جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-18@19:59:15 GMT

كفاءات أم علاقات؟!

تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT

كفاءات أم علاقات؟!

 

د. صالح الفهدي

في كلّ عامٍ تتجدد طموحاته، وآمالهُ ليكون من المرشّحين لمرتبةٍ أفضل، ويخيبُ أمله من عام لآخر، حتى اجتاز معايير الترشُّح فخاض الاختبارات، واجتازها بتفوقٍ وتميُّز حتى بُشّر بالقبول، وبُلّغ بالاستعداد للمرحلة الجديدة، لكن (وما أكثر هذه الّلاكن، وما أعظم ألمها) طُلب للاجتماع قبل يومٍ واحد من بدء التدريب، وتم إبلاغه بأنّه لم يُقبل فتلقّى الخبر مصدومًا، وبكى بحرقة، حتى أشفق عليه أحدهم، فصارحه قائلًا: "أحد المسؤولين في الجهة قد وضع اسم ابنه في القائمة بدلًا من اسمك"، يقول الشّاب: "أعلمُ أن الواسطة والمحسوبية لا تزال فاعلة، ولكن الذي أحرق قلبي هو أنَّ ابن هذا المسؤول الذي وضعوه بديلًا لي لم يكن في القائمة من الأصل أبدًا".

صُغتُ هذه القصّة بتصرّفٍ حتى لا أكشف عن الوظيفة ولا عن القطاع، لأضرب بها مثلًا حول غلبة العلاقات على الكفاءات، وما تسفرُ عنه من إضرار بنماء الوطن.

كم هي الكفاءات القديرة التي يفقدها الوطن لثلاثة أُمور؛ الأول: لأنّه يغلّبُ عليها العلاقات، فيضعُ من لا يستحق في مكانة من يستحق، أمّا الثاني: فإقصاؤه لأصحاب الكفاءات الذين يُظهرون سمات كفاءتهم، وصفات قدراتهم كي لا يظهروا فيكون لهم شأنٌ على مسؤوليهم، بغضّ النظر عن الإضافات العظيمة التي يُمكن أن يقدّموها لأوطانهم، الأمر الثالث: أن الوطن لا يصلُ إلى الكفاءات لعدّة أسبابٍ منها: أن هناك من يحجبُ الوصول إليهم حتى يقدّم من شاء، أو أنه يكلّفُ جهاتٍ لا تعرفُ كيفية استقطاب أصحاب الكفاءات.

الأوطانُ لا تبنيها العلاقات؛ بل تبنيها وتُعلي شأنها الكفاءات.. العلاقات تأتي بالطالح أكثر من الصالح لأنَّ الأهواء والأمزجة والعواطف هي التي تحكمها، أمّا الكفاءات فتأتي بالأصلح من بين الصالحين، والأكثر تميُّزًا من بين المتميّزين.

وعلى ذلك أقول: إنّ الأوطان عليها أن تقرّر: هل تريدُ البناء الحقيقي، والتطوُّر الفعّال كما تُعلن ذلك في خطاباتها، أم أنها تريدُ بناءً ظاهريًا بغير محتوى، وتطوُّرًا بغير جوهر؟! إذا كانت الأوطانُ تمتلك الإرادة الفاعلة للبناء والتطوير والعمران والازدهار فإنِّه لا بديل لها سوى تمكين الكفاءات والحرص على وضعهم في الأمكنة التي يجدرُ بهم أن يكونوا فيها ليقودوا الحراك التنموي في أوطانهم.

أمّا إذا كانت الأهواءُ هي التي تسيّرُ الأوطانُ فإنها تجعلُ للعلاقات قوةً نافذة، وواسطةً مؤثّرة، وحينها لا يجب أن تسأل الأوطانُ عن سرّ تأخر اقتصادها، وبطء نمائها، وتعثُّر مسارها، وما يعتورها من عراقيل، وبيروقراطيات في أدائها، وإنجاز المصالح فيها.

والله لقد شهدتُ على كفاءاتٍ ذات قدراتٍ عظيمة تنميتُ ان يكون لها مكانةٌ ما لكي تُسهم في بناء وطنها، لكنها ضيّعت بسبب الأسباب الثلاثة التي ذكرتها آنفًا، يقول الشاعر عبيد بن الأبرص:

لأعرفنّك بعد الموت تندُبُني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي

الأوطانُ بحاجةٍ إلى من يتقصّد الكفاءات، ويتبنّى سياسة اصطياد الرؤوس (Head Hunting) بكلّ تجرُّدٍ وأمانة من أجل رفعة الوطن وحده، لا لسبب أو لآخر، يقول الراحل غازي القصيبي في كتابه "حياة في الإدارة": "أستطيع أن أقول، صادقًا، إنني لم أندم على قرار واحد بتعيين مسؤول واحد، كان السبب، بعد توفيق الله، أنني لم أنظر قط إلى الاعتبارات الشخصية. لم يكن العمل عملي الشخصي لأُشرك فيه من أحب وأحجب عنه من أكره. كان العمل عمل الدولة، وكان من واجبي أن أبحث عن الأكفأ دون تأثر المودة أو الصداقة أو الزمالة".. وأجزمُ شخصيًا بالقول إنه لو تبنّى كل مسؤول كبيرٍ هذا المبدأ لتحررت الأوطان من قيود الأمزجة والأهواء والمصالح الشخصية التي ما أردى الأوطان أكثر منها..!!

من نافلة القول إن الكفاءات القديرة لو وُضعت في مكانها الصحيح لأثرت الأوطان بعطائها، ودفعته بإبداعاتها وأفكارها إلى مصاف التقدم، وليس ذلك صعبًا ولا مستحيلًا إن تبنته الأوطان سياسة لا تحيد عنها، وفي هذا سُئل السير ريتشارد برانسون صاحب مجموعة فيرجين: كيف تستطيع إدارة المئات من شركاتك فأجابهم: "لا أدير شركاتي، وإنما أختار الأشخاص المناسبين لإدارتها، وأمضي عنها". ومثله أجاب جاك ماي صاحب شركة "علي بابا": "أنا لا أفهم في التكنولوجيا، ولا أفهم شيئًا في الإدارة ولا في أمور أُخرى ولكنني طوال سنوات أختار أشخاص أذكى مني وأجعلهم يعملون مع بعضهم البعض".

خلاصة الأمر.. إننا لا نجدُ خيارًا دون اختيار الكفاءات الجديرة، ولكن قبلها علينا أن نحدد من يختار هذه الكفاءات، ومن هو الوصي بالإشارة إليها، وما هي معايير الإختيار في ذلك، متيقنين أنه متجرّدٌ من المصلحة الشخصية، ومتنصلًا من الأهواء والأمزجة، ومطبقًا للمعايير السليمة التي تستقطب أفضل الكفاءات إلى مكانها الصحيح حينها سنرى كيف يتقدم الوطن سريعًا في زمنٍ لا يعترفُ إلا بالكفاءات.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الصعيد.. و"ناسه"

لست ممن يتابعون الأعمال الدرامية سواء فى رمضان، أو غير رمضان، بل إنني توقفت تمامًا خلال السنوات الماضية عن معظم ما يعرض على الشاشات، باستثناء بعض ما يتعلق بالأخبار أثناء الأحداث الهامة، غير أن مقاطع من مسلسل يتناول الحياة فى الصعيد يمر أمامي بين الحين والآخر أثناء تصفح الفيس بوك، الفنان مصطفى شعبان يتألق فى أداء دور كبير العائلة والذى يستمد سطوته من الثروات الضخمة التى حصل عليها من تجارة الآثار، وبالتالي كلمته نافذة على الكبير قبل الصغير، المسلسل الذى يحمل اسم "حكيم باشا" يتبارى فيه كبار النجوم فى أداء أدوارهم، وكذلك النجوم من شباب الفنانات، غير أن هذا العمل كما سابق كثيرًا من الأعمال لا تعبر عن واقع الحال فى الصعيد.

أول ما لفت نظري هو أن "حريم القصر" كما يسمونهم فى المسلسل خلعن غطاء الرأس فى وجود ابن العم، وعم الزوج، وأبناء عم الزوج، وهكذا، وكلهن صففن الشعر، وتركهن مسدلاً على الاكتاف، وهذا ما لا يحدث على الإطلاق مهما بلغت درجة الثراء فى العائلات، بل إن السيدة أو البنت بمجرد نزولها من شقتها الموجودة فى بيت العائلة لا تستطيع أن تتخفف من ملابسها، أو غطاء الرأس، فهي دائمًا مستعدة لدخول ضيف، أو أحد الأقارب، ناهيك بالطبع عن طريقة اللبس التى تميل إلى الفلكلور، وكمية الذهب المبالغ فيها التى ترتديها كل نساء العمل، صحيح هم يحبون الألوان الزاهية ويلبسونها فى المناسبات والأثرياء منهم يملكون من الحلى الذهبية الكثير ولكنهم أيضًا لا يلبسونه إلا فى المناسبات.

منذ سنوات لبيتُ دعوةً لحضور حفل عرس أحد الأبناء فى محافظة سوهاج، بادرتني إحداهن "إيه رأيك فى عيشتنا.. يا تري زي المسلسلات؟" قلت لها: بالطبع لا، فقالت: "إحنا نفسنا بنضحك على اللى بنشوفه عن ستات الصعيد ونتمنى يكتبوا حاجه حقيقية عنا"، لم أجد هناك كلمة "الحرمة" التى نسمع عنها فى المسلسلات والأفلام، ولكنني وجدت سيدات تذهبن إلى وظائفهن دون أية قيود، وفتيات تعلمن فى الجامعات، ونبغن فى كليات القمة، بالإضافة إلى شابات، وفتيات صغار تجدن كل حنو ومحبة من الكبار.

على مدى سنوات عمري المهني والشخصي، كانت الصورة الذهنية للجزء الجنوبي من الوطن هى صورة نمطية تعكس موروثات من السلوكيات والعادات وربما الصفات التى تدور جميعها حول الثأر، وقهر وتهميش المرأة، وخشونة التصرفات، وقسوة المشاعر، وفوق ذلك معدلات فقر تؤكدها إحصاءات رسمية، ومصادر بحثية، ولكنني مع أول زيارة اكتشفت عوالم أخرى لا تعكسها الصورة المصدرة لنا دومًا عن تلك البقعة من أرض الوطن.

تجارة السلاح والآثار والتهريب تلك هى صورة الصعيد فى المسلسلات مع تزيد وتصنع فى اللهجة، مع أنه هناك لكنة مختلفة لكل محافظة، ولكنها عامة ليست بتلك الخشونة التى تصدرها المسلسلات، فمع زيادة نسب التعليم والتأثر بما يقدم فى وسائل الإعلام اقتربت اللهجة من طريقة "القاهريين" فى الكلام، أضف إلى ذلك بالطبع أن هناك قامات سياسية، وثقافية، وإعلامية أثروا بعلمهم، وموهبتهم، وثرائهم الثقافي المجتمع المصري ككل على مر التاريخ.

نتمنى على كتّاب الدراما، وخاصة ما يتعلق منها بالصعيد، زيارة هذا الجزء الجنوبي من أرض الوطن، ومعايشة قضاياهم، ومشكلاتهم، وواقعهم بالفعل، حتى تكون الأعمال مرآة للواقع ورسالة تخدم، وتفيد.

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض: إقامة علاقات أفضل مع روسيا ينطوي على مزايا هائلة
  • الوطن.. ثروة وثراء
  • قائد الطيران المشترك ومسؤول أمريكي يبحثان التعاون العسكري
  • أستاذ علاقات دولية: القانون الدولي يدين الحوثيين بسبب سجل انتهاكاتهم
  • إطلاق برنامج جديد لتأهيل الكفاءات الوطنية في الحوسبة السحابية
  • مسلسل «نص الشعب اسمه محمد» الحلقة 2.. علاقات عصام عمر العاطفية تضعه في مأزق
  • الصعيد.. و"ناسه"
  • رئيس شؤون الضباط في وزارة الدفاع العميد محمد منصور: الجيش العربي السوري كان وسيبقى عماد السيادة الوطنية، واستعادة الكفاءات والخبرات العسكرية التي انشقت وانحازت للشعب في مواجهة نظام الأسد البائد والتي خاضت معارك الدفاع عن الوطن أمرٌ ضروري لتعزيز قدرات جيشن
  • الرئيس الصومالى يُقيل مستشاره لشؤون علاقات الولايات الفيدرالية
  • الرئيس الصومالي يقيل مستشاره الخاص لشؤون علاقات الولايات الفيدرالية