(1)

يقول مثل أفريقي: "لن تعرف إلى أين أنت ذاهب إن لم تعرف من أين أنت قادم"، مما يعني أن لا مجال لمعرفة إلى أين يتجه النظام الديمقراطي إن لم نعرف تاريخه.

وهناك 3 حقائق رئيسية نستلهمها من أهم مراحل هذا التاريخ.

ولتفحص دروس الماضي البعيد يجب قراءة كتاب الباحثين البريطانيين في الأنثروبولوجيا وعلم الآثار دافيد فنقرو ودافيد كريبر، وعنوانه المثير "فجر كل شيء" (The Dawn of everything).

أهم استنتاجاتهما:

كانت الأنظمة المجالسية (المبنية على رفض الحكم الفردي ومن ثمة يجوز اعتبارها أول براعم النظام الديمقراطي) جدّ شائعة في كل المجتمعات البشرية. لم تكن أثينا القرن الخامس قبل الميلاد أول مدينة عرفت حكم المجالس، فقد كان ذلك الحكم هو النظام المعمول به في مدن ما بين النهرين 3 آلاف سنة قبل التجربة الإغريقية. لما غزا الإسبان في القرن الـ 16 المكسيك ذهلوا -هم القادمون من الدكتاتوريات الملكية الأوروبية العريقة- لاكتشاف شعوب تعيش تحت نظم سياسية لا يمكن وصفها إلا بالنظم الجمهورية والديمقراطية. لما غزا الفرنسيون كندا في القرن الـ 17 ذهلوا أمام "متوحشين" يقدسون الفردانية والحرية والمساواة ولا يخضعون إلا لمن يختارونهم لمناصب القيادة. يروي الكاتبان دهشة الرهبان الفرنسيين أمام هذه التصرفات وخاصة دهشة "المتوحشين" أمام هؤلاء البيض الذين يستكينون لحكم شخص ولا يعرفون الحرية والمساواة والتآخي.

 

لا علاقة عضوية أو خاصة للديمقراطية بالمركزية الغربية. وكل ما في الأمر أن الديمقراطية الغربية هي مرحلة تاريخية من تطور النظام المجالسي

وما يثبته الكاتبان استنادا إلى وثائق تاريخية متينة أن شعارات الثورة الفرنسية "حرية، مساواة، أخوة" كانت في جزء كبير منها من وحي السكان الأصليين لأميركا الشمالية.

ومثل هذا الكشف التاريخي عن عالمية وقدم البحث عن حوكمة رشيدة للمجتمعات البشرية كفيل أيضًا بدحض التهم السخيفة التي لاحقنا بها البعض عن وجود أمم تتماشى ثقافتها -حتى لا نقول جيناتها- مع الديمقراطية وأخرى ليس أمامها من خيار غير الدكتاتورية أو الجري وراء سراب المستبدّ العادل.

وكم غريب أننا نحن العرب الذين أخذنا كثيرا من الأفكار الديمقراطية عن الغربيين بصدد اكتشاف أنهم أخذوها من شعوب غابات البحيرات الكبرى في شمال أميركا!

الحقيقة الأولى: لا علاقة عضوية أو خاصة للديمقراطية بالمركزية الغربية. وكل ما في الأمر أن الديمقراطية الغربية هي مرحلة تاريخية من تطور النظام المجالسي.

(2)

من الماضي القريب

عن الماضي القريب، أي بمقاس القرنين الأخيرين، وإذا اعتبرنا أن المساواة أمام القانون والحق في الانتخاب شرطان لا وجود لديمقراطية كاملة دونهما، فإنه يمكننا القول إن:

بريطانيا لم تصبح دولة ديمقراطية "مقبولة" إلا عندما أعطت لنصف سكانها حق الانتخاب، وذلك لم يحصل إلا سنة 1928. أما أميركا التي أعطت للنساء حقوقهن السياسية سنة 1919، فيمكن القول إنها دولة حديثة الديمقراطية، إذ لم تتحسن ديمقراطيتها إلا سنة 1964 عندما اعترفت للأميركيين الأفارقة بحقوقهم السياسية. أما فرنسا التي لم تعط حق الانتخاب للرجال دون تمييز إلا سنة 1851، فإنها لم تتقدم في ديمقراطيتها إلا سنة 1944 عندما أعطت حق الانتخاب للنساء. كل هذه الدول التي نظنها معقل القيم والمؤسسات الديمقراطية هي التي ترفض للأجانب الذين يعيشون في أراضيها المساواة والعدالة (مواصلين نفس النهج الذي اعتمدته أثينا القرن الخامس في إقصاء الغرباء من البت في شؤون الحياة العامة للمدينة) مما يدل على أنه ما زال أمامها شوط هام قبل أن تكمل نضجها الديمقراطي.

الحقيقة الثانية: حتى ما نحسبها أعرق الديمقراطيات ما زالت في الواقع حديثة عهد بالديمقراطية، وما زالت ديمقراطيتها ناقصة بحاجة إلى التطوير.

(3)

ومن العقود الماضية

ثمة دروس الماضي الذي نحسبه بالعقود لا بالقرون.

وكيف ننسى أن أكبر الشعوب الأوروبية عاشت تحت أفظع الدكتاتوريات بالقرن العشرين في التاريخ: أي الدكتاتورية النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، ودكتاتورية فرانكو في إسبانيا وسالازار في البرتغال والكولونيلات في اليونان، مهد الديمقراطية المزعوم!

وللتذكير أيضا فإن الشعب الفرنسي العريق في الديمقراطية عانى ما بين 1941 و1944 من النظام الدكتاتوري الذي فرضه عليه المارشال بيتان. وإن الذين قاوموا النظام كانوا قلة. ومن الطرائف التي يرويها المؤرخون الفرنسيون أن الجماهير -التي كانت في استقبال الجنرال ديغول بعد التحرير واحتشدت بكثافة- قامت بالتصفيق للماريشال بيتان في نفس الساحة بباريس.

وانظر الآن لما يجري في الهند -التي جعل منها نهرو أول وأكبر ديمقراطية علمانية فيما كان يسمى العالم الثالث- هي اليوم بصدد الانجراف نحو نظام استبدادي ديني شبيه بالذي تتجه إليه إسرائيل، وقد أصبح طالبان اليهود قوة الدفع نحو دولة استبدادية.

الحقيقة الثالثة: الديمقراطية كمحطة نهائية تتوجه إليها كل الأنظمة السياسية هي خرافة، من نوع خرافة التوجه الحتمي للاشتراكية التي كان التقدميون بداية القرن الماضي يشيعونها. والواقع أنه يمكن للديمقراطية أن تتراجع حتى في أقدم معاقلها، مثلما لا شيء يمنع من ظهورها وثباتها أين لا نتوقع.

(4)

ماذا الآن عن الحاضر؟

حسب تصنيف مجلّة ذي إيكونوميست The Economist سنة 2017، من بين الـ 167 دولة التي تمت دراستها (من أصل 193 دولة عضوة في الأمم المتحدة)، توجد فقط 19 دولة ديمقراطية أساسا في أوروبا وشمال أميركا، و52 دولة دكتاتورية أساسا في أفريقيا وآسيا والعالم العربي، والباقي أي 96 دولة تتأرجح بين ديمقراطيات غير مكتملة أو دكتاتوريات "مخففة".

وعندما تنظر لأعداد سكان هذه الدول، تجد أن البشر الذين يتمتعون بالحد الأدنى من الحريات الفردية والجماعية، الذين لا يشكل الانتقال الدوري للسلطة أي خطر عليهم، ويتمتعون بحماية بالقانون والمؤسسات، وخاصة الذين يعيشون في مأمن من شطحات الزعيم الأوحد والعصابة المحيطة به… أقل من 10% من سكان العالم.

حتى ما نحسبها أعرق الديمقراطيات ما زالت في الواقع حديثة عهد بالديمقراطية، وما زالت ديمقراطيتها ناقصة بحاجة إلى التطوير

والأهم من الأرقام هو تشخيص التوجه العام للوضع. وأحسن تشخيص وجدته تضمنه تقرير سنة 2021 للمنظمة السويدية "المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية" (IDEA) حيث راجع هذا التقرير حالة الديمقراطية في العالم من سنة 2015 إلى 2020 وخلص إلى الاستنتاجات التالية:

تباطأت الموجة الديمقراطية لسبعينيات القرن الماضي التي بدت وكأنها ستغزو العالم. أصبحت نزاهة الانتخابات موضع شكّ حتى في أعرق الديمقراطيات. وعدد البلدان المتوجهة نحو مزيد من التسلط authoritarianism سنة 2020 يفوق عدد البلدان المتوجهة نحو الديمقراطية. ثمة تفاقم في انتهاج السياسات التسلطية أي قمع الحريات من قبل كل الأنظمة غير الديمقراطية. حتى في دول ديمقراطية كبرى مثل البرازيل والهند والولايات المتحدة و3 دول من الاتحاد الأوروبي (المجر، بولونيا، سلوفينيا) التوجه العام هو نحو مزيد من التسلّط.. وهذا بدعم متزايد من طرف "الشعب".

(5)

عندما تستحضر معطيات الماضي والحاضر تجد نفسك بين موقفين متناقضين.

وبديهي أن هناك ما يشرّع لتواصل الأمل في الديمقراطية. فهذا نظام سياسي آت من أعماق التاريخ وليس وليد التقدم الغربي. وهذا نظام يتوسع شيئا فشيئا لكي يضمن الحد الأدنى من الحرية والكرامة للجنسين ثم لعدد متزايد من الشعوب.

وهذا نظام يُطاح به أكثر من مرة لكنه يعود أقوى من ذي قبل -ألمانيا نموذجا- مما يعني أنه لا يوجد استبداد محمي من طفرة ديمقراطية مفاجئة ترحل به في أي وقت.

ولكن في نفس الوقت، لا شيء يبعث على التفاؤل عندما تنظر للوضع الحالي المتسم بالانحسار في العالم أجمع. وما فشل الربيع العربي إلا عينة من هذا الانحسار.

الديمقراطية كمحطة نهائية تتوجه إليها كل الأنظمة السياسية هي خرافة، إذ يمكن للديمقراطية أن تتراجع حتى في أقدم معاقلها، ولا شيء يمنع ظهورها وثباتها حيث لا نتوقع

والقاعدة أن فشل الديمقراطية هو الذي يفرش البساط الأحمر للاستبداد، وفشل الاستبداد هو الذي يفتح كل الأبواب أمام الديمقراطية.

وطبقا لهذا القانون، ثمة اليوم في العالم ديمقراطيات إن لم تبادر لإصلاحات جذرية فزمنها معدود.. وأيضا هناك أمام الديمقراطيين العرب فرص هائلة لا يجب أن يضيعوها هذه المرة، وأنظمتنا الاستبدادية تلفظ آخر أنفاسها وإن حُسب زمن البعض منها ببضعة عقود وأخرى ببضع سنوات.

(6)

الحديث عن الديمقراطية من قديم الزمان اختصاص الفلاسفة والمؤرخين والباحثين في العلوم السياسية. وعندما دعتني جامعة هارفارد السنة الماضية لتدريس الثورات الديمقراطية العربية، نبّهت الطلبة آنذاك أنني لن أتناول الموضوع بعقلية المحلل المنظر أو الباحث في العلوم السياسية الذي تحتل مراجعه من الصفحات أكثر مما تحتله محاضرته، وإنما كشاهد على العصر، كفاعل سياسي مجنّد لخدمة قضية يؤمن بها.. وأساسا بعقلية ومنهجية المهنة التي زاولتها لأكثر من ربع قرن.

وبمنطق الطبيب: لماذا يتمتع فقط عُشر البشرية بما يمكن تسميته التغطية الديمقراطية (على غرار التغطية الصحية أو تغطية الضمان الاجتماعي)؟

وما الأمراض التي تفسر ما ورد في التقرير بخصوص تراجع الديمقراطية في العالم، والتي قد تكون وراء سهولة الإطاحة بها، كما وقع في تونس ومصر أو في بعض البلدان الأفريقية. أو التي تنذر بما لا يحمد عقباه حتى في الديمقراطيات التي نظنها مبوبة للبقاء إلى نهاية التاريخ؟

وسأحاول في المقالات التالية تشخيص أهمّ هذه الأمراض، لعلّنا ننجح يوما في تفادي أو علاج بعضها لبناء ديمقراطيات تواصل وتحسّن أحلاما ومشاريع قادمة من أعماق التاريخ.

ألم يقل مؤسس علم التشريح الطبي فرشيو Virchow إن السياسة ليست إلا الطب على مستوى مجتمع بأكمله؟

المقالة المقبلة ستكون عن أكبر أسباب تصدّع وانهيار الأنظمة الديمقراطية.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی العالم إلا سنة ما زالت حتى فی

إقرأ أيضاً:

حروبُ القوى الاستعمارية ضد الشعوب

الدكتور عبد الرحمن المختار

المعروفُ عن الحروب أنَّها نزاعٌ مسلَّحٌ أطرافُـــها دُوَلٌ، والدولُ -كما هو معلومٌ- تمثِّــلُها الأنظمةُ الحاكمةُ في حالات السِّلْمِ وحالاتِ الحرب، وباسم الدولة يعلِنُ النظامُ الحاكم حالةَ الحرب في مواجَهةِ غيرِه من الأنظمة الحاكمة في دُوَلٍ أُخرى.

وباسم الدولِ أَيْـضاً تُعلِنُ الأنظمةُ الحاكمة عقدَ الاتّفاقيات وإبرامَ المعاهدات والانسحاب منها، ومن هذه الاتّفاقيات والمعاهدات ما يتعلَّقُ بإنهاء النزاعات المسلَّحة، وما يترتب عليها من اعترافاتٍ متبادَلةٍ بالحقوق والالتزامات تجاه بعضها.

وظهر في نهاية العقد السابع من القرن الماضي، نوعٌ من الحروب القذرة، لا تمثِّلُ هذه الحروبُ نزاعاتٍ مسلَّحةً بين أنظمة حاكمة في دولٍ قائمة، ولكنَّها حروبٌ موجَّهةٌ ضد شعوبٍ تتوقُ للحُرية والانعتاقِ من التبعية والارتهان لقوىً خارجيةٍ، وهذه الحروبُ طرفُها الدولي القوى الاستعماريةُ، التي تعمَدُ إلى تشكيلِ تحالُفاتٍ عسكرية دولية، تحتَ عناوينَ متعددةٍ؛ لشَنّ حروبٍ عدوانية قذرة، ضد إرادَة الشعوب الحية التي قرّرت الثورة على أنظمة حكمها الفاسدة العميلة المرتهِنة للقوى الاستعمارية.

وبمُجَـرَّدِ نجاحِ ثوراتِ الشعوب في إسقاط أنظمتها العميلة الفاسدة، تستشعرُ القوى الاستعماريةُ خَطَرَ الثورة على مصالحها وعلى نفوذها، ليس في الدولة التي أسقطت الثورةُ الشعبيَّةُ نظامَها الحاكم، بل في المحيطِ الإقليمي برُمَّتِه؛ ولذلك عملت القوى الاستعماريةُ على إجهاضِ الثورات الشعبيّة ووأدِها في مَهْدِها، وتحويلِها إلى مُجَـرَّدِ نزاعٍ داخلي على السلطة ينتهي بتدمير الدولة ومقوماتها.

وقد يكون تدخُّــلُ القوى الاستعمارية مباشِرًا أَو غيرَ مباشِر، بحسب الأحوال، وأهميَّة وحجم مصالحها في البلد الذي تتدخَّلُ فيه، المُهِمُّ في الأمر حساباتُ المصالح بالنسبة لهذه القوى والمحافظة عليها، وَإذَا ما تم تشكيلُ ما يسمى بقوات حفظ السلام؛ فغالبًا ما يكونُ ضمن مهامها حمايةُ مصالح القوى الاستعمارية، وَإذَا ما كانت نتيجة النزاع على هذا الحال؛ فذلك يعني نجاحَ القوى الاستعمارية في تحقيق أهدافها، والحفاظِ على نفوذها ومصالحها، وعلى هامش هذه المصالح والأهداف، تعملُ القوى الاستعمارية على إدارة النزاع الداخلي، بما يكفَلُ تعزيزَ نفوذها والحفاظ على مصالحها؛ لينتهيَ أمرُ الثورة الشعبيّة إمَّا بالاحتواء، وإما باستمرارِ النزاع داخليًّا تحتَ إدارة هذه القوى وسيطرتها وتمويلها، حتى يتمَّ تدميرُ الدولة ومقوماتها تماماً بأيدي أبنائها، وحالةُ السودان اليومَ شاهدٌ حيٌّ على إدارة القوى الاستعمارية للنزاعِ المسلحِ الذي سينتهي حتمًا بتدمير مقوِّمات دولة الشعب السوداني.

وَإذَا كانت القوى الاستعماريةُ قد نجحت في احتواءِ بعضِ الثورات الشعبيّة، ووأدِ بعضِها الآخر في عددٍ من البلدان، فَــإنَّها قد فشلت فشلًا ذريعًا في بلدانٍ أُخرى، ولم تفلحْ تحالفاتُها وإمْكَانياتُها العسكرية في وقفِ عجلة الثورة الشعبيّة، وكسر إرادَة الشعب الحُرة المصمِّمة على تغيير واقعها والتحرُّرِ من التبعية والارتهان للقوى الاستعمارية، ولعلَّ الشعبَينِ الإيراني واليمني يُعَدَّانِ مِثَالَينِ بارزَينِ لحَالةِ نجاح الشعوب في مواجهة الحرب القذرة للقوى الاستعمارية، الأول في سبعينيات القرن الماضي، والثاني في بداية العقد الثاني من القرن الحالي.

ففي نهايةِ العقد السابع من القرن الماضي، خرج الشعبُ الإيراني المسلمُ في ثورةٍ شعبيّة عارمة، ضد النظام البهلوي العميل للقوى الاستعمارية، التي لم تتردّدْ في إدانةِ التحَرُّكات الشعبيّة الثورية ضد عملائها، بل لم تتردّدْ في المسارَعةِ لمواجهة ثورة الشعب الإيراني عسكريًّا، حين أشعلت حربًا دوليةً امتدت لثماني سنوات، طرفُها القذرُ القوى الاستعمارية وأدواتُها في المنطقة العربية، التي موَّلت متطلباتِ الحرب العدوانية، وأسهمت إلى جانبِ القوى الاستعمارية في محاصَرةِ الشعب الإيراني.

ورغمَ كُـلِّ ذلك انتصرت إرادَةُ الشعب مرتَينِ:- الأولى حين تمكّنَ من إسقاط نظامِ الشاه العميل، والثانية حين تمكَّنَ من هزيمةِ القوى الاستعمارية وأدواتِها في المنطقة، ولا تزالُ هذه القوى -منذ نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، وحتى اليوم- في حالة حرب غيرِ معلَنة ضد الشعب الإيراني، وتحاولُ دون جدوى تحريضَ مكونات الداخل ضد بعضها، وتأليبَ الخارج للحد من آثار ثورةِ الشعب الإيراني على نفوذ هذه القوى الإجرامية في المنطقة وفي العالم.

ويعد الشعبُ اليمني المثالَ الثانيَ لفشلِ الحرب العدوانية القذرة للقوى الاستعمارية، التي أشعلتها منذُ بدية العقد الثاني من القرن الحالي في مواجهة ثورتِه الشعبيّة، وهذه الحربُ أشدُّ شراسةً وقذارةً من الحرب التي شنَّتها هذه القوى في مواجهة ثورة الشعب الإيراني؛ باعتبَار أن العالَــمَ شهد خلالَ الأربعة عقود التالية، تطوُّرًا تكنولوجيًّا هائلًا في جميع المجالات؛ فالاتصالُ والتواصل والإعلام، مثَّل سلاحًا فتَّاكًا قذرًا إلى جانب أسلحة التدمير والقتل، بما أصابها من تطور كبير، وسلاح المال المدنَّس، كُـلُّ تلك الأسلحة استخدمتها القوى الاستعماريةُ بكل شراسة في مواجهة شعبنا اليمني، وهدفُها المعلَنُ الصريحُ الصارخُ إسقاطُ الثورة، التي تم وصفُها بـ (الانقلاب)، واستعادةُ سلطة الخونة والعملاء، التي تم وصفُها من جانب القوى الاستعمارية بـ (الشرعية).

وكانت ثورةُ شعبنا اليمني قد تعرضت منذ بداية انطلاقتها لمحاولاتِ احتواء ومصادَرة وإفشال وإسقاط، غير أن كُـلَّ تلك المحاولات انتهت بالفشل الذريع؛ فحين كانت المبادَرَةُ الخليجية وسيلةَ القوى الاستعمارية لاحتواء ومصادَرة الثورة، تحولت تلك المبادرةُ بالنسبة للثورة إلى أدَاةِ فلترة خلَّصت الثورةُ من الشوائب التي عَلِقَت بها، ومن الكائنات القذرة التي ركبت موجتَها، فتم كنسُها إلى مزبلة التاريخ.

وحين أدركت القوى الاستعماريةُ فشلَ مخطَّطِ الاحتواء والمصادرة، لجأت هذه القوى إلى مخطّطِ إفشال الثورة، لكن الفشل كان حليفًا لهذه القوى وأدواتها في المنطقة، فانتقلت مباشرةً إلى خطة إسقاط الثورة، وحشدت لإنجاح هذه الخطة وتجنُّبِ مصيرِ سابقاتها تحالُفًا دوليًّا استعماريًّا (صهيوغربي آسيوإفريقي) وأعلن هذا التحالف في 26 مارس 2015 حربَه العسكرية العدوانية القذرة من واشنطن عاصمة عصمة الإجرام العالمي.

وقد استخدم هذا التحالُفُ العدواني في حربه القذرة ضد شعبنا اليمني -إلى جانب أحدثِ ما أنتجته مصانعُ الآلة الحربية للغرب الاستعماري من أسلحة فتَّاكة- وسيلتَين أشدَّ قذارةً وحقارةً، هما: حربُ التجويع التي تجسَّدت في الحصار الاقتصادي، الذي فرضته القوى الاستعماريةُ برًّا وبحرًا وجوًّا، وكذلك حرب التضليل الإعلامية، التي رافقت الحربَ العدوانية العسكرية وحربَ التجويع الاقتصادية.

ولأَنَّ تلك الحرب التي استمرت قرابةَ عقد من الزمان، كانت في مواجهة ثورة شعبنا اليمني، فقد فشلت تلك الحربُ العدوانية وما رافقها من حرب اقتصادية وحرب تضليل إعلامية، رغم كُـلّ ما توافر لها من إمْكَانيات هائلة، إلا أن تصميمَ وصبر وتصدي شعبنا قد أفشلها، وبإذن الله تعالى فَــإنَّ صبر وصمود أهلنا في قطاع غزة واستبسالَ وتصدي المجاهدين، وإخوانهم في جبهات إسناد محور المقاومة سيُفشِلُ ما تسمِّيه القوى الاستعمارية -زيفًا وتضليلًا- بالحرب على غزة، التي هي في حقيقتها جريمةٌ وليست حربًا، هي جريمة القرن وكربلاء العصر؛ وكون هذه الجريمة موجَّهةً ضد الأطفال والنساء والشيوخ من أبناء الشعب الفلسطيني؛ فلن يكونَ مصيرُها -بإذن الله تعالى- إلَّا الفشلَ والخيبةَ والخُسرانَ لمقترفيها المجرمين الأشرار.

وإذا كانت الحربُ العُدوانيةُ على شعبنا اليمني تفوقُ في قذارتها ووحشيتِها تلك الحربَ العدوانيةَ التي أشعلتها القوى الاستعمارية وأدواتها، فَــإنَّ جريمةَ القرن التي يقترفُ أفعالُها منذ أكثرَ من ثمانية أشهر جيشُ الكيان الصهيوني، بمشارَكةِ القوى الاستعمارية الغربية، وتواطُؤِ الأنظمة العربية، فَــإنَّ نتائجَ هذه الجريمة ستنقلِبُ -بإذن الله- على مقترفيها، وستفوقُ آثارُها الإيجابيةُ المستقبليةُ آثارَ ثورتَي الشعبَين الإيراني واليمني -بإذن الله تعالى-، والعاقبةُ للمتقين، والخُسرانُ المبينُ للظالمين المعتدين الطُّغاة المجرمين.

مقالات مشابهة

  • رحلة تطور العلاجات النفسية من العصور القديمة إلى العصر الحديث
  • العيون تحديد خطر الإصابة بأمراض القلب في المستقبل
  • صبحي: نتائج الخماسي في بطولة العالم للناشئين مطمئنة على المستقبل وسندعم العريان بانتخابات الاتحاد الدولي
  • وزير الرياضة: نتائج الخماسي في بطولة العالم للناشئين مطمئنة على المستقبل
  • أجانب النصر الدوليون الذين سينضمون للمعسكر الإعدادي
  • حروبُ القوى الاستعمارية ضد الشعوب
  • انعقاد اجتماع الجمعية العمومية للاتحاد الإفريقي للخماسي الحديث
  • كواليس اجتماع الجمعية العمومية للاتحاد الأفريقي للخماسي الحديث
  • حركة نازل آخذ حقي تجدد التزامها بالنضال لبناء دولة عراقية ديمقراطية
  • شاهد بالفيديو.. أرشيف نادر ملون من السودان يعود إلى منتصف القرن الماضي