الاستثمار الأجنبي بين حق الربح والمسؤولية الوطنية
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
مَن المستثمر الذي نريد؟ وما أشكال الاستثمارات التي نرغب أن يتمَّ الاستثمار بها في البلد؟ هل كُلُّ مستثمر جادٌّ ومفيدٌ للبلد التي يستثمر بها؟ هل يتمُّ تقييم أعمال المستثمرين وجديَّتهم بَيْنَ الحين والآخر؟ أغلب هذه الأسئلة يفترض أنَّها طرحت وتمَّ الإجابة عَلَيْها من قِبل المؤسَّسات ذات الاختصاص.
بداية نؤكِّد أنَّ الاستثمارات الخارجيَّة داعم مُهمٌّ لاقتصاد أيِّ دوَلة في العالَم، تساعد الاستثمارات العابرة للحدود الوطنيَّة على تعزيز النُّمو وقوَّة الاقتصادات الوطنيَّة، تنقل الخبرات والتجارب والنماذج الاقتصاديَّة في مختلف مجالات الاستثمار إلى الدَّولة المضيفة، هذا بالإضافة إلى خلقها للوظائف وفرص العمل، وغيرها العديد من الفوائد والعوائد المختلفة، سواء أكان ذلك بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
تختلف شروط وإجراءات قَبول الاستثمارات والشركات الأجنبيَّة من دَولة إلى دَولة، لذا تسعى كُلُّ دَولة إلى وضع شروط سهلة ومَرِنة بهدف جذب تلك الاستثمارات، وشخصيًّا مع تسهيل إجراءات دخول مختلف أشكال الاستثمارات الجادَّة إلى البلد بكُلِّ الطُّرق الممكنة، خصوصًا في مجال التعليم والصحَّة والطَّاقة المُتجدِّدة والتكنولوجيا المتقَدِّمة.
مع التأكيد على أهمِّية المحافظة على تلك المساحة الوطنيَّة من الخصوصيَّة الواردة في المادَّة (1) من الباب الأوَّل من النظام الأساسي للدوَلة رقم (6/2021) والتي تنصُّ على أنَّ «سلطنة عُمان دَولة عربيَّة إسلاميَّة مستقلَّة ذات سيادة تامَّة» بالإضافة إلى المادَّة (14) من الفصل الثاني والتي تؤكِّد على أهمِّ المبادئ الاقتصاديَّة للدَّولة.
جذب الاستثمار وتشجيعه في أيِّ دَولة ليس حكرًا على الحكومة، بل يُمكِن للمواطن التاجر والمشتغل بالأعمال ورجال الاقتصاد والإعلام والعلاقات العامَّة جذب تلك الاستثمارات، ويجِبُ أن تساعدَ الحكومة على تشجيع المواطنين على ذلك من خلال الدَّعم والتمويل، وحتَّى الجوائز والتحفيز الشخصي، كما تتوسَّع الحكومة في اتِّجاهات ووسائل جذب الاستثمارات عَبْرَ مؤسَّساتها في الداخل الوطني والخارج الدولي، خصوصًا السفارات والتمثيل التجاري، ويُمكِن في هذا السياق الرجوع لمقال لي بعنوان «الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة ورؤية سلطنة عُمان 2040» والمنشور بهذه الصحيفة الغرَّاء (الوطن).
إذًا من المتَّفق والواضح على أهمِّية الاستثمار وتشجيعه وتسهيل القوانين والإجراءات الخاصَّة به، على أن في الجانب الآخر وهو ما نركِّز عليه في هذا المقال، أقصد الحقوق والواجبات التي يجِبُ أن يلتزمَ بها المستثمر في أيِّ بلد، الحقوق السياديَّة والواجبات الأمنيَّة والاقتصاديَّة، الحقوق المُجتمعيَّة والأخلاقيَّة التي يجِبُ أن يلتزمَ بها، فهو لَمْ يأتِ لِيأخذَ خير هذا البلد وثرواته بلا مقابل.
لا شكَّ أنَّ أيَّ مستثمر يدخل أيَّ بلد يرغب في الربح وهو السَّبب الأهمُّ، ولكن هذا الربح والفائدة ليست له وحده، فالبلد لَمْ تفتح له يدها ليكسبَ ويثريَ على حسابها، ليس من المقبول أن يأخذَ من ثروات وخيرات هذا البلد دُونَ أن يقَدِّمَ في مقابل ذلك من الالتزامات والحقوق والواجبات ويزيد على ذلك المسؤوليَّة المُجتمعيَّة.
في بعض الأوقات نسمع عن صعوبة الاستثمار والعقبات التي تواجه المستثمر، وهو حديث يتكرر منذ سنوات طويلة، بَيْنَما في الجانب الآخر تؤكِّد الحكومة ـ ممثَّلةً في مؤسَّساتها المعنيَّة ـ عكس ذلك تمامًا، وتؤكِّد على سهولة الاستثمار وجذب المستثمرين وتشجيعهم. وبتصوُّري الشخصي أنَّ القوانين والإجراءات أصبحت سهلة للغاية للمستثمر الحقيقي وليس المستثمر الأناني، أو المستثمر الذي جاء ليتكسبَ ويثريَ على حساب البلد. ولكن إن كان هناك عوائق أو صعاب فعليَّة في ذات السِّياق أي في القوانين والإجراءات فهي مسؤوليَّة الحكومة وتتحمَّل تبعاتها.
وهنا نسأل: لماذا تستمر مثل هذه التصريحات من بعض المستثمرين؟ الأمْرُ الذي يجِبُ أن تتدخلَ لفهْمِه ودراسته المؤسَّسات المعنيَّة مِثل وزارة الاقتصاد ووزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار وغرفة تجارة وصناعة عُمان، ولا يجِبُ أن ننسى أهمِّية دخول مؤسَّسات أخرى مِثل جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة والمؤسَّسات الأمنيَّة، فلعلَّ وراء ذلك بَيْنَ الحين والآخر تكُونُ شُبه بالفساد أو مُعوِّقات أو تدخلات من قِبل أشخاص نافذين للحصول على مكاسب وتربُّح، وهو أمر طبيعي ويحصل في أيِّ بلد. وفي الغالب فإنَّ المستثمر في مِثل هذه الحالات يتجنَّب التصريح خوفًا على استثماراته أو محافظة على تلك المساحة من الرغبة في الحصول على نافذين لتسهيل دخوله أو للحصول على سند ودعم في دَولة الاستثمار.
وما يؤسف له أنَّ بعض الحكومات تتجنَّب فتح مِثل هذه الملفات، أو تُبقيها سريَّة بحجَّة المحافظة على السمعة الوطنيَّة، وفي بعض الأوقات تفتحها على استحياء، بالرغم من أنَّ العكس صحيح، فإحساس المستثمر بالأمن والطمأنينة على أمواله واستثماراته لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بفضح الفاسدين والفساد ومعاقبة كُلِّ مَن تُسوِّل له نَفْسُه الإثراء والتربُّح على حساب الوطن وثرواته، أو استغلال نفوذه ووظيفته لذات الهدف. لذا يفترض وهو ما نوصي به وجود نافذه مفتوحة بَيْنَ جهة عُليا والمستثمر تهدف إلى المكاشفة وإيصال المُعوِّقات والمشكلات.
والمستغرب أيضًا أن نسمعَ أنَّ هناك ضغوطًا على المستثمرين من قِبل بعض الوزارات المعنيَّة والمتداخلة مع الاستثمارات في هذا البلد مِثل وزارة العمل وحاجتها إلى فرص عمل للمواطنين من خلال هذه الاستثمارات، أو الجهات الأخرى التي تحصل على ضرائب ورسوم يعتقد البعض أنَّها مرتفعة ومُبالَغ بها على المستثمر الأجنبي، وأقول: إنَّنا نسمع هذا الكلام منذ عقود طويلة، ولكن لَمْ نسمع عن مستثمر حقيقي يُمكِن أن يتركَ استثمارات مجزية ومربحة للأسباب السَّابقة. فالمستثمر أصلًا وقَبل الدخول إلى البلد درس وفهم وعرف عن البلد الكثير، راجع قوانينها ومتطلباتها، وعِنْدما قَبل الدخول والاستثمار كان على دراية ووعي بكُلِّ شيء، سواء من حيث الضرائب أو الرسوم أو فرص العمل.
وهنا نسأل: كم عدد المستثمرين الذين بالفعل كانت لهم رغبة فعليَّة للدخول والاستثمار في سلطنة عُمان ولكنَّهم تراجعوا عن ذلك بحجَّة القوانين والإجراءات؟ وهل فعلًا تأكَّد لنَا أنَّ الأسباب وراء ذلك التراجع هي القوانين والإجراءات أم هناك أسباب أخرى؟
كما نقول للبعض من أبناء هذا الوطن العزيز: يكفي دفاعًا عن العلاقات والمصالح الشخصيَّة مع بعض المستثمرين الذين لا همَّ لهم سوى الربح الشخصي والاستفادة من خيرات هذا البلد دُونَ الرغبة في تقديم المقابل القانوني والأخلاقي، فهذا النَّوع من الاستثمار والمستثمرين لا حاجة للبلد به.
يكفي دفاعًا عن المستثمر الذي يرفض تقديم فرص عمل لأبناء هذا الوطن ويتنصَّل من هذا الالتزام أو يتعذَّر بارتفاع فاتورة الكهرباء والماء أو الضرائب وقَدْ فتحت له البلد ذراعها، وقَدَّمت له خيراتها، وأكَّدت الحكومة على استعدادها للسماع مِنْه بشكلٍ مباشر عَبْرَ المؤسَّسات المعنيَّة إذا كان لدَيْه أيُّ شكوى أو عقبات أو مُعوِّقات.
ولا أتصور أنَّ هذا الوطن العزيز بحاجة إلى استجداء المستثمرين لِنحصلَ على فرص عمل أو لرفد موازنة الدَّولة، فالاستثمار هو عمليَّة تبادليَّة، وحقوق والتزامات متبادلة، فائدة للمستثمر وعوائد للدَّولة المستثمر بها، وليس تفضُّلًا أو منَّة أو مساعدة. كما لا أتصور أنَّنا وصلنا إلى المرحلة التي نقبل بها بالمستثمر غير الجادِّ أو الذي جاء للتربُّح والكسب على حساب البلد، خصوصًا أنَّ بعض الاستثمارات أشْبَه بالاستنزاف لثروات البلد وخيراته.
كلمة أخيرة نوجهها للمستثمر الجادِّ: سلطنة عُمان ـ حكومةً وشَعبًا ـ ترحِّب بكُلِّ المستثمرين والاستثمارات الأجنبيَّة، مستعدَّة لتسهيل الإجراءات وتذليل الصِّعاب والمُعوِّقات، ولدَيْنا مؤسَّسات وطنيَّة مستعدَّة لدعم المستثمر والشركات الأجنبيَّة، ولكن أيضًا نقول لكُلِّ المستثمرين الأعزَّاء: مَن أراد الاستثمار في هذا الوطن الكريم فلا بُدَّ أن يحترمَ قوانينه وحقوق أبنائه. لا بُدَّ أن يكُونَ مُنصفًا لِنَفْسِه أوَّلًا، وكما يرغب في الربح والحصول على الكسب من ثروات البلد وخيراته فلا بُدَّ من أن يقَدِّمَ في المقابل جزءًا من ذلك الخير لهذا البلد الكريم.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
azzammohd@hotmail.com
MSHD999 @
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: هذا البلد هذا الوطن فی هذا
إقرأ أيضاً:
محلل سياسي: بعض تدابير ترامب تسبب مخاوف لدى دول الاتحاد الأوروبي
قال المحلل السياسي، عبدالغني العيادي، إن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أعلن في حملته الانتخابية عن مجموعة تدابير سيتخذها، منها فرض الضرائب على الواردات وحل النزعات العسكرية بشكل سلمي وسريع، وكل هذه الأمور تخيف الاتحاد الأوروبي، ولهذا هم مجتمعين اليوم في بودابست بدولة المجر لمعالجة الملفات الكبرى، ومنها ملف الهجرة والحرب الروسية الأوكرانية وملف الأمن الأوروبي بشكل عام.
وأضاف «العيادي»، خلال مداخلة عبر شاشة قناة «القاهرة الإخبارية»، أن رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه، صرح أنه يجب أن يتعامل الاتحاد الأوروبي مع المستجدات التي تحدث ومنها انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا كوحدة واحدة، ولا يجب الاعتماد على سياسية كل دولة منفردة، وأنه يجب التنسيق بين الدول الأوروبية للتعبير عن موقف سياسي جامع وواحد.
العلاقات الدولية لترامب معتمدة على الربح فقطوتابع المحلل السياسي: «المنطق الأمريكي الرأس مالي يعتمد على القراءة للوجود والواقع التي تعتمد على قاعدة واحدة وهي الربح والخسارة»، مشيرًا إلى أن العلاقات الدولية لترامب معتمدة على الربح فقط.