لجريدة عمان:
2024-09-19@17:50:26 GMT

البعد الفلسفي لقوانين نيوتن للحركة

تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT

يُظهر عنوان هذا المقال شيئا من الترف المعرفي غير المفيد؛ إذ من الممكن أن يظن البعض عدم تحقق الجاذبية المعرفية لعرض الجانب الفلسفي لقوانين فيزيائية -مثل قوانين نيوتن للحركة- التي تعدّ أحد أقدم قوانين الفيزياء ذات النسق الرياضي، ولكن مبتغاي من هذا هو أن أعيد إلى الأذهان قضية علاقة الفلسفة بالعلم -التي سبق أن تطرقت إليها في مقالات سابقة- بشكل عام، وفهم عقل نيوتن الفلسفي -بشكل خاص- الذي قاده إلى العقل الفيزيائي لفهم الكون وحركته.

حافظت قوانين الحركة على قوتها ومكانتها العلمية رغم كل التحديثات والمستجدات التي تطرأ داخل الحقل العلمي، ولم يجد العلم مناصًا من الإشادة بأهمية هذه القوانين التي تعمل على تحديد أنماط حركة الأجسام وعلاقتها بالقوة المؤثرة عليها؛ ليقدمها نيوتن في 3 قوانين أرادها لتكون الحصيلة الرئيسة لعلاقة الحركة والقوة في الأجسام التي عُرِفت بقوانين نيوتن للحركة.

ينص قانون نيوتن الأول للحركة -الذي يُعرف بقانون القصور الذاتي- أن الجسم سواء في حركته أو سكونه ما لم تؤثر عليه أيُّ قوة؛ فإنه يظل مستمرا بالحركة بسرعة ثابتة في خط مستقيم أو يظل ساكنا لا يتحرك، وينص القانون الثاني أن الجسم يحدث له تسارع يتناسب طرديا مع القوة وعكسيا مع الكتلة عند وجود قوة تؤثر على هذا الجسم، أما القانون الثالث فينص أن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومضادة له في الاتجاه، وهذا ما يحصل عند حدوث قوة نتيجة تأثير جسم على جسم آخر. نجد استعمالات كثيرة لهذه القوانين في مجالات الهندسة وخصوصا الميكانيكا؛ فنجدها في مجال الاهتزازات الميكانيكية، وما يتفرّع منها مثل الاحتكاك (Friction)، والإجهاد (Stress)، والتشويه (Deformation)، والترددات الناتجة من حركة الأجسام، ومبدأ القصور الذاتي الخاص بمقاومة الأجسام لتغيرات الحركة، وغيرها من المجالات الأخرى التي تساعد في تحديد ماهية الجسم وتأثير القوى وعلاقتها بخصائص الأجسام؛ مما يسهم في وضع أفضل نماذج للتصميم الهندسي للآلات، وضبط مكامن حركاتها دون الإخلال بالوظيفة المنوطة إليها.

لا يعدّ ما ذكرته في الفقرة السابقة كلامًا جديدًا فيما يتعلق بقوانين نيوتن للحركة واستعمالاتها الواسعة والمهمة، وتكاد قوانين نيوتن أو على الأقل أسس هذه القوانين معروفة -ولو بشكل يسير وبسيط- لدى العّامة من الشباب المتعلم، ولكنّ مرادي في هذا المقال أن أتجه إلى سبر أغوار البعد الفلسفي لهذه القوانين دون الحاجة إلى التعاطي مع الأبعاد الرياضية التي تشكّل ترجمة للنمط الفيزيائي لهذه القوانين. تبدو قوانين نيوتن للحركة -وفقا للوصف الفيزيائي والبناء الرياضي- بَدَهيَّة لا يستنكف العقل البشري أن يكشفها، إلا أنها تظل أحد أهم القوانين العبقرية التي أنتجها العقل البشري، وأرى أن تحديد الأبعاد الفلسفية لمثل هذه القوانين سيساعد على فهم شيءٍ من التفكير الفلسفي للإنسان؛ فسقوط التفاحة -إن صحت الرواية- على رأس نيوتن كان سبيلًا أوليًا لطرح سؤال بَدَهيّ بسيط: «لماذا سقطت التفاحة؟»، وهنا يكمن مربط التأسيس التفكيري لصناعة الفكرة، والبحث عن تأصيل منطقي لكل أسئلتها الملّحة، والتوسّع في نطاق منهج المعرفة المحصور في الوجود «الظواهر» إلى ماهية الظواهر وجوهرها العميق.

يتجلّى قانون السببية (السبب والنتيجة) في قوانين نيوتن للحركة، كما يتضح مع القانون الأول -الذي يستبعد مبدأ التفاعل بين الأجسام -والثالث للحركة- الذي يعمل وفق مبدأ التفاعل-؛ إذ تتفاعل حركة الأجسام مع الأسباب الداخلية والخارجية مثل: الكتلة والقوة المؤثرة؛ فالعلّة «القوة» تقود إلى المعلول «الحركة» نتيجة لظروف ضرورية مناسبة، وهذا ما يسوغ تأملات فلسفية في حقل الفلسفة الفيزيائية؛ كون هناك من يشكك في حقيقة تأثير مبدأ السببية «الحتمية» ويضع مكانها السببية «الظرفية» والمبدأ التعاقبي حسب مبادئ الكوانتم، إلا أن السببية الثابتة «الحتمية» بقيت حاضرة في قوانين الحركة التي يرى «نيوتن» بواسطتها الكون في صورة ساعة مكتملة النظام والدقة، ولا يمكن أن تحيد عن نظامها الذي أراده الخالق لها؛ فلا تغيير يطرأ في نظام الكون وحركته -حتى نهاية الكون- إلا وفق هذه المنظومة الثابتة الصالحة لكل زمان ومكان، وكل حركة للأجسام في الكون يمكن أن تُفسّر عبر هذه القوانين الثابتة التي لا تتغير؛ وبالتالي كل أحداث الكون الطبيعية بما فيها المستقبلية قابلة للقياس دون أي خطأ -ولربما يفسّر هذا تبنّي «نيوتن» للمذهب الربوبي في معتقده الإيماني-، وتُستبعد هنا -وفقا لهذا الاستنتاج- العشوائية في النظام الكوني التي أُثبِتَ -لاحقا- وجودها حسب الأنماط الفيزيائية والرياضية لنظرية الفوضى (Chaos Theory) التي لا تقرّ بمبدأ التنبؤات والقياسات الدقيقة كما كان يظن نيوتن، وأحد أشهر أمثلتها التغييرات المناخية في مكان ما التي تُحدثها حركة جناح فراشة في مكان آخر، وهذا ما نسف مبدأ النظام الكوني الثابت غير المتغير.

في بعد فلسفي آخر يتعلق بقانون نيوتن الثاني للحركة -الذي يعدّ أهم قوانين الحركة- الذي يأتي وفق علاقة رياضية بسيطة (ناتج القوة يساوي كتلة الجسم مضروبة في تسارعه) (Force= Mass x Acceleration)؛ فيُظهر هذا القانون أن القوة الحاصلة قابلة للقياس، وأنها وسيلة لقياس التفاعل؛ فقانون الحركة الثاني يعتمد حسابات القوة وكتلة الجسم وتسارع حركة الجسم، ويمكن تحديد نموذج كلّي للجسم وحركته عبر المنهج الرياضي؛ وبالتالي يشكّل علم الرياضيات مفهومًا ومعقولًا منطقيًا في تحديد ماهية الكون وحركته. تتبين الملامح الفلسفية في قوانين نيوتن للحركة في أنها تتعامل مع علاقة الخصائص الكونية بعضها بعضًا وفق مبدأ التفاعل فيما بين ماهية الأشياء وليس وجودها الظاهري؛ فالكميات الفيزيائية مثل القوة والكتلة والتسارع تعبّر عن ماهية جزئية غير ظاهرة إلا وفق مبدأ التفاعل، وهنا تُسجّل -لنيوتن- أول محاولة ناجحة بتاريخ العلم في ترويض المنطق الرياضي وتسخيره في فهم نظام الحركة الكونية عبر فهم ماهيتها وليس الاكتفاء بوجودها الظاهري الذي لا يقود إلى بناء قانون رياضي كلّي، وهذا ما يُعدّ ترجمة لأسس نظرية المُثُل الأفلاطونية -التي تناولتها في مقال خاص الأسبوع المنصرم-.

يتضح لنا دور المنطق الرياضي في بناء تصورنا للكون وحركته، وهذا يؤسس تساؤلات عميقة مثل: أيمكن أن تكون الرياضيات لغة الكون التي تفك كل رموزه المعقدة وتقودنا إلى تحديد ماهية الكون وعقله؟ وأللكون عقل كلّي -سواء اعتمد مبدأ العقل المطلق أو النسبي- يعتمد المنطق الرياضي في صياغة قوانينه وميكانيكا حركته؟ أم وجود هذه القوانين الثابتة -كما قرر نيوتن- يعطي صفة غير واعية للكون وحركته؛ وبالتالي يلغي وجود العقل الكوني ويمنح الصفة المادية المطلقة للعقل الكوني دون بلوغ القياس العقلي الإنساني؟ رغم هذه المفهومات المتعلقة بوصف الكون عقلا إلا أن وجود المنطق الرياضي عبر بدهيّته المقبولة لا يمكن للكون أن يرقى إلى مستوى العقل الواعي «الوعي المطلق ذو الإرادة الحرة»؛ فهناك مستويات عقلانية للوعي موجودة حتى لخلايا الجسم والفيروسات تعمل وفق إرادة محددة تعزز من قيمة الصراع على البقاء، ولهذا لو افترضنا وجود العقل الكوني «الكلّي» -كما ذهب بعض الفلاسفة- فهذا لا يخرج عن أطر الوعي الكلّي «العام» الذي يتيح للكون والحياة عامّة بالتجانس المنتظم فيما بين الجزئيات -بما فيها الإنسان المتميّز بعقله الواعي المكلّف-، وهذا ما يفسّر الحركة الواعية للأجسام بما فيها الذرات وما تحت الذرات، وحركة الموجات والترددات وانتقالها. هذه التساؤلات وغيرها الكثير من التساؤلات الأخرى ما تزال تتراماها العقول الحائرة في ملعب الفلسفة، إلا أننا نجد أن قوانين الحركة -وغيرها من القوانين- وتطبيقاتها في حياتنا حُصِرت داخل الحقل العلمي، نجد -مع ذلك- أن اكتشاف الأبعاد الفلسفية لمثل هذه القوانين يقودنا إلى جذور وتفرعات معرفية عميقة؛ منها ما يتعلق باللغة الرياضية الكلية للكون وظواهره، ومنها ما يتعلق بالعقل الكوني والفردي والوعي الكلي والخاص.

د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه القوانین وهذا ما ی التی ت إلا أن الذی ی

إقرأ أيضاً:

ننشر الجزء الثاني من الحركة القضائية للعام القضائي 2024/2025

وافق مجلس القضاء الأعلى، برئاسة حسني عبد اللطيف رئيس محكمة النقض، بجلسته المنعقدة يوم الأربعاء 18 سبتمبر لسنة 2024، على الجزء الثاني من الحركة القضائية للعام القضائي 2024-2025.

لتحميل المستند اضغط هنا

وأضاف المجلس، أنه تم النظر في اعتراضات رجال القضاء عليه، وراعى المجلس الظروف المرضية والاجتماعية لرجال القضاء، وانتهى إلى ما تضمنته الكشوف على أن تكون الترقيات اعتبارا من 30 يونيو 2024.

اقرأ أيضاًبقيمة 31 مليون جنيه.. جهود حملة أمنية جديدة ضد تجار العملة في 24 ساعة

لأول مرة.. اللاعب أحمد ياسر المحمدي بالبدلة الزرقاء داخل قفض الاتهام (صور)

مقالات مشابهة

  • المستشار “صالح” يدعو لعقد جلسة رسمية الثلاثاء المقبل لمناقشة قوانين مهمة
  • الصراع بين الخير والشر في العرض المسرحي "قلب الكون"
  • ننشر الجزء الثاني من الحركة القضائية للعام القضائي 2024/2025
  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • نائب سابق:الكتل السياسية تتحمل مسؤولية القوانين التي صدرت في زمن المندلاوي
  • لمَ يبدو لنا الكون مظلمًا على الرغم من وجود النجوم؟
  • مهرجان مسرح الهواة الـ20 .. "قلب الكون" و"طرح حرير" على مسرح السامر اليوم
  • ما مصير مشروعات القوانين المُقدمة من الأعضاء بإنتهاء دور الانعقاد الذي قُدمت فيه؟.. لائحة النواب توضح
  • تعليم دمياط: نراعي البعد الإنساني في حركات ندب المعلمين
  • الحركة الصهيونية.. وأبعادها الاستعمارية