أسامة الزيد يقترح إلزام شركات النفط الخاصة بمعاملة المواطنين العاملين لديها وفقاً لقانون القطاع النفطي
تاريخ النشر: 18th, September 2023 GMT
أعلن النائب أسامة الزيد عن تقدمه باقتراح برغبة بإلزام شركات القطاع النفطي الخاص بإبرام العقود الوظيفية بينها وبين المواطنين العاملين لديهم وفقاً لقانون القطاع النفطي وليس القطاع الأهلي، وتصحيح العقود الوظيفية الحالية.
ونص الاقتراح على ما يلي:
ظهرت أولى القوانين المنظمة للعمل في دولة الكويت سنة 1959 وقد عدل بصدور المرسوم الأميري رقم 43 لسنة 1960 وبالقانون رقم 1 لسنة 1961 حتى ألغي بمقتضى القانون رقم 38 لسنة 1964 في شأن العمل في القطاع الأهلي.
وقد استحدثت تعديلات عدة أضيف على إثرها باباً جديداً استهدف منح مزايا خاصة للعاملين في القطاع النفطي بمقتضى القانون رقم 43 لسنة 1968، حتى صدر القانون رقم 28 لسنة 1969 في شأن العمل في قطاع الأعمال النفطية، والذي جاء نظراً لما لهذه الأعمال النفطية من طبيعة خاصة تستوجب أن تستقل بأحكامها عن قطاع العمل الحكومي وقطاع العمل الأهلي بصورته العامة، فقطاع الأعمال النفطية هو قطاع قائم بذاته في دولة تكمن ثروتها الوطنية في بواطن أرضها.
وبعد مضي أكثر من خمسين سنة على صدور القانون رقم 28 لسنة 1969 في شأن العمل في قطاع الأعمال النفطية؛ ما زال يعاني العديد من العاملين في القطاع النفطي الخاص بعدم مسواتهم بنظرائهم من العاملين في القطاع النفطي الحكومي، إذ باتت العديد من الشركات العاملة في القطاع النفطي تبرم العقود الوظيفية وفقاً للقانون رقم 6 لسنة 2010 في شأن العمل في القطاع الأهلي.
ذلك القانون الذي بمقتضاه ألغى العمل بالقانون رقم 38 لسنة 1964 في شأن العمل في القطاع الأهلي، بيد أنه أبقى على القانون رقم 28 لسنة 1969 في شأن العمل في قطاع الأعمال النفطية ولم يلغه، بل أكدت المادة الرابعة منه أنه تسري أحكام هذا القانون على القطاع النفطي فيما لم يرد بشأنه نص في قانون العمل في قطاع الأعمال النفطية أو يكون النص في هذا القانون أكثر فائدة للعامل.
وبالتالي فإن مما لا جدال فيه أن المشرع عمد إلى ترسيخ قاعدة أصولية قوامها أن الأحكام والحقوق والمزايا للعمال تمثل الحد الأدنى الذي لا يجوز النزول عنه وأي اتفاق على خلافه يقع باطلاً، كما لا يجوز بحال من الأحوال الاتفاق على المساس بهذه الحقوق التي أقرها المشرع ما لم يكن هذا الاتفاق أكثر فائدة للعامل، إذ نص القانون صراحة على أن يتمتع العامل بالمزايا والحقوق الأفضل التي تفوق المنصوص عليه طالما تضمنتها عقود العمل.
وقد عرفت المادة الأولى من القانون رقم 28 لسنة 1969 في شأن العمل في قطاع الأعمال النفطية القصد بالأعمال النفطية وهي العمليات الخاصة بالبحث أو الكشف عن النفط أو الغاز الطبيعي سواء كان ذلك تحت سطح الأرض أو البحر وكذلك العمليات الخاصة باستخراج النفط الخام أو الغاز الطبيعي أو تصفية أي منهما أو تصنيعه أو نقله أو شحنه.
وعرفت ذات المادة القصد بأصحاب الأعمال النفطية وهم أصحاب العمل الذين يزاولون الأعمال بموجب امتياز أو ترخيص من الحكومة أو يقومون بتنفيذ تلك الأعمال كمقاولين أو مقاولين من الباطن، كما لم تغفل المادة الأولى عن تعريف عمال النفط بأنهم العمال الذين يشتغلون لدي أصحاب الأعمال النفطية، بحيث يطبق هذا القانون على العمال الكويتيين المشتغلين في أعمال البناء وإقامة التركيبات والأجهزة وصيانتها وتشغيلها وكافة أعمال الخدمات المتصلة بها، كما يطبق هذا القانون في الشركات الوطنية على العمال الكويتيين فيها فقط.
وقد حذر القانون من “أي مساس ببقاء العامل الكويتي في عمله أو النيل من حقوقه”.
ولما وقع الضرر على الكويتيين العاملين في شركات القطاع النفطي الخاص جراء إبرام العقود الوظيفية وفقاً لقانون القطاع الأهلي وليس القطاع النفطي؛ فقد لجأ عدد منهم إلى القضاء ليختصم صاحب العمل إذ أن النفس البشرية تكره أن ينتقص من حقوقها بعد تقريرها.
ومما لا شك فيه أن القضاء هو الملجأ لإلزام الشركات بأداء الحقوق للعاملين متى ما تعنتت تلك الشركات وارتأت عدالة المحكمة ذلك، غير أنه ليس من المنطق حرمان الآلاف من العاملين من حقوق قررها المشرع؛ واعطائها فقط لأولئك الذين يمضون قدماً في مخاصمة أصحاب العمل ورفع القضايا العمالية.
لذا فأنني أتقدم بالاقتراح برغبة التالي:
“تكليف الوزراء -كل فيما يخصه- بإنفاذ صحيح القانون وإيقاف العبث والمساس بحقوق الكويتيين العاملين في شركات القطاع النفطي الخاص وذلك بإصدار القرارات اللازمة لإلزام تلك الشركات إبرام العقود الوظيفية بينهم وبين المواطنين العاملين لديها وفقاً لقانون القطاع النفطي وليس القطاع الأهلي، وتصحيح العقود الوظيفية الحالية عبر أداء حقوق العاملين وفقاً للتشريع الصحيح وهو القانون رقم 28 لسنة 1969 ومنعهم من عقد أي اتفاق على خلافه من القوانين أخصها قانون رقم 6 لسنة 2010.”
المصدر الدستور الوسومأسامة الزيد القطاع النفطيالمصدر: كويت نيوز
كلمات دلالية: أسامة الزيد القطاع النفطي القطاع النفطی الخاص فی القطاع النفطی القطاع الأهلی هذا القانون العاملین فی
إقرأ أيضاً:
دولة القانون: مأزق السودان الدستوري
دولة القانون
مأزق السودان الدستوري
ماذا نعني بالدستور:
الدستور هو مجموعة القواعد الأساسية والأحكام العامة التي تحدد نظام الحكم بما في ذلك هياكله ومستوياته وما يستتبع من منح للصلاحيات والسلطات. أي أن الدستور هو القالب الذي تندرج تحت مظلته حقوق الأفراد والمؤسسات وعلاقاتهما وكيفية تنظيمها من خلال التشريعات والقوانين والأوامر والقرارات التي تصدر فيخضعوا جميعاً لحكم الدستور. وإذا كان هذا الوضع يعطي الدستور مرتبة العلو ضمن أي نظام قانوني، فالدستور يستوجب على الكافة أن يلتزموا نصوصه سواء أكانت صريحة أو ضمنية. بعبارة أخرى، حتى البرلمان أو أي سلطة مخولة بإصدار التشريعات لا تملك أن تتجاوز أحكام الدستور أو إجراء أي تعديل إلا وفقاً للتدابير المقررة. قبل تجاوز التعريف بالدستور يجدر ذكر أن صفة العلو التي يكتسبها أي دستور ليست بالضرورة أن تتخذ مسمى الدائم أو الانتقالي أو المكتوب وإنما يجوز أن نمنح اصطلاح الدستور لكل ورقة أو إعلان أو وثيقة أو مبادئ تم اعتماد علوها بسبب التزام السلطة التشريعية وأجهزة الدولة بها سواء في التشريعات والقوانين أو تطبيقها بواسطة المحاكم بحسبانها حائزة على المرجعية الدستورية .
كلما كان الدستور عند صدوره نابع عن إرادة الأمة وممثلاً لها كان الأفراد المشمولين تحت مظلة الدستور أكثر انتماءً واستقراراً وذلك لكون الدستور ذاته قادر على الاستجابة وتقديم الحلول الموضوعية دون حاجة لإجراء أي تعديلات عليه . ولأن التغيير سنة ماضية، سواء بسبب الحروب أو التطورات السياسية أو الكوارث الطبيعية أو أي ظروف استثنائية أخرى، فما من دستور إلا ويتضمن الطريقة والإجراءات المطلوبة لتعديله. فإذا كان الدستور ينص على نصاب معين لتعديله، فيمتنع على عضوية البرلمان أو أي سلطة تشريعية المضي في أي مسائل دستورية إلا بعد استيفاء الشروط والإجراءات المقررة.
لما كانت الدساتير تتطلب مراعاة قواعد صارمة في التعامل معها، فقد أبرز الفقه الدستوري مصطلح الدستور الجامد على دساتير بعينها بينما وقعت أخرى تحت طائلة الدساتير المرنة. كقاعدة عامة لا يوجد دستور لا يمكن تعديله غير أن الدستور الذي يسمح بتعديله بإجراءات تفصيلية ونصاب عال، يصنف كدستور جامد. وكلما كان الدستور يسمح بتعديله بنصاب الأغلبية البسيطة والمطلوبة لإصدار أي تدابير تشريعية عادية فإنه يعد من ضمن الدساتير المرنة. الجدير بالذكر، أن كافة الدساتير التي تتطلب لتعديلها نصاباً استثنائياً أو تستلزم توافر شروط أو قيود زمنية أو أحوال معينة فتعتبر دساتير جامدة.
يستخدم كثيرون مصطلح المبادئ فوق الدستورية بشأن بعض المسائل التي تتعلق بالحقوق الأساسية والحريات العامة وما في حكمها من موضوعات المساواة والتمييز ونحوها. ولما لتلك المبادئ والحقوق والحريات من حساسية، فعادة ما ينشأ السؤال عن مدى جواز تعديلها. في واقع الأمر، كافة البنود والأحكام، وطالما وردت بالدستور، وكان الأخير مقرراً جواز التعديل، فإن ذلك يجعل من العسير القول بوجود بنود فوق الدستور. مع ذلك، وبدلاً عن القول بأن هناك بنود بهذه الصفة الفوقية، فالأنسب تبني اشتراط نصاب استثنائي أو النص على الإجماع لتعديلها.
بالسودان، وتحت مسمى قانون الحكم الذاتي لسنة 1953 صدرت أول وثيقة ذات طابع دستوري في العام 1953، وكان الهدف من هذا التشريع الترتيب لانتقال السلطات من المستعمر إلى السودانيين. ذات قانون الحكم الذاتي لسنة 1953 تم تغيير اسمه ليكون دستور السودان الانتقالي لسنة 1956. استمر العمل بهذا الدستور لحوالي العامين لينقلب عليه إبراهيم عبود معلناً تعليقه. بعد ثورة أكتوبر 1964 تم إعادة العمل بدستور 1956 تحت مسمى الدستور الانتقالي لسنة 1964. استمر العمل بهذا الدستور مع بعض تعديلاته إلى أن تم تعطيله بانقلاب جعفر النميري في 1969. في العام 1973 أصدر جعفر النميري الدستور الدائم لسنة 1973، واستمر العمل به إلى أن أسقطته الثورة الشعبية في 1985، فصدر دستور السودان الانتقالي لسنة 1985. في يونيو 1989 انقلب عمر البشير على النظام الدستوري مصدراً ما أسماه بدستور جمهورية السودان 1998. لم يستمر العمل بهذا الدستور لعامين، وذلك نتيجة الخلافات التي نشبت بين عمر البشير وحسن الترابي في 2/12/1999. في العام 2005 ونتيجة اتفاق سلام نيفاشا صدر دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 ليستمر العمل به حتى سقوط النظام بثورة ديسمبر 2018 والتي تكللت بالنجاح في 11 أبريل من العام 2019.
في ضوء التطورات السياسية التي تزامنت مع ثورة ديسمبر المجيدة، وما صاحب ذلك من توقيع وصدور للوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 فإن هذه الدراسة تتبنى وجهة نظر مؤداها أن كافة التطورات السياسية الجوهرية في تاريخنا الحديث نتجت عن صراعات ذات طابع دستوري. فعلى سبيل المثال لا الحصر يرى معظم المحللين أن انقلاب إبراهيم عبود تم بتحريض من قوى مدنية لاستباق جلسة البرلمان التي كان من المزمع أن تسحب الثقة عن حكومة عبد الله خليل. على ذات النسق يذهب كثيرون إلى أن انقلاب جعفر النميري كان نتيجة طبيعية لطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان .
ليس ببعيد عن هذه المماحكات السياسية، تأتي هذه الورقة في سياق دراسة التعديلات التي طرأت على الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019، وما إذا كانت دستورية؟ وإذا لم تكن كذلك، ما هي الإرهاصات التي تزامنت مع هذه التعديلات ودورها في التطورات السياسية اللاحقة؟ إجابة على هذه الأسئلة وغيرها، وبحثاً عن الخروج من المأزق الدستوري القديم المتجدد. هذه الورقة يجب أن تؤخذ بحذر شديد سيما وأن الكاتب ليس مجرد باحث وإنما فاعل وشاهد ومسؤول كغيره من السودانيين عن هذا الواقع. بصورة مباشرة ستناقش هذه الأطروحة ما يلي:
أولاً: الوثيقة الدستورية لسنة 2019 والتي حكمت الفترة الانتقالية:
حسب التعريف السائد فقهاً، فإن وثيقة الفترة الانتقالية 2019 تعتبر من قبيل الوثائق الجامدة، وذلك لنصها على عدم جواز تعديلها أو إلغائها إلا طبقاً لنصاب لا يقل عن ثلثي عضوية السلطة التشريعية (المجلس التشريعي الانتقالي)، وذلك وفقاً لما يلي:
1/ الجهة الوحيدة التي تملك سلطة تعديل أو إلغاء هذه الوثيقة هي المجلس التشريعي الانتقالي، وذلك لصريح نص المادة 78 من وثيقة الفترة الانتقالية 2019 والتي تقرأ: "لا يجوز تعديل أو إلغاء هذه الوثيقة الدستورية إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي".
2/ جمود الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية يتجلى من عبارات المشرع التي جاءت متشددة، حيث أحاط الأحكام المتعلقة بشأن سن التشريعات بنصوص مستقلة بينما قيّد نصاب وجهة تعديل وإلغاء الوثيقة أو حل المجلس التشريعي بنصوص أخرى للجهة الأصيلة المسؤولة عن التشريع لتظل باقية ما دامت الفترة الانتقالية وذلك حتى لا يتم التغول على الوثيقة أو الفترة الانتقالية، ويتجلى ذلك في نص المادة 24/1 بقوله: "المجلس التشريعي الانتقالي سلطة تشريعية مستقلة لا يجوز حلها ..". وطبقاً لهذا النص مقروءاً مع المادة 25/5 فإن السلطة التشريعية ممثلة في المجلس التشريعي الانتقالي مقرر لها أن تظل باقية لتمارس سلطة التشريع، وهي سلطة مستقلة غير قابلة للحل إلى حين انتهاء أجل الفترة الانتقالية.
3/ الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية بالمادة 25/3، وعلى الرغم من أنها قبلت، وبصورة استثنائية، أن يمارس مجلسي السيادة والوزراء سلطات المجلس التشريعي الانتقالي، وبشكل مؤقت، لحين قيام المجلس التشريعي الانتقالي، كذا لم يفت على المشرع أن يمنح صلاحيات استثنائية لإعمالها في أحوال محددة سماها حصراً في (أ) سن وإصدار القوانين والتشريعات، (ب) مراقبة أداء مجلس الوزراء وسحب الثقة عنه أو أحد أعضائه، (ج) إجازة الموازنة العامة، (د) المصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والإقليمية والدولية، (هـ) سن التشريعات واللوائح التي تنظم أعماله واختيار رئيس المجلس ونائبه ولجانه المتخصصة.
المشرع تحت سلطات المجلس التشريعي الانتقالي المنصوص عليها حصراً بالمادة 25 أكد على أن تصدر القرارات والتشريعات من المجلس التشريعي الانتقالي بالأغلبية العادية. في ذات الوقت بشأن الصلاحيات ذات الصلة بتعديل أو إلغاء الوثيقة نجد أن الوثيقة لم تورد ضمن أي فقرة من فقرات الصلاحيات الاستثنائية تحت ذات المادة 25 ما يسمح بالتعديل وإنما وردت سلطتي تعديل أو إلغاء الوثيقة الدستورية، وحصراً، بنص خاص ومستقل ضمن الأحكام المتنوعة الواردة بالفصل السادس عشر تحت المادة 78 وبأغلبية لا تقل عن ثلثي عضوية المجلس التشريعي الانتقالي. غني عن البيان أن المجلس التشريعي الانتقالي وبوصفه الممثل للسلطة التشريعية الأصيلة لا يملك أن يحل نفسه إلا بعد أن يجري تعديلاً بأغلبية استثنائية أو ينتهي أجل الفترة الانتقالية طبقاً للمادة 24/1,
4/ إذا كانت السلطة التشريعية الأصل (المجلس التشريعي الانتقالي) لا يجوز لها أن تحل نفسها إلا بعد تعديل الوثيقة الدستورية التي أوجدتها، فمن باب أولى منع ممارسة التعديل أو الإلغاء بواسطة السلطة الاستثنائية (مجلسي السيادة والوزراء) بوجه يؤدي لنقض الوثيقة وإلغاءها كلياً .
ثانياً: التعديلات على الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019:
التعديل الأول: خضعت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 لأول تعديل لها في العام 2020 وذلك بعد إبرام اتفاقية سلام جوبا في 3/10/2020، وجاء الإعلان أو النشر عن هذا التعديل في العدد 1908 للجريدة الرسمية لجمهورية السودان . يجدر بالذكر بأن هذه التعديل تبناه وأفتى بصحته وزير العدل د. نصر الدين عبد الباري. من جانبها كانت اللجنة القانونية لقوى إعلان الحرية والتغيير قد اعترضت وحذرت د. عبد الباري من المضي في هذا التعديل إلا أن الوزير وجد سنداً لرأيه من قوى إعلان الحرية والتغيير التي كانت حريصة على المضي في التعديل الذي كانت أهم بنوده (أ) السماح للأحزاب السياسية شغل مناصب تنفيذية بدلاً عن اشتراط الاستقلالية، (ب) النص على الحكم الفيدرالي بدلاً عن اللا مركزي، (ج) تمديد أجل الفترة الانتقالية لتصبح 39 شهراً تبدأ من 3 أكتوبر 2020، (هـ) بجانب إضافة عدد مقاعد أعضاء مجلسي السيادة والوزراء وتخصيص حصة 25% منها للحركات المسلحة، (و) إنشاء مجلس شركاء الفترة الانتقالية ليتولى دور حسم التباينات التي قد تنشأ بين أطراف الوثيقة مراعاة للمصالح العليا للدولة.
التعديل الثاني: في صباح 25 أكتوبر 2021 أعلن عبد الفتاح البرهان عن ما أسماها إجراءات تصحيحية قضى بموجبها بتعليق العمل بأحكام المواد 11، 12 15، 16، 24/3، 71 و 72 من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 المعدلة في 2020. بإعلانه لهذه الإجراءات، يبدو أن فات على عبد الفتاح البرهان أنه سبق وأصدر المرسوم الدستوري رقم (9) لسنة 2019 المعدل لقانون القوات المسلحة لسنة 2007. هذا المرسوم، وعلى وجه الخصوص بالمادة (3) من القانون المذكور قرر بعد عبارة القائد الأعلى إضافة لفظ القائد العام ليقصد به الضابط الأعلى الذي يتولى قيادة القوات المسلحة والمعين بموجب المادة (10/1). هذا المرسوم مقروءاً مع المادة (9) من قانون القوات المسلحة لسنة 2007 وأحكام الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 تعتبر أن من يملك تعيين القائد العام للقوات المسلحة في أحد التفاسير مجلس السيادة الانتقالي أو رئيس مجلس الوزراء في تفسير آخر، وذلك طبقاً للمادة 74 من الوثيقة الدستورية، والتي تقرأ: "باستثناء السلطات والصلاحيات الممنوحة لمجلس السيادة بموجب هذه الوثيقة الدستورية، تؤول كل سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية ذات الطبيعة التنفيذية الواردة في أي قانون ساري لرئيس مجلس الوزراء". عبد الفتاح البرهان، وإن ظل قائداً عاماً للقوات المسلحة بحكم الواقع، إلا أنه فقد صفة رئاسة مجلس السيادة لكون هذا المجلس لم يعد موجوداً طبقاً لطريقة إنشائه المقررة بالمادة (11) من الوثيقة الدستورية لسنة 2019 تعديل 2020. مما يجدر الانتباه إليه أن كافة التفاسير القريبة والبعيدة لنص المادة 25/3 لا تحتمل تخويل مجلس السيادة ولا رئيسه حق الانفراد بممارسة صلاحيات تعديل الوثيقة الدستورية وذلك لكون السلطة التشريعية الاستثنائية المكونة من مجلسي السيادة والوزراء أصبحت في حكم العدم منذ تعديل 2020 غير الدستوري بجانب صدور قرارات 25 أكتوبر 2021، بجانب فشل الاتفاق الذي تم توقيعه في 21 نوفمبر 2021 بين عبد الفتاج البرهان ورئيس الوزراء، وما ترتب على ذلك من انقطاع الصلة بين رئيس الوزراء وحاضته السياسية الأمر الذي أفضى، وعملياً، لعدم إمكانية انعقاد مجلسي السيادة والوزراء طبقاً لما هو مقرر بموجب أحكام المادة 18/1 من الوثيقة الدستورية لسنة 2019 تعديل 2020.
نخلص من ذلك إلى أن الانقلاب على الوثيقة الدستورية في 25 أكتوبر 2021 لا تصححه إجراءات عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو والتي أسموها تصحيحية. غني عن البيان، أن تلك القرارات، وحتى تاريخ اليوم لم تجد حظها من النشر بالجريدة الرسمية لجمهورية السودان. من جانب آخر، هذا الخروج السافر عن الدستور لم يتضح حتى اللحظة ما إذا تم الاتكاء عليه في أي تعديلات أو تدابير أخرى أو لم يتم. من نافلة القول، وبفرض قبول التفسير الشاذ لنص المادة 25/3 من الوثيقة الدستورية لسنة 2019 وأنه يخول مجلسي السيادة والوزراء الاضطلاع بواجبات السلطة التشريعية المؤقتة فإن ما تم صبيحة 25 أكتوبر 2021 لم يتطابق ومتطلبات القاعدة التي تستلزم صدور أي تدابير إما بإجماع عضوية مجلسي السيادة والوزراء أو بما لا يقل عن ثلثي عضوية المجلسين وهو نصاب تعذر توافره منذ فجر 25 أكتوبر 2025. بالطبع، استقالة رئيس الوزراء وفقاً للمادة 18/1 من الوثيقة الدستورية لسنة 2019 تعديل 2020 جعلت مجلس الوزراء منعدماً وبالتالي استحالة إعمال المادة 25/3 من ذات الوثيقة.
التعديل الثالث: رغماً عن التعقيدات والمواجهات التي أدت لاستشهاد قرابة 130 من أبناء وبنات السودان الرافضين لانقلاب 25 أكتوبر 2021، وما ترتب على ذلك من تطورات تمثلت في دخول كل من قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو في ترتيبات ما عرف بمشروع دستور لجنة تسيير نقابة المحامين والاتفاق الإطاري، وما نتج عن ذلك من تداعيات اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023، فالسمة الملازمة والثابتة أن عبد الفتاح البرهان ظل يدعي التمسك بنصوص الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 تعديل 2020. حركات الكفاح المسلح وبعد أن دخلت شريكاً وطرفاً في العملية السلمية لسلام جوبا وما تبع ذلك من تعديلات غير دستورية للوثيقة في 2020، وطوال الفترة منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 شكلت هذه القوى المسلحة التحالف والحاضنة السياسية لعبد الفتاح البرهان بحجة الالتزام والتمسك بالوثيقة الدستورية لكون الأخيرة حققت لهم مكتسبات حقيقية تمثلت في 25% من مقاعد مجلس الوزراء علاوة على كرسي حاكم إقليم دارفور. بعد قرابة العامين من الحرب، وفي 19 فبراير 2025 اجتمع وأجاز المجلس المشترك للسيادي والوزراء تعديلات الوثيقة الدستورية لسنة 2025، وأبرز ما يلاحظ في هذه التعديلات من حيث الشكل ما يلي:
1/ انعقد الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء لإجازة التعديلات في 19 فبراير 2025 بينما تم النشر في الجريدة الرسمية لحكومة السودان بالعدد (1960) الصادرة بتاريخ 15 فبراير 2025. أي أن تاريخ النشر سابق لإجازة التعديلات. صحيح أنه يجوز، وطبقاً لقضية أفازيس صمويل ضد محافظ الخرطوم وآخر أن تسري التشريعات من تاريخ توقيعها دونما حاجة لنشرها بالجريدة الرسمية إلا أن كون وزراة العدل تستعجل نشر مسائل ذات طبيعية دستورية حتى قبل الإجازة، فإن ذلك يكشف عن مستوى الارتباك والانهيار في أجهزة الدولة.
2/ لم يراع التعديل الالتزام بالترتيب المنطقي للتشريعات من حيث أولويتها وعدم جواز دمج بعض النصوص التي لا تحتمل الدمج مع أخرى. ففي المادة (6) مثلاً، من غير المقبول لا تشريعياً ولا فنياً، إدراج نص متعلق بمصادر التشريع ضمن القواعد المتعلقة بحكم القانون. فالمصادر التي يستمد منها الدستور أحكامه يجب أن تسمو على حكم القانون الذي هو بالضرورة في درجة أقل من مصادر التشريع.
3/ جاء ترقيم التعديلات بطريقة غير علمية، وبوجه يجعل من العسير تتبع ما تم إدراجه من تعديلات وذلك للتغيير الجذري كماً وموضوعاً. فمن حيث الكم بلغ عدد التعديلات ما لا يقل عن 35 تعديل جوهري. من حيث الشكل أيضاً، وبدلاً من تتبع الحروف الأبجدية، كان الأنسب أن تأتي التعديلات بأرقام متسلسلة أو من شاكلة التعديل الأول، فالثاني وهكذا.
4/ جاءت لغة التعديلات ضعيفة وغير صحيحة في بعض نصوصها، فعلى سبيل المثال لا يجوز القول (الغير موقعة) وإنما الصحيح (غير الموقعة). أنظر لطفاً التعديل بالرقم (خ). كذا ورد التعريف في التعديل بالرقم (ع) مستخدماً لفظ المادة جديدة بينما الصحيح القول المادة الجديدة.
5/ لما للأوراق ذات الطابع الدستوري من أهمية ومرجعية لكل أجهزة الدولة، فعدم مراعاة الجوانب الشكلية مع الإصرار على إنفاذ هذه الوثيقة. بهذه الطريقة فإن هذه التعديلات ستؤدي، وبالضرورة، إلى ربكة حقيقية سواء على المستويين الإداري والقضائي. بعبارة أخرى، وبدلاً من أن تكون هذه الوثيقة سبباً للاستقرار ، فإنها في أغلب الظروف سوف تخلق رهق وفوضى عارمة.
من حيث الموضوع نلاحظ ما يلي:
1/ لابد من التأكيد على أن هذه التعديلات غير دستورية، إذ ليس من بين نصوص الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 ما يبيح لأي جهة أن تمارس أي تعديلات عليها والخروج عن نصوصها بما في ذلك أول تعديل لها في 2020.
2/ بافتراض صحة التعديل 2020 فإن تعديلات 2025 كان من الواجب، وفي فاتحتها أن تشير إلى أنها صدرت عملاً بأحكام الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 تعديل 2020. بعبارة أخرى، تعديل 2025 أهمل بالكلية التعديلات التي جرت في 2020.
3/ سبق للوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 أن اعتمدت مجموعة من المراسيم الدستورية التي صدرت في الفترة من 11 أبريل 2019 وحتى توقيع الوثيقة الدستورية في 19 أغسطس 2019. كذا في الفترة من الانقلاب على الوثيقة في 25 أكتوبر 2021 وحتى تعديل الوثيقة الدستورية في 2025 صدرت عدة مراسيم دستورية لم تنشر بالجريدة الرسمية. تعديلات 2025 لم تكشف عن أي إشارة لحقيقة أو تفاصيل تلك المراسيم ومصيرها وأثرها على هذه التعديلات الأخيرة.
4/ من المعلوم أن تعديلات 2020 أوجدت مجلسي سيادة ووزراء مشكلين طبقاً لأحكام التعديلات التي صدرت بموجبها. منذ 25 أكتوبر 2021 لا عضــــــــوية مجلسي السيادة ولا الوزراء باتت متوافـرة لأغـراض النصاب الذي تتطلبه المادة 25/3.
5/ ألغت تعديلات 2025 لجنة التحقيق في انتهاكات 3 يونيو 2019 المعروفة بمجزرة اعتصام القيادة العامة. ما يجب أن يذكر في هذا السياق أن تعديل 2025 نص على قاعدة أفضل تسمح بأن يتم اتهام وتقديم كل من ارتكب جرائم في حق الشعب السوداني". رغماً عن عموم هذا النص، والذي قد يتيح حق تحريك الإجراءات الجنائية ضد كل من له صلة بتلك المجزرة إلا أن المعضلة الأساسية تظل قائمة طالما أن شرط الحصانة ما زال مقرراً في حق أعضاء مجلسي السيادة والوزراء وغيرهم من منسوبي الأجهزة النظامية ممن يمكن أن توجه إلأيهم الاتهامات في تلك الأحداث.
6/ تعديلات 2025 كرست جميع السلطات بيد مجلس السيادة بوجه صريح، نشير على سبيل المثال لنص المادة (11) والتي جعلت من القائد العام رئيساً لمجلس السيادة والقائد الأعلى للقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى. تتجلى السلطة المطلقة بيد مجلس السيادة في تعديل كافة المواد التي تسمح بعيين رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بجانب النائب العام والمراجع العام علاوة على تعديل نص المادة 78 بالإصرار الصريح على أن السلطة التشريعية الانتقالية لا تملتك حق التشريع الاستثنائي فقط وإنما الحق الأصيل في تعديل الوثيقة الدستورية وحتى إلغائها إن تطلب الأمر.
7/ على الرغم من النص على قيام مجلس تشريعي انتقالي إلا أن الذي يبدو هو عدم الرغبة في وجوده بدليل عدم تحديد الجهة التي ستختاره أو تبني مبدأ الفصل بين السلطات بصورة تضمن الحد الأدنى لتحقيقه. ففي غياب السلطات الرقابية المستقلة فإن التعديلات التي إجراها عبد الفتاح البرهان في 19 فبراير 2025 وبجانب عزلتها عن المصدر الدستوري، فهي لا تضمن لا فصلاً بين السلطات ولا كفالة للحقوق الأساسية ولا الحريات العامة.
8/ على الرغم من أن تعديلات 2025 أضافت بنوداً جديدة عن المستشارين القانونيين ومهنة المحاماة وبنك السودان المركزي، إلا أن هذه التعديلات لم تنص على الجهة التي تملك حق تعيين محافظ البنك المركزي، وما إذا كان يختص بذلك مجلس السيادة أو رئيس الوزراء. بإلغاء تعديلات 2025 لنص المادة 74 من الوثيقة الدستورية لسنة 2019 تعديل 2020، فالراجح أن يتولى اختصاص تعيين محافظ البنك المركزي مجلس السيادة سيما وخلال فترة الحرب صدر مرسوم لم يتم نشره في الجريدة الرسمية مقرراً تبعية البنك المركزي لمجلس السيادة.
9/ بما أن هناك إقرار بأن هذه التعديلات صدرت في ظل حرب معلومة الكلفة الاقتصادية العالية، فما الجدوى من أن يكون هناك مجلس تشريعي يتألف من ثلاثمائة عضواً ومجلس سيادة قوامه أحد عشر عضواً وستة وعشرين وزيراً. الورقة الدستورية التي تحكم انتقال ما بعد الحرب يجب أن تعطي الأولوية للظروف الإنسانية ومتطلبات إعادة الإعمار بعيداً عن المناصب السياسية بالذات الشكلية.
10/ سواء من حيث الشكل أو المضمون، فإن الورقة الدستورية التي ستحكم أي فترة انتقالية يجب أن تكون رشيقة ومرنة بلا حاجة لنظام النيابات الجنائية والمحكمة الدستورية. فتلك الأجهزة التي نشأت في ظل نظام الثلاثين من يونيو 1989 لم تكن لها أي إضافة حقيقية بحانب تعقيدها وتطويلها لإجراءات العدالة مع كلفة غير مبررة في الجهد والوقت والمال.
طالما أن الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 لم تكن جائزة التعديل إلا طبقاً لشروط ونصاب محددين، فإن السؤال الذي يتردد وبشدة: لماذا التمسك بوثيقة لم تجد حقها من الالتزام بها واحترام بنودها؟ في ذات الوقت، هل الظروف التي أوجدت تلك الوثيقة والمتزامنة مع سقوط نظام الثلاثين من يوينو 1989 هي ذات الظروف التي تبلورت بعد حرب الخامس عشر من أبريل 2023؟ بالتالي، هل الأنسب الاستناد لمرجعيات وثيقة تم جحودها وترتبت عليها تغييرات حقيقية أفرزتها الحرب؟ أم يكن من الأفضل الدخول في عملية سياسية وترتيبات دستورية تراعي ما خلفته هذه الحرب وما سبقتها من ظروف؟ للإجابة على كل هذه الأسئلة فإننا سنكون بحاجة للتطرق إلى بعض الجوانب الفلسفية لمفاهيم الانتقال وتأسيس الأوطان طبقاً لنظريات فقه القانون بالذات في الحالات التي تشبه واقع السودان.
ثالثاً: فذلكة فلسفية:
للإنسان، وعبر الأزمان، حاجات أساسية وأخرى ثانوية. فكأي كائن حي يتحرك الإنسان من غريزة البقاء التي تتجلى في ضرورة توافر الغذاء وحق الدفاع بحيث يأمن على نفسه وماله الذي قد يكون مجرد لقمة عيش. مما تقدم، يجوز القول بأن أي احتياجات، بخلاف الأمن والغذاء، تعتبر مسائل ثانوية. حتى العلم، وعلى الرغم من أهميته، يظل إحدى الوسائل المساعدة على تيسير الوصول للأساسيات. بلا حاجة للمرور على التاريخ فإن أي أمة أسست دولتها حرصت، وفي المقام الأول، على التوافق في الآتي: 1/ الإرادة في العيش معاً طوعاً وقبولاً للآخر ملتزمين بالدفاع عن بعضهم البعض في أمن وسلام، 2/ المساواة أمام القوانين والأعراف السائدة وما تجري عليها من تعديلات، 3/ الالتزام والاحتكام عند الخلاف للقانون أو النظام القانوني، 4/ القناعة بأن التأسيس سيواجه الكثير من الصعوبات ولا مجال لتجاوزها إلا بالمعرفة والتدرج في الحلول.
رابعاً: لماذا فشلنا؟
على الرغم من أن السودان يعتبر من الدول القليلة التي حصلت على حق تقرير مصيرها من خلال برلمان منتخب مع وفرة في الكفاءات والقامات العلمية معروفة إقليمياً ودولياً إلا أن معظم هولاء السادة والسيدات اختاروا المهجر لفشل القيادات السياسية في إقناعهم والاستثمار فيهم. إزاء هذه الأوضاع، ومنذ فجر الاستقلال، ظل الكثيرون يطرحون السؤال: لماذا فشلنا في تأسيس دولتنا؟ هذا الفشل الذي بلغ مرحلة الحرب الأهلية، يجعلنا نسند أهم أسباب الفشل إلى: السبب الأول: عدم المعرفة وغياب القناعة بمفهوم الدولة المدنية، ويتجلى هذا العيب في انعدام الرغبة والقدرة بدليل لجوء معظم الأحزاب السودانية إلى استعجال التحالف مع المؤسسة العسكرية ومن ثم الانقلاب على الديمقراطية. السبب الثاني: احتكار سلطة غير مستحقة، حيث درجت معظم الأحزاب إلى التحالف مع المؤسسة العسكرية لإدراكها بأنها إما غير مسنودة جماهيرياً أو أنها تحصلت على السلطة بطريقة غير شرعية. في ظل هذه الظروف، وبدلاً عن للرجوع لقواعد التأسيس إذا بها تتبنى خطاً أحادياً وخطاباً عدائياً لا ينجح إلا في تأجيج وتعميق الكراهية فتلتهب الفترة الديمقراطية باختطاف عسكري بالتحالف مع مجموعة وحاضنة جديدة. السبب الثالث: استعجال النتائج: بجانب الاختطاف وعدم تبني نظريات التأسيس الصحيحة كانت النتيجة بروز قيادات حزبية وعسكرية فشلت حتى في التدرج في تطبيق النظرية الأيدولوجية التي تبنوها. بلا جدال فإن هذا السلوك مارسته كل الأحزاب سواءً التقليدية أو اليمينية أو اليسارية، وبلا استثناء. السبب الرابع: السماح للتدخل في شؤوننا الداخلية عبر الاستعانة بمحاور أجنبية مع زيادة في وتيرة الاسترزاق من العمل السياسي. كثير من الحالات كشفت عن تواتر السماح بتحكم أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية واختراقها لأنظمة وقيادات سياسية. هذا الاختراق ساهم وبشكل جوهري في استسلام وخضوع المشروع الوطني للمحاور الإقليمية والدولية في ظل غياب المعرفة والرؤية لمفهوم تأسيس الدولة. السبب الخامس: إدمان الفشل خلق حالة من اللامبالاة والإحباط، وعزوف معظم السودانيين عن الانتماء والتنظيم أو حتى المشاركة. غني عن البيان، ولأغراض تأسيس الدولة فإن عموم الشعب أو غالبيته لا يجوز إعفائهم من مسؤولية الاضطلاع بواجباتهم الوطنية سيما وأن الانهيار ظل حالة ملازمة تجسدت في بلوغ الوطن مرحلة الحرب الأهلية التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023.
خامساً: كيف نؤسس الدولة السودانية:
عندما ترغب أي دولة في التأسيس فإن القاعدة الدستورية التي تحكم هذه المرحلة تعرف بالفترة الانتقالية أو الاستثنائية. أي أن طبيعة الإجراءات التي تسري في مثل هذه الفترات هي استثنائية. في الفقه الدستوري، تطرأ الحالة الانتقالية أو الاستثنائية إما بسبب الثورات أو الحروب. في السودان جرت عدة مراحل انتقالية سواء بعد ثورة أكتوبر أو أبريل أو ديسمبر المجيدة. بذات الوقت، ومنذ الاستقلال لم تسلم معظم مناطق السودان من الحروب الأهلية إلى عمت كل أرجائه في أبريل 2023. بسبب الفشل في مفهوم التأسيس المرتبط بالفترات الانتقالية يصح القول بأن الدولة السودانية ستظل في هذه الحالة من الانهيار إلى أن نحسن إدارة الانتقال.
مما تقدم، وعلى وجه التحديد تكمن نقطة الفشل في فهم معنى التأسيس الذي يتطلب أساسيات تتمثل في: الأساس الأول: كيفية إدارة الظرف الاستثنائي أو القاهر. بعبارة أخرى، إذا كانت فترة التأسيس هي فترات استئثنائية أو غير طبيعية، فإن ما ينطبق على المجرى العادي للأمور لا يسري على الأوضاع والظروف الشاذة والقاهرة. فخلال الفترة الانتقالية من المستحيل اللجوء للانتخابات وإنما وجوب التوافق على صيغة موضوعية للاختيار عبر التمثيل العادل. كذا من غير المتوقع الوصول لملامح العقد الاجتماعي المنشود بكل شروطه وأحكامه. ففي ظل الحروب، لا يجوز للقوى السياسية أو بعضها أن تتطالب أو تتمسك بتطبيق رؤيتها الأحادية ومفاهيمها للبرنامج الديمقراطي أو الاقتصادي أو النظام الفيدرالي أو العلماني أو الإسلامي أو توحيد الجيوش ونحوها من الموضوعات الخلافية. أثناء فترة الانتقال، استعجال أي فصيل أو قوى سياسية فرض برامجها لا يعتبر اختطافاً للمشهد إنما انقلاب على الديمقراطية ومدعاة للصدام الذي سيؤدي لفشل الانتقال أو بالأحرى الحرب فنعود متقهقرين لمربع الحاجة إلى الأمن وفقدان لقمة العيش. من يفتقرون لمفهوم تأسيس الدولة يعتبرون أن التوافق وإدارة الانتقال بموضوعية ردة على الثورة واستسلام لأعدائها. الفشل في إدارة الانتقال دعوة مجانية للانقضاض على الثورة وإشعال لنيران الحروب الأهلية. الأساس الثاني: عدم الاستعجال بمراعاة الظرف الاستثنائي الذي يتطلب التدرج في تنفيذ الخطط والبرامج الإسعافية وألاستراتيجية للانتقال. أي أن قبول مبدأ الظرف الاستثنائي والقاهر يستوجب أن تكون كل أجهزة الانتقال مرنة، رشيقة ومستهدفة الوصول للبرلمان المنتخب مراعية أن عامل الزمن جزء من العلاج. الأساس الثالث: الانتقال لا يحتمل التنافس بين جهات تمثل مصالح متعارضة لا تثق أو تقبل ببعضها البعض. في فترات الانتقال طبيعي أن يرفض أي حزب أن يدير الانتقال منافس بمعزل عن الأخرى، لذا فإسناد الفترة الانتقالية يستلزم الموضوعية بحيث يُعهد بإدارتها لكفاءات غير منتمية إلى أي حزب أو تحالف حزبي. ليس بصحيح أن الشخص الكفاءة ليس بسياسي، فالكفاءة لفظ جامع ومانع، فمن ليس بسياسي لا يجوز أن نطلق عليه كفاءة. الأساس الرابع: ظرف الانتقال الاستثنائي يتطلب الموازنة بين علاج السيولة الأمنية التي تتزامن ونجاح الثورة أو ما بعد الحروب من جانب، وتوفير القدر المناسب من الحقوق الأساسية والحريات العامة من الجانب الآخر. فوثيقة الحقوق التي تكون جزءاً من الورقة الدستورية يجب أن تأتي مرنة بقدر يصون الحريات ولا يفسد الانتقال بسبب انتشار السلاح أو الفوضى. الأساس الخامس: ضرورة العمل بأعجل ما يمكن للاحتكام لصندوق الانتخابات. مهما بلغت حالة الاضطرابات فإن الرجوع للقواعد وإشراك أصحاب المصلحة يظل الضامن الأول لنجاح مرحلة التأسيس. الأساس السادس: التواصل المستمر مع الجماهير عبر خطاب إعلامي يبث الثقة، ويرفع الوعي بمطلوبات الانتقال دون إهمال الاستجابة للأزمات الطارئة. بكل أسف، الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 لم تتبن وتلتزم بمبادئ التأسيس، ومعظم ما ورد بها من قواعد لم يصبر عليها كثيرون عن عمد. ما يجب الانتهاء إليه أن الفترات الانتقالية ليس مطلوب منها أن تعالج كل المشكلات المزمنة بقدرما التبشير بالأمل بحنكة مع جهد متواصل بحيث تستطيع القيادة المؤقتة تحريك الجماهير للعمل في تناغم من أجل إنجاح الانتقال وصولاً للانتخابات الحرة والنزيهة ومن ثم بداية التحول الديمقراطي.
هذه الأساسيات الستة، والتي ظلت غائبة عن كل مراحلنا الانتقالية تستلزم استيعابها في رؤية تأسيس الدولة السودانية. الخروج من هذا المأزق الدستوري بدايته بيد السودانيين من جانب وسلطة الأمر الواقع من الجانب الآخر. فالأخيرة بقيادة االبرهان، هي التي عليها المبادرة والدعوة إلى توافق وطني لا يستثني إلا من أدين بجريمة ضد الوطن والمواطن. بكلمة واحدة تعديلات 19 فبراير 2025 الدستورية، بكل أسف، تعمق الفجوة السياسية، وتفتقر لأطروحة الحل الألمعي.
1 مارس 2025
د. عبد العظيم حسن المحامي
azim.hassan.aa@gmail.com
///////////////////////