البعد الفلسفي لقوانين نيوتن للحركة
تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT
يُظهر عنوان هذا المقال شيئا من الترف المعرفي غير المفيد؛ إذ من الممكن أن يظن البعض عدم تحقق الجاذبية المعرفية لعرض الجانب الفلسفي لقوانين فيزيائية -مثل قوانين نيوتن للحركة- التي تعدّ أحد أقدم قوانين الفيزياء ذات النسق الرياضي، ولكن مبتغاي من هذا هو أن أعيد إلى الأذهان قضية علاقة الفلسفة بالعلم -التي سبق أن تطرقت إليها في مقالات سابقة- بشكل عام، وفهم عقل نيوتن الفلسفي -بشكل خاص- الذي قاده إلى العقل الفيزيائي لفهم الكون وحركته.
ينص قانون نيوتن الأول للحركة -الذي يُعرف بقانون القصور الذاتي- أن الجسم سواء في حركته أو سكونه ما لم تؤثر عليه أيُّ قوة؛ فإنه يظل مستمرا بالحركة بسرعة ثابتة في خط مستقيم أو يظل ساكنا لا يتحرك، وينص القانون الثاني أن الجسم يحدث له تسارع يتناسب طرديا مع القوة وعكسيا مع الكتلة عند وجود قوة تؤثر على هذا الجسم، أما القانون الثالث فينص أن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومضادة له في الاتجاه، وهذا ما يحصل عند حدوث قوة نتيجة تأثير جسم على جسم آخر. نجد استعمالات كثيرة لهذه القوانين في مجالات الهندسة وخصوصا الميكانيكا؛ فنجدها في مجال الاهتزازات الميكانيكية، وما يتفرّع منها مثل الاحتكاك (Friction)، والإجهاد (Stress)، والتشويه (Deformation)، والترددات الناتجة من حركة الأجسام، ومبدأ القصور الذاتي الخاص بمقاومة الأجسام لتغيرات الحركة، وغيرها من المجالات الأخرى التي تساعد في تحديد ماهية الجسم وتأثير القوى وعلاقتها بخصائص الأجسام؛ مما يسهم في وضع أفضل نماذج للتصميم الهندسي للآلات، وضبط مكامن حركاتها دون الإخلال بالوظيفة المنوطة إليها.
لا يعدّ ما ذكرته في الفقرة السابقة كلامًا جديدًا فيما يتعلق بقوانين نيوتن للحركة واستعمالاتها الواسعة والمهمة، وتكاد قوانين نيوتن أو على الأقل أسس هذه القوانين معروفة -ولو بشكل يسير وبسيط- لدى العّامة من الشباب المتعلم، ولكنّ مرادي في هذا المقال أن أتجه إلى سبر أغوار البعد الفلسفي لهذه القوانين دون الحاجة إلى التعاطي مع الأبعاد الرياضية التي تشكّل ترجمة للنمط الفيزيائي لهذه القوانين. تبدو قوانين نيوتن للحركة -وفقا للوصف الفيزيائي والبناء الرياضي- بَدَهيَّة لا يستنكف العقل البشري أن يكشفها، إلا أنها تظل أحد أهم القوانين العبقرية التي أنتجها العقل البشري، وأرى أن تحديد الأبعاد الفلسفية لمثل هذه القوانين سيساعد على فهم شيءٍ من التفكير الفلسفي للإنسان؛ فسقوط التفاحة -إن صحت الرواية- على رأس نيوتن كان سبيلًا أوليًا لطرح سؤال بَدَهيّ بسيط: «لماذا سقطت التفاحة؟»، وهنا يكمن مربط التأسيس التفكيري لصناعة الفكرة، والبحث عن تأصيل منطقي لكل أسئلتها الملّحة، والتوسّع في نطاق منهج المعرفة المحصور في الوجود «الظواهر» إلى ماهية الظواهر وجوهرها العميق.
يتجلّى قانون السببية (السبب والنتيجة) في قوانين نيوتن للحركة، كما يتضح مع القانون الأول -الذي يستبعد مبدأ التفاعل بين الأجسام -والثالث للحركة- الذي يعمل وفق مبدأ التفاعل-؛ إذ تتفاعل حركة الأجسام مع الأسباب الداخلية والخارجية مثل: الكتلة والقوة المؤثرة؛ فالعلّة «القوة» تقود إلى المعلول «الحركة» نتيجة لظروف ضرورية مناسبة، وهذا ما يسوغ تأملات فلسفية في حقل الفلسفة الفيزيائية؛ كون هناك من يشكك في حقيقة تأثير مبدأ السببية «الحتمية» ويضع مكانها السببية «الظرفية» والمبدأ التعاقبي حسب مبادئ الكوانتم، إلا أن السببية الثابتة «الحتمية» بقيت حاضرة في قوانين الحركة التي يرى «نيوتن» بواسطتها الكون في صورة ساعة مكتملة النظام والدقة، ولا يمكن أن تحيد عن نظامها الذي أراده الخالق لها؛ فلا تغيير يطرأ في نظام الكون وحركته -حتى نهاية الكون- إلا وفق هذه المنظومة الثابتة الصالحة لكل زمان ومكان، وكل حركة للأجسام في الكون يمكن أن تُفسّر عبر هذه القوانين الثابتة التي لا تتغير؛ وبالتالي كل أحداث الكون الطبيعية بما فيها المستقبلية قابلة للقياس دون أي خطأ -ولربما يفسّر هذا تبنّي «نيوتن» للمذهب الربوبي في معتقده الإيماني-، وتُستبعد هنا -وفقا لهذا الاستنتاج- العشوائية في النظام الكوني التي أُثبِتَ -لاحقا- وجودها حسب الأنماط الفيزيائية والرياضية لنظرية الفوضى (Chaos Theory) التي لا تقرّ بمبدأ التنبؤات والقياسات الدقيقة كما كان يظن نيوتن، وأحد أشهر أمثلتها التغييرات المناخية في مكان ما التي تُحدثها حركة جناح فراشة في مكان آخر، وهذا ما نسف مبدأ النظام الكوني الثابت غير المتغير.
في بعد فلسفي آخر يتعلق بقانون نيوتن الثاني للحركة -الذي يعدّ أهم قوانين الحركة- الذي يأتي وفق علاقة رياضية بسيطة (ناتج القوة يساوي كتلة الجسم مضروبة في تسارعه) (Force= Mass x Acceleration)؛ فيُظهر هذا القانون أن القوة الحاصلة قابلة للقياس، وأنها وسيلة لقياس التفاعل؛ فقانون الحركة الثاني يعتمد حسابات القوة وكتلة الجسم وتسارع حركة الجسم، ويمكن تحديد نموذج كلّي للجسم وحركته عبر المنهج الرياضي؛ وبالتالي يشكّل علم الرياضيات مفهومًا ومعقولًا منطقيًا في تحديد ماهية الكون وحركته. تتبين الملامح الفلسفية في قوانين نيوتن للحركة في أنها تتعامل مع علاقة الخصائص الكونية بعضها بعضًا وفق مبدأ التفاعل فيما بين ماهية الأشياء وليس وجودها الظاهري؛ فالكميات الفيزيائية مثل القوة والكتلة والتسارع تعبّر عن ماهية جزئية غير ظاهرة إلا وفق مبدأ التفاعل، وهنا تُسجّل -لنيوتن- أول محاولة ناجحة بتاريخ العلم في ترويض المنطق الرياضي وتسخيره في فهم نظام الحركة الكونية عبر فهم ماهيتها وليس الاكتفاء بوجودها الظاهري الذي لا يقود إلى بناء قانون رياضي كلّي، وهذا ما يُعدّ ترجمة لأسس نظرية المُثُل الأفلاطونية -التي تناولتها في مقال خاص الأسبوع المنصرم-.
يتضح لنا دور المنطق الرياضي في بناء تصورنا للكون وحركته، وهذا يؤسس تساؤلات عميقة مثل: أيمكن أن تكون الرياضيات لغة الكون التي تفك كل رموزه المعقدة وتقودنا إلى تحديد ماهية الكون وعقله؟ وأللكون عقل كلّي -سواء اعتمد مبدأ العقل المطلق أو النسبي- يعتمد المنطق الرياضي في صياغة قوانينه وميكانيكا حركته؟ أم وجود هذه القوانين الثابتة -كما قرر نيوتن- يعطي صفة غير واعية للكون وحركته؛ وبالتالي يلغي وجود العقل الكوني ويمنح الصفة المادية المطلقة للعقل الكوني دون بلوغ القياس العقلي الإنساني؟ رغم هذه المفهومات المتعلقة بوصف الكون عقلا إلا أن وجود المنطق الرياضي عبر بدهيّته المقبولة لا يمكن للكون أن يرقى إلى مستوى العقل الواعي «الوعي المطلق ذو الإرادة الحرة»؛ فهناك مستويات عقلانية للوعي موجودة حتى لخلايا الجسم والفيروسات تعمل وفق إرادة محددة تعزز من قيمة الصراع على البقاء، ولهذا لو افترضنا وجود العقل الكوني «الكلّي» -كما ذهب بعض الفلاسفة- فهذا لا يخرج عن أطر الوعي الكلّي «العام» الذي يتيح للكون والحياة عامّة بالتجانس المنتظم فيما بين الجزئيات -بما فيها الإنسان المتميّز بعقله الواعي المكلّف-، وهذا ما يفسّر الحركة الواعية للأجسام بما فيها الذرات وما تحت الذرات، وحركة الموجات والترددات وانتقالها. هذه التساؤلات وغيرها الكثير من التساؤلات الأخرى ما تزال تتراماها العقول الحائرة في ملعب الفلسفة، إلا أننا نجد أن قوانين الحركة -وغيرها من القوانين- وتطبيقاتها في حياتنا حُصِرت داخل الحقل العلمي، نجد -مع ذلك- أن اكتشاف الأبعاد الفلسفية لمثل هذه القوانين يقودنا إلى جذور وتفرعات معرفية عميقة؛ منها ما يتعلق باللغة الرياضية الكلية للكون وظواهره، ومنها ما يتعلق بالعقل الكوني والفردي والوعي الكلي والخاص.
د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه القوانین وهذا ما ی التی ت إلا أن الذی ی
إقرأ أيضاً:
سفيرإكس تلسكوب فضائي لاستكشاف نشأة الكون ومكونات الحياة
"سفيرإكس" تلسكوب فضائي أطلقته وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) لاستكشاف الكون باستخدام تقنية التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء. تمتد مهمته عامين، ويهدف إلى رسم خريطة شاملة للسماء بمستوى غير مسبوق من الدقة، وجمع بيانات عن مئات الملايين من المجرات والنجوم، مما يساعد العلماء على دراسة أصول الكون وتطور المجرات والمكونات الأساسية للحياة في الفضاء.
بدء مهمة "سفيرإكس"في ديسمبر/كانون الأول 2014 اقترح فريق تابع لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا فكرة مهمة تلسكوب "سفيرإكس"، ورغم أنها قوبلت بالرفض في البداية، تم قبولها لاحقا في فبراير/شباط 2019، وقُدرت قيمة المهمة بنحو 488 مليون دولار.
وفي عام 2025 وصلت مهمة "سفيرإكس" مراحلها النهائية وأصبح جاهزا للانطلاق، وتمتد المهمة عامين، بهدف مسح السماء باستخدام الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء القريبة، وجمع بيانات حول الكون، بما في ذلك أصوله وتطوره.
أدارت ناسا مهمة تلسكوب "سفيرإكس" عبر مختبر الدفع النفاث التابع لها. أما شركة الفضاء "بي أيه إيه" فقد صممت وبنت التلسكوب والمركبة الفضائية التي نقلت الأدوات إلى الفضاء.
تمت معالجة وتحليل بيانات المهمة بواسطة فريق من العلماء في 10 مؤسسات علمية في الولايات المتحدة، إضافة إلى مؤسستين في كوريا الجنوبية ومؤسسة في تايوان.
يتميز تلسكوب "سفيرإكس" بتصميم مخروطي فريد، وحجم صغير مقارنة بالتلسكوبات الفضائية الأخرى، يبلغ طوله حوالي 3.2 أمتار، أي أنه أصغر بقليل من سيارة "ميني كوبر".
يعمل التلسكوب في درجات حرارة منخفضة للغاية تصل إلى حوالي 210 درجات مئوية تحت الصفر، وللحفاظ على هذه البرودة، يعتمد على نظام تبريد غير نشط لا يستخدم الكهرباء أو المبردات، وذلك بمساعدة درع الفوتونات المخروطي الشكل الذي يحمي التلسكوب من حرارة الأرض والشمس، مما يتيح له مراقبة الأجسام الباهتة بفعالية.
إعلانيتضمن تصميم التلسكوب 3 دروع متراكبة، يعكس كل درع منها الضوء تحت الأحمر الذي يدخل التلسكوب.
هذا الانعكاس يجعل الضوء يخرج مرة أخرى إلى الفضاء بدلا من أن يبقى داخل التلسكوب، مما يساعد في حماية الجهاز من الإشعاع الصادر عن الشمس والأرض، ومن ثم الحفاظ على برودته.
الانطلاقكان من المقرر يوم 27 فبراير/شباط 2025 إطلاق تلسكوب "سفيرإكس" من قاعدة فاندنبرغ الفضائية في كاليفورنيا على متن صاروخ "سبيس إكس فالكون 9″، ولكن تم تأجيل الإطلاق بسبب معالجة المركبة وفحوصات ما قبل الإطلاق.
وفي يوم 11 مارس/آذار من العام نفسه أعلنت وكالة ناسا انطلاقه لبدء مهمته الفريدة التي تهدف إلى البحث عن أصل الكون ورسم خريطة للمستودعات المائية الخفية داخل مجرة درب التبانة.
تهدف مهمة تلسكوب "سفيرإكس" إلى جمع بيانات عن أكثر من 300 مليون مجرة، إضافة إلى أكثر من 100 مليون نجم في مجرة درب التبانة.
وإجراء عمليات مسح لمئات الملايين من المجرات، بما في ذلك مجرات بعيدة جدا يستغرق ضوؤها نحو 10 مليارات سنة للوصول إلى الأرض.
إضافة للعمل على البحث عن الماء والجزيئات العضوية في مناطق تكون النجوم من الغاز والغبار، وكذلك في الأقراص المحيطة بالنجوم حيث يمكن أن تتشكل كواكب جديدة.
وبتوجيه تركيزه على أكثر من 450 مليون مجرة، سيرسم التلسكوب خريطة ثلاثية الأبعاد للكون في 102 لون في نطاق الأشعة تحت الحمراء، مما يساعد في دراسة أصول الكون، والمجرات والعناصر الأساسية للحياة في مجرة درب التبانة.
آلية العملتتضمن آلية عمل "سفيرإكس" مسح السماء بالكامل كل 6 أشهر باستخدام تقنيات متطورة مستوحاة من الأقمار الصناعية الأرضية والمركبات الفضائية بين الكواكب.
يستخدم التلسكوب تقنية الطيفية، التي تفكك الضوء تحت الأحمر إلى ألوان مختلفة، تماما كما يفعل المنشور مع الضوء المرئي، هذه العملية تمكن العلماء من تحليل تكوين الأجسام السماوية، ودرجة حرارتها وكثافتها وحركتها.
إعلان أهداف المهمة استكشاف نشأة الكون وتاريخ تطورهيساعد التلسكوب العلماء في دراسة المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم، برسمه خريطة توضح توزيع أكثر من 450 مليون مجرة، مما يوفر فهما أفضل للعمليات التي أدت إلى نشوء الكون.
دراسة ظاهرة التوهج الكوني للمجراتبدراسة الضوء المتراكم المنبعث من جميع المجرات عبر التاريخ، يقيس "سفيرإكس" التوهج الكوني الجماعي، وهو مزيج من الأضواء القادمة من المجرات البعيدة والقريبة، والتي قد تكون بعيدة جدا أو خافتة جدا ولا يمكن ملاحظتها بشكل فردي.
يهدف التلسكوب إلى البحث عن المياه والجزيئات العضوية في مجرة درب التبانة، داخل سحب الغبار الكوني الكثيفة حيث تتشكل النجوم والكواكب الجديدة، مما يعزز فهمنا لكيفية نشأة الحياة في الكون.
دراسة ظاهرة التضخم الكونيأثناء جزء صغير من الثانية بعد الانفجار العظيم، يعتقد العلماء أن الكون قد مر بمرحلة توسع هائل وسريع تُعرف باسم التضخم الكوني. وسيحلل التلسكوب توزيع ملايين المجرات لكشف أسرار هذه الظاهرة.
إنشاء أكثر خريطة طيفية تفصيلية للسماءيهدف التلسكوب لرسم أكثر خريطة ملونة للكون على الإطلاق، والتقاط الضوء في 102 طول موجي مختلف ضمن نطاق الأشعة تحت الحمراء. مما يساعد في تحديد المكونات الكيميائية للمجرات والنجوم وكواكبها المحتملة.