الابتكار المالي في العراق: التحول إلى مشهد المدفوعات غير النقدية
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
الاقتصاد نيوز-بغداد
يشهد قطاع الأعمال في جميع أنحاء العالم ثورة حقيقية نتيجة اعتماد أنظمة الدفع الرقمية. الأمر الذي يبشر بتحولات كثيرة في بلدان عديدة مثل العراق لطالما هيمنت الحلول النقدية فيها على المنظومة المالية. ورغم أن العراق يتمتع بواحد من أدنى معدلات الوصول إلى الخدمات المالية في العالم، باعتبار أن 19٪ فقط من سكانه البالغين لديهم حسابات مصرفية، فقد اتخذت الدولة خطوات مهمة لتحقيق الشمول المالي[1].
وأطلق البنك المركزي العراقي عدة مبادرات في خطته الاستراتيجية الثانية للأعوام 2021 - 2023 بغية مواجهة هذا التحدي؛ حيث شهدنا تطبيق العديد من الإصلاحات المهمة، مثل دعم الخدمات المالية الرقمية، وفرض استخدام نقاط البيع المباشر في المعاملات المالية، وخفض الرسوم التجارية، وفرض ربط الحسابات المصرفية، وتقديم حوافز لتشجيع استخدام نقاط البيع المباشر. وتهدف هذه المبادرات بمجملها إلى تسريع وتيرة التحول إلى المدفوعات غير النقدية بحيث تتمكن الشركات والأفراد من تحقيق الفائدة المثلى منها.
ونظراً لقدرتهم على التأثير على عادات الشراء الاستهلاكية، يمثل التجار جهات فاعلة وبالغة الأهمية في هذا التوجه. ومن خلال تحويل نماذج الدفع الخاصة بهم إلى المنصات الرقمية، يمكن للتجار إحداث نقلة نوعية في أعمالهم وكذلك المساهمة في إحداث تغيير واضح في الاقتصاد العام. وبفضل توفر عاملي الأمان والشفافية، يمكن للتجار تشجيع تبني الإصلاحات المالية بين أوساط السكان، من خلال اعتماد أنظمة نقاط البيع المباشر وتبني الثقافة الرقمية. لكن ولسوء الحظ، يواجه العديد من التجار تحديات عديدة من حيث قلة الوعي والتثقيف المالي عند إنشاء أنظمة الدفع الرقمية واستخدامها. كما أن غياب التدريب المناسب على قبول هذه الأنظمة والتثقيف المالي يعيق التجار والمستهلكين على حد سواء، وغالباً ما يحصرهم ضمن المجال التقليدي للمعاملات النقدية.
ولعل ازدهار منظومة الدفع الرقمي يساعد إلى حد كبير في زيادة الشمول المالي وتعزيز النمو الاقتصادي في الأسواق الناشئة مثل العراق. وتتميز المعاملات الرقمية بالسرعة وسهولة التعقب إلى جانب منح التجار رؤى ذات صلة بمبيعاتهم وميزانياتهم المستقبلية. وتنطوي هذه المدفوعات على مخاطر أقل مقارنة بالمعاملات النقدية. ومع توفر البنية التحتية الملائمة ومزودي خدمات الدفع المحليين، يمكن للمدفوعات الرقمية أن تزود التجار بمنصة مثلى لتنمية أعمالهم بشكل تدريجي.
وتدرك الحكومة العراقية تماماً أهمية التحول الرقمي لتعزيز الاقتصادات القابلة للنمو والازدهار. ومن المقرر تنفيذ السياسات الصادرة مؤخراً عن البنك المركزي العراقي والحكومة لدعم المدفوعات الرقمية هذا العام. علاوة على ذلك، فإنه وفقاً لشركة "ستاتيستا" المتخصصة بدراسات وإحصائيات السوق، من المتوقع أن يصل إجمالي قيمة المعاملات في سوق المدفوعات الرقمية إلى 10 مليارات دولار في عام 2023[2]. وثمة العديد من منصات الدفع الرقمي العاملة في الدولة، حيث أصدر البنك المركزي العراقي 17 ترخيصاً من هذا النوع حتى الآن[3]. وتتعاون شركات التكنولوجيا المالية مع مزودي خدمات الاتصالات في العراق لتزويد المستهلكين بتجربة رقمية سلسة وآمنة لتسهيل الدفع الرقمي. وقد تعاونت Visa مع شركائها العام الماضي لإطلاق مجموعة متنوعة من منتجات الدفع لخدمة سكان العراق الذين يعانون من نقص الخدمات المصرفية. وتؤكد هذه الجهود إمكانية توسيع نطاق الخدمات المصرفية وإدراج المستهلكين تحت مظلة الشمول المالي.
ويبدو أن المستقبل يتجه بشكل متزايد نحو الحلول غير النقدية سيما مع مواصلة التكنولوجيا اختراق كل جانب من جوانب حياتنا. ومع استمرار تطور العالم لمواكبة العصر الرقمي، سيلعب التثقيف المالي وتطبيق أشد تدابير الأمن الرقمي دوراً بالغ الأهمية في تسهيل الانتقال إلى الاقتصاد غير النقدي على نحو أكثر سلاسة. ويبشر هذا التحول بزيادة كفاءة المنظومة المالية وتوفر الوصول الشامل إلى الخدمات المالية، خاصة بالنسبة للسكان الذين لا يملكون حسابات مصرفية أو يملكون حسابات لكنهم لا يستخدمونها.
ولا شك أن تعزيز الثقافة المالية يلعب دوراً جوهرياً في استكمال هذا التحول وضمان استفادة الأفراد بالكامل من مزايا الحلول المالية الرقمية. ولدعم جهود التثقيف المالي في السوق، اخترنا اثنين من شركائنا للتعاون معهم من أجل تقديم محتوى يمكن أن يساعد في بناء المعرفة ومساعدة الأفراد على تحسين استيعابهم للمفاهيم والخدمات المالية. وستلعب هذه الشراكات دوراً محورياً في تطوير منظومة شاملة للمدفوعات الرقمية تمكّن الاقتصاد العراقي من الازدهار والتطور في العصر الرقمي.
بقلم ماريو مكاري، المدير العام لشركة Visa في منطقة دول المشرق
المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز
كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار الخدمات المالیة الدفع الرقمی
إقرأ أيضاً:
التحول الديموغرافي وتوجيه مجتمعات المستقبل
في الحديثِ عن المستقبل تبرز بعض العوامل والإشارات التي تأخذ حيزًا أكبر من غيرها في نقاشات المستقبل؛ وذلك كونها تتصل بعالم (الأشياء)، وتكون ملموسة ومشاهدة بشكل مباشر في حياة الأفراد (متخصصين وعامة)، وبالتالي فإن تقديرهم لأولويتها في تحريك المستقبل وتغيير واقع الحياة الإنسانية والمجتمعات يكون أكبر. ومن ذلك التقنيات الحديثة وأهمها ما تولده اليوم فتوحات الذكاء الاصطناعي من تطبيقات وبرمجيات تتقدم بالزمن، وتغير خارطة تموضع الذكاء، وتعيد فتح جدلية تفوق ذكاء الآلة في مقابل ذكاء البشر. غير أن بعض العوامل والإشارات الأخرى المرتبطة بالمستقبل - رغم رصدها - وتكرار الحديث عنها فإنها لا تأخذ ذات الحيز من (الهاجس البشري) في ضرورة العمل والقدرة على تدبير مسارات التكيف أو التعامل معها، وقد يرد ذلك لكونها غير ملموسة أو محسوسة بشكل مباشر، ولا تؤثر على المعيش المدرك اليومي، وقد ترتبط في الذهنية العامة بمستقبل يمكن السيطرة عليه وتفاديه أو سهولة التكيف معه، ومنها المتغير الديموغرافي؛ والذي تكمن حساسيته ليس فقط في المؤشرات (الكمية) المتصلة بتوقعاته وسيناريوهاته، وإنما في القراءات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن يولدها ذلك (الكم)، بحسب طبيعة كل مجتمع وتركيبته وسبل تدبير نظامه السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
ثمة مؤشرات لا يمكن إغفالها في الحديث عن متغير الديموغرافيا ومستقبله، فالنمو العالمي لأعداد السكان بنحو 18% بين عامي 2025 حتى 2050 يحمل في طياته أوجهًا متباينة لطبيعة هذا النمو، وتوزيعه، والحصص الاقتصادية لمكاسبه، والأعباء الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على نقصه في أقطار واقتصادات بعينها. واقتراب معدلات الخصوبة العالمية من (مستويات الإحلال) حسب توقعات عام 2050 لتكون عند (2.1) ولادة لكل أمرة يفتح أسئلة حول الدوافع والمسببات الصحية والاجتماعية لوضع الخصوبة العالمي، ففي السياق الاجتماعي هل تبدو ثمة أفكار وإيديولوجيا جديدة ناشئة تحرك المجتمعات نحو حسر موجات الزواج، أو حين الزواج حسر معدلات الإنجاب (طواعية). انشغلت النظرية الاجتماعية خلال العقود الفائتة بتبرير ذلك بسبب تركيبة الأسر الجديدة (النواة)، وممارسات الفاعلين الأسريين، من خروج المرأة بشكل موسع للانخراط في العمل والاقتصاد، إلى تزايد المسؤوليات الاقتصادية للمربين، إلى دخول مفاهيم جديدة في معادلة التربية، وهو ما استدعى الأسر الجديدة إلى تبني عقيدة (الإنجاب المحدد) في مقابل (التربية المكتملة)، ولكن لا يزال السؤال قائمًا: هل هذه المبررات الاجتماعية تصلح وحدها لتفسير حالة الخصوبة العالمية اليوم؟ أم أن هناك متغيرات تتعلق بقناعات الأفراد أنفسهم قد تغيرت حتى في ظل انخراطهم في تكوين أسر جديدة. ومن المؤشرات البارزة في سياق المتغير الديموغرافي تحصل القارة الإفريقية على نصيب الأسد من حصة النمو السكاني العالمي، في مقابل انحسار تلك النسب في أوروبا وبعض بلدان أمريكا الشمالية، وتطرح هذه المؤشرات أسئلة حول سؤال الطلب على القوى العاملة، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة التي ستعاني من الانحسار في معدلات السكان في سن العمل، وهل سيغير ذلك خارطة الهجرة العالمية، لتكون هجرة قائمة على الطلب أكثر من كونها هجرة قائمة على الحاجة مثلما هو الوضع العالمي الراهن. كيف ستنشأ كذلك أنماط جديدة للعمل عن بعد، والعمل في قارات مختلفة من قارة واحدة لشخص واحد، وكيف سيعالج انتماء الإنسان الاقتصادي ومساهمته الاقتصادية ضمن منظومات الناتج المحلي القومي وإنتاجية العمالة في ظل خدمته في أكثر من قُطر وقارة. وفي المقابل كيف تستفيد إفريقيا (اقتصاديًا) من حالة الانفجار السكاني في بعض دولها، خصوصًا مع توسع نطاق القوى العاملة، وهل ستركز المؤسسات الرائدة في التعليم والتدريب جهودها في الدول الإفريقية لخلق جيل من المهارات والمعارف قادر على تحقيق الانتقال الاقتصادي.
الواقع أننا يمكن تقسيم دول العالم في سبيل تعاملها مع المتغير الديموغرافي اليوم إلى خمسة نطاقات أساسية: دول عملت على تمكين سياسات الهجرة إليها بشكل مطلق ومباشر عبر الحوافز والتسهيلات وسياسات الجذب والاستقطاب، ودول عملت على تمكين تلك السياسات وفي سياق مواز طورت سياسات للهوية الوطنية ولحماية التركيبة السكانية الأصيلة، ودول تحاول تقييد مسائل الهجرة والإقامة والمحافظة على المكون الأصيل لمجتمعاتها، ودول لا زالت تنتهج سياسات غير متسقة بين الجذب والاستقطاب وبين محاولات تمكين المكون الأصيل لمجتمعاتها، ودول تحاول المراهنة على نظم تنمية الموارد البشرية والحماية الاجتماعية للتعامل مع المتغير الديموغرافية دون النظر إلى السياسات الأخرى التكميلية مثل سياسات الهجرة والإقامة. تكاد الخارطة العالمية تتقسم - حسب حدود رصدنا - بين هذه النطاقات الخمسة. وفي تقديرنا فإن حساسية المتغير الديموغرافي تتطلب سياسات يتم صنعها بحساسية ودقة؛ بحيث توازن في (حالتنا المحلية) بين أربعة عناصر أساسية: حاجيات نمو الاقتصاد وتنويعه وتوسيع هياكله الانتاجية، المحافظة على عناصر الهوية الوطنية بوصفها سمة للتنمية والنمو، تحقيق الاكتفاء الاقتصادي للسكان خاصة فئة السكان في سن العمل، وديمومة البيئة المتكاملة لرعاية الأشخاص ما بعد سن العمل والحفاظ على مستويات أفضل من الصحة العامة لهم. وفي تقديرنا كذلك فإن التعامل مع المتغير الديموغرافي لن يكون محصورًا بمجرد وجود السياسة السكانية بل يكون عبر عملية تنسيق ومواءمة كافة السياسات الاجتماعية والاقتصادية لتكون متفقة على مقصد (سيناريو) ديموغرافي واضح ومحدد، تنطلق منه وتتمحور حوله، فإذا كان مقصد السيناريو تعظيم الاستفادة من السكان في سن العمل باعتبار فرصة النافذة الديموغرافية، سعت قطاعات التعليم والتدريب والتأهيل لتغيير مقارباتها نحو تحقيق هذا المقصد، ووسع الاقتصاد فرصه للعمل والريادة لهذه الفئة، وحسنت مؤسسات الرعاية الشبابية الظروف الكاملة للنمو الأمثل لهذه الفئة بما يخدم تحقيق مقاصد السيناريو الوطني المنشود.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان