مدينة ود مدني السودانية – “بيضة النعامة ومزاج التماسيح والغرباوية”
تاريخ النشر: 18th, September 2023 GMT
عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، ومن أقدم مدنه، يرجع تاريخ إنشائها إلى القرن الـ16 الميلادي في عهد مملكة الفونج، تبعد نحو 180 كيلومترا جنوب الخرطوم، وتربط المدينة العاصمة الخرطوم بميناء بورتسودان شرقي السودان وعددا من مدن ولايات السودان عبر شبكة من الطرق البرية المعبدة.
تقع مدينة ود مدني على الضفة الغربية من النيل الأزرق في مساحة 750 كيلومترا مربعا، بين خطي العرض 14.
وتضم المدينة 8 محليات و94 حيا، ومن الأحياء العريقة فيها حي “المدنيين” الذي ينسب إلى مؤسس المدينة، وحي ود أزرق وحي القسم الأول وحي الدباغة وحي بانت وحي جبرونا وجزيرة الفيل وحي ناصر وحي حنتوب، ونشأت فيها أحياء حديثة مثل حي المطار والزمالك والواحة والأندلس والطائف والمنصورة.
تقع مدينة ود مدني في الإقليم شبه الصحراوي الحار الجاف، الذي تهطل فيه الأمطار الصيفية التي تجلبها الرياح الجنوبية الغربية، ويتراوح معدل الأمطار السنوية بين 200 و400 ملم خلال فصل الخريف، ويعتبر شهر مايو/أيار أكثر الشهور حرارة، إذ تترواح الحرارة خلال فصل الصيف بين 25 و30 درجة مئوية. ويعدّ شهر يناير/كانون الثاني أكثر الشهور برودة حيثُ تترواح الحرارة بين 20 و15 درجة مئوية.
مع نشأة مدينة ود مدني وتأسيسها، استقرت فيها قبائل، بعضها قدمت من جنوب مصر، من أبرزها العيساب والدرنية والسناهير والهواوير الدناقلة والشايقية. ومع ازدهار المدينة والتحولات الاقتصادية والسياسية، شهدت هجرات عدد من القبائل مثل قبائل رفاعة والعسيلات والحلاويين والعركيين والخوالدة والعوامرة والشبارقة والكواهلة والشكرية. ووفقًا لآخر إحصاء وتقدير أُجري عام 2022، فإن عدد سكان مدينة ود مدني يبلغ 678 ألفا و42 نسمة.
يعود تاريخ نشأة مدينة ود مدني إلى القرن الـ16 الميلادي في عهد مملكة الفونج. وتنسب إلى الشيخ محمد مدني بن دشين الملقب بالسني، والذيّ سمي جده دشين بقاضي العدالة وجاء من منطقة جنوب مصر.
وكانت المنطقة التي نشأت فيها مدينة ود مدني غابةً كثيفة، ومع استقرار مدني السني الذيّ جاء إليها من منطقة أربجي ولاية الجزيرة، أقام فيها خلوة للقرآن الكريم وحلقات للتدارس في علوم الفقه والتوحيد والسيرة، وتوافد على إثر ذلك عدد من القبائل، بعضها من جنوب مصر وكان حي المدنيين أول أحياء المدينة.
ولموقعها الجغرافي المتميز، حظيت المدينة بمكانة تاريخية جعلت منها عاصمة للسودان في عهد خورشيد باشا عام 1821 إبان الحكم العثماني، حيث تحولت العاصمة من مدينة سنار إلى ود مدني، واختيرت ود مدني مركزا للحامية العثمانية تمهيدا لغزو سنار، ومع مقتل إسماعيل باشا انتهت أهمية المدينة بوصفها قاعدة عسكرية.
بعد هزيمة الدولة المهدية عام 1898 وبداية الحكم الثنائي الإنجليزي المصري، أعيد التقسيم الإداري في السودان، واختيرت مدينة الكاملين بولاية الجزيرة عاصمة لمديرية النيل الأزرق، وفي العام 1902 تحولت عاصمة المديرية إلى مدينة ود مدني.
وازدهرت المدينة في فترة الحكم الثنائي حيث بدأت تتخذ شكلا عمرانيا حديثا مع نشاط تجاري جذب إليها عددا من الجنسيات والمهاجرين من الأتراك والأقباط واليهود والشوام، كما شهدت توافدا للعمالة والحرفيين. وبدأ أول تخطيط عمراني بالحي البريطاني “الحي السوداني”، وحي القسم الأول.
وفي العام 1900، أُنشئ خط سكة حديد يربط بين مدينتي الخرطوم وود مدني، كما أنشئت مباني رئاسة المديرية والمحاكم والجامع الكبير، لتصير ود مدني أحد أهم المراكز التجارية، وازدهرت فيها الصناعات المحلية من دباغة الجلود وصناعة الأحذية، ولموقعها الواقع على الضفة الغربية للنيل الأزرق اشتهرت ود مدني بصناعة القوارب.
وفي العام 1919، تراجعت أهمية ود مدني بوصفها مركزا تجاريا نسبة لاكتمال خط سكة حديد شرقي السودان، واستعادت المدينة مركزها وأهميتها التجارية بإنشاء الإنجليز مشروع الجزيرة في العام 1925 كأكبر مشروع مروي في أفريقيا.
كما شهدت مدينة ود مدني تأسيس الملازم علي عبد اللطيف جميعة اللواء الأبيض في العام 1922، حيث قاد ثورة 1924 ضد الاستعمار البريطاني. وللمدينة دور في تاريخ السودان الحديث عبر نواة وأصل الدعوة إلى مؤتمر الخريجين الذيّ كان إنشاؤه على غرار المؤتمر الهندي.
ولم تكن مدينة ود مدني مركزا لتحولات تاريخية واقتصادية فحسب، بل أقامت فيها شخصيات سياسية لتكون بؤرة لتنشئة واحتضان رموز، إذ أقام في مدينة ود مدني 7 رؤساء دول.
ففي حي القسم الأول بمدينة ود مدني درس وأقام رئيس مجلس قيادة الثورة المصرية اللواء محمد نجيب، وفي مدرسة الأميرية التي أنشئت في العام 1906 درس أول رئيس للسودان وزعيم الاستقلال إسماعيل الأزهري، والرئيس الأسبق لجمهورية السودان جعفر نميري، وإمبراطور أفريقيا الوسطى جان بيدل بوكاسا. وأقام في مدينة ود مدني رئيس مجلس قيادة الثورة الإثيوبية أمان عندوم، ورئيس اليمن الجنوبية الأسبق قحطان الشعبي.
عرفت مدينة ود مدني عند نشأتها بصناعة الأحذية ودباغة الجلود ومصانع النسيج. ويقع في المدينة مشروع الجزيرة ويحتل مساحة 2.2 مليون فدان، وجزء من مشروع الرهد، وهو أكبر مشاريع مروية في السودان وينتج المحاصيل الأساسية في البلاد. وتضم المدينة مصانع البسكويت والصابون ومحالج القطن.
ويعمل عدد من سكان المدينة في التجارة، كما يعمل قسم منهم موظفين بدواوين الدولة ومؤسساتها. وتضم المدينة 5 أسواق هي السوق الكبير والسوق الصغير والسوق الشعبي والسوق المركزي وسوق أم سويقو، وهو من الأسواق المشهورة ببيع الأسماك.
تضم ود مدني عددا من المعالم التاريخية يعود تاريخ إنشاء بعضها إلى فترة الاستعمار البريطاني، ومن الأماكن التاريخية جامع الحكومة الذي شيد عام 1902، ومبنى مديرية النيل الأزرق وهو أمانة حكومة ولاية الجزيرة، ورئاسة وزارة الري، ونادي الجزيرة المشيد إبان الاستعمار البريطاني للسودان، ونادي الخريجين، والحي البريطاني الذي كان سكنا للموظفين الإنجليز.
ويقع في المدينة نادي الإغريق، وهو نادٍ أنشئ في خمسينيات القرن الماضي ويعود لطائفة الإغريق التي اتخذته مقرا للاحتفال بأعياد الميلاد والأعياد الوطنية.
ومن الأحياء العريقة حي دردق وحي القسم الأول، بجانب قبة مؤسس المدينة الشيخ محمد مدني السني، ومدرسة حنتوب الثانوية التي أنشئت في فترة الاستعمار البريطاني عام 1946 والمدرسة الأميرية. ومن الأماكن السياحية غابة أم بارونا وحديقة سليمان وقيع اللّه وفندق فكتوريا.
ومن مدينة ود مدني خرج عدد من الأعلام في تاريخ السودان في المجال الثقافي والفني والسياسي، من أبرزهم:
أحمد خير المحامي صاحب فكرة مؤتمر الخريجين، وقد عين وزيرا للخارجية في العام 1958 إبان حكم الفريق إبراهيم عبود.
مدثر علي البوشي من رواد الحركة الوطنية في السودان، وأول عضو في أول مجلس نواب سوداني، وأول وزير للعدل لأول حكومة وطنية عام 1954.
عبد اللّه محمد توم ناظر عموم العركيين بالسودان، وأول برلماني في الجمعية التأسيسية التي أعلن من خلالها استقلال السودان، وكان رئيسا لبلدية ود مدني.
عثمان عمر الشريف القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، ووزير التجارة في عهد حكومة الإنقاذ.
بابكر كرار مفكر سياسي إسلامي، أسس “حركة التحرير الإسلامي” عام 1949، ويعد من رواد الاشتراكية الإسلامية.
أمين مكي مدني من أبرز الحقوقيين المدافعين عن حقوق الإنسان، عُيّن مديرا للمكتب الإقليمي للمفوضية في المنطقة العربية ومدير قسم حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة للعراق 2003، كما عُين وزيرا للإسكان في الحكومة الانتقالية (1985-1986)، واختير رئيسا لمبادرة المجتمع المدني التي تم تأسيسها عام 2010.
إبراهيم الكاشف، وهو فنان ومعنٍ من أشهر أغانيه أرض الخير، يوصف بمؤسس الأغنية الحديثة، إذ يعد أول من أدخل الآلات الحديثة في فن الغناء بالسودان.
محمد الأمين، وهو موسيقار ومغن من أعمدة الفن السوداني عرف بقدراته الصوتية وألحانه المميزة، تم منحه وسام الجدارة من رئاسة الجمهورية في ذكرى الاستقلال في عام 2014.
أبو عركي البخيت فنان ومؤلف موسيقي، درس في المعهد العالي للموسيقى والمسرح في السبعينيات، حقق فوزا في مهرجان الأغنية العربية بأغنية “بخاف أسأل عليك الناس” في دمشق عام 1976. عرف أبو عركي أيضا بمواقفه السياسية المناهضة للأنظمة الدكتاتورية في السودان.
عبد العزيز المبارك من رواد الأغنية السودانية، شارك في عدد من المهرجانات خارج السودان، وبثت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في لندن أغنيته “أحلى عيون بنريدها”.
الممثل إبراهيم خان الذيّ قدم عددا من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، واختيرت 3 أعمال سينمائية من أفلامه ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في ذاكرة السينما المصرية.
الكاتب والروائي المسرحي رؤوف مسعد نشأ في مدنية ود مدني، ومن أعماله صانعة المطر وبيضة النعامة ومزاج التماسيح والغرباوية.
الجزيرة نت
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی السودان فی العام فی عهد عدد من
إقرأ أيضاً:
الحرب السودانية وتداعياتها الإنسانية !
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، غرق السودان في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث. ووفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى المدنيين 24,000 شخص حتى الآن، مع نزوح أكثر من 5،7 ملايين
منتدى الإعلام السوداني: غرفة التحرير المشتركة
اعداد وتحرير: سودانايل
مقدمة
الخرطوم :20 يناير 2025 - منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، غرق السودان في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث. ووفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى المدنيين 24,000 شخص حتى الآن، مع نزوح أكثر من 5.7 ملايين شخص داخليًا وخارجيًا (الأمم المتحدة - نوفمبر 2024). ولم يقتصر عدد الضحايا على القتل الناتج عن تبادل النيران العشوائية، بل تصاعدت الانتهاكات في الآونة الأخيرة لتشمل القتل العمد، واستهداف الأفراد على أساس قبلي وهوياتي، وهو ما يزيد من تعقيد النزاع وتأجيجه.
انتهاكات جسيمة تستهدف الهوية
تشير تقارير حقوقية، منها ما صدر عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى أن عمليات القتل العمد بحق المدنيين والأسرى تستند غالبًا إلى خلفياتهم الإثنية أو القبلية، مما يُنذر بتفاقم الانقسامات العرقية وتعميق جراح المجتمع السوداني. وذكرت منظمة العفو الدولية أن عددًا كبيرًا من حوادث القتل موثقة على أنها جرائم حرب، حيث تُرتكب دون أي مراعاة للقوانين الدولية الإنسانية (العفو الدولية - ديسمبر 2024).
أبعاد الكارثة الإنسانية
يتجاوز النزاع القتل المباشر ليشمل تداعيات إنسانية كارثية. ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، يعاني أكثر من 20 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في السودان، مع تحذيرات من مجاعة واسعة النطاق إذا استمرت الحرب دون تدخل دولي فاعل (برنامج الأغذية العالمي - نوفمبر 2024). وفي الوقت نفسه، وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) حالات اغتصاب وعنف جنسي متزايدة، مع تسجيل أكثر من 200 حالة مؤكدة في المناطق المتأثرة بالنزاع منذ بداية الصراع.
انتهاكات قوات الدعم السريع واستهداف المدنيين على أسس عرقية وقبلية
على الجانب الآخر من النزاع، ارتكبت قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، اتسمت بالقتل الممنهج والاستهداف المباشر على أسس عرقية وقبلية وجنسية. ووفقًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، فإن قوات الدعم السريع استهدفت بشكل منهجي مجموعات سكانية تنتمي إلى قبائل محددة، حيث تم توثيق عمليات قتل واغتصاب ونهب في المناطق التي تسيطر عليها هذه القوات (العفو الدولية، نوفمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، ديسمبر 2024).
استهداف النساء والفتيات
تشير تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات قد أصبح سلاحًا حربياً تستخدمه قوات الدعم السريع لترهيب المجتمعات المحلية وإجبارها على النزوح. وتم توثيق أكثر من 200 حالة اغتصاب في المناطق التي سيطرت عليها القوات، مع توثيق شهادات مباشرة من الناجيات تؤكد أن هذه الجرائم كانت موجهة ضد فئات عرقية معينة. (UNFPA، ديسمبر 2024)
استهداف القرى والأحياء السكنية
في المناطق الريفية تحديدًا، قامت قوات الدعم السريع بحملات عنف شديدة استهدفت القرى التابعة لقبائل معينة، حيث تم تدمير المنازل ونهب الممتلكات وقتل المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال. وفي بعض الحالات، تم إجبار الناجين على النزوح تحت تهديد السلاح، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وارتفاع أعداد النازحين داخليًا إلى أكثر من 5.7 ملايين شخص (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA، نوفمبر 2024)
انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني بعد دخول الجيش السوداني
في أعقاب دخول الجيش السوداني إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة الأسبوع الماضي، تواترت تقارير عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق المدنيين. وأفادت منظمة العفو الدولية باندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في ود مدني، مما أثار مخاوف جديدة على سلامة المدنيين (العفو الدولية، ديسمبر 2024).
من جانبه، أعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن قلقه البالغ إزاء التقارير المتعددة التي تفيد بوقوع تجاوزات واسعة النطاق وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني خلال الأيام الأخيرة من القتال. وأشار إلى أن الحالة الإنسانية في ولاية الجزيرة، التي تستضيف ما يقرب من نصف مليون نازح داخليًا، "رهيبة ومروّعة" (مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ديسمبر 2024).
في هذا السياق، ندد الجيش السوداني بما وصفه بـ "التجاوزات الفردية" التي حدثت في بعض مناطق ولاية الجزيرة عقب استعادة مدينة ود مدني، مؤكدًا التزامه بالقانون الدولي الإنساني وحرصه على محاسبة كل من يثبت تورطه في أي تجاوزات (الجزيرة نت، يناير 2025).
هذه التطورات تسلط الضوء على التحديات المستمرة التي تواجه المدنيين في مناطق النزاع، وتؤكد الحاجة الملحة لحماية حقوق الإنسان وضمان المساءلة عن أي انتهاكات تُرتكب.
أدوار الكتائب والمليشيات المرتبطة بحزب المؤتمر الوطني المنحل
تشير التقارير الميدانية إلى أن العديد من هذه الانتهاكات تُرتكب على يد كتائب ومليشيات مسلحة، في الغالب ذات توجهات إسلامية أو تدّعي تبنيها لقيم الإسلام، مع انتمائها إلى قيادات الحزب الحاكم المحلول، حزب المؤتمر الوطني. من بين هذه الكتائب، تبرز كتائب البراء المعروفة، التي تنشط في مناطق النزاع وتتحمل مسؤولية انتهاكات جسيمة ضد المدنيين. تعمل هذه الكتائب غالبًا تحت مظلة دعم بعض قادة الجيش السوداني أو على الأقل تحت مرأى ومسمع من القيادات العسكرية دون اتخاذ إجراءات واضحة لردعها أو محاسبتها. وقد أعربت منظمات حقوقية دولية عن قلقها من أن هذه الكتائب، واللتي تسهم في تأجيج النزاع عبر ممارساتها التي تنتهك حقوق الإنسان، وتفاقم الانقسامات العرقية والسياسية في البلاد (العفو الدولية، ديسمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، نوفمبر 2024).
توثيق الانتهاكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي
في سياق توثيق هذه الجرائم، نشر عشرات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر بوضوح انتهاكات جسيمة تُنسب إلى كتائب البراء وغيرها من المليشيات المشابهة. تُظهر هذه الفيديوهات عمليات قتل متعمد وتعذيب للمدنيين ونهب للممتلكات في المناطق التي شهدت نزاعًا مسلحًا. وقد أثارت هذه المقاطع موجة من الإدانات الدولية والمحلية، حيث تمثل دليلًا مباشرًا على الانتهاكات التي تُرتكب بجرأة وعلانية. ورغم ذلك، لا تزال هذه الجرائم تُرتكب دون محاسبة جدية أو تدخل دولي فاعل لوقف هذه الممارسات التي تهدد الأمن والاستقرار في السودان.
القتل العرقي وتداعياته على السودان
تقوم هذه الجرائم على أساس القتل العرقي والممنهج، مما يشير إلى نقل الحرب إلى مربعات جهوية وعرقية وإثنية خطيرة. وما حدث مؤخرًا في ولاية الجزيرة يمثل دليلًا موثقًا لهذه الانتهاكات، حيث تعرضت مجموعات معينة للاستهداف على أسس إثنية واضحة. هذا التصعيد يهدد بنقل البلاد إلى مرحلة الحرب العرقية، وهي مرحلة قد تطول نتيجة التعدد القبلي الكبير والتنوع الثقافي في السودان.
في ظل هذه الظروف، فإن عدم تدخل السلطات بشكل حاسم يُعد إشارة ضمنية إلى مباركة هذه الجرائم، خاصة في ظل الصمت أو التأييد غير المباشر من رئاسة الدولة ممثلة في مجلس السيادة الانتقالي. هذا الوضع يضع السودان أمام سيناريوهات خطيرة، حيث تتعمق الانقسامات العرقية وتُزرع بذور حروب أهلية طويلة الأمد، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف الانتهاكات ومعالجة جذور الصراع.
مسؤولية القيادات وتفاقم الانقسامات
تعتمد قوات الدعم السريع في عملياتها على قيادات ميدانية تنتمي إلى شبكات قبلية متداخلة، ما يجعل من الصعب فصل الممارسات الفردية عن التوجهات العامة التي تُنفذ بتوجيه أو بغطاء ضمني من القيادة العليا. وقد أدت هذه الانتهاكات إلى زيادة الانقسامات العرقية وتأجيج الصراعات داخل المجتمعات المحلية، مما يُنذر بتفكك النسيج الاجتماعي في السودان.
تداعيات مستمرة وخطر الحرب الممتدة
إن استمرار هذه الممارسات من قبل قوات الدعم السريع، إلى جانب الانتهاكات الموثقة التي ترتكبها القوات المسلحة السودانية والمليشيات المتحالفة معها، يعمّق الانقسامات العرقية والقبلية في البلاد. ومع غياب أي مساءلة دولية أو محلية جادة، تتزايد المخاوف من أن تتحول هذه الحرب إلى صراعات طويلة الأمد على أسس عرقية، مما يجعل التوصل إلى أي حل سياسي شامل أكثر تعقيدًا.
تصاعد الضغوط الدولية: عقوبات أمريكية تطال حميدتي والبرهان
في تطور لافت، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد قوات الدعم السريع السودانية، محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، في 7 يناير 2025، متهمة إياه بارتكاب جرائم إبادة جماعية خلال الصراع المسلح مع الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، ما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من السودانيين (فرانس 24، 7 يناير 2025).
وفي 16 يناير 2025، أعلنت الحكومة السودانية رفضها للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، معتبرة إياها استخفافًا بالشعب السوداني (سودان تربيون، 16 يناير 2025).
هذه الإجراءات تعكس تصاعد الضغوط الدولية على القيادات العسكرية السودانية بسبب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في البلاد.
دور الإعلام في مواجهة الحرب ومخاطر الانزلاق العرقي
في خضم الأزمة السودانية المتفاقمة، يلعب الإعلام دورًا محوريًا في توجيه الرأي العام نحو نبذ خطاب الكراهية ومواجهة الانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتنازعة. تقع على عاتق الإعلاميين والصحفيين مسؤولية كبيرة في تسليط الضوء على هذه الجرائم، وتحديدًا الانتهاكات ذات الطابع العرقي أو القبلي، والتي قد تؤدي إلى تقسيم المجتمع السوداني وإشعال فتيل حرب لا تبقي ولا تذر.
مناشدات للإعلاميين والنشطاء
يجب على الإعلاميين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الناشطين المؤثرين الذين يمتلكون أعدادًا كبيرة من المتابعين، الالتزام بخطاب يدعو إلى التهدئة وتجنب تأجيج الصراعات القبلية. هؤلاء الناشطون، بمنصاتهم الواسعة الانتشار، لديهم القدرة على تغيير مسار الخطاب العام من التحريض إلى تعزيز قيم التعايش السلمي ونبذ العنف.
دور الصحفيين ووسائل الإعلام
من جهة أخرى، يجب على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، سواء عبر الصحف الإلكترونية أو القنوات الإعلامية التقليدية، الإقليمية منها، والدولية التطرق إلى هذه الانتهاكات بموضوعية ومصداقية. على الإعلام أن يكشف الحقيقة ويوثق الجرائم التي تُرتكب، مع التركيز على الأبعاد الإنسانية لهذه الكارثة. يجب أن يكون الإعلام صوتًا للضحايا، وأداة للضغط على الأطراف المتنازعة والمجتمع الدولي للعمل على وقف هذه الحرب.
حماية النسيج الاجتماعي
الإعلام مسؤول أيضًا عن التذكير بأهمية حماية النسيج الاجتماعي للسودان، وضرورة عدم السماح بتحويل النزاع إلى صراع قائم على العرق أو الجنس أو القبيلة. عليه أن يواجه محاولات بعض الأطراف التي تسعى لتأجيج الفتنة القبلية لتحقيق مكاسب قصيرة المدى على حساب وحدة السودان ومستقبله.
هذا الدور الإعلامي الحساس يجعل من الصحفيين والإعلاميين شركاء أساسيين في مجابهة هذه الحرب اللعينة، ومنعها من التدهور إلى صراعات قبلية طويلة الأمد، قد تستنزف السودان لعقود قادمة.
الخاتمة
في ظل هذه الأزمات المتفاقمة، يتطلب الوضع في السودان تحركًا جماعيًا من كافة الأطراف، بدءًا من القيادات السياسية والعسكرية إلى المجتمع المدني والإعلام. لا يمكن للسودان أن يتحمل استمرار هذا النزاع الذي يهدد مستقبل أجياله ويُدمر نسيجه الاجتماعي. إن الحل الوحيد يكمن في وقف فوري لإطلاق النار، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، والالتزام بتسوية سياسية شاملة تضمن تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان.
على الإعلام، كسلطة رابعة، أن يستمر في نقل الحقيقة بموضوعية وشجاعة، وأن يكون صوتًا للضحايا ومنبرًا للمصالحة الوطنية. فلا يمكن تحقيق السلام دون مواجهة حقيقية للجرائم والتحديات، ودون خطاب إعلامي يوحد السودانيين بدلًا من تقسيمهم.
ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني
#SilenceKills #الصمت_يقتل #NoTimeToWasteForSudan #الوضع_في_السودان_لا_يحتمل_التأجيل #StandWithSudan #ساندوا_السودان #SudanMediaForum
فهرس المراجع
العفو الدولية: تقرير حول انتهاكات حقوق الإنسان في السودان، ديسمبر 2024
هيومن رايتس ووتش: تقارير موثقة عن الانتهاكات الجسيمة من قبل الأطراف المتنازعة، نوفمبر وديسمبر 2024
مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA): تقارير حول أعداد الضحايا والنازحين، 2024
صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA): تقرير عن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في مناطق النزاع، ديسمبر 2024