نُكران الجميل.. من صفات اللئام
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
حمد الحضرمي **
أمرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ألّا ننسى الفضل فيما بيننا، وأن ننسب هذا الفضل إلى أهله، ولما كان الله- عز وجل- هو صاحب الفضل في الأولى والآخرة، فقد امتدحت آيُ الذكر الحكيم من يعترف بهذا الفضل له سبحانه، كما نعى الله على الكفار جحودهم ونكرانهم لفضله وفضل الأنبياء؛ فمنزلة الاعتراف بالفضل منزلة جليلة لما يعود منها من خير على المجتمع بأسره؛ حيث يؤدي ذلك إلى استقرار هذا المجتمع وتآلف أفراده وتشجيع ذوي الفضل على الاستمرار في تفضلهم الذي يلقى الاعتراف من الآخرين.
ولما كان من طبع الإنسان أن يَسعد إذا نُسب إليه الخير وكلمات الشكر، فإنَّ الاعتراف بالفضل باعثًا على مرضاته، بعد مرضاة الله تعالى؛ لأنَّ من يشكر الناس فإنما هو في الحقيقة يشكر المولى جل جلاله الذي أجرى الخير على أيديهم، وقد جاء في الحديث "من لا يشكر النَّاس لا يشكر الله".
لقد مرَّت على بعضنا لحظات وأوقات في غاية الصعوبة، ولا تنسى من الذاكرة والوجدان، قدمنا فيها طوال أيام وأشهر وسنوات المعروف والفضل والجميل والإحسان والسخاء والكرم والشهامة والكرامة والجود والمروءة، لناس كنَّا نظنهم أوفياء لا ينسون الفضل والإحسان، ولا ينكرون الجميل والمعروف، ولكننا للأسف الشديد كُنَّا فيهم مخدوعون؛ لأنهم من أصحاب النفاق والخسة والدناءة، فهؤلاء هم ناكرو الجميل، الذين ينكرون كل جميل ومعروف وإحسان، فهؤلاء لا يعرفون إلّا الأخذ واستغلال الناس الطيبة الكريمة، ولا يستحقون أن تعيش معهم أيام عمرك وحياتك، ولا تضع معهم أوقاتك وجهودك وأموالك، لأنهم لا يملكون القيم الحميدة والأخلاق النبيلة، فاتركهم وارحل عنهم قبل أن تخسر أشياء كثيرة، ولا تضع عمرك في خدمة مثل هؤلاء الأشخاص عديمي القيم والأخلاق ناكري الجميل، ولا تفكر فيهم ولا في لومهم، لأنهم يعيشون في مملكة النكران، أصحاب هذه المملكة صفاتهم كلها مذمومة غير محمودة.
نعم لقد حطّم هؤلاء أزاهير قلبك، وجعلوا الحياة مظلمة في نظرك، لأنهم نكروا الجميل، ولم يكونوا أوفياء ولا أتقياء، ولا يعرفون كلمات الشكر والثناء، لمن قدم لهم الخير والعطاء، فدعهم ولا تكثر عليهم التأسف، وعش مع الله الشكور الذي إذا قدمت له عملًا صالحًا واحدًا يشكرك بجلاله وعظمته ولا ينساك، ويرد لك عملك الصالح أضعافا مضاعفة كالحبة التي أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، وإذا أعطاك الله أدهشك بكرمه وفضله، لأنه أكرم الأكرمين.
وقد عظّم الله ثواب أهل الإحسان فقال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 195)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء..." وللإحسان شمولية ودائرته تتسع لتشمل النفس والأسرة والأقارب ثم المجتمع والإنسانية عامة، وكذلك الحياة بكل ما فيها من نبات أو حيوان أو جماد، وعلينا غرس معنى الإحسان والمعروف والفضل في النفوس حتى يعيش الناس في محبة وألفة وود ووئام.
قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسانُ
فكيف ينسى الإنسان فضل الله عليه، ويتصرف كما لو كان خالق نفسه ومالك أمره ومدبر شؤونه، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ووهبه من النعم ما لا يحصى ولا يعد، فعلينا ذكر الله وتعظيمه وشكره على نعمائه وعدم نسياه، لأن نسيان الله يترتب عليه نسيان النفس "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" (الحشر: 19) والمصيبة في هذا الزمان أن الإنسان نسى الله ونسى نفسه ونسى الآخرين من أصحاب الفضل والمعروف والإحسان إليه.
فكيف ينسى الإنسان فضل ومعروف والديه عليه، وقد قدَّما إليه مُنذ الصغر الكثير من التضحيات التي ليس لها مثيل، والكثير من العطاء الذي ليس له حدود، وكيف ينسى الأخ فضل أخيه، الذي إذا وقع في أي مشكلة أو معضلة ويحتاج إلى السند والعون يجد أخيه بجواره يسانده ويعينه دون أي تردد ودون أي مقابل، ومن ينسى فضل المعلمين والمربين والعلماء أصحاب الفضل علينا، لما قدموه لنا من العلم والمعرفة والثقافة والعلوم والفنون بمختلف أنواعها وأشكالها، وكانوا لنا محبين وداعمين وصابرين، وكيف ينسى الصديق فضل صديقه، الذي يجده حاضرًا معه في أوقات الشدة والضيق، وكيف ينسى الزوج زوجته شريكة حياته صاحبة الوفاء والإخلاص والعطاء بلا كلل ولا ملل، وكيف تنسى الزوجة زوجها الذي يسعى ليل نهار لتكون أسرته في أحسن الأحوال، فالواجب علينا أن نقدم لهؤلاء ولكل من قدم لنا معروفًا وإحسانًا، الشكر والتقدير والثناء والعرفان، وأن نحسن إليهم لنرد إليهم ولو القليل من أفضالهم علينا.
والشكر نوعان؛ الأول: شُكرٌ باللسان وهو الثناء على المنعم، والثاني: شُكرٌ بجميع الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر الاستحقاق. وإذا عجز الإنسان أن يرد الجميل فلا ينكره، ولا يكون كالأعمى الذي ينكر جميل العصى، فعندما يبصر يكسرها، إن ناكر الجميل هو شخص لا ضمير له وقلبه مريض، لأنه كان يتمتع بفضل الآخرين عليه، واليوم قد نسى كل ما قدم له طوال سنوات، والمصيبة تكمن في ناكر الجميل بأنه إذا غضب منك نسى فضلك، وأفشى سرك، ونسى عشرتك، وقال عنك ما ليس فيك، فهؤلاء هم أصحاب النفوس القبيحة، وأما أصحاب النفوس الجميلة التي لا تنكر المعروف رغم شدة الخلاف، فدائمًا تقول لك من أعماق القلب إذا صنعت لها معروفًا شكرًا جزيلًا لك وجزاك الله خيرًا ولا تنساك من الدعاء.
وإنه لمن المؤسف والمحزن حقًا أن يُنكر الشخص الفضل والجميل والمعروف الذي قدم له لسنوات طويلة- من الوالدين أو من الأخوة أو من الأصدقاء أو من الأزواج أو من غيرهم- وينسى كل الجهود المبذولة والعطاء المثمر حتى أصبح شخصًا له مكانته في المجتمع، وكان صاحب الفضل والمعروف يظن بأنه هذا الشخص لن ينساه لما قدمه له من أفعال جليلة ومواقف عظيمة، ساعدته ومكنته ليكون له كيان ومكانة واعتبار، وأنه سيرد له معروفه وفضله بأحسن منه في يوم من الأيام، ولكن بين عشية وضحاها يتفاجئ بتغير الأحوال وينقلب هذا الشخص رأسًا على عقب، ويبدأ في محاربة من أحسن إليه بالأمس، ويكيل عليه التهم والإهانات والسب والشتم والذم والقذف لاتفه الأسباب، ويقلل من قدره واحترامه، ويكون ضده في كل شيء وفي صف أعدائه وخصومه، هنا يتضح لك جليًا بأن هذا الشخص من مملكة ناكرين الجميل والفضل والمعروف، وبدون تردد أتركه وارحل، لأن معدنه رخيص، ولا يستحق التقدير بعد اليوم، لأن القناع انكشف وظهرت حقيقته، وبانت صفاته على أرض الواقع، وانسلخ من إنسانيته، وهذا ومثل هذا من ناكرين الجميل في زماننا كثر.
تجنبوا أصحاب العقول الصغيرة والنفوس المريضة، وابحثوا دائمًا عن أصحاب النفوس والعقول الكبيرة، التي تنير لكم دربكم بالصدق والوفاء وتمنحكم السعادة والحياة، وكونوا على حذرٍ من العلاقات الاجتماعية الفاسدة التي أصبحت معظمها في زماننا قائمة على المصالح والنفاق والجحود ونكران الجميل والفضل والمعروف، لأن نفوس هؤلاء خسيسة حقيرة لئيمة، أما أصحاب النفوس الكريمة التي لا تعرف الجحود والنكران؛ فهي على الدوام مُعترِفَة لأصحاب الفضل بالفضل والإحسان؛ لأن أصحابها من الصالحين الأوفياء الأتقياء.
** محامٍ ومستشار قانوني
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الإنسان ضعيف.. خطيب المسجد الحرام: يجب أن يتعلق قلب المؤمن بالقوي العزيز
قال الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إنه يجب أن يتعلق قلب المؤمن بالقوي المتين، فقدرته فوق كل قدرة، وقوته تغلب كل قوة.
قدرته فوق كل قدرةواستشهد " غزاوي" خلال خطبة الجمعة الثانية من شعبان من المسجد الحرام بمكة المكرمة، ، بما قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ الآية 66 من سورة هود ، فيوقن المؤمن بأن الله عز وجل لا يعجزه ولا يغلبه ولا يعزب عنه شيء، القادر والمالك لكل شيء.
وأضاف: والمحيط والعالم بكل شيء، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، منوهًا بأن المقرر في عقيدة كل مؤمن أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ قَهْرِ الله وَغَلَبَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فجَمِيعُ أنْواعِ القُوى ثابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَهُ تَعالى وهو المتفرد بالقوة جميعًا؛ فمن فقه القوة أن تدبير هذا الكونِ كلِّه بيد الله سبحانه.
وتابع: وأن ما سواه لا يملك لنفسه حولًا ولا قوة، ولا يملك نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.. فكيف يملك ذلك لغيره؟! ومن فقه القوة أن كل من أعجب بقوته من الخلق فاستعظمها واعتمد عليها خسر وهلك، مشيرًا إلى أن الإنسان ضعيف من جميع الوجوه وفي كل أموره.
ودلل بما قال الله عز وجل: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)، وكيف للعبد الضعيف أن يغتر بقوته وقدرته، وينسى كيف كان حاله، وما هو إليه صائر، ومن حكمته سبحانه وتعالى أن يُري العبدَ ضعفَه وأن قوته محفوفة بضعفين وأنه ليس له من نفسه إلا النقص.
قوته محفوفة بضعفينونبه إلى أنه لولا تقوية اللّه له لما وصل إلى قوة وقدرة ولو استمرت قوته في الزيادة لطغى وبغى وعتا، وليعلم العباد كمال قدرة اللّه التي لا تزال مستمرة يخلق بها الأشياء، ويدبر بها الأمور ولا يلحقها إعياء ولا ضعف ولا نقص بوجه من الوجوه.
وأشار إلى أن مما يدفع عُجْبَ المرء بقوته أن يعلم أنها فضل من الله عليه، وأمانة عنده ليقوم بحقها، وأن العجب بها كفران لنعمتها، موضحًا أن المؤمن يستمد قوته وعزيمته من ربه سبحانه ويتبرأ من حوله وطوله.
وأردف : ويعلم أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، ولا يَقوى على فعل شيء إلّا بتأييد مِنه سبحانه، وهذا ما يقر به المخبتون إلى الله، مبينًا أن ذكر الله يُقوي القلب والبدن، فهو يزيد النفس ثباتًا، والقلبَ طمأنينة، والإنسانَ رباطةَ جأش، كما أنه يقوي الجسد.
وشدد على أن المؤمنين لا يعتَدُّون بقوتهم مهما بلغت ولا يغترون بما لديهم من عدد وعدة ولا يعتمدون عليها، مع أنهم مأمورون بالأخذ بأسباب القوة المعنوية والمادية، وعدم الركون للضعف.
واستطرد: ومتى كان الاغترار بالقوة والكثرة لم يغن ذلك عنهم شيئًا، وأن النصر والغلبة مرتبطة بميزان القلوب لا بميزان القوى، كما أن قوة أمة الإسلام وصلابتَها تقوم على وحدتها واجتماع كلمتها، وأن التفرق والشتات هو من أسباب الفشل وذهاب الهيبة والغلبة.
وأفاد بأنه فضّل النبيّ عليه الصلاة والسلام المؤمن القوي على المؤمن الضعيف، على الرغم من وجود الخيريّة في كلٍّ منهما، ذلك أن المؤمن القوي أكثر نفعًا وأعظم أثرًا؛ إذ يُنتج ويَعمل بما يعود عليه بالنفع لنفسه ويُحقّق مصالح المسلمين، ويعود عليهم بالخير والنصر على الأعداء والدفاع عن الدين ودحر الباطل وأهله، ويُنتفع بقوته البدنية، وبقوته الإيمانية، وبقوته العملية.
من الفقه أيضًاولفت إلى أنه مما ينبغي أن يعلم أن قوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، فإن استعمل الإنسان هذه القوة فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة وفيما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والطاعات صارت محمودة.
وأبان بأنه إذا إستعان بهذه القوة على معصية الله كالبطش بالناس وإيقاع الضرر بهم صارت مذمومة ومن فقه القوة، فالقويُّ الشديدُ حقيقة هو الذي يجاهد نفسَه ويقْهَرُها حينما يَشتدُّ به الغضبُ؛ لأنَّ هذا يدل على قوّة تَمَكُّنِهِ من نفسه وتَغَلُّبِه على الشيطان.
ونوه بأن من الفقه أيضًا أن القوة ليست دائمًا فيما نقول ونفعل بل تكون أحيانًا فيما نصمت عنه وفيما نتركه بإرادتنا وفيما نتجاهله ونتغافل عنه، مشددًا على حاجة المرء إلى قوة وعزيمة ليَأخذَ الحقَّ بجد واجتهاد.
وأوضح أنّ هناك أسبابًا وعوامل تؤدّي بمجموعها إلى تكوين مقوّمات قوّة المسلمين فمن ذلك: التمسّك بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والعملُ بشرع الله القويم في شتى جوانب الحياة، وتركُ الأهواء ونبذُ البدع والانحرافات، واستحضارُ التاريخ الإسلامي.
وواصل: ليُستذكر من خلاله تاريخُ الأمّة المجيد وماضيها التليد، مما يشحذ النفوس، ويبعث العزائم، ويدعو إلى التفاؤل بأنّ التمكين لهذا الدين والنصرَ حليفُ المؤمنين، فيستشعرون المسؤولية المنوطة بهم، ويسعون في إصلاح مجتمعاتهم، ويتحرون ما هو خَيْرٌ وأصْلَحُ في كُلِّ ما يأْتُونَ وما يذَرُونَ.
نحن في شهر شعبانوأشار إلى أن للقوة مظاهر عدة في حياة المسلم منها: قوة الإيمان وقوة الأخذ به، وقوة الاعتقاد الصحيح والمنهج السليم، وقوة الثبات على الدين والتمسك بالحقّ، وقوة البصيرة الناشئة عن العلم النافع، وقوة العبادة والطاعة واستباق الخيرات، وقوة الصبر على الأقدار المؤلمة والمصائب واحتمال المشاق في ذات الله.
وأكمل: وقوة العزيمة والإرادة وقوة الامتناع عن الشهوات وكبح جماح النفس، وقوة الرأي ووضع الأمور مواضعها، وقوة أداء المهمات وحفظ الأمانات، وقوة الدعوة إلى الله وبذل النصيحة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما أعظمَ نعمةَ الله على من صرفَ جهده وطاقته في الوجه المشروع، ومُتع بجوارحه وأعضائه وقواه مدة بقائه في الدنيا، واغتنم قوته ونشاطه قبل الضعف والعجز.
وقال : نحن في شهر شعبان وهو كالمقدمة بين يدي رمضان وقد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وسلم فيه من الصيام، قال ابن رجب رحمه الله: في سياق بيان حكمة الصوم في شعبان: "إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن".