«لقد كان رجلًا موهوبًا، مصيره مؤلم».. هكذا عرّف الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى ٢٤ أغسطس ٢٠٢٣، يفجينى بريجوجين عندما تذكره.. بعد شهرين بالضبط من زحفه إلى موسكو أخذت القصة الإنسانية ليفجينى بريجوجين نهاية مأساوية.. لقد اختفت الشخصية الروسية شبه الأسطورية، والتى دخلت التاريخ لمحاولتها «غير التقليدية» للوصول إلى السلطة فى روسيا، فى ٢٣ أغسطس الماضى.


نهاية حقبة فى روسيا؟
تذكر قصة المغامر الروسى بريجوجين، فى بعض النواحى، بشخصية فيلم ستانلى كوبريك الشهير: بارى ليندون، الذى يحكى قصة الصعود الاجتماعى لرجل أعمال إنجليزى من القرن الثامن عشر جاء من وسط شعبى متواضع للغاية وغامر ببناء شخصيته حيث كان يعتبر «ظلا حقيقيا» لبوتين وسلطته وتجاربه السياسية المبكرة التى يواصل تنفيذها حتى وقت قريب. لقد تم تكوينه فى الواقع بالتعاون مع المافيا الروسية الناشئة (الثمانينيات والتسعينيات) وكان رئيسها الفعلى وزعيمها فى سان بطرسبرج.. إنه رجل بألف وجه، انتقل بسهولة من المطاعم إلى المؤسسات العسكرية والسياسية، حتى أنه أحرق نفسه، مثل بروميثيوس أو إيكاروس الحديث (شخصيات من الأساطير اليونانية) من خلال تحدى القيصر الحاكم فى الكرملين، والسفر إلى موسكو.. هذا التحدى غير المسبوق، الذى لا يمكن العثور على معادل له إلا فى العصور الوسطى الروسية البعيدة، فى زمن إمارة كييف، انتهى بانتصار آخر لبوتين، الذى يبرز الآن باعتباره إيفان الرهيب المعاصر (القيصر إيفان) الملقب بالرهيب لشراسته فى عصر النهضة). وبالتالى فإن نهاية بريجوجين أعادت التأكيد على السلطة الوطنية المركزية الروسية ووضعت بوتين على مسار الاستمرار وحتى التغلب على سيادة حكم ستالين غير المقسم، والذى ظل فى مكانه لمدة ٣١ عامًا، مع العلم أن بوتين فى طليعة السلطة منذ عام ١٩٩٩، ولمدة ٢٤ عاما.
شهر أغسطس.. «شهر الإنجازات» بالنسبة لموسكو 
قبل سنوات عديدة، فى روسيا، فى ١٩ أغسطس ١٩٩١، فى منتصف العطلة الصيفية وفى هدوء واضح للهدنة السياسية، كانت هناك محاولة انقلاب ضد ميخائيل جورباتشوف، الزعيم السوفيتى الشهير ومؤلف كتابى البيريسترويكا والجلاسنوست. وقد وصف المؤرخون فيما بعد محاولة الانقلاب عام ١٩٩١ باسم «انقلاب أغسطس». ومن بين المتآمرين فى الانقلاب الفاشل، الذى نظمه جينادى جاناييف فى ذلك الوقت، الجنرال سوروفيخين الذى أطيح به مؤخرًا من قبل المؤسسة الروسية. والجدير بالذكر أن محاولة الانقلاب التى قام بها بريجوجين حدثت خلال فصل الصيف، فى ٢٤ يونيو، إلا أنه يبدو أن تصفية الحسابات فى موسكو ستكون أيضا خلال شهور الصيف.
دعونا نضيف تفصيلة أخرى مهمة حول الوضع الذى كان سائدًا فى موسكو فى أغسطس ٢٠٢٣: بعد أشهر من التكهنات حول مصير الجنرال الانقلابى الذى تحدثنا عنه، سوروفيخين، الوحيد الذى تحدث لصالح بريجوجين فى يونيو.. وبسبب ذلك فى ٢٢ أغسطس، فإن هذا الجنرال - الذى شارك فى محاولة الانقلاب عام ١٩٩١ - تم استبداله فجأة حيث أعلنت وكالة ريا نوفوستى، أن فيكتور أزفالوف رئيس أركان قوات الطيران الروسية تسلم منصبه الجديد كقائد لشركات الطيران الروسية.. كان ينبغى لهذه الأخبار أن تبدو وكأنها دعوة للاستيقاظ لهذا القائد العسكرى الروسى، لكن بريجوجين فضل العودة إلى موسكو على الرغم من المخاطر، وهذه المرة بالطائرة وبالتالى التضحية بحكم الأمر الواقع بنفسه من أجل قضيته «الثورية» التى زعزعت الاستقرار وأحدثت ثورة ضد «الوضع الراهن البوتيني».
بعض المصادفات المهمة
يُكتب التاريخ عن بعد، حتى لو حدث ذلك فى الحياة اليومية: فالحادث أو الهجوم الذى قضى على بريجوجين وموظفى ميليشيا فاجنر التابعة له، حدث بشكل موضوعى فى ظل وجود مصادفات كبيرة:
١- ٢٣ أغسطس، يوم الوفاة المأساوية لرجل الأعمال الروسى بريجوجين، هو يوم العلم الروسى الوطنى فى روسيا: صدفة غريبة لزعيم ميليشيا اتهمه رئيس الكرملين بالخيانة.
٢- تقع مدينة تفير (كوزنكينو) على بعد حوالى ٣٠٠ كيلومتر شمال غرب موسكو، وتم إيقاف مسيرة فاجنر إلى موسكو على بعد ٣٠٠ كيلومتر جنوب غرب موسكو، وكأنها للتأكيد على رسالة من القوة الروسية تؤكد أن: «بريجوجين لا يعتبر رجل يوليوس قيصر الجديد ولا يستطيع عبور «الروبيكون» لغزو موسكو». دعونا نتذكر هنا أنه قبل ٢٠٠٠ عام فى روما القديمة، أصبح الجنرال الرومانى يوليوس قيصر ديكتاتورًا رومانيًا وحقق تقدما عسكريا نحو روما بعد عبور حدود الـ «روبيكون» الممنوعة. وفى الواقع، لم يكن خطأ بريجوجين القاتل الحقيقى هو هزيمة موسكو بالسلاح، حتى لو كان صحيحًا أنه لا يمكن لأى زعيم أن يصبح نابليون أو يوليوس قيصر، وذلك على الرغم من محاولته حتى النهاية تنفيذ خطته الانقلابية المفترضة، بهذه الطريقة. وفى عام ١٩٩١، كان من الممكن أن يصطدم بالجيش الروسى، وربما لا يعد فعالًا فى أوكرانيا، لكنه قوى بما يكفى للسيطرة بشكل صحيح على ملف الدفاع عن موسكو عسكريًا.
٣- رمز مدينة تفير هو التاج الموضوع على الطاولة.. مرة أخرى تقريبًا وكأن ذلك يعد إشارة إلى أن السلطة كانت فى متناول بريجوجين لكنه لن يتمكن من تحقيقها أبدًا.
٤- كانت مدينة تفير تسمى كالينين خلال الحقبة السوفيتية، تكريما للرئيس الروسى الذى يحمل نفس الاسم، والذى يعتبره المؤرخون ظلًا لستالين وذا وزن سياسى قليل. حتى عام ١٩٩٠، كانت المدينة تحمل نفس اسم كالينينجراد، الجيب الروسى فى أوروبا الشرقية والذى كان، ممر سووالكى، موضوع التحدى الأوروبى الأخير لعائلة فاجنر، وهو التسلل إلى بولندا وكما قال الرئيس البولندى دودا إنه يخشى توغل ميليشيا فاجنر فى بولندا المتمركزة فى بيلاروسيا على الحدود.
٥- كان يوم ٢٣ أغسطس أيضًا يوم انعقاد قمة مجموعة البريكس، فى جنوب أفريقيا، وهى القمة التى لم تتمكن روسيا من تقديمها للعالم بانقسامات داخلية قوية - حقيقية أو مفترضة - ولا بقوة مركزية ضعيفة وغير مؤكدة.
وبالتالى فإن نهاية بريجوجين أصبحت مفيدة للغاية فى هذا اليوم من أجل تأكيد صلابة القوة الروسية، سواء على المستوى الوطنى أو على مستوى العلاقات الدولية والعالمية. وهكذا أصبحت النهاية العنيفة لزعيم ميليشيا فاجنر (التى لا يتحمل أعضاؤها مسئولية «سوء السلوك الخطير»، والذين تم دمجهم فى الحرس الوطنى والجيش منذ نهاية أغسطس ٢٠٢٣) «بطاقة اتصال» للقوة الروسية.. لقد كانت قمة جوهانسبرج بمثابة توقيع دموى على «خيانة» افتراضية، والتى كانت فى واقع الأمر لعبة قوة أو لعبة «حيل» قام بها شخص من حاشية بوتين ولا ينبغى أن تمر دون عقاب.
٦- من المفارقات أن بريجوجين أصبح بطلًا قوميًا عن غير قصد، سواء فى الكفاح ضد بوتين أو ضد الاستبداد فى روسيا ثم الكفاح ضد الاستعمار الغربى الجديد فى أفريقيا: حتى فى رسالته الأخيرة بالفيديو من مالى، وهى دولة ما بعد الاستعمار ذات أبعاد جيوسياسية فرنسية قوية. أطلق بريجوجين «نداء إلى جميع الشعوب والدول الأفريقية»، قبل أيام فقط من قمة البريكس فى جنوب أفريقيا، وحث الأفارقة على الوقوف إلى جانب فاجنر وروسيا العظمى الجديدة، ضد الغربيين ومن أجل حرية أفريقيا.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد واجه زعيم عائلة فاجنر فى صدفة قاتلة - نفس مصير إنريكو ماتى، الرئيس الإيطالى البطل لشركة إينى، الذى تم القضاء عليه بهجوم على طائرته فى ٢٧ أكتوبر ١٩٦٢، وربما وقعت هذه الحادثة آنذاك بالتنسيق بين أجهزة المخابرات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، بما يخدم المصالح المشتركة لشركات النفط الإنجليزية والفرنسية والأنجلو أمريكية التى «سُرقت» منها فرص وموارد السوق فى أفريقيا، وذلك لأن هذه الشركة عرضت على تلك البلدان المنتجة للبترول ومشتقاته - وخاصة الأفريقية منها - سياسة تحقيق المكاسب للطرفين المتعاقدين فى إطار الاتفاقيات التجارية. 
أعداء آخرون غير بوتين؟
ربما كان لدى بريجوزين أعداء آخرون، إلى جانب الكرملين والأوكرانيين: فقد وضع يديه بالفعل على رواسب اليورانيوم الفرنسية فى النيجر وغيرها من الموارد التى تطمع فيها الدول الغربية، وبالتالى أدار عددًا كبيرًا جدًا من التبادلات ومناجم الماس والذهب والنفط، التى كانت تسيطر عليها بشكل متزايد. ويحميها رجال ميليشيات مجموعة فاجنر. وربما باقتراحه طرد «المستغلين» الغربيين من أفريقيا، فقد تعارض ذلك مع مصالح عالمية أكبر وأشرس من مصالح منافسيه فى روسيا.. وكما يحدث دائما فى مثل هذه الحالات، طغت قضايا المصالح الدولية السياسية والعسكرية والمالية بعيدا عن القوة الناشئة لفاجنر فى أفريقيا.. وأخيرا، كان بريجوجين يقاتل ضد الجهاديين فى أفريقيا: ليس هناك شك فى أن القادة الاقتصاديين والماليين للجماعات الأصولية والجهادية قد فتحوا الشمبانيا (ربما كانوا يتناولونها فى السر) فى الخليج العربى الفارسى احتفالا باختفائه.
عواقب نهاية بريجوجين


فى الوقت الذى يفكر العالم فى مصير ميليشيا فاجنر العالمية يظهر لنا ثلاثة بدائل حقيقية:
١- التكامل التام وإعادة التطبيع غير المحتملة داخل الجيش الروسى وفى الحرس الوطنى (وهو ما بدأ بالفعل جزئيًا بالنسبة للعناصر الأقل «خطورة» على الكرملين من فاجنر).
٢- تحول عائلة فاجنر إلى المعادل الغربى للجهاديين، أى إلى كتلة من الإرهابيين المرتزقة العالميين، الذين يتم إعادة تدويرهم لخدمة المافيا والقوى المالية المستمدة، وليس بالضرورة الروسية علاوة على ذلك، لأنه فى بعض الأحيان حتى الأوروبيين أو الأفارقة.
٣- ثورة جديدة لقادة فاجنر فى بيلاروسيا أو روسيا، الذين سيحاولون الإطاحة بعقيدة السلطة المطلقة لبوتين.
ومن الواضح أنه فى أفريقيا، ومن بين العواقب المترتبة على تشتت مجموعة فاجنر، سيكون هناك حتما تقدم جديد فى حرب العصابات الإسلامية، مع خطر وقوع النيجر مباشرة تحت سطوة دولة شمولية جديدة فى حال تقدم الجهاديين.. أما فى أوروبا، أصبح لدى أوكرانيا وبولندا الآن عدو واحد أقل رسميًا، فى غياب قوات فاجنر؛ إذا تم تدمير الميليشيات أو استيعابها من قبل جيوش الكرملين؛ فإن ذلك يمكنهم من «التنفيس عن غضبهم» من خلال مهاجمة أوكرانيا أو باستفزاز بولندا من خلال القواعد العسكرية فى بيلاروسيا. ومن ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل واقع حقيقى فى جميع الإمبراطوريات التاريخية، القديمة أو الحديثة، لعب البريتوريون، أى الميليشيا، دائمًا دورًا مهمًا فى تحديد توازن القوى. وبالتالى، يمكن استخدام رجال الميليشيات التابعين لمجموعة فاجنر مرة أخرى، هنا وهناك، ولا سيما من قبل جزء من الجيش الروسى «الأكثر استياء» من بوتين، من أجل استخدامهم كأداة ضاربة ضد قوة موسكو.
الخلاصة
كان بريجوجين يحمل الاسم نفسه تقريبًا لعالم الفيزياء والحائز على جائزة نوبل إيليا بريجوجين، المشهور بدراساته حول الإنتروبيا الديناميكية الحرارية، ولكن من المفارقة أن الوضع المربك فى روسيا يمكن أن ينتج عنه قريبًا تقلبات ومنعطفات مثيرة جديدة.. وبمرور الوقت، القوة التى اعتاد عليها الروس ستؤدى إلى تغييرات غير متوقعة. ولنتذكر أنه فى أخبار البرافدا، الصحيفة الرسمية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، كانت الأمراض القاتلة التى يعانى منها الزعماء السوفييت تعتبر «نزلات برد»، وفى وقت ما، حتى ستالين وجد نفسه مسموما فى ظروف غامضة. وفى أحيان أخرى، كما فى حالات خروتشوف وجورباتشوف ويلتسين، حدث تغيير السلطة فى موسكو بطريقة أقل دموية، ولكنها ظلت مثيرة. ونحن الآن على مشارف منعطفات أخرى قد تحدث مع انتخابات ٢٠٢٤ أو فى ظروف تاريخية أخرى. فى الواقع، هناك اثنان من المرشحين المحتملين للكرملين، وهما من المعارضين المتشددين، خارج اللعبة الآن وهما قيد الاعتقال: نافالنى فى السجن وسوروفيخين تم اعتقاله أو عزله من السلطة العسكرية.. وهنا نذكر أن ميدفيديف ظل لسنوات عديدة مرشح الظل بعد رحيل بوتن مؤقتًا عن الرئاسة، وهذا الرجل الثانى المفيد لبوتين يبذل كل ما فى وسعه للبقاء فى مركز الاهتمام ولفرض نفسه باعتباره «ملكيا أكثر من الملك». ومع ذلك، فإن التاريخ العام، وخاصة تاريخ روسيا، قد اعتدنا فيه دائما على مفاجآت خاصة وغير متوقعة.. وفى الواقع، فإن «العملية الخاصة» للجيش الروسى فى أوكرانيا، ومستقبل الاقتصاد المالى الروسى ستكون أبرز الملفات الحاسمة التى يمكن من خلالها فى الفترة المقبلة التعرف على ما ستكون عليه روسيا فى فترة بعد بوتين! ومع ذلك، هناك شيء واحد مؤكد: أيًا كان الزعيم الروسى القادم، فسوف يتعين عليه إرضاء شركائه فى مجموعة البريكس، وسوف يرغب فى إرضاء حليفه الصينى شى جين بينج الذى يمثل المصالح المشتركة الأساسية لروسيا المستقبلية.

معلومات عن الكاتب: 
ليوناردو دينى مفكر وفيلسوف من أصل إيطالى.. كانت أطروحته للدكتوراه حول نظرية السياسة وفلسفة القانون، له العديد من الكتب والدراسات، كما كتب الرواية إلى جانب القصائد الفلسفية.. يكتب تحليلًا حول نهاية زعيم فاجنر وتأثيره على مجمل الأوضاع فى الاتحاد الروسى.

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين روسيا فى أفریقیا فى الواقع إلى موسکو فى روسیا فاجنر فى من خلال من أجل

إقرأ أيضاً:

يقظة القارة العجوز.. نهاية «عائد السلام» في أوروبا وتكاليف إعادة التسليح.. الدول ذات شبكات الأمان الاجتماعي الواسعة تواجه صعوبات في مجالات الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

استفادت الدول الأوروبية لعقود مما يُعرف بـ«عائد السلام» - وهى فترة انخفاض الإنفاق الدفاعى التى أتاحت للحكومات توجيه مواردها نحو برامج الرعاية الاجتماعية، والنمو الاقتصادي، وتطوير البنية التحتية. ومع ذلك، يبدو أن حقبة ما بعد الحرب الباردة التى شهدت ضبط الإنفاق العسكرى تقترب من نهايتها. فمع تزايد التهديدات الجيوسياسية التى تواجهها أوروبا، لا سيما من روسيا، تجد القارة نفسها عند مفترق طرق، مُجبرة على التفكير فى إعادة التسليح فى وقت تعانى فيه أنظمة الضمان الاجتماعى من ضغوط شديدة.

نهاية حقبة

فترة انخفاض الإنفاق الدفاعى فى أوروبا، والتى كانت سمة مميزة لحقبة ما بعد الحرب، تتلاشى بسرعة. فالدول الأوروبية، التى تمتعت طويلًا بالأمن تحت حماية الولايات المتحدة، تجد نفسها الآن فى خضم تحول استراتيجى مدفوع بتهديدات الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بتقليص دعم حلف شمال الأطلسى (الناتو). ردًا على ذلك، يناقش القادة الأوروبيون علنًا زيادة ميزانيات الدفاع إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب الباردة، حيث دعا البعض إلى إنفاق يصل إلى ٣.٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى فى العقد المقبل.

ووفقًا لحسابات صحيفة فاينانشال تايمز، فإن الحفاظ على الإنفاق الدفاعى عند هذه المستويات من عام ١٩٩٥ إلى عام ٢٠٢٣ كان سيتطلب من دول الاتحاد الأوروبى تخصيص ٣٨٧ مليار دولار إضافية سنويًا للدفاع. على سبيل المثال، كانت المملكة المتحدة ستحتاج إلى ٣٥ مليار دولار إضافية سنويًا، وهو ما يعادل تقريبًا الإنفاق العام السنوى للبلاد على الإسكان والمرافق المحلية.

تحول فى الأولويات: أشار مارك زاندي، كبير الاقتصاديين فى موديز أناليتيكس، إلى أن "عوائد السلام" سمحت لأوروبا بتحرير موارد اقتصادية يمكن استخدامها لاحقًا للاستثمار الخاص وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي. ونتيجة لذلك، شهدت أوروبا نموًا ملحوظًا فى الحماية الاجتماعية، حيث ارتفعت حصة الإنفاق الحكومى على الخدمات الاجتماعية من ٣٦.٦٪ عام ١٩٩٥ إلى ٤١.٤٪ بحلول وقت الجائحة. كان هذا التحول جليًا بشكل خاص فى دول مثل ألمانيا وفرنسا، حيث تجاوز إنفاق الرعاية الاجتماعية بكثير إنفاق الولايات المتحدة.

ومع ذلك، فإن التحول نحو زيادة الإنفاق الدفاعى يطرح خيارات صعبة على الحكومات الأوروبية. فعكس مسار عقود من ضبط الإنفاق العسكرى يتطلب إما تخفيضات فى الإنفاق الاجتماعى أو زيادة فى الاقتراض، وكلاهما ينطوى على تحديات سياسية واقتصادية كبيرة. وكما يتضح من الاحتجاجات فى فرنسا على إصلاحات المعاشات التقاعدية، غالبًا ما قوبلت محاولات كبح الإنفاق الاجتماعى بمقاومة شعبية كبيرة.

تصاعد التوترات الجيوسياسية والحاجة إلى إعادة التسليح: إن العامل المحفز لهذا التحول هو بيئة أمنية عالمية متغيرة. فمع تزايد حزم روسيا فى عهد الرئيس فلاديمير بوتين، تواجه أوروبا تهديدات أمنية جديدة تتطلب ردًا عسكريًا أقوى. وقد دفع تحول تركيز الرئيس الأمريكى السابق بعيدًا عن أوروبا القارة إلى إعادة النظر فى استراتيجياتها الدفاعية والاضطلاع بدور أكثر استقلالية فى أمنها.ومع ذلك، يحذر اقتصاديون مثل كلاوس فيستيسن، من بانثيون ماكرو إيكونوميكس، من أن القدرات الدفاعية الأوروبية ليست على مستوى المهمة. على مر السنين، تضاءل عدد الأفراد العسكريين، حيث انخفض عدد القوات المسلحة البريطانية إلى النصف بين عامى ١٩٨٥ و٢٠٢٠. كما انخفض الإنفاق الدفاعى للاتحاد الأوروبى نسبةً إلى الناتج المحلى الإجمالى على مدى العقود القليلة الماضية. وعلى الرغم من الزيادات الأخيرة فى الإنفاق، فإن الوصول إلى المستويات اللازمة لمواجهة التهديدات المتزايدة سيتطلب التزامًا ماليًا كبيرًا.

التحدى المالي

فى عام ٢٠٢٤، بلغ الإنفاق الدفاعى للاتحاد الأوروبى ما يُقدر بـ ٣٢٦ مليار يورو، أى حوالى ١.٩٪ من الناتج المحلى الإجمالي، ارتفاعًا من ٢١٤ مليار يورو فى عام ٢٠٢١. تُعد هذه الزيادة علامة إيجابية، لكن تقديرات الزيادة اللازمة فى الإنفاق الدفاعى لا تزال كبيرة. تتوقع جولدمان ساكس زيادة قدرها ١٦٠ مليار يورو سنويًا، بينما تشير بانثيون ماكرو إيكونوميكس إلى نطاق يتراوح بين ٢٣٠ مليار يورو و٤٦٠ مليار يورو سنويًا.

يكمن التحدى الرئيسى فى تمويل هذه الزيادات الهائلة. ففى حين أن الدول التى تتمتع بمرونة مالية أكبر، مثل ألمانيا، قد تتمكن من اقتراض المزيد، فإن دولًا أخرى مثل إيطاليا، التى تبلغ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى ١٣٧٪، ستواجه صعوبات هائلة. قد تُحمّل دافعى الضرائب فى نهاية المطاف تكلفة إعادة التسلح، مع احتمال مواجهة أنظمة الضمان الاجتماعى تخفيضات لإفساح المجال للإنفاق الدفاعي.

الإنفاق الاجتماعي

يتجلى بوضوح التوتر المتزايد بين الإنفاق الدفاعى والاجتماعي. يجادل غونترام وولف، الزميل البارز فى معهد بروغل، بأن الواقع الجديد سيشبه مستويات الإنفاق العسكرى فى ثمانينيات القرن الماضي، مما يعنى تنازلات صعبة فى الميزانيات العامة. فى المملكة المتحدة، أُعلن بالفعل عن تخفيضات فى المساعدات الخارجية كجزء من جهود لزيادة الإنفاق الدفاعى إلى ٢.٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى بحلول عام ٢٠٢٧، مع زيادات إضافية مخطط لها بعد ذلك. أما بولندا، استجابةً للضغوط الأمريكية، فقد تجاوزت بالفعل هدف حلف شمال الأطلسى (الناتو) بتخصيص ٤.٧٪ من ناتجها المحلى الإجمالى للدفاع.

ستواجه الدول ذات شبكات الأمان الاجتماعى الواسعة، مثل فرنسا وألمانيا، قرارات صعبة للغاية. فمع شيخوخة السكان وتزايد الطلب على الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، سيكون خفض الإنفاق الاجتماعى لصالح الدفاع محل جدل سياسي.

بينما تتطلع أوروبا إلى مستقبلها الدفاعي، سيتعين اتخاذ قرارات بشأن الاقتراض وخفض الإنفاق والضرائب. وقد اقترحت بعض الحكومات، مثل حكومة ألمانيا، رفع حدود الاقتراض للإنفاق الدفاعي. بل واقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إعفاء بعض أشكال الاقتراض من قواعد الديون الصارمة للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، وكما يوضح جاك ألين رينولدز، الخبير الاقتصادى فى كابيتال إيكونوميكس، تواجه الحكومات معضلة صعبة: إما زيادة الاقتراض، والمخاطرة باستياء مستثمرى السندات، أو خفض الخدمات العامة، مما قد يثير ردود فعل عنيفة من الناخبين.

★فاينانشيال تايمز

مقالات مشابهة

  • استقلال الصحافة ترحب بإعلان عبدالمحسن سلامة عن زيادة بدل البطالة
  • بعد وفاة طفلين.. محافظ الدقهلية ينتقل لموقع سقوط غرفة دروس خصوصية
  • الكرملين: المحادثات المُقبلة بين روسيا وأمريكا في السعودية ستكون مليئة بالأحداث
  • حدث في 19 رمضان.. اعرف الأحداث التاريخية التى وقعت فى هذا اليوم
  • القومي للمرأة يكرم الأم المثالية ببورسعيد
  • يقظة القارة العجوز.. نهاية «عائد السلام» في أوروبا وتكاليف إعادة التسليح.. الدول ذات شبكات الأمان الاجتماعي الواسعة تواجه صعوبات في مجالات الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية
  • الكرملين: روسيا وأمريكا تسيران على الطريق الصحيح.. وترامب يدرس الاعتراف بتبعية شبه جزيرة القرم لموسكو
  • روسيا: الوضع في قطاع غزة وسقوط ضحايا مدنيين يثير قلق الكرملين
  • 8 سنوات على رحيل السيد ياسين.. أستاذ الباحثين
  • سامح قاسم يكتب: ماركيز.. ذاكرة من الحكايات لا تموت