«عقلية القطيع».. انسياق نحو مصائر محتومة
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
يستلزم الأمر هنا عند مناقشة مفهوم «عقلية القطيع» الوقوف عند ثلاثة أبعاد رئيسية، تظهر فيها نماذج هذا المفهوم، فهو ليس مفهوما نظريا، بل ممارسات مشهودة على أرض الواقع، تتفاوت أحجامها وتأثيراتها حسب المواقف والأحداث، وتتمثل هذه الأبعاد؛ في: البعد الديني، والبعد الاجتماعي، والبعد السياسي، وكل هذه الأبعاد؛ تعد رؤوس أضلاع المثلث الثلاثة، تتعاضد مع بعضها في التأثير في ظرف ما، مشكلة بذلك صورة مركبة لمختلف الممارسات التي يقوم بها الأفراد في هذا الاتجاه، وقد تنفصل في ظرف ما آخر؛ وفقا لكل حالة على حدة حسب عنوانها الخاص بها (ديني، اجتماعي، سياسي) صحيح أن البعد السياسي هو الشائع في ضرب الأمثال لـ «عقلية القطيع» ولكن يبقى البعد الديني أهمها، وقد أعاب القرآن الكريم في أكثر من نص قرآني على الذين قالوا: (بل وجدنا آباءنا على أمة ونحن على آثارهم مقتدون) و(هذا ما وجدنا عليه آباءنا الأولين) وغيرها من الآيات الكريمة، ومنها كذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا) - روي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه - رواه الترمذي.
عندما يأتي الحديث عن تأثيرات الرسالة الموجهة إلى المتلقي؛ أي كان مصدر هذه الرسالة؛ فإنه من الضروري أن نستحضر على الفور نظرية «الرصاصة الإعلامية» التي ولدت أثناء الحرب العالمية الأولى، أي في مطلع القرن العشرين، والتي أعتقد في حينها أن تأثيرها على قناعات المتلقي تأثير مباشر، وأن المتلقي يستسلم استسلاما مطلقا لفحوى الرسالة التي يتلقاها، وقد دحضت هذه النظرية اليوم بكثير من الأدلة والبراهين التي أكدت أن المتلقي للرسالة ليس من السهولة بمكان أن يأخذها على علاتها، حيث تدخل في عملية تنقية من كثير من الشوائب، إلا أن نظرية الرصاصة بقيت كمفهوم لا يزال يشكل جزءا مهما في تأثيرات وتوجهات أي رسالة تسير سيرا أفقيا من مصدرها حتى وصولها إلى المتلقي؛ فلملاحظ أن الوعي العام الجماهيري لا يزال في مراحله الأولى، وأنه من السهولة بمكان تشكيل الأفراد عبر الرسائل المختلفة؛ حسب ما يريد صاحب أية رسالة موجهة، ولذلك لم يستبعد أن تنساق الحشود نحو مصائر مجهولة، يتقصدها صاحب أية رسالة يستنزف من خلالها جيوب الناس من غير وجه حق؛ بالخداع والالتفاف والدوران، وكل ذلك يحصل من مصادر مجهولة لهذه الرسائل ومع ذلك فالناس لا يزالون يقعون ضحية جهلهم، وسذاجتهم مع كثرة ما يسمعون من مآسٍ في هذا الجانب.
لا توجد مفارقة موضوعية كبيرة بين مفهوم نظرية الرصاصة، وبين مفهوم عقلية القطيع، من حيث النتائج، هذا من حيث الفهم العام للفكرة، وأما من الجانب الميكانيكي؛ والمتضمن الممارسة والتطبيق، فقد تكون هناك ثمة اختلافات بسيطة، وهذه الاختلافات تعود إلى قدرة الأفراد في التمييز بين الرسائل الموجهة إليهم من مختلف المصادر على أنها رسالة إيجابية تسعى إلى بناء قناعاته، أو رسالة سيئة تذهب به بعيدا إلى حيث عائدها الخاص، ومع ذلك فالناس لا يزالون يقعون في مصيدة الغايات النهائية لهذه الرسائل المتواردة من مختلف المصادر، فالرسائل المنتشرة اليوم حول النصب والاحتيال؛ فمع كثرتها وتعدد أساليب أصحابها؛ إلا أن الناس لا يزالون يقعون في مصيدة أصحاب هذه الرسائل، ويخسرون الكثير، وعندما تتساءل عن سبب هذه الغفلة؛ لا تجد لها مبررا مقنعا، مع افتراض نمو الوعي عند الأفراد لمواجهة هذه الممارسات القاتلة لجوانب الثقة المختلفة، وكما يقاس مثل هذه الرسائل على الوعي العام، يقاس أيضا كثير من التفاعلات التي تحدث على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي ينجر إليها الغالبية من الموجودين على صفحات هذه الوسائل، فيكيلون التهم، ويسرقون هذا، ويخونون آخر، دون دليل، سوى تسليم مطلق لعاطفة متأججة من مواقف سابقة، وقد تكون مبالغا في تقديرها.
تسعى الأنظمة السياسية إلى التقليل من مستويات التأثير التي تحدثها ممارسات «عقلية القطيع» أو مفهوم «نظرية الرصاصة» وذلك من خلال استحداث مؤسسات معنية بالجمهور العام، وتأتي المؤسسات التشريعية كأولى المحطات المهمة في نقل أفراد المجتمع، من التبعية المطلقة والمشاركة الخاملة إلى المشاركة الفاعلة، حيث تساهم مساهمة مباشرة في صنع القرار الوطني، وهذا بدوره يسهم في البناءات المعرفية ذات الاتجاه البنيوي، فلم تعد المسألة مجرد متلقٍ لخدمات التنمية المختلفة، بقدر ما يكون المساهم الحقيقي في صناعة هذه الخدمات، وتوجيهها نحو المسارات الآمنة، لكي تؤتي أكلها بصورة فاعلة، وقد حقق هذا التوجه نجاحا ملموسا، مما أدى إلى التفكير في توظيف نفس التجربة في المجالات التخصصية الأكثر قربا من المجتمع، ومنها إنشاء مؤسسات المجتمع المدني بجميع تخصصاتها، مما ساعد على دعم وتعضيد المؤسسة الكبرى الممثلة في المجالس التشريعية، وهذا بدوره يعد تحولا نوعيا في العلاقة بين الشعوب وحكوماتها، وإضافة مهمة في تعزيز الدور الذي تقوم به مختلف المؤسسات في الدولة.
هناك استقراء مستشف من الواقع يرى أنه لن يكون الأمر سهلا؛ اليوم؛ في توجيه الحشود والجماهير نحو مسار أفقي فقط، ويعتمد هذا الاستقراء على عدة عوامل: منها تعدد مصادر الرسائل الموجهة إلى الجمهور، وأن الجمهور نفسه أصبح نوعيا بامتياز، ويملك ذات الوسائل، بل وأكثرها تطورا في ظل وجود التطور الصناعي المذهل الذي أتاح لأن يكون كل فرد في المجتمع له القدرة على إنشاء رسائل وتوجيهها إلى المتلقي؛ الذي لا يقل ذكاء هو الآخر، وقدرته على تمحيص الجيد من الرديء، ولكن هذا لا يعني إطلاقا انتفاء وجود مفهوم القطيع التابع للمجموع، حيث لا تزال هناك أنفس مفتونة بعلائق اجتماعية، وتاريخية، وتراثية، وهذا كله يصب في مفهوم التغير الاجتماعي، وكما هو معروف بالضرورة أن التغيرات الاجتماعية من أصعب التغيرات على الإطلاق لاستهلاكها فترات زمنية طويلة، تحتاج إلى إنشاء أجيال متتالية، ولا يكفيها مرور جيل أو جيلين حتى يتم التغيير، مع ما يقدره علم الاجتماع أن عمر الأجيال؛ التي قد تشهد بعض التغييرات؛ تحتاج إلى فترة زمنية مقدرة ما بين (30 -40) سنة على أقل تقدير، وهذا من شأنه أن يؤجل النهاية المطلقة لعمليات «عقلية القطيع» المختلفة.
لقد عزف المحتل «القديم» في كثير من تجارب الاحتلال على أيقونة «عقلية القطيع» ووجد فيها المنفذ الذي يستطيع من خلاله أن يحقق أهدافه وطموحاته، وذلك من خلال إيجاد رموز اجتماعية سهلت له الكثير من العقبات التي كانت تعترض طريقه، ولذلك انهارت دول؛ أو ضحّت بأفضل ما عندها؛ ليس لأنها تخلو أنظمتها السياسية من مقومات القيادة والتبصر، ولكن لأنها وجدت في قائد القطيع الذي أوجده المحتل القدوة، فانقادت نحو الهاوية، وقد تحدث المفارقة أن المحتل؛ وبعد أن يحقق أهدافه وأطماعه لا يستبعد؛ بعد انسحابه؛ أن ينادي بضرورة المشاركة المجتمعية في كل مفاصل الدولة، وهذا نهج معروف، ومعاش، ولا يخفى على أحد، كما أنه أصبح مفضوحا، فالشعوب لم تعد بتلك السذاجة التي كان عليها من كان قبلهم عندما كانت معززات الوعي غير مكتملة النمو، فالأجيال الحديثة تدرك كثيرا مجمل التموضعات التي تكون عليها الأنظمة السياسية، حيث أتاحت المعرفة، والأجواء المفتوحة، وعمليات التأثر والتأثير الوقوف على كثير من الحقائق، وعلى الكثير مما كان مخفيا.
ومع ذلك فما بين رغبات جامحة للترقي عبر كل ما من شأنه أن يضيف بعدا تنمويا للأجيال، وما بين حاجيات ملحة لن تستمر الحياة بدونها، تتناسل الممارسات الواعية التي ترتقي بفكر الإنسان، فتنقله من مراحل النمو المبكرة، إلى مراحل الممارسات الواعية والرشيدة، حيث تنشئ الأحداث والمواقف شخصيات على قدر كبير من تحمل المسؤولية الوطنية في بعدها التنموي الشامل، وبهذا الترقي الفكري الناضج تصبح ممارسات «عقلية القطيع» ومفهوم نظرية «الرصاصة» الإعلامية، ممارسة نمطية، لن يكون لها وزن مؤثر عما كان عليه الوضع في السابق، وقد يصبح النقيض هو ما تتجه إليه الأنظار.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الرسائل کثیر من
إقرأ أيضاً:
القوة التي لا تستسلم..!
يمانيون../
تستمر ماكنات الإعلام وصحف الغرب والعالم، ومراكز أبحاث عساكره وساسته، تأكيد الفشل الأمريكي – الغربي بمعركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”؛ المساندة لغزة.
يقول “المركز العربي واشنطن دي سي”: “على الرغم من تفوق القدرات العسكرية لأمريكا والغرب؛ إلا أن فشلها بات من المسلَّمات بعد عجزها في وقف الهجمات اليمنية على الكيان وسفنه في البحر الأحمر”.
ومن وجهة نظره، فقد تمكنت قوات صنعاء من تشكيل تحالفات جديدة وقوية مع دول؛ مثل روسيا والصين، بعد أن طورت أسلحتها بشكل مذهل.
والمؤكد، في عقيدته التحليلية، فشل عسكرة أمريكا للبحر الأحمر، دون الحد من قدرات اليمنيين التي باتت قوة عسكرية ملفتة في المنطقة.
قوة لا تستسلم
وتحت عنوان “اليمنيون لا يخافون”، أكدت صحيفة “معاريف” أن عمليات اليمن على “إسرائيل” فرضت معادلات عسكرية على المنطقة في ظل عجز الردع الغربي.
وقالت الصحيفة العبرية: “إن استمرار عمليات قوات صنعاء جعل منها قوة لا تستسلم لـ”إسرائيل” وأمريكا، وسبباً لإغلاق ميناء أم الرشراش “إيلات”، وإلحاق أضراراً جسيمة به، وقطع شريان حياة اقتصاد “إسرائيل” من قارة آسيا”.
الحظر الأخطر
وتحت عنوان “حصار اليمن يكبدنا خسائر فادحة”، قال بنك “إسرائيل” المركزي: “إن حصار اليمن البحري على السفن في البحر الأحمر، وتحويل عبورها من المحيط الهندي، يكبد اقتصادنا أضراراً كبيرة بارتفاع تكاليف الشحن، والأسعار على المستهلكين”.
وأضاف: “استمرار فرض الحصار البحري يعد العقاب الأخطر على “إسرائيل”؛ كون أغلب وارداتها تأتي من قارة آسيا وتمثل خُمس إجمالي السلع بمبلغ أكثر من 20 مليار دولار”.
لا علامات لتوقفها
وفي تقريرها بعنوان، “هل أنتهت الحرب البحرية الكبرى بين اليمنيين والولايات المتحدة؟”، أكدت مجلة “ناشيونال إنترست”، أته لا وجود لأي علامة على توقف العمليات اليمنية، الأمر الذي يجعل مهام القيادة المركزية الأمريكية في وضع صعب.
وفي حين أكد المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية “IISS”، فشل الغرب في تحقيق أهدافه المعلنة في معركة البحر الأحمر، على الرغم من التفوق العسكري لقواته، أشار “المعهد الإيطالي للدراسات الدولية ispi”، إلى أن عجز بحريات أمريكا والغرب في ردع هجمات اليمنيين، أصبح واضحا وضوح الشمس.
“مستمرون حتى وقف العدوان”
وتستمر القوات اليمنية في ضرب الكيان بالصواريخ والطيران المسيّر، وفرض الحظر البحري على سفنه، والمرتبطة به، في بحار الأحمر والعربي والأبيض المتوسط والمحيط الهندي، ضمن معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس” المساندة للمقاومة الفلسطينية حتى وقف العدوان الصهيو – غربي على غزة واليمن.
يشار إلى أن فاتورة خسائر دول العدوان على غزة واليمن تجاوزت 220 قِطعة بحرية (“إسرائيلية” وأمريكية وبريطانية وأوروبية)، مُنذ نوفمبر 2023.
السياسية – صادق سريع