكية (بولا، ص:91). إن هنالك علاقة بين المعرفة والوعي والبنى الاجتماعية التاريخية التي يتشكلان فيها، وإذ إن بنيتنا الاجتماعية والعقائدية هي بنية وثنية فإنها ما فتئت تقدس “الكبار” حتى جعلت منهم إلهة لا يمكن أن يجرؤ أحدٌ على نقدهم، دعك عن تخطيهم إلى ما هو أفضل. لقد تخطت البشرية الأداء الموسيقي لموزارت لكنّها أقرت بعبقريته التي لولاها ما تخطى البشر حاجز 113 إلى 550 concussions. كان لزاماً علينا أن نفرق بين النقد والانتقاد وأن نتجاوز إرث الأولين إلى مخاض الحاضرين. هذا جهدٌ مطلوب من كافة المجموعات السياسية، الدينية والفكرية.

خرج البرهان من مخبئه مزهواً بفعل الخطابات الشعبوية أعلاها التي تجعله يتصور أنّه قد بات منتصراً، وهو في الواقع قد أصبح منهزماً حتى لو قضى على كل قوات الدعم السريع فقد بات شعبه منقسماً وسلطته متنازعة وعاصمته مستباحة، وكلما استمر في الحكم كلما أصبح عبئاً على الدولة والشعب. توقعت من السيد الفريق مجرد ما تنفس الصعداء أن يختار قيادة عسكرية جديدة تخضع لإرادة مدنية وازنة بين الحزام الرعوي والوسط النيلي ومحترمة لكل مقومات ومقدرات الشعب السوداني وأن يحدد موعداً لتنحيه في مدة لا تتجاوز الستة أشهر. لكنه آثر التمادي في موقفه الملتبس بين التسوية والحسم دون أن يدرك أن المجتمعين -الإقليمي والدولي – قد نفد صبرهما وأنه لم يعد بإمكانه الاستمرار في المخاتلة والخداع خاصة بعد أن آل الملف في الولايات الامريكية للمخابرات المركزية إذ لبث فترة في أيدي دبلوماسيين مغرضين في الخارجية الأمريكية (لقد نوّه الصحفي المخضرم محمد محمد خير إلى دينامية هذا الانتقال وآثاره المتوقعة في إحدى تسجيلاته الصوتية الجاذبة). ما زال لدى سيادة الفريق فرصة لاتخاذ القرار المناسب لعقد التسوية، تكوين حكومة وطنية والانسحاب من المشهد بالكلية، فمن كان سبباً في المأساة لا يمكن أن يكون سبباً في النجاة!

ختاماً، تتنازع المبدع (في هذه الحالة المثقف) رغائب تعبيرية عديدة مثل النثر والشعر والفنون التشكيلية والتمثيل وقد يكون مسائلاً حال الجرح والتعديل، النقد والتحليل، لا سيما أن من واجبه (أو واجبها) تبيان الحقائق فقط، إذ لا يليق بالمثقف (أو المفكر) أن يحاول تجيير مشاعر الجمهور ودفعه للاصطفاف خلف موقفه الشخصي فتلك تعتبر وسيلة من وسائل الشعبوية التي تخون ضمير الكاتب قبل أن تُضل قطيعه الذي يتصوره من القراء، خاصة إذا كان مولعاً بوسائل التواصل الاجتماعي مثل كتابنا الكبار السالف ذكرهم. لا توجد كارثة كما تقول لودميلا بافلتشنكو في كتابها الرائع “سيدة الموت/مذكرات قنّاصة ستالين” (دار الساقي، 2020) يمكن أن تتبين بها خصائص الرجال والنساء مثل الحرب، فهي تفضح سرائرهم وتمحص أفكارهم وتجعلهم في مصاف العظماء الذي يضيئون الطريق للعامة، أو تنحدر بهم إلى خانة البلهاء فيهتفون كما تهتف الغوغاء فيَضِلون ويُضِلون.

الوسومد. الوليد آدم مادبو

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: یمکن أن لا یمکن الذی ی

إقرأ أيضاً:

مصر تعيش أجواء الهزيمة.. فما الحرب التي خاضتها؟

"أنا عايز أقول لكم: اللي انتو بتشوفوه دِ الوقتي (من غير تفسير كتير وتوضيح كتير) تقريبا زي الظروف اللي كنا بنعيشها بعد هزيمة 67 في مصر"!

هذا ما قاله الجنرال المنقلب ياسر جلال، قبل أيام (بعد عشر سنوات، من الإنجاز، والرخاء، والازدهار، حسب أبواقه ولجانه) أمام حشد جماهيري سيق "قسرا" إلى ملعب المدينة الأولمبية، الكائن في قلعة "ألَموت" الجديدة، أو العاصمة الإدارية الجديدة؛ للاحتفال بذكرى نصر أكتوبر 1973، برعاية كيان يحمل اسما "رجعيا ظلاميا غامضا" ألا وهو "اتحاد القبائل العربية"، يترأسه شخص آت من المجهول، غارق في الفساد، يُدعى إبراهيم العرجاني!

ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذا الاحتفال تأخر عن موعده (الطبيعي) نحو ثلاثة أسابيع! وفي ظني (وليس كل الظن إثم) أن الاحتفال تم تأخيره عمدا؛ مراعاة لمشاعر "أولاد العم"، أو بعبارة أدق "أولاد الخال"! فذكرى "نصر أكتوبر" المصري يسبق (بيوم واحد) ذكرى "طوفان الأقصى" الفلسطيني التي باتت "ذكرى أليمة" لهزيمة استراتيجية حلت بالكيان الصهيوني، على أيدي المقاومة الفلسطينية، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لن يتعافى من آثارها..

كان هذا السؤال يتردد على منصات التواصل الاجتماعي كافة، بصيغ مختلفة: عن أجواء أي هزيمة يتحدث ياسر جلال ومصر لم تخض حربا، منذ بضع وخمسين عاما؟!
في اليوم التالي لكلمة ياسر جلال التي لم تستغرق سوى سبع دقائق، وهو المولع بالكلام، كان هذا السؤال يتردد على منصات التواصل الاجتماعي كافة، بصيغ مختلفة: عن أجواء أي هزيمة يتحدث ياسر جلال ومصر لم تخض حربا، منذ بضع وخمسين عاما؟!

السؤال يبدو وجيها ومنطقيا جدا، غير أنه مع التأمل وإمعان النظر، يجد المتأمل أن ياسر جلال كان "صادقا" على غير عادته، لكنه لم يكن "شفافا" كعادته، وقد بدا ذلك واضحا في قوله: "من غير تفسير كتير وتوضيح كتير".. فمن غير الممكن أن يفسر أكثر، ويوضح أكثر، لكن اللبيبَ بالإشارةِ يفهمُ!

فهل كان ينتظر المصريون من ياسر جلال أن يقول لهم بوضوح: أنا كنت في حرب معكم (يا مصريين) على مدى عشر سنوات، وأنا الذي انتصرت فيها، أما أنتم فتعيشون (اليوم) أجواء هذه الهزيمة؟! بالطبع كلا..

خمسة قواسم مشتركة بين الهزيمتين!

حتى تزول الدهشة عنك (عزيزي القارئ) إليك خمسة قواسم مشتركة تجمع بين هزيمة يونيو 1967 التي هُزم فيها الجيش المصري أمام العدو الصهيوني، وهزيمة يوليو 2013 التي هُزم فيها الشعب المصري أمام سلطة الانقلاب، بعد عدوان دام عشر سنوات، ولا يزال مستمرا..

القاسم الأول: الجيش والشعب لم يحاربا في هاتين الحربين.. الحربان كانتا "عدوانا" من طرف على طرف، ولم تكن مواجهة بين طرفين!

ففي يونيو 1967، شن الكيان الصهيوني عدوانا واسعا على مصر وسوريا.. أما الجيش المصري، فتفرق في صحراء سيناء بين أسير بيد العدو، وشهيد في مقبرة جماعية، وهائم على وجهه، ومنسحب بلغ منه الإعياء مبلغه.. وأما صواريخ "الظافر" و"القاهر" التي تصدَّرت أخبارها الصحف الرئيسة حينئذ، فلم نر لها أثرا؛ ذلك لأنها لم تكن موجودة أصلا، إلا في بروباجندا عبد الناصر التي كان يدير منصاتها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل!

وفي يوليو 2013، شن السيسي عدوانا منظما (ولا يزال مستمرا) على عدة جبهات: جبهة الحريات العامة (حرية التعبير، حرية السفر والانتقال، حرية التملك)، جبهة مؤسسات المجتمع المدني (النقابات، الأحزاب، الجمعيات الأهلية، اتحادات الطلبة)، جبهة الاقتصاد الوطني (بيع الأصول، وإغراق مصر في الديون)، جبهة السيادة المصرية (التنازل عن تيران وصنافير للسعودية، توقيع معاهدة 2015 مع إثيوبيا التي حرمت مصر من حصتها في مياه النيل، بيع رأس الحكمة ورأس بناس لدولة الإمارات.. إلخ)، جبهة الحقوق الأساسية للمواطن المصري (لا أمن، لا تعليم، لا علاج، لا وظائف، لا دخل مادي يفي بأقل القليل من متطلبات الحياة)، وجبهات أخرى.

القاسم الثاني: معاداة المنفرد بالسلطة (في كلا النظامين) للدين والأزهر؛ فعبد الناصر سلب الأزهر استقلاله، ولم يعرف الشارع المصري تخلي المرأة عن اللباس المحتشم إلا في عهد عبد الناصر.. أما في عهد ياسر جلال فقد شهدت مصر انتشاراً واسعا لشتى أنواع الانحرافات، بتشجيع من الإعلام الذي تستحوذ عليه السلطة، كما شهدت تدخلا شخصيا منه (أكثر من مرة) في الأمور الدينية، وهو الذي لا يحسن قراءة آية واحدة من كتاب الله، وقد تصدى له شيخ الأزهر في قضايا كثيرة.

القاسم الثالث: نشأة المستحوذ على السلطة في كلا النظامين، ونظرته للكيان الصهيوني؛ فكلاهما (عبد الناصر وياسر جلال) نشأ في حارة اليهود، وكلاهما تثور حول أصولهما شبهات كثيرة، وكلاهما لا يرى العدو الصهيوني عدوا.. وكلاهما خطط للهزيمة (هزيمة الجيش والشعب)؛ ليتربعا على عرش مصر دون منازع!

فمن الأمور التي بات مقطوعا بها، أن عبد الناصر قام بكل ما من شأنه أن يشجع الكيان الصهيوني ويحرضه على شن عدوان يونيو 67، على مصر، رغم علمه ويقينه بأن الجيش المصري غير مستعد لرد العدوان، ناهيك عن إحراز نصر؛ نكاية في قائد الجيش عبد الحكيم عامر الذي قرر عبد الناصر تصفيته معنويا بالهزيمة؛ ليسهل عليه التخلص منه شخصيا بالنحر، ومن ثم الانفراد بالسلطة!

ومن الأمور التي بات مقطوعا بها أيضا، أن ياسر جلال لم يدع شخصا يشكل له تهديدا "محتملا" إلا وألقى به في غياهب السجن، دون سند من القانون!

القاسم الرابع: وجود الآلاف من الإخوان المسلمين، ومن المغضوب عليهم من قِبَل النظام، في السجون، بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية!

القاسم الخامس: تأميم النظامين (الناصري والسيساوي) للمنصات الإعلامية كافة؛ ليكون صوت السلطة هو الصوت الوحيد المسموع! وإذا كانت عملية التأميم قد أثمرت، في عهد عبد الناصر، فإنها لم تثمر إلا قليلا، في عهد ياسر جلال؛ لأسباب باتت معروفة بالضرورة..

عدا هذه القواسم الخمسة المشتركة بين الهزيمتين (1967 و2013) فإن كل شيء مختلف!

ففي الهزيمة الأولى (1967).. كان الجنيه المصري يساوى 3 دولارات (الدولار كان يساوي 33 قرشا، أي ثلث الجنيه).. كانت الطبقة المتوسطة هي الأكثر عددا، وكان لدى كثير من أسر هذه الطبقة "خادمة".. كان راتب الموظف يكفيه، بل ويدخر منه.. كان المصريون يحصلون بواسطة بطاقات التموين على السلع الأساسية مدعمة.. كان تلاميذ المدارس يحصلون على وجبة غداء صحية مجانا.. كانت تُصرف للفلاحين أحذية بلاستيكية وأقمشة مجانا، أو بأسعار زهيدة أحيانا، من خلال الجمعيات التعاونية.. كانت المياه العمومية التي تصل إلى البيوت صالحة للشرب.. وأخيرا وليس آخرا، كان المصريون ينادون بالحرب؛ لمحو عار هذه الهزيمة النكراء.. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل هذه المظاهر، وهذه الإجراءات، لم تكن لحنكة عبد الناصر، أو لحسن إدارة وتخطيط منه، ولكن لأن مركز مصر المالي القوي (الذي ورثه من العهد الملكي البائد) كان يسمح بذلك، وبما هو أكثر من ذلك..

أما في الهزيمة الثانية (2013) التي أعلن ياسر جلال عن حلولها بالشعب المصري، قبل أيام، والتي يعيش أجواءها اليوم، فإن الجنيه المصري يساوي سِنتين اثنين (الدولار يساوي 50 جنيها).. الطبقة المتوسطة في طريقها للانقراض، والطبقة المعدمة هي الأكثر عددا، وكثير من نساء الطبقة (التي كانت متوسطة) يعملن "خادمات" في بيوت "الإيجيبتيين" أصحاب المداخيل المليونية؛ لتوفير الحد الأدنى من متطلبات أسرهن المعيشية.. راتب الموظف لم يعد يغطي نفقات أسرته لمدة أسبوع واحد.. تم حرمان ملايين الأسر من بطاقات التموين.. تم رفع الدعم عن كل السلع.. تم فرض ضريبة (إتاوة) على كل إجراء روتيني تقوم به المصالح الحكومية، لا غنى للمواطن عنه.. لم يعد هناك شيء مجاني، أو بأسعار زهيدة؛ فكل شيء يباع، حتى أرجل الدجاج وأحشاؤها.. لم تعد المياه العمومية صالحة للشرب، ولا حتى لغسل الأواني.. بات المصريون يعيشون أجواء الهزيمة، حقيقة لا مجازا، تلك الهزيمة التي يسوّقها إعلام السلطة على أنها إنجاز وطني عظيم قام به القائد المظفر ياسر جلال!

تحرير، أم تحريك، أم استسلام؟
كيف سيتعامل الشعب مع هزيمة يوليو 2013 التي ألحقتها به سلطة الانقلاب التي هي الجيش الذي يعتبر نفسه في حالة "سلام دافئ" مع "إسرائيل"، رغم كل ما ترتكبه من مجاز
بعد عدوان يونيو 67، كان المصريون (جيشا وشعبا) يتحرقون شوقا للثأر، ومحو العار الذي ألحقه عبد الناصر بمصر والمصريين، وكان على عبد الناصر أن يستجيب مرغما، لا راضيا ولا مقتنعا، فأعلن حرب الاستنزاف، ثم خلفه السادات الذي كان يريد تثبيت شرعيته التي لم يعترف بها حواريو عبد الناصر (مراكز القوى).. غير أن السادات كان يفكر تحت السقف الأمريكي.. "حرب تحريك، لا حرب تحرير"، وكان له ما أراد، وكان لأمريكا ما أرادت؛ عبَر الجيش المصري قناة السويس، وأحدث ثغرات في "جدار بارليف"، وأصبح له موطئ قدم على الجانب الشرقي للقناة، بعمق كيلومترات معدودة.. انسحبت "إسرائيل" من سيناء شكليا، وبقي نفوذها عليها عمليا، حتى اليوم.. أما السادات، فكان بوسعه أن يتكلم عن إحراز "نصر"، يعقبه "سلام"؛ ليكون "بطل الحرب والسلام"!

هكذا تعامل الشعب المصري، والجيش، والسلطة، مع هزيمة يونيو 1976، فكيف سيتعامل الشعب مع هزيمة يوليو 2013 التي ألحقتها به سلطة الانقلاب التي هي الجيش الذي يعتبر نفسه في حالة "سلام دافئ" مع "إسرائيل"، رغم كل ما ترتكبه من مجازر، وتمارسه من عربدة، في الإقليم؟!

تحرير، أم تحريك، أم استسلام؟

x.com/AAAzizMisr
aaaziz.com

مقالات مشابهة

  • علاج البواسير..ما هي الخطوات التي يمكن اتباعها للتخفيف من حدتها؟
  • ما الذي يمكن أن تقدمه القوات المصرية في الصومال؟
  • ما لا يعرفه العرب عن صهر ترامب العربي الذي تزوج نجله بإبنة ترامب تيفاني ؟
  • جيل زد السوري الذي دفع الثمن مبكرا
  • "المجاهدين": إقالة غالانت لن تمحو العار والهزيمة التي تلاحقه
  • مدير «العربي للدراسات»: لا يمكن حسم مستقبل الأزمة الأوكرانية مع قدوم رئيس جديد
  • منصور بن زايد: الإمارات تقدر دور المثقفين في مسيرتها التنموية
  • بين هاريس وترامب.. من الرئيس الذي يتمناه نتنياهو؟
  • الثلاثاء الأميركي الكبير.. هل يمكن الرهان عليه لطيّ صفحة الحرب؟!
  • مصر تعيش أجواء الهزيمة.. فما الحرب التي خاضتها؟