العنف الأسرى «5».. دماء على يد الأبناء
تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT
نستكمل اليوم الحديث عن العنف الأسرى الذى انتشر بشكل مبالغ فيه فى الآونة الأخيرة، بأنواع وأشكال متعددة، ومن أكثر أنواع العنف حماقة كان ما تحدثنا عنه خلال المقال السابق وهو عنف الأبوين أو أحدهما ضد الأبناء، والذى يكون نتيجته إما أن يصل التعذيب للقتل أو أن يترك أثرًا ملموسًا مثل العاهات المستديمة أو غير ملموس أن يخرج للمجتمع أشخاص لديهم العديد من العقد النفسية والعنف مع البشر بشكل غير طبيعى.
فعلى سبيل المثال الجريمة المأساوية التى شهدتها منطقة الهرم، والتى بدأت بتعرض سيدة لألوان من التعذيب لفترة طويلة، والاعتداء والإهانة على يد ابنها المتهم، والتى انتهت بمقتلها.
وكشفت التحقيقات عن أن والدته كانت تقسو عليه منذ الصغر، وتسىء معاملته، وعقب فصله من عمله كانت تعايره لكونه عاطلًا وبلا وظيفة، وتسببت فى مضايقته بمعايرته لكونه لا ينجب، وانفصال زوجته الأولى عنه لعدم الإنجاب.
ولذلك واصل الابن تعذيب أمه فكان يطفئ السجائر بجسدها، وأشعل النار بملابسها مما أصابها بعدة حروق، وفى النهاية انقض عليها بالضرب بيديه وقدميه، حتى فارقت الحياة، نتيجة إصابتها بنزيف داخلى، وتهتك بالطحال.
وأيضاً قتل عامل والده بسبب خلافات مالية فى منطقة السلام، كما قتل سائق والده وزوجة أبيه وأشعل النار فى جثتيهما بالسلام. وقضت المحكمة بإعدام المتهمين، وهناك عشرات الجرائم التى يقوم بها الأبناء مع الأبوين.
من الممكن أن يكون عدم المساواة بين الأبناء سببًا فى ذلك، فقد اختلفت آراء علماء الاجتماع حول هذه الظاهرة، ما بين تحمل الآباء جزءًا من المسئولية بسبب طريقة وأسلوب التربية الذى اتبعوه مع أولادهم سواء كان أسلوبًا عدائيًا أو العكس، فمن الممكن أن التدليل والاستجابة الدائمة لطلبات الطفل تفرز شابًا لا يحب إلا نفسه فقط، ويصبح الأبوان له مجرد آلة لتلبية متطلباته، وفى حالة عدم استطاعتهما تنفيذها يفاجأ الأبوان بشخص آخر أمامهما، ليس الابن الذى ضحيا بالكثير من أجل راحته، وعلى جانب آخر هناك أبناء اكتسبوا صفات عدائية من خلال: سواء السينما أو الدراما أو ما يتابعونه عبر السوشيال ميديا، أو متابعتهم للحوادث التى تنشر عن جرائم الأبناء ضد الآباء، جميع هذه العوامل أثرت على علاقة الأبناء مع أقرب الناس إليهم نتيجة العنف المتصاعد فى المجتمع.
ويبدو أن غياب الكثير أو البعد عن الدين من أهم الأسباب التى وصلنا إليها اليوم فى جميع حالات العنف الأسرى. للأسف الغالبية العظمى من الآباء والأمهات تربى أبناءها على كلمة عيب ولا تلتفت إلى كلمة حرام. فجرت العادة على أن الأبوين دائمًا يهتمان بأسلوب طفلهما أمام الناس ويخشيان من رأى الآخرين فى أبنائهما سواء فى الأناقة أو الكلام «مامى، بابي» أو غير ذلك من أساليب الاتيكيت، ويتغافلان عن ما هو أهم وأساس لكل شىء وهو تربية الأبناء بطريقة دينية تلزم الأبناء بالأخلاق الحميدة وتجعلهم يخشون الله فى تصرفاتهم ويحترمون الناس، وأولى الناس بالاحترام هم الأبوان كما أمرنا الله عز وجل.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: العنف الأسري إطلالة الآونة الأخيرة
إقرأ أيضاً:
بين التربية والرعاية يتجلّى بناء الأجيال
سلطان بن ناصر القاسمي
كانت تلك الأوقات من أجمل ما عشته، عندما اجتمعت مع جيرانٍ أحبّة في أجواء من المرح والبهجة، حيث كنا نتشارك أحاديث الأخوّة وننهل من دروسٍ عفوية تلقيها علينا خبرات الحياة. من بين تلك الجلسات، كانت هناك لحظات مميزة، حيث انبرى أحد الآباء ليحدثنا عن الفرق بين التربية والرعاية. بحديثه العميق والعفوي، جعلنا نتأمل في معاني هذه المصطلحات التي كثيرًا ما نستخدمها دون إدراك الفرق الدقيق بينهما.
في البداية، لا بد أن نوضح المفهومين بمزيد من الدقة. فالتربية، كما يمكن تعريفها، هي العملية التي يسعى من خلالها الأهل إلى تهيئة بيئة آمنة تُساعد أبناءهم على التكيف مع المجتمع الذي يعيشون فيه بعاداته وتقاليده. إنها تشمل تعزيز المهارات، وترسيخ القيم، وصقل الشخصية ليتفاعل الأبناء بوعي وثقة مع محيطهم. أما الرعاية، فهي تتعلق بتوفير متطلبات الحياة الأساسية، من مأكل وملبس ومسكن، بما يضمن حياة صحية وكريمة لأفراد الأسرة.
وحين نعود لتلك الجلسة الدافئة، نجد أن ذلك الأب المربي لم يكن يحمل شهادات أكاديمية عليا في التربية، لكنه كان خريج "مدرسة الحياة العمانية الأصيلة". كانت القيم والعادات والتقاليد هي معلمه الأول، فانعكست خبراته على أبنائه الذين بدوا كأنهم نتاج فلسفة تربوية متعمقة. من خلال كلماته ومواقفه، أدركنا أنه يرى التربية ضرورة اجتماعية لا يمكن إغفالها، خاصة في مجتمع تحكمه عادات وتقاليد تُعرف بـ"السمت العماني". كان لأبنائه سلوكيات راقية، ومواقف اجتماعية نبيلة، تنم عن استثمار عميق في غرس قيمٍ تستحق الإشادة.
إن التربية ليست مجرد تدريب الأبناء على السلوكيات الإيجابية أو تعريفهم بالعادات والتقاليد؛ إنها بناء متكامل يبدأ من الصغر، حيث يتعلم الأبناء التمييز بين الصواب والخطأ، والتعامل مع الحياة برؤية واضحة. أما الرعاية، فهي مكمّلٌ لهذه العملية، تتجلى في توفير الاحتياجات اليومية من طعام ولباس، والاهتمام بالمظهر العام، وضمان بيئة مستقرة. هنا يأتي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم ليجسد مفهوم الرعاية بوضوح: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته..."، ليشمل الحديث جميع جوانب الرعاية، من الأدوار الأسرية إلى المسؤوليات المجتمعية. ولكن ما هي التربية في جوهرها؟ يمكن تلخيصها في خمسة محاور رئيسية:
أولًا: بناء القناعات: تعد القناعات البنية الأساسية التي تشكل رؤية الإنسان للعالم وتوجهاته في الحياة. يبدأ بناء هذه القناعات منذ السنوات الأولى من عمر الطفل، حيث يكون للآباء الدور المحوري في غرس القيم والمبادئ التي ستشكل شخصيته. إن غرس قناعات راسخة لا يعني فرض الآراء بقدر ما يعني تقديم نموذج يحتذى به، والحديث مع الأبناء بطريقة تحفزهم على التفكير والتساؤل. على سبيل المثال، يمكن للوالدين تعزيز قيمة الصدق عبر مواقف يومية تعكس هذه القيمة، مما يجعلها جزءًا أصيلًا من منظومة القناعات لدى الطفل. إضافة إلى ذلك، يُسهم التعليم والتثقيف في توسيع آفاق الطفل وتعريفه بمفاهيم الحياة المختلفة، مما يعزز لديه فهمًا أعمق للمبادئ والطموحات التي يجب أن يسعى لتحقيقها.
ثانيًا: توجيه الاهتمامات: يعد توجيه اهتمامات الأبناء نحو أنشطة مفيدة خطوة أساسية في تطويرهم. فالأطفال يمتلكون طاقة كبيرة تحتاج إلى التوجيه الصحيح حتى لا تُهدر في أمور غير مثمرة. يمكن للوالدين تقديم بدائل إيجابية لأوقات الفراغ مثل الرياضة، القراءة، والأنشطة الفنية، مع الحرص على معرفة ميول الطفل ودعمها. ومن المهم أن يتم هذا التوجيه بطريقة تشجع الطفل على اكتشاف شغفه الخاص، وليس بطريقة تفرض عليه اهتمامات بعينها. على سبيل المثال، إذا كان الطفل مهتمًا بالرسم، يمكن دعمه من خلال توفير الأدوات المناسبة وتشجيعه على المشاركة في ورش عمل تُنمي مهاراته. إن التوازن بين التوجيه والتشجيع الذاتي يضمن أن يصبح الطفل قادرًا على استثمار وقته فيما يفيده على المدى الطويل.
ثالثًا: تنمية المهارات: تمثل المهارات بأنواعها المختلفة (العقلية، الرياضية، الفنية، الاجتماعية، الإدارية) أحد الأعمدة الأساسية في بناء شخصية الإنسان وتمكينه من مواجهة تحديات الحياة. هنا، يظهر دور الآباء في توفير بيئة تحفز النمو الطبيعي لتلك المهارات. على سبيل المثال، يمكن تنمية المهارات العقلية من خلال تشجيع الطفل على حل الألغاز أو قراءة القصص التي توسع مداركه. أما المهارات الاجتماعية، فيمكن صقلها من خلال توجيهه للمشاركة في الأنشطة الجماعية التي تعزز مفهوم التعاون والاحترام المتبادل. ومن الجدير بالذكر أن تنمية المهارات تتطلب الصبر والمثابرة؛ حيث إن تطوير أي مهارة يحتاج إلى وقت وتكرار. علاوة على ذلك، يجب أن يكون الوالدان قدوة في الاستفادة من مهاراتهما، لأن الأطفال يتعلمون بشكل كبير من خلال الملاحظة.
رابعًا: فهم قواعد العلاقات: إن فهم الأبناء لطبيعة العلاقات الاجتماعية يعد من أهم الفنون التي يجب أن يتقنوها منذ الصغر. يبدأ ذلك من خلال تعلم كيفية اختيار الأصدقاء، والتمييز بين العلاقات الإيجابية والسلبية. هنا يأتي دور الآباء في توجيه أبنائهم بأسلوب حكيم وداعم، حيث يمكنهم أن يوضحوا أهمية الصداقة الحقيقية التي تبنى على الاحترام المتبادل والمساندة. إضافة إلى ذلك، يجب أن يتعلم الأبناء كيفية إدارة الخلافات داخل العلاقات، سواء بحل النزاعات بطرق ودية أو باتخاذ قرار بإنهاء العلاقة إذا كانت تضر بمصالحهم. إن توضيح هذه القواعد يمنح الأبناء الأدوات اللازمة لبناء شبكة اجتماعية داعمة تساندهم في مختلف مراحل حياتهم.
خامسًا: اختيار القدوات: اختيار القدوة المناسبة هو أمر في غاية الأهمية لأنه يحدد الإطار الذي يسعى الأبناء لتشكيل شخصياتهم من خلاله. يجب أن يتعلم الأبناء أن القدوة ليست بالضرورة شخصية مشهورة، بل يمكن أن تكون شخصًا عاديًا يتميز بأخلاقه، علمه، أو إنجازاته. يمكن للآباء مساعدة أبنائهم في هذا الجانب من خلال تسليط الضوء على شخصيات تاريخية أو معاصرة لها تأثير إيجابي، مع توضيح سبب اختيار هذه الشخصيات. كذلك، من المهم أن يفهم الأبناء أن القدوة لا تعني التقليد الأعمى؛ بل الاستلهام من الصفات الجيدة والعمل على تطويرها بما يتناسب مع شخصياتهم. إن اختيار القدوات يشكل رؤية الأبناء للأهداف التي يطمحون لتحقيقها والطريق الذي يسلكونه في حياتهم.
هذه المحاور الخمسة هي جوهر التربية، فهي التي تشكّل العقول وتصقل النفوس، وتُبنى عليها القيم والمبادئ التي تُرسي دعائم حياة الأبناء. أما ما عداها فهو رعاية تُعنى بتوفير احتياجات الجسد، ويمكن تفويضها للآخرين عند الضرورة. لكن التربية أمرٌ لا يُفوض ولا يُنقل، فهي أمانة عظيمة وواجب أصيل يقع على عاتق الأب والأم في المقام الأول، يعاونهم فيها المربون المخلصون.
وأخيرًا.. إنَّ التربية هي الرسالة التي يتركها الآباء في أبنائهم، فهي الأثر الذي لا يمحوه الزمن، والإرث الذي يمتد نفعه إلى الأجيال القادمة، فبها يُصنع الإنسان الذي يعانق المجد ويساهم في بناء المجتمع برؤية صائبة وروح ملهمة.