تآكل مقومات القوة الإسرائيلية (2-2)
تاريخ النشر: 18th, September 2023 GMT
لم تسهم خطة "التعديلات القضائية" التي طرحتها حكومة نتنياهو، وما نجم عنها من استقطاب سياسي ومجتمعي تمثل في حركة احتجاج آخذة في الاتساع، في فضح الضعف البنيوي وإبراز المعضلات الاجتماعية التي تعاني منها إسرائيل فحسب، بل عملت أيضًا على تعميق هذا الضعف وتوسيع نطاق هذه المعضلات، وتوليد تحديات خطيرة أخرى على الصعد الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
لقد طرحت خطة "التعديلات القضائية" لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، وهي: توفير مسار قانوني يعفي نتنياهو من المحاكمة في قضايا الفساد، وتمكين قوى اليمين الديني القومي من إمضاء مخططاتها الهادفة إلى حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني بأقل قدر من الممانعة القانونية، وضمن ذلك سن تشريعات واتخاذ قرارات عنصرية تجاه فلسطينيي الداخل. كما رمت الخطة إلى إزالة العقبات التي تحول دون تمكّن الحركات الحريدية من فرض مظاهر الإكراه الديني على المجتمع، وإضفاء شرعية على تحقيقها المزيد من المكاسب المادية لجمهورها في ظل ضمان مواصلة هذا الجمهور التملص من أداء الخدمة العسكرية والإسهام في سوق العمل.
وفجر سعي الحكومة الإسرائيلية لتمرير خطة "التعديلات القضائية" حركة احتجاج جماهيرية غير مسبوقة. فحسب تقديرات المفتش العام لشرطة الاحتلال كوبي شفتاي، فقد شارك في الاحتجاجات الجماهيرية على "التعديلات القضائية" نحو 4 ملايين و700 ألف مستوطن، وهو عدد ضخم بكل المقاييس ويعدل نصف عدد سكان إسرائيل.
أخطر اختبار لشرعية حكومة نتنياهو سيتمثل في القرار الذي ستتخذه قريبا المحكمة العليا بشأن الالتماسات ضد تمرير أول قانون من التعديلات القضائية
وقد ترتب على اندلاع حركة الاحتجاج آثار سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية، أسهمت في حدوث مزيد من التآكل لمقومات القوة التي تحوزها إسرائيل وتحمل في طياتها، إذا تواصلت بهذا الزخم، تهديدًا على مجرد وجود إسرائيل. ويمكن حصر هذه الآثار في التالي:
تآكل شرعية الحكومةأسهمت حركة الاحتجاجات على "التعديلات القضائية" في تآكل الشرعية السياسية التي تحظى بها حكومة نتنياهو. ولعل ما يدلل على ذلك عدم تردد قيادات إسرائيلية سابقة في الدعوة لرفض قرارات الحكومة وتعليماتها. فقد دعا رئيس الوزراء ورئيس هيئة أركان الجيش السابق إيهود براك صراحة الجيش والقوى الأمنية إلى عدم الإذعان إلى تعليمات الحكومة بوصف قراراتها "غير قانونية".
وتجسد تآكل شرعية الحكومة في بروز ظاهرة رفض أداء الخدمة العسكرية لدى قوات الاحتياط احتجاجًا على تمرير التعديلات القضائية. فقد أعلن الآلاف من ضباط وجنود قوات الاحتياط التوقف عن أداء الخدمة العسكرية، لا سيما ضباط سلاح الجو، الذي يعد القوة الضاربة لإسرائيل. ونظرًا لأن قوات الاحتياط تضطلع بـ70% من الجهد الحربي في إسرائيل، فإن اتساع نطاق ظاهرة رفض الخدمة العسكرية سيهدد قدرة جيش الاحتلال على أداء مهامه الدفاعية والهجومية. وقد أقر رئيس هيئة أركان الجيش هرتسلي هليفي بأن كفاءة الجيش وجاهزيته لخوض الحروب تراجعت بالفعل نتيجة تعاظم ظاهرة رفض الخدمة العسكرية.
ومما لا شك فيه أن أخطر اختبار لشرعية حكومة نتنياهو سيتمثل في القرار الذي ستتخذه قريبًا المحكمة العليا بشأن الالتماسات ضد تمرير أول قانون من التعديلات القضائية، القانون الذي ألغى الرقابة القضائية على قرارات الحكومة. فإذا قبلت المحكمة الالتماسات وألغت القانون، كما يُتوقع على نطاق واسع، ورفضت الحكومة قرار المحكمة كما يهدد عدد من وزرائها، فإن إسرائيل ستواجه أزمة دستورية غير مسبوقة ستترتب عليها تداعيات سياسية وأمنية بعيدة المدى.
ويرجح في هذه الحالة أن يعلن قادة الجيش والمؤسسات الأمنية الأخرى التزامهم بقرار المحكمة، مما يعني عمليًا عدم التزامهم بقرارات الحكومة، وسيسلم إسرائيل إلى حالة من الفوضى ستشلها بشكل كامل. ومن الأمثلة على تهاوي شرعية الحكومة عدم تردد قيادة حركة الاحتجاج على التعديلات القضائية في التوجه للحكومات الأجنبية، ومطالبتها بالتدخل وممارسة الضغوط على نتنياهو لوقف تمرير التعديلات القضائية حتى لو ارتبط الأمر بفرض عقوبات على إسرائيل، كما دعا إلى ذلك صراحة رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت.
تعميق الصدع المجتمعيأسهمت حركة الاحتجاج على التعديلات القضائية في تعميق الصدع المجتمعي واتساعه لأنها كرست محورًا للمواجهة بين القطاعات الجماهيرية المؤيدة لها، والتي تضم بشكل أساسي: الشرقيين المتدينين بشقيهم القومي والحريدي، والقطاعات الرافضة لها التي تضم بشكل أساسي العلمانيين. ويرى العلمانيون في صراعهم الهادف إلى إحباط التعديلات القضائية معركة مصيرية، مما جعلهم لا يترددون في تحدي مؤيدي التعديلات من خلال تنظيم أنشطة احتجاجية في عقر تجمعاتهم الاستيطانية، كما عكست ذلك مظاهراتهم في مدينة "بني براك"، أكبر المدن الحريدية. ووصل الأمر برافضي التعديلات إلى حد اقتحام الكنس والمحاكم التوراتية، والتشويش على المصلين والمراجعين بوصف مرتاديها من مؤيدي التعديلات القضائية ومن المستفيدين منها.
وقد حدثت في كثير من الأحيان اشتباكات بين مؤيدي التعديلات ومعارضيها، حيث تعرض المشاركون في المظاهرات الرافضة للتعديلات إلى محاولات دهس نفذها مؤيدون لها. وقد حذر الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات الداخلية "الشاباك" نداف أرغمان من أن يمهد اتساع الصدع المجتمعي في أعقاب طرح التعديلات القضائية لاندلاع حرب أهلية طاحنة.
شركات التقنية والسايبر الإسرائيلية باتت عرضة للبيع والاستحواذ لعجزها عن تحقيق أرباح بفعل الضائقة التي يمر بها هذا القطاع بعد طرح التعديلات القضائية
في الوقت ذاته فقد أجج طرح التعديلات القضائية الدعوات إلى الهجرة العكسية خارج إسرائيل. وقد أشرف عدد من الأطباء على تنظيم حملات لإقناع زملائهم بمغادرة إسرائيل والعمل في الخارج احتجاجًا على التعديلات القضائية، حيث لاقت هذه الدعوات استجابة كبيرة، في وقت تعاني فيه إسرائيل من نقص كبير في الأطباء والكادر الطبي.
تفاقم الأوضاع الاقتصاديةألحقت التعديلات القضائية ضررا كبيرًا بالبيئة الاستثمارية في إسرائيل لأنها مست بثقة المستثمرين الأجانب الذين تعتمد الشركات التكنولوجية والسايبرانية على استثماراتهم؛ مع العلم أن صادرات هذه الشركات تمثل نصيبا كبيرا من العوائد التي تجنيها الخزانة الإسرائيلية. فحسب صحيفة "غلوبس" الاقتصادية فإن 80 شركة من شركات التقنية والسايبر الإسرائيلية باتت عرضة للبيع والاستحواذ لعجزها عن تحقيق أرباح بفعل الضائقة التي يمر بها هذا القطاع بعد طرح التعديلات القضائية.
وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، توجه هذا الأسبوع وفد اقتصادي إسرائيلي إلى الولايات المتحدة لمحاولة إقناع صناديق الاستثمار الأميركية بالاستثمار في السوق المحلي. كما طفت على السطح ظاهرة سحب الودائع من البنوك الإسرائيلية إلى الخارج. وأسهم تراجع الثقة بالاقتصاد الإسرائيلي إلى تراجع قيمة الشيكل بالنسبة للدولار بشكل كبير.
تعاظم تأثير الفعل المقاوملقد تزامن طرح خطة "التعديلات القضائية" وإفرازاتها المختلفة مع زيادة وتيرة الفعل الفلسطيني المقاوم، تحديدًا في الضفة الغربية. وقد طرأت تحولات على طابع الفعل المقاوم جعلته أكثر تأثيرًا على الواقع الأمني الإسرائيلي. فقد كانت حصيلة القتلى في صفوف جنود الاحتلال ومستوطنيه خلال عام 2023 نتيجة عمليات المقاومة هي الكبرى منذ انتهاء الانتفاضة الثانية في العام 2004.
وقد شملت التحولات امتداد الفعل المقاوم إلى جميع مناطق الضفة، وحدوث تطور في أدواته وخضوعه إلى منظومات قيادة وتحكم فاعلة، تحديدًا في مناطق شمال ووسط الضفة الغربية بشكل يسمح لمجاميع المقاومين بإدارة مواجهات شاملة مع جيش الاحتلال بقدر كبير من الكفاءة. وتؤذن محاولات المقاومة الأولية لإنتاج قذائف صاروخية وإطلاقها صوب المستوطنات في الضفة بحدوث تغيير جذري في قواعد الاشتباك مع الاحتلال.
ويتوقع أن تسهم إفرازات التعديلات القضائية في زيادة تأثير الفعل المقاوم. فتراجع كفاءة جيش الاحتلال وجاهزيته القتالية بفعل اتساع ظاهرة رفض الخدمة العسكرية سيقلصان على المدى المتوسط والبعيد من قدرة إسرائيل على مواجهة الفعل المقاوم، تحديدًا إذا اندلعت مواجهة متعددة الساحات.
ومن نافلة القول إن التصدع المجتمعي وتآكل الشرعية الداخلية للحكومة الإسرائيلية يقلصان من قدرة الحكومة على إدارة المواجهة ضد المقاومة الفلسطينية.
ضعف الاستجابة الأمنيةمنذ سبع سنوات تشن نخب يمينية حملات تهدف إلى طرد اللاجئين الأفارقة الذين قدموا إسرائيل بطرق "غير شرعية"، لا سيما من خلال التسلل عبر الحدود، حيث برر هؤلاء اللاجئون قدومهم إلى إسرائيل بالمخاطر التي تتهدد حياتهم بفعل الحروب الأهلية التي تشتعل في بلدانهم أو نتاج القمع الذي تمارسه نظم الحكم هناك.
دللت المواجهات الأخيرة بين اللاجئين الإرتيريين وشرطة الاحتلال على مدى تأثير التعديلات القضائية على الواقع الأمني الإسرائيلي بعدما عجزت الشرطة عن التصدي بكفاءة وسرعة لأعمال الشغب
وتقيم الأغلبية الساحقة من اللاجئين الأفارقة في منطقة جنوب تل أبيب، التي تعد من معاقل اليمين الإسرائيلي. وقد رفضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استقبال هؤلاء الأفارقة كلاجئين، وقبلت ببقائهم مؤقتًا حتى تتمكن من العثور على حل يضمن مغادرتهم إسرائيل. وقد جاهرت النخب السياسية الإسرائيلية الحاكمة بأن التخلص من وجود اللاجئين الأفارقة مطلب حيوي لضمان استمرار التفوق الديمغرافي اليهودي. وقد حاولت إسرائيل توظيف علاقاتها ببعض الدول الأفريقية في محاولة إقناعها باستقبال هؤلاء اللاجئين، دون تحقيق نجاح يذكر.
لكن على الرغم من الضجة التي تثيرها إسرائيل بشأن اللاجئين الأفارقة، لا سيما بعد الاشتباكات التي نشبت مؤخرًا بين اللاجئين الإرتيرييين وعناصر الشرطة، فإن هناك شكوكا إزاء مدى جديتها في التخلص منهم. فنظرًا للنقص الحاد في الأيدي العاملة ورفض اليهود العمل في مجال المهن التي تتطلب جهدا بدنيا، فإن السلطات الإسرائيلية تغض الطرف عن وجود اللاجئين الأفارقة، وتسمح لهم بالعمل في هذه المجالات.
وقد دللت المواجهات الأخيرة بين اللاجئين الإرتيريين وشرطة الاحتلال على مدى تأثير التعديلات القضائية على الواقع الأمني الإسرائيلي. فشرطة الاحتلال التي استنفدت طاقتها في تأمين المظاهرات ضد التعديلات القضائية، بالإضافة إلى مواجهة التحديات الأمنية الأخرى، عجزت عن التصدي بكفاءة وبسرعة لأعمال الشغب التي نظمها اللاجئون الإرتيريون، رغم محدودية نطاقها الجغرافي، ورغم توفر معلومات استخبارية مسبقة بشأنها.
لقد سمحت حركة الاحتجاج الواسعة على خطة التعديلات القضائية بتسليط الأضواء على مظاهر تآكل مقومات القوة الإسرائيلية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. وتدل كل المؤشرات على أن مواصلة التشبث بهذه الخطة ستقود إلى بروز تهديدات قد تطال وجود إسرائيل ذاته.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: التعدیلات القضائیة فی اللاجئین الأفارقة الخدمة العسکریة حکومة نتنیاهو تأثیر ا
إقرأ أيضاً:
ما أهمية قاعدة “عاموس” الصهيونية التي استهدفها حزب الله؟
يمانيون – متباعات
في تطور لافت، أعلن حزب الله اليوم الأربعاء تنفيذ هجوم جوي بطائرات مسيّرة على قاعدة “عاموس” العسكرية التابعة للكيان الصهيوني، في عملية جديدة تضيف مزيداً من الضغط على الاحتلال الصهيوني في إطار المواجهات المستمرة.
وتعد قاعدة “عاموس” واحدة من المنشآت العسكرية الحيوية في شمال الكيان الصهيوني، حيث تقع على بُعد 55 كيلومترًا عن الحدود اللبنانية، غرب مدينة العفولة. وتعتبر هذه القاعدة بمثابة مركز استراتيجي في استعدادات جيش الاحتلال، فهي تمثل محطة مركزية في تعزيز نقل وتوزيع القوات اللوجستية في المنطقة الشمالية، وكذلك في دعم أنشطة شعبة التكنولوجيا الخاصة بالجيش الصهيوني.
أنشئت القاعدة في الأصل من قبل قوات الانتداب البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت بمثابة امتداد لمهبط الطائرات “مجدو” الخاصة بالطائرات الخفيفة. ومع مرور الوقت، أصبحت القاعدة نقطة تجمع وتوزيع حيوية للجنود الصهاينة، لا سيما في دعم قوات الاحتياط من خلال استقبالهم وتوزيعهم في فترات الأزمات العسكرية. وقد كانت حتى عام 2016، مركزًا لاستقبال وتجهيز جنود الاحتياط، وفي فترة لاحقة أصبحت مقرًا للكتيبة المشاة الميكانيكية التابعة للواء غولاني.
وفي عام 2018، بدأت سلطات الكيان الصهيوني بتوسيع وتجديد القاعدة لتواكب احتياجاتها العسكرية الحديثة، وأصبح بمقدور القاعدة استيعاب أكثر من 2000 جندي وضابط، بالإضافة إلى مئات الموظفين الذين يتولون مهام النقل والخدمات اللوجستية. كما شملت أعمال التجديد بناء مركز صيانة متطور لأسطول الشاحنات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال، وكذلك تحديث أنظمة الطاقة الشمسية التي تُستخدم في القاعدة.
وتعد قاعدة “عاموس” اليوم من أبرز المواقع العسكرية التي يوليها جيش الاحتلال الصهيوني اهتمامًا بالغًا، حيث تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات التنقل السريع لقوات الاحتلال في المنطقة الشمالية، والتي تحظى بأهمية بالغة في حال نشوب نزاع أو مواجهة مع حزب الله.
ويشير الهجوم الأخير على القاعدة إلى تصعيد نوعي في العمليات العسكرية التي ينفذها حزب الله ضد البنى التحتية العسكرية التابعة للكيان الصهيوني، ويعكس قدرة الحزب على ضرب مواقع حساسة تقع في عمق الأراضي المحتلة.
وقد يعزز هذا الهجوم من موقف حزب الله في مواجهة الاحتلال، ويشكل تحديًا جديدًا للجيش الصهيوني في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط العسكرية عليه من جبهات متعددة.