أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

إنّ المتأمل في غايات التعليم وأهدافه وموقعه في التنمية عامة، وحياة الإنسان خاصة، يجد بأنه مصدر إنتاج للوظائف والتنويع في الأنشطة الاقتصادية، كما هو مصدر الوعي، وإلهام الحياة، وذلك من خلال دوره في إكساب المتعلم المهارات والقدرات والاستعدادات التي تعزز فيه فرص العمل وقيم المهنة، وإدارة المشاريع الاقتصادية الاحترافية- وهو المعنى الذي أصلته أبجديات رؤية عمان 2040.

وبالتالي ما يعنيه ذلك من مسؤولية التعليم في منح الوعي المالي حضوره وأهميته كمكون أساسي في الممارسة التعليمية والخطة الدراسية مستفيدا من تعظيم دوره في تعزيز ريادة الاعمال كمدخل إستراتيجي لبناء وترسيخ وتأصيل الثقافة المالية لتشكل جزءا رئيسيا من المسار التعليمي في مختلف مراحل التعليم، حيث توفير المحتوى التعليمي المتفاعل مع التوجهات الحديثة المرتبطة بالتعليم المنتج والتقني والمهني، والعمل الحر، وريادة الأعمال، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأهميتها في بناء الاقتصاد وجذب الاستثمار؛ بالإضافة إلى تثقيف الطلبة في النواحي المالية والمصرفية والائتمانية والقوانين ذات الصلة، ذلك أن تنظيم أبجديات التعامل مع المفاهيم المالية وترسيخها في ثقافة المتعلم؛ سوف يضمن اكساب المتعلم ثقافة مالية متوازنة، ووعي مالي متكامل، يبدأ معه في سن مبكرة، الأمر الذي سيسهم في تكوين شخصية المتعلم، للانطلاق في الحياة بذكاء ومهنية، وجعل بيئة التعليم والتعلم محطة اقتصادية مصغرة لتكوين المشروع الطلابي، وإدارة المشروع الاحترافي، وفرصة تبدأ بها المخرجات مشوارها المهني، وتشكل على مرور الوقت خيارا اقتصاديا منتجا يوفر الملاءة المالية، ويعظّم من فرص المنافسة ويصنع قدرات وقدوات ونماذج طلابية مبهرة.

إن قراءة الوعي المالي يتأكد اليوم في ثقافة التعليم وممارسات الهيئة التعليمية وتعلم الطلبة في إطار إعادة انتاج المتعلم اقتصاديا، والتي يجب أن تبدأ في بيئة التعليم والتعلم بصورة مبكرة، من خلال إدماج المفاهيم الاقتصادية المعنية بإدارة المشاريع الاحترافية في مناهج التعليم أو عبر إيجاد مساقات تدريسية في التعليم المدرسي، لتتدرج مع الطالب في مراحل التعليم الأخرى ويتعرض فيها لمواقف محاكاة للواقع تبرز على شكل إدارة مشاريع ذاتية على مستوى الأسرة والمدرسة والجامعة أو الشركات المتعاونة التي عليها أن تتبنى خطة شراكة مع مؤسسات التعليم في بناء فلسفة إدارة المشروع وتعزيز الاحترافية فيه، وتأصيل مهارات التسويق الذاتي والإدارة الالكترونية والدعاية والإعلان وتعظيم الاستفادة من المنصات التواصلية وغيرها من الفرص التسويقية التي هي بحاجة إلى مهارات نوعية منتجة كما هي بحاجة إلى التزام أخلاقي وتعهّد بالتجديد والتحديث، بما يلقي على عاتق مؤسسات التعليم إعادة رسم ملامح بناء المشروع الاقتصادي والمالي وإدارته في أولويات الخطة الدراسة والبرنامج التعليمي، وفق استراتيجيات واضحة ومنهجيات تفاعلية متدرجة تتجه نحو تأطيره في مناهج التعليم وأساليب التعلم وأنماط التدريس وثقافة البيئة المدرسية وثقافة الصف الدراسي.

ويصبح دوره في تعزيز الإدارة المالية وترسيخ مفاهيم الوعي المالي مرتبط بجملة من الأبعاد، يتعلق الأول بجانب التقنين الذي يحققه في سلوكيات مخرجاته من خلال ترشيد الانفاق ، واكسابهم أبجديات إدارة الحالة الاستهلاكية اليومية ، في التزام مبدأ الأولويات وإنتاج الفرص، وبالتالي أهمية ما يغرسه التعليم في طلابه من مفاهيم الاقتصاد والإدارة المالية، واستنطاق القيم المالية المعززة للادخار وتوظيف الخبرات وقيم العمل والإنتاج والبحث العلمي والابتكار والريادة والاعتماد على النفس باعتبارها ممكنات يعمل التعليم على تحقيقها بوسائل وأدوات واستراتيجيات مختلفة ترافق المتعلم في مختلف مراحله الدراسية سواء في مرحلة التعليم المدرسي أو العالي والجامعي ، وتعظيم مفهوم استنطاق القيم المالية واستنهاض المسؤولية المالية في شخصية الفرد المتعلم، بحيث يتم بناؤها وفق استراتيجيات وأدوات ومرتكزات مهمة ، وأما البعد الثاني فيتعلق بتوظيف مصادره وموارده وممكناته من خلال ورش العمل والمختبرات ومراكز مصادر التعلم والصفوف الدراسة وقاعات التعليم ونماذج المحاكاة التي يستخدمها المعلمون في إيصال المفاهيم المالية وتطبيقاتها في مواقف اليومية لدى الطالب، وما يتيحه في مؤسساته من نماذج المحاكاة والبرامج التطويرية وورش العمل وريادة الأعمال والابتكارات والشركات الطلابية والندوات التعريفية، والزيارات الميدانية للمعارض الاستهلاكية، وحاضنات ريادة الأعمال وحلقات عمل والمشاغل التأهيلية والمسابقات المتنوعة، لما لهذه المكونات من أثر كبير في التكوين المالي للمتعلم وترسيخ العادات وتعظيم الفرص المالية لديه.

وأما البعد الثالث، فيرتبط بتبني مبادرات عملية تجسد بعمق ثقافة الادخار، وضبط المصروفات المالية، وتوظيف الفرص التي أتاحتها منظومة الحماية الاجتماعية، وجملة المنافع ومنها منفعة الطفولة، في بناء نموذج مصغر يبدأ من الصف الدراسي وبيئة المدرسة بشأن الادخار، وما يرتبط به من ممكنات تعزيز الإدارة المالية وترسيخ ثقافة الاستهلاك الرشيد وبناء ثقافة مالية تحفظ الاستحقاق المالي للأسرة وتحافظ على مصادره، وعبر اكسابه مهارة إدارة الحسابات المالية وعمليات الصرف، والتسويق والجرد وغيرها من المفاهيم والمهارات والقيم المرتبطة بالإدارة المالية لتصبح لها مدلولاتها الحية وقيمتها المعنوية في حياة المتعلم ، كما يعبر عن اتقانه لها من خلال ما يتبناه من مشروعات منتجه تظهر في انتاج بعض السلع أو التسويق لها، واستغلال فرص المواسم الاقتصادية والسياحية والمهرجانات وخريف ظفار التي تتيح للطلبة فرص البيع والشراء والتسويق، ونشاط الحركة الشرائية في الأسواق الشعبية التقليدية كما هو الحال في المواسم الاقتصادية والسياحية أو الأعياد الدينية كعيدي الأضحى و الفطر، وهبطات العيد التي تتيح للطلبة فرص أكبر للتعرف على المنتوجات المحلية والتسويق لها.

لذلك، يجب أن يتخذ مسار تعزيز الوعي المالي وترقية الإدارة المالية في بيئات التعليم أكثر من خيار، بدءًا بالبعد التثقيفي وإكساب الطالب المفاهيم المالية المستجدة وتبسيطها دراسيا وفق أفضل النماذج والممارسات العالمية بما يتناسب مع المرحلة العمرية والخصوصية العمانية، بحيث يجد فيها المتعلم مزيدا من المتعة والفائدة التي يعكسها على بناء ذاته، بالإضافة إلى دور التعليم في اكساب المتعلم القوانين ذات الصلة، وإعادة تناولها في محتوى المناهج سواء عبر دورس ومساقات متخصصة ونماذج وقصص ومواقف محاكاة يتعرض لها الطالب في واقعه حياه اليومية، بالإضافة على إكسابه فقه الوقاية من المخاطرات المالية، فإن من شأن تعزيز الثقافة المالية وغرس السلوك المالي الرشيد أن يقلل من حجم المخاطرة المالية التي يواجهها المتعلم، خاصة ما يتعلق منها بالابتزاز وأنواع الاحتيال الالكتروني المختلفة والمحافظة الوهمية والشيكات المرتجعة بلا رصيد وغيرها ، بحيث تتكون لدى المتعلم جاهزية التعامل مع هذه المقلقات عبر دراسة نواتجها في حياته، الأمر الذي يضع مناهج التعليم أمام محطات من المراجعة والتحسين والتطوير في المناهج والخطة الدراسية.

أخيرا يبقى نجاح هذا الدور مرهونا بحجم التفاعلات والفرص التي تمنح للطلبة في المدارس والجامعات في إدارة المسار المالي وتعريضهم لبرامج محاكاة تعكس ما لديهم من قيم ومهارات اقتصادية، وخلق توأمة وادماج من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في إعادة انتاج الممارسة المالية في الواقع التعليمي وعبر الورش والفعاليات المرتبطة بالسوق الاستهلاكي للطلبة، ومشاركة الطلبة بأسهم اكتتاب في الجمعية التعاونية بالمدرسة، واستحضار مفاهيم التقرير المالي، والتدقيق الداخلي، والرقابة المالية، وتعريف الطالب بدور جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة في الرقابة المالية، وإقرار الذمة المالية، والافصاح المالي السنوي ، وتشجيع الطلبة على التعاملات المالية اليومية، وغيرها من النماذج المالية التي تتيح للطلبة هذه المساحة من التعاملات المالية وفق موجهات محددة، وهو الأمر الذي سيكون له نتائجه الإيجابية على قدرة المتعلم على التعامل مع الأولويات المالية وإدارة مصروفاته اليومية، وأولوياته في التقليل الانفاق، وامتلاك ثقافه مالية تتجاوب مع احتياجات الطلبة اليومية، كما يستفيد من منفعة الطفولة والمصروف اليومي المقدم له في حسن استخدامه وتنظيمه وإدارته ؛ فإن من شان تعريض المتعلم لهذه المبادرات البسيطة أن تعيد فيه تقييم الصورة العاكسة التي ينظر من خلالها إلى ما لديه من ملاءة مالية ، فيحافظ على وجوده، وادخاره والتثمير فيه، الأمر الذي سيقلل من معاناة الأسر بشأن زيادة متطلبات الأبناء من المصروف اليومي.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: الوعی المالی التعلیم فی الأمر الذی من خلال

إقرأ أيضاً:

أحمد الشرع: الهوية التي نطلقها اليوم تعبر عن سوريا التي لا تقبل التجزئة ولا التقسيم

سوريا – ألقى الرئيس السوري أحمد الشرع مساء الخميس، كلمة بمناسبة إطلاق الهوية البصرية الجديدة للبلاد، مؤكدا أن “احتفال اليوم عنوان لهوية سوريا وأبنائها بمرحلتها التاريخية الجديدة”.

وفي ما يلي، أبرز ما جاء في كلمة أحمد الشرع خلال الحفل:

في يوم من الأيام وفي غابر الزمان، ولدت حكاية مدينة اجتمع فيها معشر من الناس، يُقال إن سيرة أوائل الخلق بدأت فيها، وتكاثر الناس، ولكثرتهم بدأت البشرية تحتاج إلى بناء السلوك المنضبط، زرعوا وصنعوا وبنوها، وهكذا حتى بنوا أول عاصمة عرفتها البشرية، إنها دمشق. من يستعرض التاريخ يجد أن الشام بداية حكاية الدنيا ومنتهاها، ويتبين له أن ما عشناه في زمن النظام البائد أذلّ حقبة في تاريخ الشام. أيها الشعب السوري إن حكاية الشام تستمر بكم فيحكي التاريخ أن عصر أفولكم قد ولى وأن زمان نهضتكم قد حان، ودماءكم لم تذهب سدى، عذاباتكم لاقت آذانا مصغية، وأن هجرتكم قد انقطعت وسجونكم قد حُلت وأن الصبر أورثكم النصر. أيها الشعب السوري إن احتفال اليوم عنوان لهوية سوريا وأبنائها بمرحلتها التاريخية الجديدة، هوية تستمد سماتها من هذا الطائر الجارح، تستمد منه القوة والعزم والسرعة والاتقان والابتكار في الأداء.  شعبنا العظيم إن الهوية التي نطلقها اليوم تعبر عن سوريا التي لا تقبل التجزئة ولا التقسيم، سوريا الواحدة الموحدة، وإن التنوع الثقافي والعرقي عامل إغناء وإثراء لا فرقة أو تنازع.  الهوية تعبر عن بناء الإنسان السوري وترمم الهوية السورية التي ألفت الهجرة بحثا عن الأمن والمستقبل الواعد، فنعيد إليها ثقتها وكرامتها وموقعها الطبيعي في الداخل والخارج. لا يمكننا أن نحتفي بهذه المناسبة دون أن نوجه تحية صادقة ممتنة لكل الشباب السوري الذين ساهموا في بناء هذه الهوية، ولكل من شارك فيها داخل البلاد وخارجها مبادرين ومبدعين ومتحدين الظروف ومؤمنين بأن سوريا الحبيبة تستحق المزيد ومعلنين القطيعة بذلك مع منظومة القهر والاستبداد. لقد أثبتم جميعا أن سوريا لا تنقصها المواهب بل تحتاج فقط إلى ثقة واحتضان وها نحن نبدأ معكم ومنكم صفحة جديدة تكتب بنور لا ينطفئ. الهوية البصرية السورية الجديدة.

المصدر: “سانا”

مقالات مشابهة

  • وزير المالية: تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري الثنائي مع دول "البريكس"
  • وزير المالية: حريصون على تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري مع دول البريكس
  • تجمع الباحة الصحي يدشّن مبادرة “صيف بصحة” لتعزيز الوعي الصحي ونشر ثقافة الوقاية
  • التعليم العالي: حصاد متميز لأنشطة مدينة الأبحاث العلمية خلال العام المالي 2025/2024
  • أحمد الشرع: الهوية التي نطلقها اليوم تعبر عن سوريا التي لا تقبل التجزئة ولا التقسيم
  • بلقاءات تعزز الوعي.. ثقافة الشرقية تواصل احتفالات ذكرى ثورة 30 يونيو
  • سعود بن صقر: التعليم أساس بناء الحضارات وركيزة تحقيق التنمية
  • سعود بن صقر: التعليم أساس بناء الحضارات وركيزة لتحقيق التنمية الشاملة
  • الزكاة في الحديدة.. ثمرة الوعي ورافعة التكافل الاجتماعي
  • «التعليم العالي» تعلن حصاد منظومة الطلاب الوافدين للعام المالي 2024-2025