د. نزار قبيلات يكتب: لماذا الاهتمام بالأدب الشعبي؟
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
للشعوب عامةً لونان من الأدب: المكتوب والشفاهي، وهو أدبٌ جرى تناقله جيلاً إثر جيل، ما أدى إلى حفظِه رغم عوامل الحداثة والعولمة، التي هددته وتهدده على الدوام، فما انفك الأدب الشعبي يشكل جزءاً مهماً من هوية المجتمع، فقد عُدّ مؤخراً من الآثار الثمينة التي يتركها الإنسان خلفه وإن لم تكن آثاراً ماديةً، فالأدب الفلكلوري أو الشعبي أكثر التصاقاً بالمجتمع من الآداب العالمية التي لا تحمل بصمة مجتمعية خاصة.
والاهتمام بالأدب الشعبي رعته الأمم الغربية منذ آماد طويلة، منها المجتمع الأميركي الذي حرص كما يذكر «روبرت سبلر» في كتابه النقد الجديد على حفظ الموروث، الذي رافق تأسيس المجتمع الأميركي الجديد بأغانيه وقصصه وأساطيره وأناشيده وفكاهاته وأمثاله وأحاجيه وخرافاته، فحتى المدن التي قطنها المهاجرون الأوروبيون في الساحل الشرقي للقارة الأميركية تحمل أسماء مدنهم التي هاجروا منها في إنكلترا وإيرلندا وفرنسا وسواها، فترى مدناً أميركية تحمل أسماء مدن بريطانية عريقة: كلندن ودبلن ومانشستر ونيويورك على غرار «يورك» البلدة البريطانية المعروفة، وبالمقابل اهتمت الجامعات الأميركية مبكراً لا سيما أساتذة الأدب فيها بمسألة حفظ التراث غير المادي الذي كان مصدره ما تعلّمه الأبناء من الآباء والأجداد وأصدقائهم، فالأمم تحافظ على إرثها كما تحافظ على حاضرها، فقد بات الاهتمام بأصل اللّغات المحكية التي حملت هذا الإرث غير المادي والتي ستحميه من الاضمحلال ظاهراً في الدّرس اللغوي الحديث، وذلك وفق آخر نتائج المدارس الألسنية الجديدة، فإحياء التراث الثقافي يعني مداولته من خلال تدريسه في مساقات ترعى الحركة الأدبية المحلية وأيضاً من خلال مؤسسات إنتاج سينمائي وتلفزيوني تعمد إلى نقل المكتوب منه إلى الشفوي، والشفوي إلى المرئي.
الأدب المحلي مصدر نهضوي لا يقل أهمية عن المصادر الطبيعية الأخرى التي تحتاج لعوامل التنمية المستدامة ودوافعها، على أننا ندرك أن الأدب الفلكلوري يعني اختلافاتٍ شفوية نابعة عن تنوعٍ في البيئات الحاضنة والأدوات الحضارية ومستمسكاتها في الساحل والجبل والصحراء وفي المواسم والمناسبات والوقائع...، فهو بذلك يختلف عن الأدب الإنساني الذي يفهمه العالم بيسر وتجعله الترجمة سائغاً، فيسهل حفظه وعرضه للعالم أجمع لو قورن الأمر بالأدب الشعبي الذي يحتاج إلى مشاريع وطنية كبيرة، على أننا ندرك أيضاً أن الأدب الفلكلوري أصيلٌ من حيث مقدرته على ربط الجغرافيا وظواهرها بالإنسان وحوادثه وهمومه، فقد صهرها جميعاً في بوتقة الفنون الشعبية على تعدد أجناسها الغنائية والقصصية والحرفية، فالشعوب التي تريد أن تنشر رسالتها الإنسانية تشعر بأنها مطالبة أيضاً بنشر فلكلورها وإرثها بشقيه المادي والمعنوي.
أخبار ذات صلة نجاة مكي.. وأطياف الذاكرة الإنسانية «تريندز» يشارك في المهرجان الأكاديمي والثقافي الكوري - الإماراتي
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الثقافة الأدب الشعبي الأدب الشعبی
إقرأ أيضاً:
الشعر الشعبي.. وهوية الشاعر العماني
تمر اللغة بتطورات وتحديثات دائمة، إنها الحياة الأكثر تغيّرا، وإذا سكنت اللغة وجمدت فقد ماتت، وكُتب عليها الفناء، لذلك فاللغة كائن حيّ، وعلى هذا الأساس يجب التعامل معها، واللهجات المحلية إنما هي لغات أخرى، بل هي الأكثر تغيرا وحيوية وديمومة، ولذلك تجد أن كل لهجة تمر بالكثير من التحديثات والتراكمات، بشكل شبه يومي، نتيجة التداخل مع لهجات الآخرين، والتعامل مع جنسيات مختلفة، والتأثر والتأثير مع الغير، ولذلك أشكال وأنماط لسنا بصددها حاليا.
وما كان الشعر الشعبي بعيدا عن هذا التلاقح اللغوي، بل كان الأكثر تأثرا برياح التغيير، ودخلت عليه الكثير من المفردات غير المحلية، وتأثر كثيرا بلهجات عربية وغير عربية، وتمازج معها، ونتج عن ذلك «مزيج ثالث» أحيانا من اللهجة، فهي لغة غير مستخدمة اجتماعيا، وغير محلية بشكل كبير، ومع ذلك قد يفهمها العامة من خلال السماع، أو التقارب مع اللهجات الأخرى، وفـي كل الأحوال، فإن هذه اللغة الهجين هي تأثر طبيعي بلغات أقوى، وأكثر انتشارا كاللهجة النجدية، والتي منها بدأت شرارة الشعر الشعبي فـي شبه الجزيرة العربية، ولذلك يستخدم الشعراء العمانيون أحيانا مفردات أو مصطلحات غير موجودة فـي قاموس لهجتهم الدارجة، وذلك يرجع لعاملين: إما لضعف إمكاناتهم اللغوية ولعدم درايتهم بالمقابل المحلي لتلك المفردة، وإما لقصور معين فـي ثقافتهم المحلية، ولذلك يلجؤون إلى «الاستلاف» من لهجات الآخرين، وهذه إشكالية يقع فـيها الكثيرون من خلال التأثر المباشر وغير المباشر مع مجتمعات وأشعار أتت من بيئات أخرى.
إن الشاعر هو «ابن بيئته»، وهو الناطق الرسمي بلسان مجتمعه، ولذلك فهو مطالب بالحفاظ على هويته اللغوية، والقبض عليها دون تهميش لها، أو إهمال لإمكاناتها، فاللهجات العمانية لهجات حية، وفـيها الكثير من الطاقة اللغوية التي تغني عن اللجوء للهجات الآخرين، وتعطي الكثير من الإيحاءات والإشارات التي يحتاجها الشاعر، ولكنها فـي كل الأحوال تحتاج إلى ذلك الشاعر المتمكن، والمتصالح مع لهجته، والمستكشف لها، والقادر على تطويع المفردات، وإرسالها دون أن يبحث فـي قاموس آخر بعيدا عن بيئته، رغم قرب البيئات الخليجية من بعضها، وتشابهها إلى حد كبير، وخاصة لهجات أهل البادية، ولكن تبقى هناك خصوصية على الشاعر الحفاظ عليها دون تفريط بها.
وقد يكون مخرجا للبعض استخدام «اللغة البيضاء» وهي لغة وسط قريبة من الفصحى، ولكنها بعيدة إلى حد ما عن لغة الحياة اليومية، وهذه «حيلة» يلجأ إليها كثير من الشعراء الشعبيين العمانيين وذلك يعود إلى عوامل المناهج الدراسية التي تتيح له الاطلاع على الشعر الفصيح بشكل واسع، وثقافة الأفراد، وقراءاتهم الفصيحة، وهي أيضا ـ أي اللغة البيضاء ـ لغة يمكن فهمها على نطاق واسع فـي أوساط الشعراء فـي الوطن العربي، ولكن يبقى أن هذا النوع من الشعر قد يفقد ميزته الأساسية وهي غياب الخصوصية، وعدم التفاتها إلى «الدارجة المحلية القحة»، ولذلك على الشاعر أن يضمّن قصائده مصطلحات أو مفردات محلية، قدر حاجة النص، حتى تفصح النصوص عن هوية شاعرها، وشخصية بيئتها، وهو ما يفعله بعض الشعراء الذين يفهمون معنى «حداثة الشعر» و«أصالة اللهجة».