المسلمون في فرنسا وقضية التعايش
تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT
يعتقد البعض أن الدين يقتصر على العبادات «الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج» فضلا عن النطق بالشهادتين، هذه جميعها شعائر واجبة على كل مسلم، وشروط واجبة لكي يتحقق إسلام المسلم، لكن تبقى قضية لا يكتمل إسلام المسلم بدونها وهي المعاملات، انتماء الشخص لوطنه، وإخلاصه في عمله، ومحبته للناس، وتجنب الظلم والكذب، فالدين كما قال الدكتور مصطفى محمود «رحمه الله تعالى»: هو استقامتك، ومعاملتك للآخرين، وصدقك والتزامك، وإخلاصك في تربية أولادك وبرك بوالديك، وإحسانك لزوجتك، وحفظ لسانك عن كل قول يسيء للآخرين حتى ولو كانوا من غير المسلمين، فضلا عن حرص المسلم على تطوير حياته «الدين خُلق ومعاملات».
نتابع في حياتنا المعاصرة تلك الخصومة المفتعلة بين المسلمين بكل هذه المعاني العظيمة وبين واقعهم، فقد فهم البعض الإسلام على غير مقاصده حينما أقاموا خصومة مع مخالفيهم في الدين، بل افتعل بعضهم خصومة مع الحضارة المعاصرة، وقد لفت نظري منذ مطلع هذا القرن (2009م) تلك المعارك التي افتعلها بعض المسلمين «من أصول عربية وغير عربية» من المقيمين في فرنسا «والذين حصلوا على جنسيتها» بشأن قضية النقاب والحجاب ولم يدركوا أن الفرنسيين اختاروا لأنفسهم منهجًا للحياة وهو فصل الدين عن الحياة العامة ورغم ذلك فقد ساوى الدستور الفرنسي بين الجميع مسلمًا وغير مسلم، وقد قصد المسلمون من معظم أقطار العالم الإقامة في فرنسا والحصول على جنسيتها وفضلوها وطنًا دائمًا لهم، لكنني لاحظت أنهم لم ينخرطوا بعد في المجتمع الجديد وعاشوا في أحياء خاصة بهم بل راح بعضهم يفرض ثقافته وخصوصًا فيما يتعلق بملبس المرأة الذي صار قضية رآها المسلمون مسألة عقيدة، ورأها الفرنسيون مخالفة لمبادي وقيم الجمهورية الفرنسية، تلك القيم التي استقرت في المجتمع الفرنسي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وقد ازدادت المعركة ضراوة بين القائلين بحرية الملبس وبين القائلين بضرورة احترام القيم الفرنسية التي ترفض التمييز بين الفرنسيين في ملبسهم بصرف النظر عن الديانات التي يعتنقونها.
عشت هذه المعركة عن قرب حينما سافرت إلى فرنسا عام 2009م حيث كنت مشاركًا في مؤتمر دولي نظمه الاتحاد الدولي للمكتبات بمشاركة رؤساء خمسون مكتبة من بين المكتبات الكبرى في العالم من الصين واليابان والهند وصولاً إلى رئيس مكتبة الكونجرس الأمريكي، وكانت جلسات المؤتمر تعقد في مقر بلدية باريس، وفي نهاية كل يوم كنت أعود إلى الفندق وأشاهد المعركة الدائرة على القنوات التلفزيونية ما بين القائلين بحرية المرأة في ملبسها وبين القائلين باحترام قيم الدولة الفرنسية لدرجة أن القضية قد تجاوزت الإعلام إلى مساجد فرنسا حينما حضرت صلاة الجمعة في أحد مساجدها كان الخطيب من بين المهاجرين المغاربة وقد أشعلها على المنبر حربَا ضارية ضد فرنسا ودستورها وقوانينها، وكنت أتعجب من تلك الجرأة المفتعلة التي لا تخدم الجالية المسلمة.
منذ أسبوعين أو أكثر تجددت هذه المعركة حينما أصدرت الحكومة الفرنسية قانونًا بعدم ارتداء العباءة في المدارس والجامعات، وقد انتفض المسلمون حتى من غير المتدينين لمقاومة هذا القرار الذي رآه المسلمون إجحافًا بحقوقهم، ونيلا من حريتهم في بلد يحترم الحرية الشخصية، والسؤال: هل هذه هي حرية شخصية؟ هل ارتداء هذا الزي مع احترامنا له يندرج تحت الحرية الشخصية في بلد كفرنسا؟ المهاجرون المسلمون الذين استقبلتهم فرنسا وأتاحت لهم فرص التعليم والتوظيف على قدم المساواة مع الفرنسيين عليهم أن يحترموا قوانين وأعراف الدولة المضيفة وليس من اللائق أن يضيع المسلمون المقيمون في فرنسا حقوقهم ومكتسباتهم وأن يختزلوا الإسلام في الملبس؛ فالإسلام أعظم من هذا بكثير، وخصوصًا أن المجتمع الفرنسي وغيره من المجتمعات الأوروبية لا ينظر إلى جسد المرأة ولا يتتبع عوراتها، بل الذي يلفت النظر أكثر هو ملابس الشرقيين ونسائهم بنقابهم وعباءتهم، ولا يمكن لمسلم عاقل أن يبدد حقوق الجالية المسلمة في فرنسا وأن يختزلها في الملبس. وإذا كانت الفتاة المسلمة في باريس قد حصلت على حقها في التعليم والتوظيف أسوة بالفرنسيين فكيف يُقبل أن تجلس الفتاة في مقاعد العلم بزي مخالف لقيم المجتمع الفرنسي، وإذا كان البعض متمسكًا بملبسه مخافة الفتنة فعليه أن يعود إلى وطنه أو أي بلد آخر في العالم الإسلامي ففيه متسع للجميع!، على كل دولة أن تختار قوانينها ودساتيرها وفق إرادتها، وليس من حق الضيف أن يفرض ثقافته على المضيف.
لقد انتصر الإسلام لكل قيم التقدم وإعمال العقل الذي يستهدف المصالح العامة في التنمية والعلم والتعليم، والصدق، وتقديس العمل، وهي قواعد عملت بها أوروبا فنقلتها إلى مرحلة متقدمة من الحضارة المعاصرة، بينما نحن في بلادنا نؤدي صلواتنا، ونصوم شهر رمضان، بل البعض منا يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، ونضع المصاحف في بيوتنا ومساجدنا، ورغم ذلك بقينا في ذيل العالم المتقدم وانشغلنا بسفاسف الأمور، واعتبرنا الملبس قضية محورية وعلى فرنسا أن ترضخ لمطالبنا.
إذا كنت لا أوافق على التمييز بين الفرنسيين على أساس ملبسهم فأنني أطالب الحكومة الفرنسية وهي تمر الآن بأزمة كبيرة في علاقتها بالدول الإفريقية التي استعمرتها ونهبت خيراتها وقتلت الكثيرين من أبنائها أن تقدم اعتذارًا تعترف فيه بكل ما اقترفته من جرائم في حق هذه الشعوب التي استباحت ثرواتها ومقدراتها عبر سنوات طويلة ولن تعمل على النهوض بها تعليمًا وتنمية وإعمارًا، وهي مسؤولية تاريخية ستظل فرنسا تتحمل تبعاتها التاريخية على كل ما ارتكبته من جرائم في حق هذه الشعوب.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی فرنسا
إقرأ أيضاً:
لماذا يعاني المسلمون في شمال الهند أكثر من جنوبها؟
نيودلهي- عند قراءة الأخبار عن التمييز والعنف ضد المسلمين في الهند، غالبًا ما يتم التغافل عن نقطة مهمة، هي أن معظم هذه الحوادث تقع في ولايات الهند الشمالية، وفقًا لعدة تقارير.
في العام الماضي، ذكر تقرير نشرته منظمة "مخبر الكراهية الهندي" ومقرها واشنطن، أن 75% من 668 حادثة تم توثيقها لخطاب الكراهية وقعت في ولايات يحكمها حزب "بهاراتيا جاناتا"، وكان من اللافت أن جميع هذه الحوادث كانت في الجزء الشمالي من الهند.
الهند لديها نظام حكم فدرالي، حيث تتمتع الولايات بصلاحيات واسعة، مع استثناءات في بعض المجالات مثل السياسة الخارجية والدفاع، التي تظل تحت سلطة الحكومة المركزية والحزب الحاكم فيها، وهو حاليا حزب "بهاراتيا جاناتا"، الذي يسيطر على العديد من الولايات في شمال الهند.
أما في الولايات الجنوبية، فتتمتع الأحزاب الإقليمية، إلى جانب الحزب الشيوعي الهندي الذي يحكم ولاية كيرالا، بنفوذ كبير وتواصل الحفاظ على السلطة في هذه الولايات.
نساء مسلمات هنديات بعد الإدلاء بأصواتهن خلال انتخابات الجمعية التشريعية لولاية ماهاراشترا في مومباي (أسوشيتد برس) الهندوتفاوبحسب الدكتور سيد إلياس، المتحدث باسم هيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند، فإن المسلمين "في الولايات الشمالية التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا يواجهون الكثير من المشاكل"، ويرجع ذلك إلى أيديولوجية "الهندوتفا" التي تتبناها منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانج"، والتي انبثق منها حزب بهاراتيا جاناتا.
إعلانوأوضح إلياس في حديثه للجزيرة نت أن "أيديولوجية الهندوتفا معادية للمسلمين، حيث ذكر الزعيم الثاني لمنظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانج" جورو جولوالكار في كتاباته أن لديهم 3 أعداء رئيسيين، وهم: المسلمون، والمسيحيون، واليسار".
وترى الناشطة المسلمة ياسمين فاروقي في حديثها للجزيرة نت، أن "استخدام الهويات السياسية في سياسات بنك الأصوات يؤدي إلى تفاقم التوترات بين الهندوس والمسلمين في شمال الهند".
من جهته، يقول آلور شاه نواز، نائب الأمين العام لحزب "ويدودالاي تشروتايكال" المتحالف مع حزب المؤتمر الوطني الهندي المعارض، في تصريح للجزيرة نت، إن "السياسة الهندوسية المعادية للمسلمين لا تلقى ترحيبًا في جنوب الهند".
عقلانية وعلمانيةيتفق شاه نواز وإلياس على أن فشل أيديولوجية حزب "بهاراتيا جاناتا" المعادية للمسلمين بالوصول إلى جنوب الهند يعود إلى المقاومة الراسخة بالأيديولوجية "الدرافيدية" والعقلانية التي أسسها المصلح العقلاني بيريار، والتي تدعو إلى الوحدة بين جميع المجموعات العرقية ذات الخلفية الدرافيدية، والعلمانية، وضمان حقوق الأقليات، وحقوق المرأة.
وعبر شاه نواز للجزرة نت، أنه "عندما كانت ولايات تاميل نادو، وكيرالا، آندرا براديش ولاية واحدة في جنوب الهند، بدأ شعبها حركة توعية بزعامة بيريار، تهدف إلى تعزيز مبدأ أن السلطة لا ينبغي أن تكون حكرًا على طبقة البراهمة، بل يجب أن تُقسَّم بين الجميع، بما في ذلك المسلمون الذين هم في نفس الجانب مع الطبقات غير البراهمة".
ويتهم الهنود في جنوب الهند حزب "بهاراتيا جاناتا" بأنه يمثل مصالح طبقة البراهمة، وفقًا للمعتقدات الهندوسية التي تضعهم في قمة نظام الطبقات، وتُعرف هذه الطبقة بتوليها المناصب العليا في الحكومة وتمتعها بامتيازات اقتصادية واجتماعية بارزة.
وفي السياق، أوضح إلياس للجزيرة نت، أن "الحركة الدرافيدية التي روج لها بيريار، تعتبر حركة معادية للطبقة البراهمية الهندوسية، وأشار إلى أن هذه الحركة أقوى في جنوب الهند، خاصة في ولاية تاميل نادو".
إعلانوحسب شاه نواز، بسبب هذه الأيديولوجية التي تدعى الوحدة الدرافيدية، هناك وحدة بين المسلمين والهندوس -أكثرهم غير البراهمة- في ولاية تاميل نادو التي يحكمها حزب "درافيدا مونيترا كازهاجام"، وهو حزب يعتمد على أيديولوجية بيريار.
من جهتها، ترى فاروقي، في حديثها للجزيرة نت، أن "جنوب الهند يتمتع عمومًا بمشهد سياسي أكثر تعددية، يركز على الهوية الإقليمية، بالإضافة إلى مؤشرات اجتماعية أفضل، وهذه العوامل ساهمت في خفض التوترات الدينية في الولايات الجنوبية مقارنة بالولايات الأخرى".
الحكومة الهندية تلقت توصيات منذ عام 2006 بزيادة المنح المقدمة للمؤسسات التعليمية الإسلامية (غيتي إيميجز) المستوى التعليميويرى المراقبون أن أحد الأسباب لاختلاف أوضاع المسلمين بين شمال وجنوب الهند يكمن في مستوى التعليم، وفي هذا السياق، يقول إلياس إن مستوى التعليم للمسلمين في الولايات الشمالية أقل مقارنة بالولايات الجنوبية مثل كيرالا وتيليجانا وتاميل نادو.
ويُرجع إلياس ذلك إلى عدة عوامل، من بينها هجرة المسلمين المتعلمين من الشمال الهندي إلى باكستان بعد تقسيم الهند وباكستان عام 1947، والتمييز المستمر ضد المسلمين، وقلة دعم الحكومات،
ودعم إلياس رأيه بالاستشهاد بتقرير صادر عن الحكومة الهندية عام 2006 من "لجنة ساشار"، والذي أوصى الحكومة الهندية بزيادة المنح المقدمة للمؤسسات التعليمية الإسلامية وزيادة عدد المعلمين المسلمين نظرا لظروفهم التعليمية والاجتماعية.
ويرى شاه نواز للجزيرة نت، أن "المستوى التعليمي والوعي السياسي الأعلى لدى المسلمين والهندوس في الجنوب قد أسهما في خلق بيئة فكرية نضالية ضد التمييز ضد المسلمين"، ومن جهته، عبر إلياس للجزيرة نت، عن تفاؤله بزيادة الوعي بين المسلمين في شمال الهند بأهمية متابعة التعليم العالي.
اضطهاد وتمييزويرفض شاه نواز ادعاءات أن المتطرفين الهندوس يتصرفون ضد المسلمين بسبب حكم السلالات المسلمة للهند لأكثر من 800 عام، واصفًا هذه الادعاءات بأنها "غير منطقية"، وأوضح أن "هناك حكامًا هندوسًا احتلوا أجزاء كثيرة من الهند، كما أن المغول والسلالات المسلمة الأخرى لم يفرضوا الدين الإسلامي، ولو كانوا قد فرضوا ذلك، لكانت الهند الآن دولة مسلمة، لكن الهندوس يشكلون الأغلبية في البلاد".
إعلانوقال إلياس للجزيرة نت، إن "حكومة حزب بهاراتيا جاناتا تستهدف المسلمين الآن من خلال مشروع قانون الوقف الذي يستهدف ممتلكات المسلمين، وكذلك من خلال الالتماسات ضد قانون أماكن العبادة، الذي يحظر على الأفراد من دين معين المطالبة بأماكن العبادة الخاصة بأديان أخرى"، مشيرا إلى أن إلغاء هذا القانون محاولة من قبل الجماعات الهندوسية المتطرفة للمطالبة بالمساجد باعتبارها معابد هندوسية.
وأضاف أن "المسلمين يتصدون للاضطهاد والتمييز ضدهم من خلال الإجراءات القانونية، ومن خلال الاحتجاجات والتجمعات، بالإضافة إلى دعم أحزاب المعارضة في الانتخابات، لأنها على الأقل ليست طائفية، حتى وإن كانت لا تدعم المسلمين بشكل مباشر".