الحروب الأهلية وارتفاع معدلات الجريمة
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
على مدار السنوات الماضية خرجت جثث كثيرة من سجون الحوثيين في صنعاء بعد تعذيب وحشي، كما خرجت جثث أخرى ومشاهد مروعة مختلفة أنتجتها جماعات مسلحة في مناطق أخرى من البلاد، والشأن ذاته، وربما أكثر ترويعاً في بلدان عربية أخرى، وعلى وجه الخصوص تلك التي مرت بحالات من الصراع والحروب الأهلية، في العراق وسوريا والسودان وليبيا.
ومع مرّ السنوات رأينا مشاهد لحرق الناس ودفنهم أحياء، وأخرى لثقب رؤوسهم بالمثقاب، ناهيك عن حالات تعذيب وضرب حتى الموت، في سجون أنظمة وميليشيات مختلفة، وغيرها من جرائم العنف السياسي والعسكري والطائفي التي ولدت ـ بدورها ـ جرائم جنائية مروعة من مثل قتل أب لأبنائه، أو قتل زوجة لزوجها، أو أخ لأخيه، وما هو أدهى من ذلك، عندما يقتل الابن أباه أو أمه، في سوابق لم تكن ترد حتى في خيال المنتجين السينمائيين في منطقتنا العربية.
وقد فتحت الجرائم ذات الصبغة السياسية الباب لجرائم أخرى مروعة ليس لها طابع سياسي، بفعل سماع ورؤية الأخبار والمشاهد التي أنتجتها سجون الميليشات والأنظمة والجماعات المتطرفة المختلفة خلال العقد الماضي، الأمر الذي ولد جرائم أخرى بشعة ذات طابع اجتماعي جنائي، كما ذكرنا أعلاه. وقد بدأت القصة في البلدان الموبوءة بتلك الجرائم بصراع سياسي ظل يراكم الاحتقانات إلى أن تحول إلى صراع عسكري مسلح، وعندها خرجت الشيايطن من أقبيتها واندلعت ألسنة اللهب، وبدأت عسكرة المجتمعات، حيث رأينا المعلمين والموظفين والمدنيين يحملون السلاح ويصبحون زعماء حرب، وبدأت تدريجياً عمليات متسقة لتكريس العنف، وإضفاء الطوابع القيمية عليه، إلى أن تحول المجتمع أو شرائح واسعة فيه إلى ميليشيات مقاتلة توظف الأطفال والمراهقين والشباب وتستهدفهم بأسلحتها وأيديولوجياتها العنيفة. وترجع التقارير الدولية أسباب ارتفاع معدلات الجريمة إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وإلى ضعف الوازع الأخلاقي، وإلى سيطرة الميليشيات وتوظيفها للسجناء والمطلوبين أمنياً ضمن عناصرها، وهؤلاء يأتون غالباً بكم هائل من عقد الانتقام والثأر ضد المجتمع والقيم والأخلاق، مع فوضى السلاح المنفلت بفعل توسع الحروب الأهلية التي ضربت بعض الدول العربية، دون أن نغفل عن أثر الأعمال الفنية والأفلام والمسلسلات في انتشار معدلات الجريمة لدى الأطفال والمراهقين تحديداً. فتحت الجرائم ذات الصبغة السياسية الباب لجرائم أخرى مروعة ليس لها طابع سياسي، بفعل سماع ورؤية الأخبار والمشاهد التي أنتجتها سجون الميليشات والأنظمة والجماعات المتطرفة وكما تنوعت وسائل الجريمة ودرجاتها تنوعت ساحاتها، فلم يعد الأمر كما كان في السابق، حيث الشارع والسوق هما الساحة الأولى لحدوث الجرائم، بل توسعت هذه الساحة اليوم، لتشمل المنازل والمدارس وحتى دور العبادة التي كانت مقدسة لا يجوز التعرض فيها لأحد، وهو ما يحيل على ضعف الوازع الديني والروحي، مع غياب سلطة القانون ووسائل إنفاذه.
. ومع خروج المظاهرات في بعض البلدان العربية في 2011، ومع سقوط بعض الأنظمة السياسية سقطت بعض المنظومات القيمية والروحية، وشهدنا تصاعد موجات ما يمكن أن يطلق عليه «الإلحاد العاطفي» الذي يعد ردة فعل عاطفية لانهيار أحلام التغيير الذي رفعته ثورات «الربيع العربي» شعاراً لها، وبما أن «الإسلاميين» كانوا في مقدمة من أشعل تلك الثورات، وبما أن تلك الثورات قد فشلت ـ ولو إلى حين ـ فإن انهيارها مثّل لدى الكثير من الشباب المندفع صدمة شعورية قوية، ربط بسببها بين انهيار الأحلام والمنظومة الدينية برمتها، وهو ما جعل الكثير من الشباب يجنح إلى التمرد على القيم الدينية السائدة. وفوق ذلك، وبفعل ارتخاء القبضة الأمنية في عدد من الدول التي تشهد صراعات مسلحة ساعد انتشار تجارة وإدمان المخدرات على تزايد معدلات الجريمة، ضمن سلسلة من العوامل يعضد بعضها بعضاً، الأمر الذي أدى لضعف الوازع الأخلاق والديني، والجرأة في تحطيم الضوابط أياً كانت، وهذا بدوره ساعد على تنامي معدلات الجريمة.
ومع تعقيدات ملحوظة في الأوضاع الاقتصادية، وتردي مستويات الدخل وانتشار البطالة، ومع غياب الوعي والرقابة الاجتماعية، وتراجع التعليم والقيم التربوية، ومع غياب كلي أو جزئي للأجهزة الأمنية، وغياب المحاسبة، وانهيار المنظومات العدلية، وتحكم الميليشيات في مناحي الحياة المختلفة في بلدان بعينها، مع كل ذلك ارتفعت معدلات الجريمة، وتنوعت أشكالها وأساليبها والفئات العمرية التي تنفذها. كما أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات التكنولوجية الحديثة طرقاً جديدة لتوسيع نطاق الجريمة، ويسّرت سبلاً جديدة وجديّة لتنفيذها، عن طريق الإيقاع بالضحايا ضمن ما بات يعرف بـ«الجريمة الإلكترونية» في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والجنائية.
ولوحظ في الجرائم التي ارتكبت خلال فترات الصراع أن المجرم لا يكتفي بالجريمة، ولكنه يلجأ للتمثيل بالجثة على مستوى جرائم القتل، وهو ما يوحي بنوع من الحقد والغضب الإجرامي الذي لم تخفف منه الجريمة في حد ذاتها، ولكن منفذها يلجأ لأساليب مختلفة في التمثيل بالجثة في تصرفات محكومة بسلوك غرائزي إجرامي يستهدف الانتقام من الضحية وأذيتها حتى بعد الموت. يقول علماء النفس إن المجرم عندما يمارس جريمته ضد الضحية فإنه لا يمارسها ـ وفق تصوره ـ ضد إنسان مثله، ولكنه يرى في الضحية صورة غير إنسانية، أو صورة حيوانية شريرة لا تستحق الحياة، وبالتالي فإن هذه العملية النفسية اللاشعورية تساعد المجرمين على تنفيذ جرائمهم بضمير مرتاح.
وفوق ذلك، وعندما يتعلق الأمر بأعمال العنف الديني والطائفي والأيديولوجي فإن الكثير من المجرمين المهووسين أيديولوجياً ينطلقون من منطلقات «تطهرية» في اقتراف جرائمهم، على أساس أن الضحايا يستحقون الموت، وأن المجرمين يستحقون تكريم السماء والأرض، إثر قيامهم بأعمال «ترضي الله» حسب تصورات الكثير ممن تغسل الجماعات الدينية المتطرفة أدمغتهم بعباراتها الدينية والأيديولوجية القائمة على أساس وجود عالمين لا ثالث لهما: عالم الخير المحض الذي تمثله هذه الجماعات، وعالم الشر المحض الذي يمثله الضحايا.
وقد دخلت مؤخراً ـ وللأسف الشديد ـ عدد من الدول العربية ضمن «المؤشرات العالمية» لانتشار الجريمة، واحتلت بعض الدول مراتب متقدمة ضمن التصنيفات العالمية للدول الأقل أمناً والأكثر انتشاراً للجريمة، وهو ما يقرع الأجراس بضرورة استنفار الجهود السياسة والاجتماعية والثقافية والأمنية لمواجهة هذه الظواهر المتزايدة، مع انتشار معدلات الإحباط واليأس والجنوح للجريمة، ومع اهتزاز القيم الأخلاقية والوازع الديني، وما يُحتمه على المؤسسات المعنية من جهود مضاعفة لمواجهة تلك الظواهر المتزايدة يوماً بعد آخر. ⇧ موضوعات متعلقة موضوعات متعلقة مقالاتالأعلى قراءةآخر موضوعات آخر الأخبار الحروب الأهلية وارتفاع معدلات الجريمة حملة اختطافات مسعورة واقتحام منازل وإطلاق الرصاص الحي... درجات الحرارة في مختلف المحافظات اليمنية أول شركة اتصالات تتراجع عن رفع أسعار باقات... مقالات الحروب الأهلية وارتفاع معدلات الجريمة التسوية في اليمن بعيدة المنال! أهم مكاسب ذهاب وفد عبدالملك الحوثي إلى الرياض ممر السعودية إلى المستقبل اخترنا لك لواء سعودي يلمّح إلى طلب أعضاء من وفد... الحوثيون يحاولون الوصول إلى ”أي اتفاق” مع السعودية... إيران تشتعل.. ثورة شعبية تهز 14 مدينة والمتظاهرون... آل الشيخ يطلق فيديو ”هوية موسم الرياض” ويكشف... الأكثر قراءةً لواء سعودي يلمّح إلى طلب أعضاء من وفد... الحوثيون يحاولون الوصول إلى ”أي اتفاق” مع السعودية... إيران تشتعل.. ثورة شعبية تهز 14 مدينة والمتظاهرون... آل الشيخ يطلق فيديو ”هوية موسم الرياض” ويكشف... مسؤول بمكتب طارق صالح يقترح على السعوديين تقديم... الفيس بوك ajelalmashhad تويتر Tweets by mashhadyemeni elzmannews الأقسام المشهد اليمني المشهد المحلي المشهد الدولي المشهد الرياضي المشهد الثقافي المشهد الاقتصادي المشهد الديني الصحف علوم وصحة مقالات حوارات وتقارير منوعات المشهد اليمني الرئيسية من نحن رئيس التحرير هيئة التحرير الخصوصية الشروط اعلن معنا اتصل بنا جميع الحقوق محفوظة © 2021 - 2023
⇡ ×Header×Footer
المصدر: المشهد اليمني
كلمات دلالية: معدلات الجریمة الحروب الأهلیة الکثیر من وهو ما
إقرأ أيضاً:
رمضان بين القدسية والانحلال .. أزمة وعي
بقلم : سمير السعد ..
يعد شهر رمضان المبارك موسمًا للسمو الروحي والتأمل والتقرب إلى الله، لكنه في السنوات الأخيرة أصبح، للأسف، ميدانًا لانفلات أخلاقي وإعلامي ممنهج، تحركه منصات رقمية وبرامج ترفيهية ومسلسلات تساهم في تجهيل المجتمع وتعزيز التفاهة والانحطاط الأخلاقي.
لا يمكن إنكار أن بعض وسائل الإعلام استغلت الشهر الفضيل لإنتاج محتوى يروج للعنف اللفظي والجسدي، ويجعل من السوقية والانحطاط الفكري أدوات لجذب المشاهدات. برامج تسعى إلى الإثارة بدلًا من التثقيف، ودراما تنحدر إلى مستوى متدنٍ من الحوار والمضمون، فضلًا عن موجة “الترندات” التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبح التفاخر بالسطحية والانحلال جزءًا من الاستعراض اليومي لبعض المؤثرين، الذين يسوّقون لأفكار تضر بالقيم الأسرية والمجتمعية.
أحد أبرز مظاهر الانحراف في المشهد الإعلامي هو استغلال العلاقات الأسرية للترويج لمحتوى هابط، حيث بات بعض الأزواج والزوجات يستعرضون حياتهم الشخصية لأغراض التسوّل الإلكتروني أو لتحقيق الشهرة، متجاهلين أن هذه السلوكيات لا تتماشى مع أخلاق المجتمع المحافظ، بل تكرس مفهوم الدياثة وتسليع الإنسان وتحويل الحياة الزوجية إلى سلعة إعلامية تُباع وتُشترى.
ولا تقتصر الأزمة على الإعلام الترفيهي فقط، بل تتعداها إلى المشهد السياسي، حيث نجد كتّابًا ومدونين ينقلبون على آرائهم بين ليلة وضحاها، متماشين مع من يتصدر الواجهة السياسية، في ممارسة مكشوفة للتملق والانتهازية. فمن كان يهاجم جهةً بالأمس، تجده اليوم يصفق لها، وكأن المبادئ أصبحت مجرد شعارات مؤقتة تُبدّل وفق المصالح.
وفي الوقت الذي يتعرض فيه الأبرياء في البلدان الإسلامية إلى القتل والتشريد، يلهث جزء كبير من المجتمع وراء تفاهات مواقع التواصل وبرامج “الترفيه”، غافلين عن معاناة الشعوب التي تعاني ويلات الحروب والاضطهاد. هذه اللامبالاة المتزايدة تنذر بمخاطر مستقبلية تهدد الوعي الجماعي، وتجعل من التجهيل أداة لإضعاف المجتمعات وإبعادها عن قضاياها الحقيقية.
في ظل هذا المشهد المظلم، لا بد من وقفة جادة من الأسرة والمجتمع لمواجهة هذا الانحدار. فالتربية الأسرية لا تزال الحصن الأول ضد الانحراف، ولا يصعب على الآباء توجيه أبنائهم وتنبيههم لعدم الانجرار وراء المحتوى الهابط. كذلك، فإن الجهات الأمنية ونقابة الفنانين وهيئات الإعلام مطالَبة بالتصدي بحزم لمروجي الانحلال، وفرض رقابة صارمة على البرامج التي تنشر العنف والتفاهة والإباحية المقنّعة.
رغم هذه الموجة الجارفة من التفاهة، برزت أعمال درامية راقية حافظت على القيم الفنية والرسائل الهادفة، مثل مسلسل “العشرين” للفنانة آلاء حسين، الذي قدم صورة مؤثرة ومتزنة للدراما العراقية، إضافة إلى العمل الذي يجسد بطولة الشهيد حارث السوداني، ومسلسل “قط أحمر” للفنان أحمد وحيد، الذي تميز بأسلوبه الساخر والهادف. هذه الأعمال تثبت أن الإعلام يمكن أن يكون أداة للإصلاح بدلًا من الانحطاط، إذا وُجدت الإرادة الحقيقية لصناعته بمسؤولية.
لقد وصلنا إلى مفترق طرق خطير، حيث أصبح تجهيل المجتمع مشروعًا متكاملًا يُروّج له بطرق مباشرة وغير مباشرة. لكن الأمل لا يزال قائمًا بفضل الوعي المتنامي لدى فئة من المثقفين والمجتمع الواعي الذي يدرك مخاطر هذا الانحدار. المسؤولية مشتركة، بين الأفراد والجهات الرسمية، لإنقاذ ما تبقى من القيم، وإعادة الهيبة لشهر رمضان كزمن للروحانية لا للانحلال.
فهل سنستمر في الانحدار، أم سنستعيد وعينا قبل فوات الأوان؟
سمير السعد