لقد سرقوا بهجة المولد ولكن تبقى الذكريات
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
المولد كان من اجمل ايام امدرمان . ونحن صغار كنا نأتي من زريبة الكاشف المحصورة بين الهجرة والركابية او الحارة 1 ... 9 . وكنا نعاير الهلالاب بهذا الرقم الكتوب على بعض المباني لتسهيل عملية التعداد الاول 1956 النتيجة كان 12323 نفس. واحد تسعة نتيجة هزيمة الهلال بواسطة فريق الهونفيد المجري بزعامة الاسطورة بوشكاس وزميله بوجيك .
من الزملاء قريب الله كاوروا ابن العم كاوروا شيخ الدباغين في حفر الدباغة . وكنا نذهب بطريقة راتبة الي سينما العرضة البعيدة لان الدخول بقرشين فقط بدلا من ثلاثة ونصف قرش . ولكن نشاطنا الاكبر في ايام المولد الذي بدآه عاشق امدرمان البريطاني المفتش برامبل . السبب الرئيسي أن الانصار اثناء الاحتفال بالمولد يتربصون ب ،، سفينة ،، الختمية ويعطوهم علقة نظيفة .جمع برمبل كل الاحتفال في ميدان اخليفة وضم كل الطرق الصوفية وكانت للمولد ميزانية شحمانة من جزينة البلدية منذ 1939 .
قديما كان يسمح للنساء بالتواجد في المولد . بعض الاطفال الاشقياء يشبكون توب النساء مع جلابية رجل في الزحام بالدبوس وتم منع النساء على طلب الزعماء الدينيين من المولد . .
ابو طالب اخ محمد دوكة الاكبر كان وقتها شابا ومن مشاهير امدرمان لانه مكشكش وتحبه كل امدرمان ويركب التاكسي والترام ولا يدفع . وفي يوم من الايام قبض على بكارة الترام التي توصل الكهرباء للمحرك في المحطة الوسطي ورفض تركها الا بعد حصوله حق الفطور واعطاه الكماسرة حق الفطور . ومن الاشياء المؤلمة موته بعد ان صعقه التيار الكهربائي عندما تسلق صاري المولد . وتذكرني هذه الحادثة بتقمص مهنة الكهربائي في المولد في آخر ايامي في اندرمان قبل ان اغادر المبروكة لاوربا. .
اقتباس
خاطرة أم درمانية – مطرة المولد .. بقلم: شوقي بدري
في أيام المولد الماضي تذكرت هذه الخاطرة ولكن لم يكن هناك متسع للكتابة . عام 1964 هطلت مطرة قوية في الايام الاخيرة في المولد . وكان بعض بائعات الهوي في أم درمان عندما يمر الناس بمنازلهن دون توقف يقلن : هي يا البتسو السوتو المطرة في المولد!! .
وبما أن المطرة كانت في المساء ففي الصباح كانت الطرقات مليئة بماء الامطار وبينما انا حاملا حقيبة ادوات من شاكوش فارة شنكار جيون سراق ضهر ومنشار طويل في يدي ومفكات الخ ناداني احد شيوخ الطرق الصوفية واظنه من القادرية وخيمتهم في الركن الجنوبي الغربي في المولد . وأنا كنت في طريقي إلي اللالوبة الكبيرة خارج المولد وعلي بعد امتار من المدخل الجنوبي الشرقي لجامع الخليفة ومدرسة بيت الامانة الوسطى. وتحت تلك الشجرة كان نادي التربية البدنية الذي كان امام بوابة عبد القيوم قد اقام سوقا خيريا تحت شجرة اللالوب . وقمت انا بصنع الترابيز العالية التي كان يمارس فيها "اللبس تكسب" والمشمع وهو عبارة عن مربعات ابيض واسود يقذف الانسان بالقرش او التعريفة واذا كانت قطعة العملة داخل المربع بالظبط يكسب الانسان خمسة اضعاف وهنالك "نوامة" او دوارة . وهي مربع من الزجاج بستة اقسام هلال مريخ موردة نيل اهلي تحرير وظهر يدور . وكنت وقتها في طريقي لإصلاح احد الترابيز التي انهارت اثر هروع الناس للخروج من المولد هربا من الامطار ..
الشيخ الصوفي أحبط عندما قلت له بأنني لست بكهربائي فطلب مني أن أحاول مساعدتهم لأن كل الأسطوات مشغولين بالخيم الأخري . وكانت عندي فكرة عن الكهرباء فقد كاني صديقي الحبيب متعه الله بالصحة عثمان ناصر بلال ميكانيكيا ويجيد عدة مهن منها توصيلات الكهرباء والمواسير . وتعلمت علي يده النجارة وكنت أقوم بالكثير من أعمال النجارة وكانت عندي عدة نجارة كاملة..
ومن منشئاتي كشك المرطبات الذي كان في شارع الأربعين في تقاطع شارع مرفعين الفقرا .
من أول نظرة كان واضحا لي أن الأمطار هي سبب العطل فقد كان توصيل اللمبات عن طريق الدبوس . وهذه طريقة دفن الليل اب كراعا مارقة . فبدلا عن تعرية السلك وتوصيل سلكين قصيرين سالب وموجب تتدلي منهما اللمبة اكتفوا بغرس دبوس في الخط الرئيسي وقاموا بلف الأسلاك المتدلية حول الدبوس . ومع الرطوبة والماء حصل التماس "شورت" . ولاحظت أن الكهربائي صديقي والرجل الفيلسوف عوض حمد يعمل في احد الخيم الكبيرة فهرعت إاليه . فنصحني بفصل الأسلاك التي فيها سخانة لأن هذا يعني أن هنالك إلتماس . واعطاني شريط كهرباء . .
وحتى بعد نصيحة عوض حمد لم تنجح العملية فأتي بنفسه ولاحظ أن اللمبات مختلطة بعضها "زمبة" وبعضها "قلوظ" فطلب مني فصلهم الزمبة براهم والقلوظ براهم وأن أقوم بعملية تجفيف اللمبات من الرطوبة . . .
عوض حمد كان كهربائيا ماهرا وكان يسكن فريق حمد وهو الحي جنوب ميدان الربيع وغرب فريق جبر الله ، وكان نحيف الجسم الا انه شخص مؤثر في محيطه ومجتمعه يحترمه الجميع . قدم لي في احدي المرات نصيحة . ونصيحته كانت : في بعض الناس المعاملة الكويسة ما بتنفع معاهم والأدب بيعتبر عندهم ضعف . وأبدا ما تقول الزول ده أضعف مني وما أرفع عليه يدي ، في ناس ما بتجي إلا بالكف. .
أخونا فلان ده مش بيتهم فيه كل شي كعب لكن زول بيقدر يرفع عينو مافي لأنو أيدو واصلة ، في ناس ما بينفع معاها إلا العين الحمرة . .
كان رجلا ساخرا . وكان يردد كثيرا عندما يقابل الناس عندما يري شخصا تعبانا أو يحتاج أن يردد له الكلام فيقول : إنت مالك يا أخي ؟ فاطر فول ؟ .
عندما قلت له في أحدي الأيام ،عوض يا أخي ما كل السودانيين بيفطروا فول . ضحك وقال : أهي دي المشكلة .
بعد عدة زيارات ماكوكية اشتغلت زينة الخيمة فشكرني الشيخ الصوفي ووصفني بالأسطي فقال عوض حمد : أسطي شنو يا أخي ده ما ود ناس بدري وأشار لتمثال بابكر بدري الذي كان في شارع الموردة وليس بعيدا عن المولد. فاستغرب الشيخ وقال : إنت يا ولدي أهلك ديل علموا الناس ديل كلهم انت يا ولدي ما علموك ليه ؟ شايل عدتك وحايم ؟ فقال عوض حمد : ما علموه كيف ! علموه وأسى كمان ماشي أوروبا يدرس . وعندما لاحظ عوض حمد نظرة الشيخ الصوفي المستغربة قال : لكن طالقنوا يضايق الناس في شغلهم يوم نجار ويوم كهربجي يوم نقاش يوم عجلاتي . فقام الشيخ بالدعاء لي بالنجاح والتوفيق في رحلتي . .
كثيرا ما فكرت في عوض حمد . كان فيلسوفا أمدرمانيا . تعلمت منه الكثير . أحد دروسه أنه عندما كان يجالسني في قهوة مهدي حامد في سوق الموية ولاحظت لطشة كهرباء تركت أثرا ظاهرا علي الزردية فسألتهعن اللطشة . عرفت أنه قد سأل أحد زملائه عدة مرات فصلت الكهرباء ؟؟ والرد كان أيوة يا أخي فصلت الكهرباء . وعوض كان يقول لي ما تكضب الناس لكن اعتمد علي نفسك . لو صدقت كلام الراجل ومديت يدي كان أكون الليلة في حمد النيل "مقابر." .
وهذا الدرس من عوض حمد تذكرته كثيرا ولهذا يندر أن أكلف أي إنسان حتى أبنائي بأي شي وأفضل أن أقف علي الأمور بنفسي ، وأتذكر زردية عوض حمد المكسية بالبلاستيك الأحمر وأثر سلك الكهرباء علي فمها .
لك التحية عزيزي وأخي عوض حمد فقد كنت فيلسوفا أمدرمانيا عظيما ولك الرحمة إن كنت قد تركت هذا العالم .
في كتابتي عن معارفي النشالين كتبت قديما حادثة المولد والقائم مقام البطل الزين حسن .
اقتباس النشالون كانوا لا يضيعون فرصه مثل سقوط القائم مقام الزين حسن . .
القائم مقام الزين حسن ابن حيينا و يسكنون شمال الدايات و شرق دار الاذاعه القديمه . و شقيق صديقنا و كابتن الفريق عمر (حاج) تعرض لحادث نشل في 1965 مع انه من ابناء امدرمان المدردحين و البعض يذكره رحمة الله عليه من برنامج اسماء في حياتنا . فلقد رفسه حصان في المولد و اقام البعض عثرته . و بعد ان طلب الحلاوه من دكان حجوج الذي كان في الركن الشمالي الغربي في المولد و بالقرب من خيمة خضر الحاوي اكتشف ان جزلانه قد نشل فضحك و رجع بالحلاوه الي المنزل لان ال حجوج يعرفونه و قال ( السنه الفاتت كنته حاكم عسكري في الابيض ، عزفوا لي السلام الجمهوري في المولد ، السنه دي رفسني حصان و نشلوني في بلدي امدرمان .).
التحية
ع . س .شوقي
shawgibadri@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی المولد الذی کان کان فی
إقرأ أيضاً:
هكذا يستقبلون العيد في غزة!!
أليس من المرهق لأي شخص أن يحمل أعباء الماضي وهموم الحاضر، فضلا عن القلق بشأن المستقبل؟ فكأنّه بذلك لم يكفه ما يواجهه من صعوبات في واقعه المؤلم، جراء أحداث يسترجع مرارتها مع كل مناسبة عيد، ليجد نفسه غارقا في مزيج من الألم والعذاب والحنين إلى أيام وبيوت وأماكن كانت تجمع شمل العائلة والأهل والأقارب والأصحاب والجيران، وكأن لسانه يقول: لم يبقَ ما يستحق الاحتفال به، كلّ الذين أعرفهم لم أعد أراهم، وكلّ الذين أحبّهم استشهدوا، أو تحت الأنقاض، لم يبق سوى ذكريات تضيف ملحا على الجراح، لا سيما في أيام العيد التي تمرّ على قطاع غزّة، كتابوتِ حزنٍ لا تتسع بقاع الأرض لدفنه.
في هذا العام، غابت بهجة العيد عن غزة وأهلها المنهكين المحاصرين، من قِبل عدو محتل بغيض، ومن قريبون وجيران يرون الظلم ويسمعونه دون أن يحركوا ساكنا.
انطفأت الألوان الزاهية، والأضواء البراقة، وضجيج الناس، والخطوات المتسارعة التي تملأ الأرصفة والشوارع والحارات، لتحل محلها أصوات القصف والصراخ والفقد والدمار، فلا ملابس جديدة، ولا بحث عن متنزه، بل لا يوجد سوى مكان يجلس فيه الغزي ليجمع ما تناثر من ذكريات، إلا الركام، ويبكي بحرقة على فراق الأحبة، يذرف دموعا يرجو أن تطفئ نيران الحزن في قلبه.
غابت بهجة العيد عن غزة وأهلها المنهكين المحاصرين، من قِبل عدو محتل بغيض، ومن قريبون وجيران يرون الظلم ويسمعونه دون أن يحركوا ساكنا
القلوب مُثقلة بالحزن والوجع، والحياة شاحبة في أعين أصحابها. تغصُّ حناجرنا ألما، وترتجفُ الأصوات رهبة وتفيضُ العيون دمعا، يكاد المرء يتوقف عن التنفس اختناقا، وتتوقف عجلة الحياة للحظات من هولِ المُصاب الجلل الذي يعجز عن استيعابه، حتى أنّ الأرض لم تعد تتسع للحزن والخذلان والخيبات.. أحزانٌ تتوزع على مساحةِ أرضٍ تكثر فيها الآلام، ويتجرّع أهلها مُرّ الفراق وألم الفقد، وتعتصرهم العبرات الموشومة، حسرة في القلوب، وجراحا لا تَبرأ.
رغم الدمار الهائل والمجازر المتواصلة، استقبل أهالي قطاع غزة فجر الأحد عيد الفطر بالتكبيرات وأداء صلاة العيد، متحدّين الموت والركام، في مشهد يجسّد معاني الصمود والتشبث بالحياة. شاهدنا كيف يصطف المئات في الساحات العامة وعلى أنقاض المساجد المدمرة لأداء صلاة العيد، مرددين "الله أكبر" بأصوات تخترق الحطام، حاملة رسالة تحدٍ للاحتلال، ورسالة أمل إلى العالم. لم تكن مشاهد الصلاة وسط الدمار مجرد طقس ديني، بل تعبيرا صامتا وصارخا في آنٍ واحد، عن تمسك الفلسطينيين بكرامتهم وهويتهم وحقهم في الحياة، رغم كل محاولات الإبادة والاقتلاع التي تمارسها آلة الحرب الإسرائيلية منذ شهور.
هذا هو حال أهل غزّة في هذا العيد، فكل عائلة تستذكر فقيدها وجريحها، سواء كان أبا أو أما أو أخا أو أختا، ابنا أو بنتا أو حتى جارا. هذا ما يشعر به الفلسطيني في قطاع غزّة عندما يستعيد ذاكرة الأحداث التي مرّت به ولا تزال ماثلة أمامه، أحداث أشدّ وقعا من أي وصف، قيّدته وحرمته بهجة العيد وفرحته المسلوبة، مستحضرا كل مآسيه وآلامه، وكأنه يفتح خزائن أحزانه وتابوت أوجاع لا تتسع له الأرض.