ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا... تحدي للصين؟
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
جرى الإعلان عن الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا مروراً بالشرق الأوسط في قمة العشرين في نيودلهي
خلال قمة العشرين في نيودلهي، جرى الإعلان عن إنشاء مشروع الممر الاقتصادي الجديد بين الهند والخليج وأوروبا (IMEC).
مختارات غياب الرئيس الصيني.. فرصة للهند واختبار لأهمية العشرين ماذا وراء مساعي حكومة مودي لتغيير اسم الهند إلى بهارات؟تجدد الجدل حول اسم الهند بعد أن استخدمت الحكومة اسم "بهارات" في دعوة رسمية لحضور قمة مجموعة العشرين.
تعتزم دول مجموعة البريكس، البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، ضم ست دول جديدة منها ثلاث دول عربية لتكتلها مع بداية العام المقبل. والغرب بين من يخشى النفوذ المتنامي للمجموعة ومن يحاول التقليل من خطورتها.
وفي حالة اكتمال إنشاء المشروع الطموح، فإنه من المتوقع أن يمثل تحدياً لمبادرة "الحزام والطريق" (BRI) التي أطلقتها الصين عام 2013 بهدف بناء شبكة اقتصادية وبنى تحتية تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا لتعزيز النفوذ العالمي للصين من شرق آسيا إلى أوروبا من خلال جعل الدول في جميع أنحاء العالم تعتمد بشكل متزايد على الصين.
مشروع طموح
وسوف يتضمن الممر الاقتصادي، بحسب قادة العشرين، إنشاء خطوط للسكك الحديدية، فضلاً عن ربط الموانئ البحرية وجوانب أخرى. وتتوقع الولايات المتحدة أن يساهم الممر سوف في تنشيط التنمية الاقتصادية من خلال تحسين الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا والخليج العربي وأوروبا.
ويتألف الممر من ممرين منفصلين؛ إذ يربط الممر الشرقي الهند بالخليج العربي، فيما سوف يربط الممر الشمالي الخليج بأوروبا.
ووقع قادة كلا من الولايات المتحدة والهند والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي على مذكرة تفاهم للعمل على تطوير الممر الاقتصادي الجديد.
وأكدت الدول الموقعة على الالتزام بـ"تحفيز التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز الاتصال والتكامل الاقتصادي عبر القارتين من أجل نمو اقتصادي مستدام وشامل".
تجميل صورة دلهي قبيل قمة العشرين يأتي على حساب الفقراءمن جانبها، وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال خطابها السنوي عن حالة الاتحاد الممر الاقتصادي بـ"المشروع التاريخي الذي سيشكل طريقة اتصال مباشرة" بين الدول المشاركة فيه، مشيرة إلى أن الممر "سيجعل وصول البضائع إلى المنطقة المستهدفة أسرع بمقدار 40% من الوضع الحالي مما سيسهم في تعزيز التجارة في قطاع الطاقة، على وجه الخصوص، بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا".
واعتبرت مذكرة التفاهم أن الأمر "لا يتعلق فقط بالموانئ والسكك الحديدية، بل هو مشروع يربط بين الحضارات والقارات حيث يتضمن الاستثمار في سلاسل الإمداد المحلية والطاقة النظيفة واليد العاملة".
أما البيت الأبيض، فشدد في بيان على أن الممر سوف يعزز "حركة التجارة والتصنيع الحالية والأمن الغذائي وسلاسل التوريد، فضلاً عن إطلاق استثمارات جديدة من الشركاء بما في ذلك القطاع الخاص وتحفيز خلق فرص عمل نوعية".
ووصف وزير الاستثمار السعودي خالد بن عبد العزيز الفالح، الممر بأنه سيكون مشروعا "تاريخياً"، مضيفاً "يتحدث الناس عن طريق الحرير وطريق التوابل الهندي عبر شبه الجزيرة العربية، لكن (الممر الجديد) سيكون أكثر أهمية لأنه سيتعلق بالطاقة الجديدة، والبيانات، والاتصالات، والموارد البشرية، وطرق الطيران والمواءمة بين الدول ذات نفس العقلية والرؤى".
وسوف يهدف الممر الجديد إلى تيسير عملية نقل الطاقات المتجددة والهيدروجين النظيف عبر كابلات وخطوط أنابيب، من أجل تعزيز أمن الطاقة وتطوير الطاقة النظيفة، فضلاً عن تنمية الاقتصاد الرقمي وتعزيز النقل الرقمي للبيانات من خلال كابلات الألياف البصرية.
ووصفت وثيقة الإعلان عن المشروع بأن الممر سيكون "جسراً أخضراً ورقمياً عبر القارات والحضارات".
شعار قمة العشرين في نيودلهي
تحدي لـ "الحزام والطريق" الصيني؟
ويتشابه الممر الاقتصادي الجديد مع طريق الحرير الصيني خاصة من حيث الهدف الذي يتمثل في تعزيز الروابط بين الدول في مختلف القارات، لكن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية تعد أكبر من حيث الحجم مقارنة بالممر الجديد.
الجدير بالذكر أن قادة مجموعة السبع تعهدوا خلال اجتماع في اليابان في مايو/أيار الماضي بحشد 600 مليار دولار بشكل جماعي بحلول عام 2027 لمواجهة "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، فيما لا يزال الغموض يكتنف إجمالي الميزانية المقترحة التي من المقرر الإعلان عنها في غضون شهرين.
وكانت الصين قد أعلنت في عام 2013 عن توقيعها اتفاقيات في إطار مبادرة الحزام والطريق مع أكثر من 150 دولة وأكثر من 30 منظمة دولية، فيما حشدت ما يقرب من تريليون دولار مع إنشاء أكثر من ثلاث آلاف مشروع. وترمي الصين إلى الانتهاء من مشروع طريق الحرير بحلول عام 2049.
واللافت أن بعض الدول الموقعة على الممر الاقتصادي الجديد هي ضمن دول مبادرة "الحزام والطريق" مثل السعودية والإمارات، فيما يرى مراقبون أن هناك بعض مؤشرات تشير إلى أن الصين تتباطأ في تنفيذ المبادرة بسبب ما يعانيه اقتصادها من مشاكل راهنة.
وهناك بعض الدول قد اتهمت الصين بالسعي من وراء تنفيذ طريق الحرير إلى زيادة نفوذها الاستراتيجي دون الأخذ في الاعتبار مصالحها، فضلاً عن تأثير المشاريع على البيئة.
يشار إلى أن إيطاليا، البلد الوحيد داخل مجموعة السبع الذي انضم إلى مبادرة "الحزام والطريق"، قالت إنها سوف تنسحب من المبادرة وسط تصاعد التوتر بين الصين وتايوان وحرص الولايات المتحدة على اصطفاف حلفائها الغربيين إلى جانبها مع اتخاذ موقف صارم ضد الصين.
الهند وتغيير قواعد اللعبة
ويرى خبراء أن الأهداف الجيوسياسية الرئيسية وراء تنفيذ الممر الاقتصادي الجديد لدى صانعي القرار في الولايات المتحدة وأوروبا تتمثل في الدخول في تنافس مع مبادرات البنية التحتية العالمية التي تقودها الصين بهدف الحد من نفوذها وتعزيز نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط.
وفي مقابلة مع DW، قالت ألكا أشاريا، المديرة الفخرية لمعهد الدراسات الصينية في نيودلهي، إنه جرى "التخطيط لمواجهة مبادرة الحزام والطريق منذ سنوات عديدة، وليس من السهولة مواجهة التحدي الصيني في إطار الممر الاقتصادي الجديد". وأضافت أن "الافتقار إلى الوصول المباشر إلى آسيا الوسطى وما وراءها يقيد الخيارات الهندية، لذا يبدو الآن أن الهند ستحاول الاستفادة من الولايات المتحدة والدول الأخرى"، مشيرة إلى أن الدول المنضوية تحت لواء التحالف الجديد ضمن الممر الاقتصادي ليست جميعها منافسة للصين.
وفي ذلك، قالت إن "المعادلات في الشرق الأوسط وغرب آسيا تتسم بالتعقيد ولا تخضع على الإطلاق إلى لعبة صفرية المكسب (ربح كل شيء أو خسارة كل شيء)"، مشيرة إلى أن الهند تنظر إلى هذه المشاريع باعتبارها فرصة لدفع مشاريع البنية التحتية داخلها.
مبادرة الحزام والطريق (طريق الحرير الجديد)
اختلافات بين المشروع ونظيره الصيني
من جانبه، سلط الدبلوماسي السابق أنيل وادوا الضوء على أن هناك خلافات جوهرية بين الممر الاقتصادي الجديد وطريق الحرير، رغم ما قِيل أن المشروع الجديد يرمي إلى تحدي المبادرة الصينية.
وفي مقابلة مع DW، قال "إن مبادرة الحزام والطريق تتسم بالغموض وغير شفافة بطبيعتها حيث يأتي التمويل من دولة واحدة فقط وهي الصين. أما مشروع الممر الاقتصادي الجديد فيجري النقاش حوله منذ فترة من الزمن، وينصب التركيز فيه على جدوى التنفيذ الممول من مصادر متعددة خاصة عبر شراكات تمثل القطاعين العام والخاص".
ويعتقد الدبلوماسي السابق أن الممر الاقتصادي الجديد "بحكم طبيعته ليس مجرد ممر اتصال متعدد المراحل، لكنه أيضاً مشروع يهدف إلى إنشاء خطوط أنابيب لنقل الهيدروجين الأخضر وكابلات تحت الماء للاتصال الرقمي ونقل البيانات، فضلاً عن تعزيز الاتصالات". وقال إن أكثر من 70٪ من مشاريع البنية التحتية الخاصة بالممر الاقتصادي الجديد "موجودة بالفعل"، مضيفا "سيغير المشروع قواعد اللعبة الجيوسياسية وسوف يصب في صالح دول جنوب شرق آسيا بمجرد إنشاء الأجزاء الشرقية والغربية منه".
الهند المستفيد الأكبر
ويرى البعض أن الهند من المرجح أن تستفيد بشكل كبير من المشروع لأنه سوف يضعها في قلب حركة التجارية المارة من جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا، مما يمنحها مزايا استراتيجية واقتصادية.
وسوف يعمل الممر على تأمين سلاسل التوريد وخلق فرص عمل جديدة وتعزيز التجارة.
بدوره، يعتقد جاياديفا رانادي، رئيس "مركز الصين للتحليل والاستراتيجية" ومقرّه نيودلهي، أن الممر الاقتصادي الجديد يعد "فكرة جيدة من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية لأنه سوف يسهل حركة نقل البضائع بين الهند والخليج والشرق الأوسط وأوروبا بما يتجاوز المناطق المضطربة في باكستان وأفغانستان".
وفي مقابلة مع DW، شدد على أن عامل السرعة سواء في إنشاء الممر وتشغيله يعد "بالأمر الحاسم من أجل تحقيق الأهداف،" ويضيف: "من المؤكد أن الممر سينافس مبادرة الحزام والطريق الصينية نظراً لتوقف مشاريع طريق الحرير في العديد من البلدان بسبب مخاوف من أن تتحول القروض الصينية الرخيصة في نهاية المطاف إلى ديون يصعب عليها سدادها".
مورالي كريشنان – نيودلهي / م. ع
المصدر: DW عربية
كلمات دلالية: قمة العشرين طريق الحرير مبادرة الحزام والطريق الصين الهند أوروبا الشرق الأوسط السعودية الإمارات التجارة الطاقة روسيا الغزو الروسي لأوكرانيا جنوب شرق آسيا سلاسل الإمدادات الخليج النفط الولايات المتحدة قمة العشرين طريق الحرير مبادرة الحزام والطريق الصين الهند أوروبا الشرق الأوسط السعودية الإمارات التجارة الطاقة روسيا الغزو الروسي لأوكرانيا جنوب شرق آسيا سلاسل الإمدادات الخليج النفط الولايات المتحدة الممر الاقتصادی الجدید مبادرة الحزام والطریق الولایات المتحدة الأوسط وأوروبا قمة العشرین طریق الحریر الإعلان عن فی نیودلهی بین الهند أکثر من من خلال إلى أن
إقرأ أيضاً:
تحديات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. المشكلات الموضوعية
يمكن للإسلام أن يقدم إطارًا قيمياً وعملياً لمعالجة تحديات النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الجمع بين المبادئ الإسلامية والسياسات الاقتصادية الحديثة يعزز من قدرة الدول على بناء اقتصادات أكثر عدالة واستدامة، مع ضمان تحقيق التنمية البشرية والرفاهية.
الباحث التونسي في شؤون الاقتصاد الإسلامي الدكتور محمد النوري وبعد أن قدم في الجزء الأول من ورقة خاصة أعدها للنشر في "عربي21" عن "مشكلات النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. رؤية من منظور اقتصادي إسلامي"، عرضا مفصلا عن المشكلات الهيكلية التي تعاني منها معظم اقتصاديات دول المنطقة وهي مشكلات ذات علاقة بهشاشة النمو وطابعه الريعي البارز وارتباطه الشديد بالمديونية الى جانب ضعف الحوكمة الداخلية واستشراء الفساد. يتناول في الفصل الثاني اليوم المشكلات الموضوعية ذات العلاقة بالظروف الخارجية وما يحدث من صدمات مؤثرة مثل تقلبات أسعار الفائدة العالمية وأسعار الطاقة والصراعات المتفاقمة في المنطقة والعالم. على أن يناقش في الفصل الثالث والأخير المقاربة الاقتصادية الإسلامية لمعضلة النمو وتباينها مع المقاربة التقليدية السائدة.
ثانيا ـ المشكلات الموضوعية:
وهي المشكلات ذات العلاقة بالظروف الخارجية وما يحدث من صدمات مؤثرة مثل تقلبات أسعار الفائدة العالمية وأسعار الطاقة والمواد الأولية والصدمات الناجمة عن الصراعات المتفاقمة في المنطقة والعالم.
1 ـ تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية:
وهي من المشكلات المؤثرة على النمو الاقتصادي في مجمل بلدان المنطقة، سواء تلك المصدرة لهذه المواد أو المستوردة لها حيث تعتمد الأولى بشكل كبير على صادرات الطاقة، وخاصة النفط والغاز، كمصدر رئيسي للإيرادات الحكومية والنقد الأجنبي، بينما تعتمد الثانية على مخزونها الاحتياطي من العملات الأجنبية لاستيراد تلك المواد. ففي البلدان المصدرة للطاقة مثل السعودية، الإمارات، الكويت، والجزائر، وليبيا والكويت، والعراق، تؤدي ارتفاعات أسعار النفط والغاز إلى زيادة العائدات الحكومية، مما يعزز النمو الاقتصادي من خلال زيادة الإنفاق العام على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والتنمية بشكل عام. كما يزيد من الفوائض المالية ويسمح لهذه الدول بتخصيص المزيد من الأموال لمشاريع التنمية والاستثمار في القطاعات غير النفطية، مما يعزز التنويع الاقتصادي. وعلى العكس، فان تراجع الأسعار يمكن أن يؤدي إلى تقليص الإنفاق الحكومي، مما يحد من النمو ويزيد من العجز المالي. كما يمكن أن يؤدي إلى عجز في الميزانية، مما يدفع الحكومات إلى اتخاذ تدابير تقشفية قد تؤثر سلبًا على الاقتصاد.
وفي المقابل، في البلدان المستوردة للطاقة مثل مصر، المغرب، والأردن، وتونس ولبنان وغيرها فإنها تتأثر سلبًا بارتفاع أسعار الطاقة، حيث يؤدي ذلك إلى زيادة تكاليف الاستيراد وتفاقم العجز في ميزان المدفوعات، مما يضع ضغوطًا على احتياطيات النقد الأجنبي ويؤثر على استقرار العملة والنمو الاقتصادي. كما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الحكومي على دعم الوقود والطاقة، مما يضع ضغطًا على الميزانيات ويقلل من القدرة على الإنفاق في مجالات أخرى مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.
وعموما يمكن أن تؤدي تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية إلى فرص للنمو في بعض الأوقات، كما يمكن أن تشكل أيضًا تحديات كبيرة للاقتصادات في بعض بلدان المنطقة، مما يتطلب من الحكومات اتخاذ تدابير استراتيجية للتخفيف من تأثير هذه التقلبات على النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
وقد تراوحت هذه التقلبات خلال العقود الثلاثة الاخيرة بين الانخفاض النسبي في التسعينات (1990 ـ 1999) إلى ارتفاع كبير في العقد الأول من الألفية الجديدة (2000 ـ 2009) حيث تجاوز سعر برميل النفط 140 دولارًا في منتصف 2008. لكن مع بداية الأزمة المالية العالمية (2007-2008) وانخفاض الطلب العالمي، انهارت الأسعار بشكل حاد، لتصل إلى حوالي 30-40 دولارًا فقط للبرميل في نهاية 2008.
يمكن أن تؤدي تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية إلى فرص للنمو في بعض الأوقات، كما يمكن أن تشكل أيضًا تحديات كبيرة للاقتصادات في بعض بلدان المنطقة، مما يتطلب من الحكومات اتخاذ تدابير استراتيجية للتخفيف من تأثير هذه التقلبات على النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. أما في العقد الثاني من الألفية الجديدة (2010 ـ 2019) فقد شهدت الأسعار فترة تقلبات حادة اثر أحداث الربيع العربي (2010-2011) حيث أثرت الاضطرابات السياسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على إنتاج النفط، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى. لكن مع الطفرة النفطية الأمريكية (2014) و زيادة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، حدثت زيادة كبيرة في العرض العالمي للنفط، مما أدى إلى انهيار الأسعار من جديد بداية من عام 2015حيث انخفضت الأسعار من حوالي 100 دولار للبرميل في منتصف 2014 إلى أقل من 30 دولارًا في أوائل 2016، اثرها بدأت أسعار النفط في التعافي ببطء واستقرت في نطاق 50-70 دولارًا للبرميل، بدعم من اتفاقيات خفض الإنتاج بين "أوبك+".. أما العقد الثالث (2020 - حتى اليوم) ومع اندلاع جائحة كوفيد-19 بداية من عام 2020 عادت الأسعار مرة أخرى الى الانهيار بشكل غير مسبوق بسبب تراجع الطلب العالمي مع انتشار الجائحة.
في أبريل 2020، وقد شهدت أسعار خام غرب تكساس الوسيط (WTI) انخفاضًا تاريخيًا إلى المنطقة السلبية. ومع التعافي التدريجي من الجائحة ومع تخفيف القيود وعودة النشاط الاقتصادي، بدأت الأسعار في التعافي وارتفعت بشكل كبير في 2021-2022 وتجاوزت أسعار النفط مستويات ما قبل الجائحة، مدفوعة بتخفيضات الإنتاج من "أوبك+"، الى حين اندلاع أزمة الطاقة العالمية (2021-2022) نتيجة للصراع في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا، حيث ارتفعت أسعار النفط والغاز إلى مستويات عالية، مما أثر على الاقتصاد العالمي. هذه التقلبات في أسعار الطاقة تعكس التعقيدات والتغيرات المستمرة في العوامل التي تؤثر على سوق الطاقة العالمي، مما يجعلها محورًا رئيسيًا للاقتصاد العالمي والسياسات الدولية.
بشكل عام، ساهمت تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية في إيجاد بيئة اقتصادية غير مستقرة، أثرت سلبًا على معدلات النمو الاقتصادي التي تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في معظم بلدان المنطقة. كما أثرت أيضا على زيادة التضخم وتراجع القدرة الشرائية، وزيادة التكاليف الإنتاجية، مما يتطلب سياسات مالية ونقدية متوازنة لتخفيف هذه التأثيرات.
2 ـ تقلبات أسعار الفائدة:
وهي كذلك من العوامل التي لها تأثيرات كبيرة على النمو الاقتصادي في بلدان المنطقة. وقد تختلف هذه التأثيرات حسب طبيعة الاقتصاد في كل دولة وما إذا كانت تلك الدولة تعتمد بشكل أساسي على الاستيراد والتصدير، أو لديها قاعدة صناعية وخدمية كبيرة. ومع التغيرات الاقتصادية العالمية، في السنوات الأخيرة، كان لتقلبات أسعار الفائدة تأثيرات ملحوظة على اقتصادات المنطقة. وتسري هذه التأثيرات على عدة مستويات منها التأثير على كلفة الاقتراض والاستثمار والتضخم وسعر العملات والسياسات المالية والنقدية وهو ما ينعكس بالتالي على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بكل بلد من بلدان المنطقة.
فعلى مستوى كلفة الاقتراض لا شك أن ارتفاع أسعار الفائدة يسبب في زيادة الكلفة بالنسبة للحكومات والشركات والأفراد وهو ما ينعكس على تمويل المشاريع ويؤدي الى تراجع الاستثمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تلعب المشاريع الكبيرة دورًا حيويًا في النمو الاقتصادي، وبالتالي يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تباطؤ في تنفيذ هذه المشاريع.
وعلى مستوى العملات والتضخم، يقود ارتفاع أسعار الفائدة في الأسواق الدولية عادة الى سحب رأس المال من الأسواق الناشئة، بما في ذلك دول MENA، مما يضع ضغطًا على العملات المحلية ويؤدي إلى تراجع قيمتها. هذا التراجع يمكن أن يؤدي إلى تضخم مستورد بالنسبة للدول التي تعتمد على استيراد سلع أساسية مثل الغذاء والطاقة. كما أن انخفاض أسعار الفائدة يمكن أن يؤدي إلى زيادة في التضخم بسبب ارتفاع الطلب المحلي. في المقابل، يمكن أن تساعد أسعار الفائدة المرتفعة في كبح التضخم، لكنها قد تضعف النمو الاقتصادي. وقد بلغ متوسط التضخم في المنطقة نسبة 17,5% عام 2023، ومن المُتوقع أن يتراجع الى حدود 15% عام 2024.
أما على مستوى السياسات المالية الحكومية فإن ارتفاع أسعار الفائدة، تزيد تكاليف خدمة الديون الحكومية، مما يضع ضغطًا على الميزانيات العامة. هذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة العجز المالي، خاصة في الدول التي تعتمد بشكل كبير على الاقتراض لتمويل الإنفاق العام. في بعض دول MENA، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقليل الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية، مما يعيق النمو. إلى جانب ذلك تجد الدول التي تربط عملاتها بالدولار الأمريكي نفسها مجبرة على اتباع تحركات أسعار الفائدة الأمريكية، مما يحد من قدرتها على استخدام السياسة النقدية كأداة للتحفيز الاقتصادي المحلي.
وشهدت أسعار الفائدة العالمية طيلة العقود الثلاثة الأخيرة تقلبات حادة تراوحت بين فائدة صفرية أو سلبية بسبب سياسة التيسير الكمي التي انتهجتها معظم الدول الكبرى بهدف إنعاش النمو والتصدي للركود، وبين أسعار فائدة مرتفعة أدت الى نشوء أزمة في العديد من البنوك الامريكية والدولية بلغ البعض منها حد الإفلاس.
وفي العموم أثرت تقلبات أسعار الفائدة في السنوات الأخيرة بشكل كبير على اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سواء من خلال التأثير المباشر على تكاليف الاقتراض والاستثمار أو من خلال التأثير على تدفقات رأس المال، التضخم، والاستقرار الاقتصادي.
3 ـ الصراعات الإقليمية:
وهي الصراعات المحتدمة داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو على تخومها والتي تلقي بثقلها على النمو الاقتصادي لكل البلدان وتؤثر بشكل كبير على حركة التجارة البينية والدولية. ومن أبرز هذه الصراعات:
ـ الصراع الأوكراني الروسي وإن كان يدور خارج دول المنطقة الا أن آثاره المباشرة وغير المباشرة غير خافية. فالعديد من بلدان المنطقة له علاقات تجارية مع طرفي الصراع سواء فيما يتعلق بقطاع الطاقة والمواد الأولية أو قطاع المواد الغذائية الاستراتيجية كالحبوب حيث تستورد النصيب الأوفر من احتياجات شعوبها.
لا شك أن الحرب الدائرة في قطاع غزة والتي انتقلت شظاياها إلى الضفة الغربية ولبنان وامتدت كذلك إلى البحر الأحمر لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على دول المنطقة وتنذر بعواقب وخيمة على آفاق النمو الاقتصادي لتلك الدولفعلى صعيد الطاقة أدت الحرب الروسية الأوكرانية الى اضطرابات في امدادات النفط والغاز العالمية بسبب العقوبات الغربية على روسيا والتي تعد من أكبر منتجي ومصدري النفط والغاز في العالم. أدّى هذا الاضطراب الى ارتفاع الأسعار بشكل كبير مما أثر على تكلفة الطاقة في مجمل دول المنطقة وذلك من خلال زيادة تكاليف النقل والإنتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية. ومما لا شك فيه أن هذا الارتفاع يولّد التضخم.
وعلى صعيد الحبوب وباعتبار روسيا وأوكرانيا هما من أكبر مصدري القمح في العالم، أفرزت الصراع اضطرابات في الإنتاج والتصدير من هاتين الدولتين مما أدّى الى نقص في العرض وبالتالي ارتفاع الأسعار. واذا أخذنا بعين الاعتبار مخلفات أزمة الكوفيد (2019-2022) على مستوى الأمن الغذائي لكل دول العالم وبالخصوص منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تعتمد بشكل رئيسي على الواردات من هاتين الدولتين، فإن الانعكاسات كانت مضاعفة، حيث ارتفعت أسعار المنتجات الغذائية التي تعتمد على القمح والحبوب بشكل عام وخصوصا في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط مثل مصر وتونس ولبنان والأردن. تظافر هذه العوامل لتزيد من حدة الضغوطات التضخمية وارتفاع كلفة المعيشة وزيادة فاتورة الواردات بالنسبة للدول المستوردة مما أدى الى تفاقم العجز في الميزان التجاري وتعثر النمو. ساهمت هذه التأثيرات في إعادة تشكيل التحالفات بهدف تأمين مصادر بديلة للطاقة والغذاء وتعزيز التعاون مع أقطاب دولية جديدة كمجموعة البريكس+ التي انضمت اليها دول مهمة من دول المنطقة كالسعودية والامارات ومصر.
ـ الحرب على غزة:
لا شك أن الحرب الدائرة في قطاع غزة والتي انتقلت شظاياها إلى الضفة الغربية ولبنان وامتدت كذلك إلى البحر الأحمر لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على دول المنطقة وتنذر بعواقب وخيمة على آفاق النمو الاقتصادي لتلك الدول. تتجلى هذه الانعكاسات، إلى جانب التدمير شبه الكامل للبنية التحتية لقطاع غزة ودوائر الاسناد لها مع سياسة الإبادة الجماعية التي أقر بها العالم بأسره باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية، في اضطراب التدفقات التجارية والاستثمارية في المنطقة وخاصة في الدول المجاورة مثل مصر والأردن ولبنان وسوريا، وفي زيادة الانفاق العسكري بسبب تعزيز سيناريو شبح الحرب الإقليمية نتيجة تفاقم توتر الأوضاع وفشل المفاوضات، وتراجع بعض القطاعات المهمة في بعض البلدان كالسياحة وتعطل جهود التعاون والتكامل الاقتصادي بين دول المنطقة.
ـ الحرب في السودان:
الحرب في السودان لها آثار متعددة على النمو الاقتصادي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. على الرغم من أن السودان ليس جزءًا من الشرق الأوسط مباشرة، إلا أن تداعيات الصراع داخله تمتد إلى دول المنطقة بطرق مباشرة وغير مباشرة. فمن التداعيات الاقتصادية المباشرة على السودان تدمير البنية التحتية وتعطل الإنتاج مما يعطل الإنتاج والنقل والتجارة. وهذا يعمق الأزمة الاقتصادية في السودان ويزيد من الفقر والبطالة. كما تسببت الحرب في انخفاض حاد في قيمة الجنيه السوداني، مما أدى إلى ارتفاع كبير في معدلات التضخم. وهذا يزيد من تكلفة المعيشة ويؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للسودانيين إلى جانب تعطل الصادرات، مما يزيد من أزمة السيولة ويعمق العجز في الميزان التجاري للبلاد.
إن الحرب في السودان تؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر تعميق الأزمات الاقتصادية في السودان نفسه، وزيادة الضغوط على الدول المجاورة، وخلق توترات سياسية واقتصادية تؤثر على الاستقرار والنمو في المنطقة بأكملها.ومن التأثيرات على الدول المجاورة ودول المنطقة: تدفق اللاجئين وهو ما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان إلى دول الجوار مثل مصر وتشاد وجنوب السودان. وهو ما يفاقم الضغوط على الموارد الاقتصادية والبنية التحتية في هذه الدول، ويعرقل نموها الاقتصادي. إضافة الى اضطراب التجارة الإقليمية بحكم أن السودان يمثل ممرًا تجاريًا هامًا لبعض دول المنطقة. فالحرب تؤدي إلى اضطراب النقل والتجارة عبر السودان، مما يؤثر على حركة السلع بين الدول المجاورة ويزيد من تكاليف النقل. كما ساهمت الحرب في زيادة التوترات السياسية: الصراع في السودان يزيد من عدم الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي وشمال أفريقيا، مما قد يؤثر على استقرار الدول المجاورة ويقلل من فرص التعاون الاقتصادي الإقليمي.
ومن التأثيرات أيضا احداث تقلبات في أسواق النفط، على الرغم من أن السودان ليس من كبار منتجي النفط على مستوى العالم، إلا أن عدم الاستقرار في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي أوجد توترات تؤثر على حركة النفط عبر الممرات المائية الحيوية مثل باب المندب. أي اضطراب في هذه المنطقة يمكن أن يؤثر على أسعار النفط ويزيد من تقلبات السوق. ومن التأثيرات أخيرا تفاقم أزمة الغذاء في المنطقة حيث أن السودان يعتبر من الدول الزراعية الهامة في أفريقيا، والحرب تؤدي إلى تعطيل الزراعة وتدمير المحاصيل، مما يقلل من القدرة على توفير الغذاء محليًا وزيادة الاعتماد على الواردات. هذا يمكن أن يؤثر على الأمن الغذائي في الدول المجاورة التي تعتمد جزئيًا على الواردات الغذائية من السودان.
ومن التأثيرات كذلك ارتفاع بعض أسعار السلع الأساسية وخصوصا تلك التي يعتبر فيها السودان منتجا ومصدر ا رئيسيا مثل الصمغ العربي. فتعطل الإنتاج والتصدير بسبب الحرب يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه السلع في الأسواق العالمية، مما يؤثر على الدول المستوردة في المنطقة.
وعموما فإن الحرب في السودان تؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر تعميق الأزمات الاقتصادية في السودان نفسه، وزيادة الضغوط على الدول المجاورة، وخلق توترات سياسية واقتصادية تؤثر على الاستقرار والنمو في المنطقة بأكملها.
إقرأ أيضا: تحديات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. المشكلات الهيكلية
* أستاذ الاقتصاد والتمويل الإسلامي
[email protected]