من المنطلقات التي أوردتها في الحلقتين السابقتين فإن وجهة نظري حول الفيلم ستحاول الانكباب على «النُّقطة العمياء» في هذا العمل السِّينمائي «الباهر»؛ إذ أعتقد أن ما ينبغي بحثه هو التَّضمينات السِّياسيَّة للطَّريقة التي يصوِّر -بل حقاً يَنْقُلُ- بها الفيلم لورَنس ومحيطه الجغرافيَّ والإنسانيَّ على نَحْوٍ جنسيٍّ وأيروسيٍّ في خضم التَّجربة الكولونياليَّة والإمبرياليَّة؛ أي أسئلة الهويَّة الخاصَّة بالأنا وبالآخر، والنَّظرة المُحَدِّقة (gaze) التي تلتقط تحولات الرَّغبة المتمخِّضة عن تلك الأسئلة.

وهكذا فإن تجاوز المنطوق الكولونياليِّ/السِّياسيِّ المباشر لنصِّ «لورَنس العرب» السِّينمائي وصولا إلى التَّحبيك (من «الحَبْكَة») المُرَكَّب للنَّص باعتباره تبادلات متداخلة ومعقَّدة للإمبراطوريَّة، والجَنْدَر، والرَّغبة هي ما أنا بصدد محاولة سبر غوره في مسعاي هذا (14).

الجَنْدَر، والأيروسيَّات، وسياسات النَّظرة المُحدِّقة

تلاحظ أيلا شُحْط Ella Shoht أن ميلاد السِّينما قد تزامن مع بلوغ الكولونياليَّة الأوروبيَّة ذروتها في نهاية القرن التَّاسع عشر. وبذلك فإن شُحْط تلفت انتباهنا إلى أن نقد الكولونياليَّة في الدِّراسات السِّينمائيَّة والنَّظريَّة النسويَّة للسِّينما لم يتوصَّل بعدُ إلى تحليل موضوعات الجَنْدَر في سياق «التَّناقضات والتَّساوقات التي تثيرها التَّرتيبات السُّلطويَّة في الحالة الكولونياليَّة، وما بعد الكولونياليَّة». ولذلك فإن شُحْط تقترح دراسة السِّينما الغربيَّة «بوصفها نتاجًا لنظرةٍ مُحَدِّقة غربيَّة مُجَنْدَرَة هي تراكُبٌ انعكاسيٌّ تكافُليٌّ لعلاقات بين النِّظام البطريركيِّ والصِّياغة الكولونياليَّة للاختلاف». تستلهم شُحْط مقولة إدوَارد سعيد: إن «الشَّرق» يُمَثَّلُ بوصفه «أنثى»، فتذهب إلى أن «المهمَّة الأوروبيَّة في حَضْرَنَة (مِن «الحضارة») العالم الثَّالث مُسْقَطَةٌ بوصفها سرديَّات متقابلة ومرتبطة ببعضها البعض في الآن ذاته للاختراق الغربي لمشهديَّةٍ طبيعيَّةٍ عُذْرِيَّة تُراوِد عن نفْسِها، ولكنها تقاوِم الطَّبيعة اللَّبيديَّة بالمعنى الفرويدي للمصطلح » (15). وفي هذا السِّياق فإن السِّينما الغربيَّة، كما في حالة فيلم «لورَنس العرب» تعتمد على شخصَّية «المُسْتكشِف»: «تَحِلُّ الكاميرا محلَّ حركة البطل الدِّيناميكيَّة عبر فضاء سالب وجامد، وبذلك فإن الكاميرا تُعَرِّي الأمكنة من «غموضها» في الوقت الذي يظفر فيه المتفرِّج الغربي بالولوج إلى المفاتن الشَّرقيَّة من خلال عيني المستكشِف - البطل» (16).

وفي الحقيقة فإن فيلم «لورَنس العرب» يُلمِح إلى سؤال النَّظرة المُحَدِّقة فيه بصورةٍ جماليَّةٍ رشيقةٍ في مُفْتَتَحِهِ بلقطةٍ تظهر في نهاية مشهد حادث الدرَّاجة الناريَّة الذي يموت بسببه لورَنس (وأظن أن ذلك واحد من أعظم «المَشاهد التَّأسيسيَّة» establishing scenes في تاريخ السِّينما الحديثة)، حيث إن تلك اللقطة المُقَرَّبة الثَّابتة والطَّويلة long static CU (مدَّتها خمسُ ثوانٍ بالضَّبط) تُرينا نظَّارة لورَنس الواقية متدليَّة من أماليدِ شجرة وهي «تحدِّقُ» في المُشاهِد، إن جاز القول. علاوة على ذلك فإن لقطة النَّظارة الواقية تليها مباشرة لقطة مُقَرَّبة متوسِّطة MCU لتمثالٍ نصفيٍّ للورَنس في بداية المشهد التَّأبيني التِّذكاري في كاتدرائيَّة سانت بول. ومرَّة أخرى فإن تمثال لورَنس النِّصفي «يحدِّقُ» في الجمهور في الوقت الذي تَزُومُ فيه الكاميرا (zoom out) مبتعدةً ببطء، خالقةً بذلك انطباعًا بنظرة تَدَرُّجيَّة، مُتَفَحِّصة، اختراقيَّة، وكاسحة.

إنني إنَّما أقترحُ، في هذا الإطار النَّظري، قراءة فيلم «لورَنس العرب» باعتباره مثالاً نموذجيَّا لِجَنْدَرَةِ النَّظرة المُحَدِّقة الغربيَّة. وبصورة خاصَّة فإن الفيلم يُبرهن لنا على الكيفيَّة التي تقطع دروبها هكذا نظرة الحدودِ الجَنْدَرِيَّة في الوقت الذي تتمسَّك فيه بهيمنةٍ ثقافيَّة أوروبيَّة سرديَّة (في موازاة للهيمنة السِّياسيَّة). ما أعنيه بذلك أن نقاشا حول هويَّة لورَنس الجنسيَّة الملتبِسَة إنما يسلطُّ الضَّوء على الأساسات الأيروسيَّة المِثليَّة، والسادو-- مازوشيَّة التي تحكم صُوَر انتقالات التَّمثيلات الجَنْدَرِيَّة، هذا وإن كان الفيلم، في نهاية المطاف، ينحاز لرؤيةٍ ذكوريَّة للرَّغبة. هذا التَّفاعل هو إسهام سينمائيٌّ في كتابة الإمبراطوريَّة باعتبارها ممارسة ومؤسَّسة نصيَّة للرَّغبة بوصفها تشكيلا أوديبيَّا إلى حدٍّ بعيد.

تلائمنا وتفيدنا هنا محاججة لورا مَلْفي Laura Mulvey في بحثها الأكاديمي المُعَمَّد «اللذَّة البصريَّة والسِّينما الرّوائيَّة» في فهم الدَّور الذي تلعبه النَّظرة المُحَدِّقة والعلاقة بالذَّات الأوديبيَّة في مقاربة فيلم «لورَنس العرب» (17). تقول مَلْفي إن لاوعي المُشاهد واقع تحت تأثير النِّظام البطريركي المُسيطِر. وهكذا فإن السَّرد السِّينمائي ينحاز إلى الذُّكور من الجمهور عبر منحهم متعة النَّظر (scopophilia) التي تُشَيِّئُ إناث الشَّاشة باعتبارهن «صورًا موضوعة للنَّظر» بغرض التَّأثير الأيروسي. لذلك فإن ملفي تحدِّد ثلاثة أنواع من النَّظرة المُحَدِّقة: نظرة الشخصيَّة الذَّكر إلى الشَّخصية الأنثى في الفيلم، ونظرة الذُّكور من الجمهور إلى الشخصيِّات الإناث في الفيلم، ونظرة الكاميرا التي تَخلِقُ الجمهور المُذَكْرَن (من الذُّكوريَّة). لكن إصرار مَلْفي على الطَّبيعة الذُّكوريَّة للنَّظرة المُحَدِّقة السِّينمائيَّة قد تُحُدِّيَ واختُلِفَ معه بصورة جريئة؛ فعلى سبيل المثال يحاجج ستيف كوهِن Steve Cohen في تحليله لفيلم «نُزهةٌ ووجبَة» (Picnic) من إخراج جوشوا لوغَن Joshua Logan (الولايات المتَّحدة، 1955) أن «الفيلم يبوح بصورة خاصَّة... بمثال على استثمار سينما هوليوود في إبهاريَّة (spectacle) جسد الذَّكر؛ فالفيلم... مُجَيَّرٌ في مَن يتوجَّه إليه من جمهور، وفي سرده، حول أسئلة النَّظر إلى جسد البطل الذَّكر» (18).

--------------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقتين السَّابقتين:

(14): من المثير للاهتمام حقَّاً أنّ النَّقد السينمائي العربي لهذا لفيلم، حتى بعد مضي أكثر من نصف قرن على إنتاجه، لا يزال أسيراً مُمَغْنَطاً للانطباعيَّة الصحفيَّة المنبهرة، والانخطاف السَّاذج بـ«الطريقة الرائعة»، و«المشاهد المذهلة»، و«الانتقالات الجميلة» التي صُوِّرت بها الصحراء العربيَّة في الفيلم، وذلك من دون محاولة النّفاذ إلى نقد سينمائي أعمق يخص تمثيلات الذَّات، والهويَّة، والتاريخ، والمصير (وإني أعتبرُ هذا من الأعراض المؤسفة لحال النقد السينمائي العربي الإنشائي). ولا شك أن طريقة تعاطي النَّقد السِّينمائي العربي مع الفيلم تتطلَّب وقفة مستقلَّة سواء من جهة غيري أو من جهتي.

(15): Ella Shohat, Gender and Culture of Empire: Toward a Feminist Ethnography of the Cinema in Visions of the East: Orientalism in Film, ed. Matthew Bernstein and Gaylyn Studlar (New Brunswick, N. J., Rutgers University Press, 1997), 19, 20.

(16): نفس المصدر السَّابق، 27.

(17): Laura Mulvey, Visual Pleasure and Narrative Cinema in Feminism and Film Theory, ed. Constance Penley (New York: Routledge, 1988), 57-68.

(18): Steve Cohen, Masquerading as the American Male in the Fifties: Picnic, William Holden and the Spectacle in Hollywood Film Camera Obscura 25-26 (1991): 44.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الج ن د ر التی ت

إقرأ أيضاً:

توثيق صادق للأدوار الثقافية والتاريخية لـ"الطائيين" في عُمان وبلاد العرب


 

◄ سلمى البطاشية: "الطائيون في عُمان وبلاد العرب" بدأ من وثيقة أملاها عليَّ والدي تلبية لطلب الشيخ حمد الطائي

◄ الشاعر سماء عيسى: أبناء قبلية طيّ نزحوا إلى السواحل واستقروا بها

◄ د. حميد النوفلي: الكتاب عمل موسوعي يتتبع أعلام قبيلة طي بشكل أفقي

◄ د. مجاهد عبد الله: الباحثة أماطت اللثام عن مآثر قبيلة طيّ الحيّة بيننا بأعلامها وأمجادها

◄ د. غالية عيسى: البحث التاريخي والموسوعي ضروري لترسيخ الهوية وتمتين الوحدة الوطنية

 

الرؤية- ناصر أبوعون

تصوير/ راشد الكندي

احتضن معرض مسقط الدولي للكتاب مساء الأربعاء نقاشًا أكاديميًا مُثريًا، حول كتاب "الطائيون في عُمان وبلاد العرب.. الجاهليون والصحابة والتابعون والعلماء والأمراء"، للباحثة والمُحقِّقة سلمى بنت سيف بن حمود البطاشية، وذلك ضمن الفعاليات الرسمية للمعرض في دورته التَّاسعة والعشرين.


 

وأدارت الندوة الدكتورة غالية بنت عيسى الزبيدية، وبدأت حديثها بالقراءة من افتتاحية الكتاب والتي جاءت تحت عنوان: "قول على قول" كتبها حاتم بن حمد الطائي رئيس تحرير جريدة الرؤية، والتي يقول فيها: "حتى لا نفقد البوصلة نحو العُلا، حتى ننجو من آفة النسيان، حتى نكون أوفياء وأبناء بررة. إلى الأجيال الصاعدة هذه سيرة أجدادكم محفورة في سطور من نور في جبين التاريخ سيرة نضرة ومسيرة عطره وقدوات نستلهم منها عبق التاريخ ونستضيء بها في دروب الحياة سائرين على هداهم إلى المستقبل بخطىً واثقة ورؤىً ثاقبة".. هذه شذرات الإهداء الذي تصدر صفحات الكتاب وأنار للقارئ أهمية هذا الكتاب وهدفه كمشروع وطني أريدَ به إضاءة أفق الأجيال القادمة وهديهم إلى تاريخ أجدادهم.. ثم تأتي فصول الكتاب تحت عناوين كثيرة تضمنت مسيرة الطائيين في سلطنة عُمان وبلاد العرب في مراحلٍ وأمصارٍ مختلفة التي أبرزها الكتاب وسلّطت البطاشية عليها الضوء، وناقشت دورهم السياسي والثقافي في عُمان وبلاد العرب.


 

وقالت: "لأن البحث التاريخيّ والموسوعي ضروري لترسيخ الهويّة وتمتين الوحدة الوطنية نأمل أن نستمع ونناقش تفاصيلٍ متخصصةٍ وأكثر دقةٍ سيقدمها الأساتذة الباحثون الأجلاء ضيوف هذه الندوة من خلال قراءاتهم لفصول وصفحات هذا الكتاب للوقوف على دوره المهم في إثراء المكتبة الإسلامية والعُمانية والعربيّة".

الشرارة الأولى لفكرة الكتاب

وعن بداية ظهور فكرة كتاب "الطائيون في عُمان وبلاد العرب"، قالت سلمى بنت سيف البطاشية إن فكرة هذا الكتاب انطلقت في بداياتها من رغبة حقيقية في تتبع تأريخ عائلة الطائي في عُمان، والبحث في أصولها العريقة، وأعلامها البارزين، وأماكن تواجدهم ومواقع انتشارهم عبر محطات التأريخ، سواء أكان ذلك داخل عُمان أو خارجها. وأضافت: "انطلقت الشرارة الأولى لهذا العمل البحثي مع ذكرى عزيزة على قلبي وتركت أثرا بالغا في نفسي حين أملى علَيَّ والدي وسيدي فضيلة الشيخ القاضي سيف بن حمود بن حامد البطاشي وثيقة خططتها بيدي استجابة لإملائه، نزولا عند طلب أخيه وصديقه الشيخ حمد بن عيسى الطائي- رحمهما الله؛ حيث جمع فيها معلومات عن عائلة الطائي وأسباب تسميتهم وهجرتهم وأعلامهم؛ فكانت تلك الوثيقة هي النواة الأولى التي دفعتني للبحث والتقصِّي، وحين فرغت من توثيق ما تيسر عن عائلة الطائي في عُمان ودولة الإمارات، دفعني الحرص على استكمال الصورة إلى البحث عن امتداد العائلة في شرق أفريقيا؛ حيث قادتني الخيوط التأريخية والروابط العائلية إلى مواطن حضورهم هناك، فكان ذلك خطوة أساسية ومهمة لإكمال جوانب هذا التوثيق، ومن هناك انتقلت إلى مرحلة جديدة، حيث بدأت الكتابة عن الطائيين في عُمان، مستعرضة نماذج مشرقة من أعلامهم، عبر قرون التأريخ منذ العصر الجاهلي وصدر الإسلام وجمعتُ سيرهم الذاتية والعلمية من بطون القواميس والمخطوطات منذ أيام العصر الجاهلي وصدر الإسلام والخلافتين الأموية والعباسية، وصولا إلى عصر الدويلات والإمارات التي تناثرت في شتى الأصقاع والبلدان، وركزتُ في البحث عن الصحابة والتابعين منهم والشعراء، والذين تولوا الإمارة والقضاء وفي مقدمتهم الصحابي الجليل مازن بن غضوبة الطائي، لتتوالى بعده سِيَر شخصيات طائيّة تركت بصماتها في مختلف المجالات، ومن هنا بدأ هذا العمل يتوسع، حتى اكتمل واتخذ شكله النهائي".


 

ومضت البطاشيّة تقول "أود في هذا المقام أن أتوقف عند جانب بالغ الأهمية في هذا الكتاب الموسوعي، وهو الوثائق التأريخية التي استندتُ إليها في بناء مادته؛ حيث لا يمكن الحديث عن هذا العمل الذي استغرق سنوات عديدة دون التطرق إلى الوثائق العُمانية الخاصة التي منحته ميزة استثنائية والتي يظهر بعضها للمرة الأولى إلى العلن. وقد تنوعت مصادر هذه الوثائق بين ما هو محفوظ في مكتبة والدي- رحمه الله- والتي قد اطلع عليها الشيخ حمد بن عيسى الطائي- غفر الله له- وقد أهداه والدي نُسَخًا منها قبل وفاتهما بفترة قصيرة، ووثائق أخرى حصلت عليها تصويرًا من هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، إلى جانب ما حصلت عليه بالمراسلات البريدية والشخصية مع الطائيين القاطنين في شرق أفريقيا عبر التواصل مع أبناء العائلة هناك".

ملاحظات أولية

وبدأ الشاعر سماء عيسى حديثه عن الكتاب بالقول: "لا بُد من الإشارة في عجالة إلى المعلومات عن قبائل الطائيين العُمانية الواردة في كتاب الباحثة؛ حيث إن هناك نقصًا واضحًا في ذكر بعض القبائل والبطون التي تنتمي إلى قبلية طيّ مثل المطاريش والنباهنة وغيرهم". وأضاف عيسى: "أعتقدُ أن علماء الأنساب في عُمان هم الأقرب إلى دراسة تاريخ القبائل، وخاصةً في الرد على كثير مما ورد في الكتاب عن تاريخ ونشأة القبائل العُمانية؛ فالموضوع ليس بالسهولة العابرة، لأنه يمُس صميم التنوع الجغرافي والعرقي والنسبي لدى العُمانيين". وأوضح عيسى أن والد الباحثة قد أحدث خلافًا بين سائر المورخين السابقين والمحدثين؛ حيث أكد أن القبر الذي يظن البعض أنه للصحابي مازن بن غضوبة في عُمان بولاية سمائل ربما يكون لشخص آخر، وقد أيد رأي ابن الأثير وغيره أن مازن بن غضوبة وصالح بن المتوكل قُتلا شهيدين في بردع بأذربيجان، ويُستنتج من ذلك أن قبر مازن ربما يعود لأحد أقاربه أو صحابي آخر، وربما القبر يعود إلى اثنين من نباهنة طيّ، وهما الدقدقان الشهيران تاريخيًا.


 

وتابع الشاعر سماء عيسى قائلًا: "نعود إلى قضية أخرى وهي تبرير وجود قبائل طيّ في المناطق الساحلية، وهو تفسير أوَّلي لعدم مشاركة الطائيين في أحداث عُمان السياسية، وخاصة التي رافقت نشأة دولة النباهنة، والسبب في وصول طيّ متأخرة إلى عُمان بعد الأزد، أما قبيلة بني بطَّاش فهؤلاء وصلوا إلى عُمان مع نشأة دولة بني رسول، بعد مراحل طويلة من دخول الأزد والطائيين".

كما أثار سماء عيسى قضية أخرى وهي أن أفراد قبيلة طيّ نزحوا إلى السواحل واستقروا بها، وأن ظهور نوابغهم في عُمان كان متأخرًا عن قبائل الرحلة الأولى التي قام بها الأزد، وكانوا بمنأى عن الصراعات السياسية". ولفت عيسى إلى أن التحالف بين طيّ وبني بطاش، كان في حقيقته تحالفًا سياسيًا وليس نَسَبِيًّا، مشيرًا إلى أن الباحثة لم تقدم ما يدل على القرابة النَسَبِيّة، وأغلب الظن أن أجداد بني بطاش ليسوا طائيين، وإنما العلاقة بينهما هي في صميمها علاقة تحالفات سياسية لا سواها.

وسلط سماء عيسى الضوء على قضية أخرى، وهي أن المتأخرين من الطائيين ومنهم الشيخ زاهر الطيواني كان من أوائل المهاجرين إلى أفريقيا، نتيجة العصبية القبيلة التي حدثت في نزوى، وترك عُمان وسافر إلى شرق أفريقيا، في الجزيرة الخضراء؛ حيث تُورِد الباحثة سجلًا حافلًا لعدد من كُتبه المنسوخة، دون أن نعلم ما إذا ترك مؤلفات أم لا. وذكر عيسى نموذجًا آخرَ وهو الشيخ حمد بن سعيد بن عامر الطيواني الذي جاء لمسقط تاركًا نزوى لأسباب تتعلق بالفتنة القبلية، واستقر في بوشر ودرّس وعلَّم الكثيرين من رجال دولة الإمام عزان بن قيس.

عمل موسوعي وجهد علمي

وقدم الدكتور حميد النوفلي في مداخلته قراءةً متأنيةً تناول فيها بشيء من التحليل المُعمَّق الحديث عن الكاتبة وعن أبيها وجهوده العلمية المعروفة، فهو العالم والمؤرخ والفقيه والنسابة، والذي يعد من رجالات العلم ومن المشتغلين بالتاريخ وأهل الأنساب في عُمان في العصر الحديث، ونتاجه المعرفي يشهد على ذلك. كما تبرز هذه الورقة البحثية العلاقة العلمية بين الكاتبة وأبيهما ومدى تأثر منهجها العلمي بمنهج والدها في دلالة واضحة على أنها كانت تأخذ العلم عنه حتى تمكنت من الصنعة وقدمت كتابات مهمة بأسلوب رصين. وأشار إلى أن هذه الصورة تعيدنا إلى دور المرأة في الحركة العلمية عبر العصور، والتي تتشابه فيما بينها إلى حد كبير؛ حيث تقوم المرأة بالتأليف والنسخ وكتابة ما يملي عليها المؤلف؛ سواء كان زوجها أو أبيها أو غير ذلك. وقال: "بهذا الجهد العلمي تُقدِّم لنا البطاشية نموذجًا عصريًا لهذا الصنف من النساء الرائدات، فكانت تكتب ما يُملي عليها والدها كما صرحت بذلك كما في قولها: "كتبتُه عن إملاء الوالد سيف بن حمود البطاشي". وعند الحديث عن الكاتبة كان لزامًا الإشارة إلى مؤلفاتها بالضرورة لبيان ثمرة جهدها في ميدان الكتابة والتأليف.


 

وأضاف النوفليّ أنّ الكتاب عمل موسوعي يتتبع أعلام قبيلة طئ بشكل أفقي من خلال تتبع انتشارهم في البلاد العربية وهجراتهم المختلفة، ورأسي عبر تسليط الضوء عليهم في مراحل التاريخ المختلفة بدءًا من العصر الجاهلي وصولًا إلى يومنا هذا.. واختتم النوفلي ورقته بذكر بعض الملاحظات على الكتاب، مثمنًا للباحثة جهدها الكبير في إنتاج معرفة جديدة وتقديمها للمكتبة العُمانية والعربية على حد سواء.

معجم لأعلام قحاح ورجال صحاح

وتحدث الدكتور مجاهد عبد الله من جامعة الأزهر، فقال إن البوصلة العلمية التي أمسكت بها الباحثة سلمى بنت سيف بن حمود البطاشية لم تفقد اتجاهها حين وجهتها في هذا المعجم القبلي النَسَبي الذي ترجمت فيه زهاء 500 شخصية من أعلام قبيلة طيّ ورجالها.

وأكد الدكتور مجاهد في معرض حديثه أنّ هذا المعجم ضم بين دفتيه تاريخ الأقدمين والمحدثين من أمة العرب وشرقًا غربا، لأمة حاضرها ميت وماضيها حيّ، حيث جالت الباحثة وصالت في جنيات بيوت العرب ومواطنهم في قبيلة طي، فكشفت المستور وأباح المحظور عن قبيلة عظيمة هي حيَّة بيننا بأمجادها وأعلامها.


 

وأكد في مناقشته أنّ قبيلة طيّ لها في تاريخ العرب أمجاد وفي حاضرهم مفاخر وآماد، فمنهم الصحابة والتابعون والنحويون والمحدثون والقراء والشعراء أهل الكرم والشجاعة، وأصحاب المجد وأشياعه، نساء ورجالًا حكامًا وأمراءً.. فكم في قبيلة طيّ من شخصيات ورموز أوقفتني وجعلتني لا أمر عابرًا ولا أرحل مسرعًا، وكأن الاستاذة سلمى بنت سيف بن حمود البطاشية أرادت أن تفاخر بهم العرب، كما فاخر الشاعر الفرزدق بنسبه أمام جرير حين قال أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع.. نعم، إنها سلسلة طيبة وأجيال متتالية، كلما قابلتُ نجمًا علمًا تبعه نجم ومن ورائه شموس وطلوع، وأعلام قحاح ورجال صحاح؛ إنها قبيلة طي والتي لها في عُمان وغيرها من بلاد العرب أصول وفروع من البطاشيين والحواسنة وغيرهم، قد سبروا أغوار الزمان، وجالوا فيه وصالوا علمًا وأدبًا وحكمة وحكما.. فمن جاهلية عربية كريمة؛ حاتم بن عبد الله الطائي الجواد الفارس، والد سفانة التي كانت قدمَ خير على أهلها بدخولهم في الإسلام، ومن الصحابة عديّ بن حاتم الطائي صاحب رسول الله أجود العرب وأعقلهم، وزيد الخيل الذي أسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) زيد الخير، ومن التابعين رافع بن عمرو السنبسي الطائي أصل الطائيين في مصر في مدينة السنطة بمحافظة الغربية (شمال مصر) وغيرهم في صعيد مصر جنوبًا. ومن وجهائهم الصحابي الجليل مازن بن غضوبة أوَّل من أسلم من أهل عُمان؛ فأرشدهم إلى الحق وهداهم، فضلًا عن غيرهم من المحدثين والفقهاء والزهاد والنحويين كابن مالك النحوي صاحب الألفية، والشعراء كالبحتري وصفيّ الدين الحليّ صاحب القصيدة البديعية في مدح الرسول وهو صاحب القول:

لما رأيت بني الزمان وما بهم // خلٌّ وفيٌّ للشدائد أصطفي

يقنت أن المستحيل ثلاثة // الغول والعنقاء والخل الوفي.

وأثنى د. مجاهد على الجهد العلمي الذي بذلته الباحثة سلمى البطاشية وذكر أنها قامت بعمل معجميّ قبليّ تجلّت فيه رصانة البحث العلمي والجهد المبذول المشكور عليه من الباحثة الرصينة سليلة بيت العلم وربيبة فنون الحكمة وأصول التاريخ ورصانة القضاء. أشكر الباحثة على جهدها المضنى وعملها الشاق الذي بذلته بتسليطها الضوء على أعلام هذه القبيلة الغراء وأعلامها العظماء، قبيلة طي معدن العرب وأصلهم ومشربهم ورفدهم.



 

مقالات مشابهة

  • المقاولون العرب يحدد سعر بيع حارسه بعد اهتمام الأهلي وبيراميدز
  • تعاون بين «سيدات أعمال الفجيرة» واتحاد المستثمرات العرب
  • “المدينة الآثمة”للكتور الوليد مادبو: حين يتحوّل الستر إلى قمع، والرغبة إلى جريمة
  • توثيق صادق للأدوار الثقافية والتاريخية لـ"الطائيين" في عُمان وبلاد العرب
  • ناصر ماهر ينتظم بمران الزمالك الختامي
  • هدايا تقدمها السفن لشط العرب
  • من لبنان.. رسالة من وزيرة إلى السياح العرب
  • موعد مباراة الزمالك والمصري في الدوري الممتاز
  • بوقرة: “كأس العرب لن تعرف مشاركة أي لاعب من المنتخب الأول”
  • طارق السكتيوي يقود المنتخب المغربي في كأس العرب المقبلة بقطر