لجريدة عمان:
2024-12-25@01:08:48 GMT

وجهة نظر يابانية عن العرب

تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT

من الكتب التي لا أملّ العودة إليها بين فينة وأخرى، كتاب «العرب من وجهة نظر يابانية»، للكاتب والأستاذ الجامعي والمترجم للأدب العربي إلى اللغة اليابانية نوبوأكي نوتوهارا. وقد نال هذا الكتاب اهتمامًا واسعًا منذ صدوره، إذ كتب عنه كثيرون، لأنه تناول المجتمعات العربية بالدراسة والتحليل. وسبق لي أن تناولتُه في كتابي «لولا الكتب» الصادر عن مؤسسة عُمان للصحافة والإعلان والنشر، ضمن سلسلة كتاب نزوى، واستشهدتُ به مؤخرًا في مقالي بهذه الجريدة الأسبوع قبل الماضي: «هل العقل العربي فارغ»، ما جعل عددًا من القراء يتساءلون عنه، وهو ما دفعني للعودة إليه مجددًا.

في هذا الكتاب سبق نوتوهارا أحداث ما سمي بالربيع العربي بسبع سنوات تقريبًا، عندما قدّم تحذيرًا قويًا للعرب بأنهم إذا لم يُسرعوا إلى الإصلاح، فإنّ الأوضاع ستنفجر في كلّ مكان، وخص بالذكر مصر التي عاش فيها فترة من الزمن، وسوريا التي زارها كثيرًا. يقول إنه زار القاهرة عام 1984م بعد غياب عشر سنوات، واكتشف توترًا شديدًا يغطي المدينة كلها؛ فالناس يمشون وكأنّ شيئًا ما يطاردهم؛ وجوهٌ صامتة، وطوابير طويلة من الواقفين أمام الجمعيات ومواقف الحافلات وغيرها، ويقول إنه رأى الحافلات المكتظة تجري، بينما يتعلق الركاب بالشبابيك والأبواب، وينسى كثير من الرجال والنساء الأسلوب المحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام. ويصل إلى الاستنتاج أنّ «التوتر يغطي الشارع. توترٌ تتوقع أن ينفجر في أيّ لحظة، وهذا التوتر يجعل الناس يتبادلون نظرات عُدوانية، ويزيد توترَ المدينة نفسها أكثر فأكثر». وحدث ذلك الانفجار فعلا عام 2011م ليس في مصر وحدها، بل في العديد من الأوطان العربية، وما زال مرشحًا للانفجار.

عاش المؤلف في بلاد العرب قرابة أربعين عامًا، وغاص في أعماق مجتمعاتنا، وعرف خبايا الشخصية العربية، فظهر في كتابه كالطبيب الذي استطاع أن يشخّص الداء ويترك مسألة العلاج للآخرين. وقد تحققت تحذيراته، لأنه نظر إلى الأوضاع العربية بعين المراقب المقارن بين التجربة العربية واليابانية.

يرى نوتوهارا أنّ المجتمع العربي يعاني من مشاكل أساسية هي القمع، وغياب العدالة الاجتماعية وعدم المساواة أمام القانون، وهذا أدى إلى غياب المسؤولية العامة، حيث يُتلِف المواطنون المَرافق العامة أو يسيئون استخدامها، لشعورهم بأنها لا تخصهم وأنها أملاك غيرهم، ويرى أنّ بغياب العدالة الاجتماعية وسيادة القانون على الجميع بالتساوي فعلَ الناسُ كلّ شيء، وتعرضت حقوق الإنسان للخطر؛ ولذلك أصبح الفرد هشًا وساكنًا بلا فعالية، لأنه يعامَل دائمًا بلا تقدير لقيمته كإنسان، «ومن هنا انتشرت بين الناس شريعة الغاب، وأصبح القويّ يأكل الضعيف»، ويتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ أيّ كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي دون وعي هذه الحقيقة الواضحة، فإنّ حديثه لن يكون جدِّيًّا ولا مفيدًا.

كما يرى الكاتب الياباني أنّ المجتمع العربي مشغول بفكرة النمط الواحد، على غرار الحاكم الواحد، والقيمة الواحدة، والدين الواحد وهكذا؛ فيحاول الناس أن يوحّدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآراءهم، وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين، ويغيب مفهوم المواطن الفرد لتحل مكانه فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد، فيحاول الفرد أن يميّز نفسه بالنسب أو الثروة أو المنصب أو الشهادة العالية في مجتمع يغيب فيه الوعي بالمسؤولية، فالقانون لا يحمي الناس من الظلم لأنه مخترق. ويقدّم العديد من الأمثلة التي تؤكد أنّ «القمع هو الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى برهان في البلاد العربية»، ويستغرب من خوف الناس من رجال الأمن، وامتعاضهم من الامتياز الاجتماعي والاقتصادي الذي يتمتعون به، ويرى أنّ غير المفهوم هو الاحترام الكاذب الذي يُظهِره أولئك الناس لرجال الأمن، والكرم الباذخ في المآدب التي يقيمونها لهم، وأنّ تلك الازدواجية سببُها الأول والأخير هو القمع والخوف الثابت من بطش السلطة والمسؤولين.

وإذا كنتُ قد أشرتُ في أكثر من مقال أنّ المعارضات العربية أسوأ من الأنظمة القائمة، فإنّ الكاتب - رغم معارضته لمصادرة حق الآخرين في التعبير- إلا أنّ رأيه في المعارضة العربية لا يختلف عما ذهبتُ إليه، إذ يقول: «إنّ المعارضة في البلدان العربية هي في حقيقتها سلطة ضد سلطة، أو سلطة مضادة تطمح للسيطرة على الحكم، دون أن تقدّم مشروعًا مغايرًا لمشروع الحكم المسيطر.. ففكرة التأبيد لا تقتصر على رجال السلطة وإنما تشمل قادة الأحزاب التي يفترض أنها في المعارضة التي ينبغي أن تحمل مشروعًا مناقضًا لمشروع السلطة القائمة ومختلفًا عنه، وإلا فإنّ المعارضة تصبح سلطة تنتظر دورها في السيطرة على الحكم استلامًا يؤبد المشروع السائد». ولم يخْلُ الكتاب من المواقف الطريفة في ظاهرها ولكنْ العميقة في دلالاتها، منها قوله: «مرةً كنتُ أستمع إلى حوار لطالب مصري يتحدث عن تجربته في اليابان ومشاهداته، فتحدّث عن المواصلات في طوكيو، وعن تنظيمها ودقة مواعيدها، وقارن بينها وبين المواصلات في مصر، عندئذ قال الطالب معلقًا: لا بد أن نتعلم من تجربة اليابان، لا بد أن نغير كلّ نظامنا؛ فجأة قاطعه المذيع قائلا: الكلام عن تغيير النظام غير مسموح به. عندئذ التفتُّ بدوري إلى كلمة “نظام” وتذكرتُ كم هي حساسة وخطرة».

ويندهش نوتوهارا في كتابه أنّ «الإنسان العربي يعتقد أنّ الحقائق كلها جاهزة في القرآن الكريم، ولا داعي للتفكير والبحث عن الحقائق؛ لذلك يأتي بحقائق الماضي ويفكر فيها مرة أخرى، ولا يحاول التفكير في حقائق أخرى والمتغيرات التي حدثت في العالم منذ نزول القرآن الكريم»، ويقول إنه في العالم العربي يستنتج الشخص أفكاره من خارجه، بينما في اليابان يستنتج الناس أفكارهم من الوقائع الملموسة التي يعيشونها كلّ يوم، وهو يقول: «في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد، أما الأفراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة فيظلون أفرادًا فقط ولا يشكلون تيارًا اجتماعيًا يؤثر في حياة الناس». وأشير هنا إلى أنّ نوبوأكي نوتوهارا في هذه النقطة لا ينتقد القرآن الكريم، بل ينتقد الجمود الذي أصاب المسلمين حتى تأخروا عن الركب. ولتأكيد فكرته تلك يسرد قصة زميله المصري في جامعة طوكيو د.علي حسن السمني الذي يصفه بأنه كان مسلمًا متدينًا مستقيمًا، ينفذ ما جاء في القرآن الكريم في طعامه وعلاقاته وحياته العامة والخاصة، حيث ذهبا معًا إلى مدينة «كيوتو» وزارا معبدًا قديمًا مشهورًا هو معبد «الباجودا» ذو الطبقات الخمس الجميلة للغاية، وعندما رأى د. السمني ذلك الجمال الأخاذ، عبّر عن إعجابه قائلا: «ما شاء الله، لقد بنى الله هذا البناء»، فقال له: «هذا البناء شيّده أجدادنا اليابانيون»، ولكنه نفى ذلك بشدة، وقال بيقين قاطع: «كلّ شيء جميل أو عظيم هو من خلق الله»، وهكذا استسلم نوتوهارا وصمت. ويحكي الكاتب موقفًا آخر بينهما: «مرة كنت أقرأ رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ، وعندما رآني سألني: لماذا تقرأ روايات تافهة، ولماذا لا تقرأ القرآن الكريم؟ فكلُ شيء مهم للبشر موجود في القرآن، اقرأ القرآن، لأنّ كلّ الكتب التي كتبها البشر تافهة. طبعًا استمعتُ إليه باحترام، ولكني سألت وأسأل: إلى أين يؤدي التدين بالمسلم العادي أو غير العادي، المسلم الذي يمارس حياة التدين كلّ حياته إلى أين يصل»؟ ويقول: «لقد تابعتُ حياة ذلك الصديق رحمه الله أكثر من عشرين سنة، وكان في مكانه لا يتقدم. لقد بقيَت حياته وأفكاره ثابتة لا تتغير ولا تتقدم، هل هي صورة مسلم فرد؟ أو صورةٌ للمسلم المتدين؟. والسؤال أين وصل بعد كلّ ذلك»؟

عن المقارنة بين العرب واليابانيين وأسباب نجاحهم، يحكي الباحث الياباني أنّ الكاتب يوسف إدريس كان يتساءل دائمًا عن سر نهضة اليابان وتحولها من بلد صغير معزول إلى قوة صناعية واقتصادية، إلى أن حدث مرة أن راقب عامل نظافة فيما هو عائد إلى فندقه في منتصف الليل يعمل وحيدًا، وعندما راقبه وجده يعمل بجد ومثابرة من دون مراقبة من أحد، وكأنه يعمل على شيء يملكه هو نفسه، عندئذ عرف سر نهضة اليابان؛ إنه الشعور بالمسؤولية النابعة من الداخل من دون رقابة ولا قسر، إنه الضمير، وعندما يتصرف شعب بكامله على هذه الشاكلة عندها يمكنه أن يحقق ما حققته اليابان، وهذا ما يفتقده العرب.

كتاب «العرب وجهة نظر يابانية» من الكتب المهمة التي تناولت العقلية العربية، وبين دفتيه رسائل كثيرة وهامة لأجل الإصلاح، وكان منطلقه الغيرة وليس العنصرية، ورغم صغر الكتاب، إلا أنه يشدّ القارئ من الغلاف إلى الغلاف.

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القرآن الکریم الذی ی

إقرأ أيضاً:

السفير عبدالله الرحبي: اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان (صور)

نظمت سفارة سلطنة عمان بالقاهرة، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، فعالية ثقافية احتفاءً بالمكانة التاريخية واللغوية لسلطنة عمان في دعم اللغة العربية، وذلك بحضور الأستاذ الدكتور نظير عياد مفتي الديار المصرية والسفير عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق وبعض سفراء الدول.

وألقى السفير العماني عبدالله بن ناصر الرحبي كلمة سلط خلها الضوء على الجوانب الجمالية والابتكارية للغة العربية، مستشهدًا بوصف الأدباء لها كلغة الشعر والإبداع، مشيرًا إلى أن العربية لم تقتصر على المجالات الثقافية بل امتدت لتشمل مجالات العلم والقانون والاجتماع.

وأكد السفير أن اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان، مشيرًا إلى مساهمة أعلام عمانيين مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي، المبرّد، وابن دريد الأزدي في تطويرها، فضلًا عن دور العمانيين في نشر العربية في إفريقيا من خلال اللغة السواحيلية.

وجاءت كلمة السفير العماني عبدالله بن ناصر الرحبي على النحو الآتي:

اللغة العربية مكانتها وفضل الإسلام عليها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين خير من نطق بلغة الضاد، أصدق الناس لسانًا وأفصحهم بيانًا، وأبلغهم كلامًا، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

فمعلوم أن كل أمة من الأمم تفتخر بلغتها وتعتز بها وتعتقد أنها أفضل اللغات، ولا عجب في ذلك، فاللغة هي هوية الأمة وسبيل مجدها وتاريخ حضارتها، كما أنها بالنسبة للأمم جميعًا أداة تواصلها وطريقة تفكيرها، ورمز عزتها، ومصدر فخرها، وأسلوب حياتها، لكنها للأمة العربية كل هذا وتزيد عليه أنها لغة دينه وكتابه، جعل الله فهمها ضرورة وتعلمها شرف، لهذا كان ارتباط المسلم بلغته يختلف عن ارتباط أي إنسان بأية لغة أخرى، إذ لا يستطيع المسلم أن يقرأ كتابه بغير لغته التي نزل بها، كما لا يتأتى له القيام بأداء شعائره وإتمام عباداته بدونها.

فهي وسيلة المسلم لفهم مقاصد النص القرآني ومعانيه وغاياته الكبرى المتمثلة في تلقي الأحكام الشرعية منه، ولذلك استعان العلماء باللغة العربية وفنونها في فهم مراد الله في كتابه والكشف عن أسراره، وتحديد دلالاته.

لهذا نظر إليها العلماء على أنها من الدين حيث إن فهم مراد القرآن والسنة من أوجب الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول ابن فارس عن وجوب تعلم العربية: "إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلم من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لإغناء بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جر وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بدا».

وقال الشاطبي: " لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب".

وعلى هذا يتضح لنا أن معرفة اللغة العربية شرط في فهم القرآن الكريم لأن من رام تفسيره، وسعى إلى الكشف عن مضامينه والوقوف على أسراره وقوانينه، وهو لا يعرف لغته التي نزل بها فإنه لا شك سيقع في الزلل، ولن يخلو قوله من خلل فمن قال أنه يفهم القرآن الكريم دون حاجة إلى اللغة العربية فقد قال محالا وادعى مستحيلا.

وهذا ما يأكده  ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كتب عمر إلى أبي موسى: «أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية وتَمَعدَدُوا فإِنّكم مَعَدِّيُّون ».

وفي أثر آخر عن أبي بن كعب، قال: «تعلموا العربية كما تَعَلَّمُونَ حفظ القرآن»".

كما جاء أيضًا في مصنف ابن أبي شيبة سئلت الحسن فقال ما بلغك ما كتب به عمر أن تعلموا العربية وحسن العبارة وتفقهوا في الدين( )، كما جاء عن جرير بن ثعلبة عنة مقاتل قال: كلام أهل السماء العربية، ثم قرأ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)سورة الدخان.

وهذا الذي أمر به سيدنا عمر رضي الله عنه من فقه العربية، وفقه الشريعة يؤكد على أهمية اللغة العربية ومكانتها من الدين ودورها في فهم حقائقه.

وهذا ما أكده أبو الوليد بن رشد في جواب له عمن قال أنه لا يحتاج إلى لسان العرب، فقال: هذا جاهل فلينصرف عن ذلك، وليتب منه فإنه لا يصح شيئ من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب يقول الله تعالى: "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ". (الشعراء:195).

إلا أن يرى أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤدبه الإمام على ذلك بحسب ما يرى فقد قال عظيمًا".

فهذه الأقوال وغيرها كثير تدل على أن كل من أراد فهم معاني القرآن ومعرفة مراميه، والوقوف على أسراره لابد وأن يكون متمكنًا من اللغة العربية باعتبارها أهم أدوات المفسر للقرآن الكريم.

فاللغة العربية مهمة جدًا للعلوم الشرعية بشكل عام ولعلوم القرآن والتفسير بشكل خاص من ثم أولها العلماء موفور العناية، ومزيد الاهتمام، ولا غرو في ذلك خصوصًا وفضائل القرآن الكريم على العربية أكثر من أن تعد وأعظم من أن تحصى، فقد شاءت إرادة إرادة الله تعالى أن يكون آخر الكتب السماوية نزولا هو القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، هذا اللسان الذي كان العرب ينظمون به أشعارهم، ويلقون به خطبهم، ويكشفون به عن مجدهم، ويقارنون به بينهم وبين غيرهم، فقال تعالى: "إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف:2)، وقال تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ" (النحل - 103)، وقال تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ" (الشعراء)، وقال تعالى: "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ"  (الشورى - 7)، وقال تعالى: "إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (الزخرف - 3).

فهذه النصوص وإن كشفت لنا نزول القرآن باللسان العربي المبين إلا أنه في ذات الوقت تكشف عن فضله على العربية وأصحابها، إذ خص القرآن الكريم دون سواه، وانفرد دون غيره من الكتب المنزلة بالمحافظة على لغته الأصلية، فكان من آثاره عليها: ثبات ألفاظها لاتباط الشريعة وتفاصيلها بها وليس هذا فحسب بل لقد كان القرآن الكريم المصدر الأول الذي انبثقت عنه العلوم الشرعية من تفسير وفقه وحديث وعلومه وقراءات وأصول وعقيدة، كما ارتبطت به كذلك التأسيس لعلوم والوسيلة بأكملها، صحيح كانت العلوم ممتزجة فيما بينها امتزاجًا شديدًا، فلم يكن ثمة تحديد دقيق للأطر أو الدوائر التي يختص بها علم دون الآخر، حيث يجد الباحث فيما يجد علمًا قائمًا بذاته اسمه علم النحو، وعلمًا آخر اسمه علم التفسير، وعلمًا ثالثًا اسمه مصطلح الحديث، ورابع اسمه العقيدة، وخامس اسمه الأصول، وهكذا في سائر العلوم، فحرص العلماء على دراسة اللغة وارتبط بحرصهم على فهم القرآن من جهة ودراسة لغته من جهة أخرى باعتبارها مصدر العقائد والأحكام والتشريعات.

إن مثل هذا يجعلنا نقول: لقد أعطى القرآن الكريم اللغة العربية أكثر من كونها لغة، فقد حافظ عليها بحفظ الله تعالى له، قال تعالى: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9)، فاستمدت منه كمالها وجلالها وجمالها، فكان لها سببا من أسباب السماء     وهذا ما عبر عنه الثعالبي بقوله: " إن من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها وثابر عليها وصرف همَّته إليها".

بجانب هذا فإن اللغة  العربية هي لسان أهل الجنة، وهذا دليل فضل الإسلام على العربية وأهلها، يقول الفارابي الفيلسوف في ذلك: هذا اللسان كلام أهل الجنة، وهو المنزه من بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلى من كل خسيسة، والمهذب مما يستهجن أو يستشنع، فبنى مباني بايَنَ ﺑﻬا جميع اللغات من إعراب أوجده الله له، وتأليف بين حركة وسكون حلاه به، فلم يجمع بين ساكنين أو متحركين متضادين، ولم يلاق بين حرفين لا يأتلفان، ولا يعذب النطق ﺑﻬما، أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة، وحس السمع، كالغين مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المطبق مع غير المطبق، مثل تاء الإفتعال مع الصاد والضاد في أخوات لهما، والواو الساكنة مع الكسرة قبلها والياء الساكنة مع الضمة قبلها، في خلال كثيرة من هذا الشكل لا تحصى.

فاللغة العربية فضلها كبير وشأنها عظيم ويكفي أنها انتقلت من كونها لغة شعب وإقليم إلى لغة كونية حين غدت لغة سماوية، لغة القرآن الكريم، وبالتالي الحامل لعقيدة كونية أعلنت عن نفسها عقيدة للبشر عامة، وهذا ما جعل العربية الحاملة هذه العقيدة، في أقل من قرن، لغة عالمية كبرى تشكلت في أطرها وسياقاتها أسس الحضارة الكونية العظمى التي سادت العالم قرونا عديدة، وامتدت على مساحات شاسعة من قارات العالم القديم، وغدت لغة الحضارة الإنسانية التي انحلت في بوتقتها لغات وحضارات متعددة، وشكلت بالتالي حلقة محورية في الحلقات الحضارية الإنسانية الكبرى.

وقد قدر لها البقاء دون تحريف قبل الإسلام ثم زادها الله تعالى عزة وشرفًا وكرامة بأن اختارها لغة كتابه فحفظت بحفظه ورفع شأنها بسببه.
وبالجملة فإن ظاهرة الامتداد التاريخي غير المنقطع للعربية يعود إلى نقطة التحول الكبرى في تاريخ العرب، التي يمثلها الدين الإسلامي وكتابه المقدس القرآن الكريم الذي غير العالم، وحفظ العربية لغة مقدسة، ولغة حضارة وفكر إنساني.

لقد كان الإسلام نقطة انطلاق للعربية من لغة قومية محصورة في إطار قومي جغرافي محدود إلى لغة عالمية، لغة تجاوزت الأطر الجغرافية والقومية لتغدو لغة حضارة كونية فرضت سيطرتها طيلة قرون عديدة وامتدت على مساحة قارات العالم القديم، تاركة آثارها العميقة على كل الشعوب التي دخلت في الإسلام وتعربت، والتي احتفظت بلغاتها الأصلية، كما هي الحال في اللغة الفارسية والتركية والأردية، ولكنها وقعت تحت تأثير العربية لغة القرآن على نحو كبير، تأثير ظهر في كتابة هذه اللغات بالحروف العربية، وفي تبني عدد كبير من مفرداتها وصورها ومصطلحاتها.

لقد كانت العربية لغة حضارة كونية تأسست انطلاقا من العقيدة الإسلامية وكتابها الكريم الذي يمثل نموذجها الأعلى والذي حفظها حية متجددة، وهي إلى هذا لم تتحول إلى لغة لاهوتية، مثل بعض اللغات الأخرى، بل ظلت عبر القرون لغة الحياة والعلم والفكر الإنساني، وكل هذا يؤكد على فضل الإسلام على العربية وأهلها، الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة التمسك بها، والحفاظ عليها والعمل على استعادة مكانتها خصوصًا مع كثرة التحديات وتعدد المعوقات التي تعمل على وأد اللغة والاستهانة بها والخروج بها والدعوة إلى استبدالها أو العمل على تغييرها أو على الأقل مسخها باعتبار ذلك يؤدي إلى مسخ الهوية، وغياب صورة الشخصية التي كونتها هذه اللغة باستنباط نصوص الدين قرآنًا وسنة.

إن العربية اليوم تعاني ما تعانيه الأمة، ولكنها تملك على الرغم من كل ما أصابها ويصيبها من وهن ومن جناية أبنائها عليها عناصر قوة تمكنها من التجدد والانتشار، لكونها مرتكز العقيدة الإسلامية، ولغة حضارة كونية ما زالت تفرض حضورها في العالم حتى يومنا هذا، ولغة تمتاز بمرونة وقابلية غير محدودة للتعبير عن الفكر والعلم والمعارف الإنسانية. ولو أتيح لها حركة ترجمة مبدعة شبيهة بمثيلتها في القرنين الثالث والرابع الهجريين لكنا اليوم أمام نموذج متفوق للغة تعليم في الجامعات بدلا من استعمال لغة أو لغات أجنبية أو هجينة.

مقالات مشابهة

  • صخر الشارخ.. قصة العربي الذي جعل الحواسيب تتحدث بالعربية
  • الزركلي شاعر سوريا الأكبر الذي مات غريبا عن وطنه
  • مفتي الجمهورية: اللغة العربية تعاني من جناية أهلها عليها
  • احتفالية بالقاهرة تبرز إسهام العمانيين في خدمة اللغة العربية
  • السفير عبدالله الرحبي: اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان (صور)
  • مولوي من السعودية: مصمّمون على أن نخرج إلى لبنان الذي نريده وتريدونه
  • أحمد زعيم.. صوت الإبداع الذي يحلّق في سماء الفن العربي
  • جامعة الفيوم تحتفل باليوم العالمي للغة العربية.. صور
  • كيف اختزلت حادثة ماغديبورغ مدى الاحتقان الطائفي والعرقي والسياسي الذي ينخر في جسد الوطن العربي؟
  • اليمن تشارك فى المسابقات والاحتفالات السنوية للغة العربية فى اليابان