سودانايل:
2025-03-17@12:06:26 GMT

(أبيل اليَر)… لماذا لَمْ تُكمِلَ الحِكاية؟

تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT

حين يَبدأُ شَّخصٌ حَكَّاءٌ، جَذَّابُ السَّردِ، حلُوُّ الرَويِّ، يَقُصّ علي ما أستلذُ به وأطربُ له، ثُم يقطع حكايته التي أتحرَّقُ شوقاً لِسماع باقِيها، و يبدأ في قولٍ آخرٍ، فيُسهب فيه ولا يعود لإكمالِ حِكايتهِ، مُشافهةٌ كانت أو مكتوبة، مَنْ يفعلَ بي ذلك يَغمُرُني بِالسَّآمَةِ، فقليلٌ هو ما يَصل لك، مِنْ سردياتٍ جميلةٍ، في هذه الايامِ الماسِخة.


فعلَ بي ذلك، مولانا أبيل الير، إِذّ رَمىَّ لي بِطرفٍ صغيرٍ من سِيرةِ حياتهِ المَلِيحَة النادرة، ثم قَطع الرَوِّي، وبدأ في قولٍ آخرٍ، وأَسْهَبَ، ثم ذهب في إسهابهِ، ولم يَعدُ ليرويِّ ظمأ إنتظاري؛ فحين نشر كتابه (جنوب السودان...التمادي في نقض المواثيق والعهود)، كان واضِحُ المقصد ومنضبط المنهج، وهو شيخ وقور، كثير الصمت، قليل التصريح، وما كنتُ لِأجادله في صواب أو أغلاط تأريخه للذي جرى بين الشمال والجنوب، فليس لي سَنَدٌ مرجعياً لو أردتُ ذلك، ولِلحَقِ، لم أرغبُ في ذلك البتَّة.
عند صدور كتابِه في مطلع التسعينات، بدأتُ بِقراءةِ مُتعجِّلة لِتقديم المؤلف حتى أدرِكُ حُجج الإتهام وخاتمةِ الأحكام، فلم يتَسنَّ لي ذلك، وما إستطعتُ أن أبارحُ مَقدمة الكتاب، لعلها سبع أو تِسع صفحات كانت. صفحات أكثف من ظلال السافنا الغنية، وأسطع من انعكاس الضوء فوق رمال الصحراء. فيها حَكىَّ، بإيجازّ شَّحِيحٍ، قِصِّة حياته الثرِّية.
حياته تجاذبتَ ما بين شَّدِّ واِرْتِخَاءِ القَوْسُ الذي بين الشمالِ والجنوبِ، ولم يكن "جنوب" أبيل الير مِثل جنوب إخوانه، لِأبيه أو أشقاءه. وكما قال، منذ اليوم الذي وُلد فيه، لم يكن أمام أبيه أي خيار، سوى الذهاب بهما للطبيب، لِإنقاذِ حياتهما، هو وأُمِّه، وقد كان طبيباً مسيحياً، أنقذ حياة والدته وتواصلتَ بحياتها أيامه. حدث ذلك بعدما أخفقتَ "آلهة الدينكا" في إِشْفائها.
كانت تلك لحظة التحول الأكبر، حينما إختار له، أباه وأمه، أن يفارقهما، ويذهب في إتجاهٍ مُغاير، أن يسلك سِّكة التعليم والمعارف المفيدة، التي إقترنت لديهما بالمسيحية، وهي قرينة شَرطيّة غير مُعلنة، في مثلث مُتلازم الأضلاع، الحاكم/ المُبشِّر/ الطبيب المعلم . مثلثُ يفضح التعالي الأوروبي الذي يُساوم مسيحيته بالدواء والتعليم، ولا يرى فيما يعتقدون ويعبدون، أو في مجمل النظم الدينية لدى قبائل الدينكا، سوى معتقدات بدائية تعيق تطورهم.
حكى (ابيل الير) حول ذلك بحسرة فقال: "....وكان الحادث الثاني مبعث خيبة أمل لي، إذ حَرَّمتَ علي أمي أن آكل لحم معزة تذبح ضحية ل "رنق"، وهو أحد صغار الآلهة في العشيرة، وثيق الصلة ب "ليربيو"، ولم تخطرني بسبب ذلك القرار، رغم ما إِشَتهرت به من عنايةٍ برفاهية أنجالها العشرة. وكان ذلك القرار منها على وجه التحديد هو ما أثارني. وذات مساء سمعتها تُحدِّث أبي بما لاحظته في "ماليك" عند مرضها من أن أتباع إله مشور "المسيحيين" تحرّم عليهم تعاليم دينهم أكل لحوم الضحايا التي تذبح تقربا "للأبالسة" الذين هم آلهتنا، ويبدو أن هذا كان رأي المسيحيين خلال السنوات المبكرة للعمل التبشيري، وهي لا تريدني أن أواجه المتاعب من آلهة المبشرين الذين كان يلزم عليّ أن أدين لها، إذا ما أردت النجاح في تعلّم طرقهم في القراءة والكتابة، وربما في معالجة الناس مستقبلا".
ديانة ابيل الير الجديدة، لَم تُضف له، أو تنقصه شيئاً، سِكَّة التعليم والمدرسةِ هي التي أنهكت روحه وجسده. خيار قسري كَابَد في سبيل تحقيقه، ومنذ طفولته، أهوال الشقاء العظيم، فقد كان الصَبِّي عليل الجسد، وتَحتَّم عليه أن يذهب وحيداً لمدرسةِ بعيدةِ، بينه وبينها، أحراش وأدغال شاسعة وأمطار أبديّة، ذهبَ تحت أصداء عُوَاءُ الطبيعة الإستوائية المُخيّفة، فعل ذلك بدفعِ أبيه وأمه، وأنجزَ نجاحه فيها، بما وُهبَ من إستعداد نفسي وعقلي لقبول وإستيعاب، ثم التفوّق في مناهج الضبط الأكاديمي، قال: "وكنّا، حتى ذلك الوقت، نذهب للمدرسة معا، نتبادل القيادة في ممشى ضيق، تغطيه الحشائش التي تتساقط فوقها قطرات ندى الصباح، ونصل إلى المدرسة في الساعة السابعة صباحاً وقد إبتلّت أجسامنا الصغيرة بالندى والماء. وكان عَليَّ بعد ذهاب أقاربي، أن أجاهد وحيداً مشاق الطريق إلى المدرسة كل صباح، وكانت امي رغم إهتمامها بحالتي وشفقتها عليَّ، قد حدثتني بإسلوبها الرقيق الحازم الذي كانت تعامل به أطفالها، أن أواصل الذهاب للمدرسة، وكانت تصطحبني ثلاثة أيام في كل إسبوع إلى منتصف الطريق عند إشتداد الندى، وبلوغ ماء المطر ركبتي عند الممشى. وقد تهددت الأمطار إستمراري في المدرسة …ولما بدأ لنا أن موسم الأمطار لانهاية له، أخذتني إلى منزل خالتي التي كانت تسكن قرب المدرسة، وعهد بي إليها خلال ذلك الموسم، وبإتخاذ هذه الخطوة تأمّن إستمراري في المدرسة، وقوي عزمي على النجاح في إمتحان القبول ب"ماليك" في آخر العام".
كانت تلك سنوات إجتهاده الباكرة، وتلتها سنوات في طَيِّها مَشاقِّ وشِّقَاقِ كأنها الأَبدُ، ولم يوقف ذلك دأبه المُثابر في إختراق العقبات التي كانت تقف في طريقه نحو المدرسة والتعلم والمعرفة، فَكافَحَ، حتى جلس لإمتحان الدخول للجامعة، نَجح ولم يُحقِّق الدرجات التي تُؤهله لدخولها، مِثله مِثل كُلَّ مَن جلس معه لِلإمتحان في الجنوب، إرتضى رِفاقه بما إتيح لهم من وظائف ذات إمتيازات مُغريِّة، لكن أبيل الير العنيد، لم يرتضِ سوى الوصول لنهاية الطريق، فتأبّط أوراقه وجاء للشمال، وحيداً أيضاً، ومِن مدرسة وادي سيدنا أصاب هدفه وحَققَّ رجاء أَمِّه ومرادها.
لا خِلاف، أنه قد صَبرَ وكَدحَ فنَجح، وهذا مِن نوافل منطق الحياة، و مِن دوافع الإعجاب به، والتقدير له، بَيدَ أنّه، ليس بدافِعِ كاف ومُغرٍ للكتابة عنه. إغراء الكتابة، له نِداءٌ خَافتٍ خَفىِّ، مِثل طيف تراه ولا تُمسكَ به، كأطياف قوس قزح، التي بانتَ لي فوق فضاء إحداثيات مكانه، وبين فواصل أيامه التي حاولتُ الإمساك بدقائق ملامحها، فإستعصتَ عَليَّ.
لم يكتب أبيل الير سِيرته الذاتية، وهذا ما يُشجيِّك ويغرِّيكَ، بل يغويك، للبحث فيما سَكَتَ عنه، فقد تمازجتَ بين أضلاعهِ أَشْتَاتٍ شَتَّى، من أشياء لا تجتمع بذاتِ واحدة في زمان واحد. فهو الراوي الفصيح، ذو الوجدان المحايد والذاكرة الحافظة المنتظمة، وهو الذي، عُزِل عن إخوانه وأخواته، حِين فارقهم، وذهب للمدرسة بِلا رفيق، وهو الذي دُفِعَ به لممارسة شعائر المسيحية وحَدَّه، وهو الذي جاء للشمالِ وحيداً، ليلتحق بمؤسسات الدولة ( الكولونيالية) فيما سَمحت به مِن تعليم وعمل. تلك الدولة الحاذقة الماكرة، التي كانت تَرى وتُنجز ما تريد، بذرائعية دقيقة وقاسية.
هل كان بمقدور أبيل الير أن يكتب سيرته الذاتية، حتى لو كانت تلك رغبته الصادقة؟ تُسَاوِرُني الشُكُوك في ذلك، وبِحسبِ قوله، فقد قامت مؤسسة فورد بتوفير منحة له، كزميل زائر في كلية ولفسن بإكسفورد. وبقليل مِن سوء الظنون، وكثير من الإعتدال، فمَنْ يَظِن أَن تهدر مؤسسة فورد مالاً جزيلاً لِأجلِ كِتابِ سيرة ذاتية، فهو غَافِل، ومَنْ يعتقد أن تتقبّل كلية ولفسن، تحت رئاسة "سير ريموند هوفنبرج"، أيَّ تجريح لتاريخ الإمبراطورية البريطانية، فهو غَشيم.
أبيل الير لَم يُكمِل الحكاية الشَيِّقة التي لا يعرفها غيِّرُه، ولَنْ يرويها سِواه. قصته في الجنوب الذي لَم يستأنس بِالمُواطنَّة الآمنةِ المُطمئِّنة فيه، وما عَرِفَ فيه أحوال عِشق الاوطان العفويِّ البديهِّي، الجنوب الذي عُزِل عنه دون رغبته، فتعايش معه بوعيِّ ووجدانِ مُستقِّل. مثلما عاش في الشمال تحت وطء الإنفلات العِرقِّي المُتسِّلط المُتعاليِ. إِن حدث ذلك وتَحَقَّق بالفعلِ، أو كان إحتمالٌ ممكن الحدوث دوماً. وبينهما كان أبيل ألير "رهين المحبسين"، يكافح لتوحيدِ أشلاءِ وجدانه الذي تَناثرَ ما بين أمكِنّةِ شتَّى، بينهما جدل مِنْ شِّقَاقٍ وتَقَارُبٍ، (جدل الحُبّ والحرب) الذي ما إنفكَ يدور في أساطير الدولة التسلطية.

* كُتب هذت المقال ١٩٩٤م، ولا أذكرُ إذا كان قد نُشِر أم لا؟
* المقتطفات من مقدمة المؤلف للكتاب.

osman.amer@icloud.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: کانت ت

إقرأ أيضاً:

كيف كانت طبيعة ووظائف الدولة في فترة الحكم التركي؟

بقلم: تاج السر عثمان

فارق دنيانا البروفيسور حسن أحمد إبراهيم والذي كانت له إسهامات مميزة في ميدان تخصصه في التاريخ الحديث والمعاصر، ولفت نظري مساهمته المتميزة التي اطلعت عليها عن فترة الحكم التركي - المصري في السودان أثناء بحث كنت أعده عن " التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي - المصري في السودان"، الذي نشر في كتاب فيما بعد عن مركز محمد عمر بشير ٢٠٠٦.
كانت مساهمة البروف المرحوم حسن أحمد إبراهيم بعنوان"محمَّد علي في السُّودان: دراسة لأهداف الفتح التُّركيِّ- المصريَّ"، والتي صدرت في كتاب عن دار النشر بجامعة الخرطوم (دون تاريخ)، له الرحمة والمغفرة.
نعيد نشر هذه المقال عن طبيعة ووظائف دولة الحكم التركي - المصري في السودان (١٨٢١ - ١٨٨٥).

اولا - شكلت دولة الحكم التركي تطورا جديد في مسار الدولة السودانية : دولة كرمة ، نبتة ، مروى، النوبة المسيحية، الفونج والفور. وتلك الدول كانت مستقلة وكانت نتائج تطور باطني. ولكن الجديد أن السودان خلال فترة الحكم التركي (1821م-1885م)عرف دولة تابعة خاضعة للاحتلال الأجنبي ضمت رقعة واسعة في البلاد،بعد ضم دارفور والمديريات الجنوبية الاستوائية، أعالي النيل ، بحر الغزال.
وكانت تلك الدولة مفرطة في المركزية وما جاءت نتاجا لتطور باطني، بل تم زرعها من الخارج وعلى نمط الدولة في الإمبراطورية العثمانية التي كانت بقيادة الأتراك والألبان المتحالفين مع كبار الملوك المحليين والعلماء والفقهاء المرتبطين بجهاز الدولة وكبار العسكريين من المماليك أو قادة الجيوش من المرتزقة وكانت دولة مدنية رغم إنها كانت استبدادية وتقوم على القهر.
ثانيا - كانت دولة الحكم التركي في السودان تمثل تحالف الحكام العسكريين والمدنيين (أتراك ، مصريين، أوربيين) وزعماء العشائر وكبار الملاك والتجار وكبار العلماء والفقهاء المرتبطين بجهاز الدولة وبعض القيادات والزعامات الدينية، وهذه الدولة في مضمونها كانت طبقية، بمعنى أنها كانت تعبر عن مصالح هذا التحالف الطبقي الحاكم.
وكان من مهام هذه الدولة نهب واعتصار واستنزاف الفقراء من الرعاة والمزارعين وصغار الملاك لاستخلاص اكبر قدر ممكن من الضرائب منهم، بينما كان كبار الملاك في ذلك التحالف الحاكم أما معفياً من الضرائب أو يتهرب منها بالرشوة وكانت وظيفة هذه الدولة أيضا قمع الانتفاضات والثورات ضد النظام، كما كانت وظيفتها أيضا هي تنظيم تصدير الفائض الاقتصادي إلى الخارج أو تنظيم كل القدرات الاقتصادية والبشرية وتوظيفها في خدمة مصالح الطبقات الحاكمة في مصر.
وكانت دولة الحكم التركي، بمعنى آخر، امتداداً أو ذراعاً حاكماً للتحالف الطبقي الحاكم في القاهرة الذي كان بدوره يقهر ويقمع الشعب المصري ويمتد هذا القهر ليشمل شعوب ومستعمرات إمبراطورية محمد علي باشا واعتصارها بهدف تحقيق التراكم اللازم لتحقيق أهداف محمد علي الاقتصادية والعسكرية .
ثالثا - باحتلال محمد علي للسودان عرف السودان لأول مرة نمطاً جديدا من الدولة هو نمط الدولة المدنية العصرية والتي عرف فيها السودانيون بذور التعليم المدني الحديث والقضاء المدني ، وبذور نمط الإنتاج الرأسمالي ، واتساع دائرة العمل المأجور والتعامل بالنقد ، واقتلاع المزارعين من أراضيهم والقذف بهم أو الهجرة إلي مناطق أخري من السودان اوخارج السودان ، إضافة لاتساع السوق الداخلية بعد اتساع رقعة السودان خاصة بعد ضم سواكن ودار فور والمديريات الجنوبية ألي بقية أنحاء السودان مما أدى إلى اتساع التجارة الخارجية والداخلية وارتباط السودان بالسوق العالمي ، وبالتالي عرف السودانيون كامتداد أوسع للتحولات التي بدأت تحدث أيام الفونج المدن التجارية وبداية تفكك وتحلل النظام القبلي ، وظهرت طرق صوفية أوسع واكبر من الطرق التي كانت سائدة أيام الفونج مثل الختمية التي ضمت اتباعاً من شمال وشرق السودان وكردفان وبعبارة أخرى بدأ يشهد السودان بداية بذور تكوين القومية السودانية أو الدولة القومية السودانية.
رابعا - شهدت دولة الحكم التركي توسعا في زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة ، مما أدى إلي زيادة المحاصيل الزراعية في الأسواق ، فنجد أن الحكومة في هذه الفترة تجلب عدداً من خوليه الزراعة ، وتعمل على تطوير زراعة القطن وتشق القنوات للتوسع في زراعة الأحواض وتشجيع تعمير السواقي وترسل الطلاب إلى مصر للتعليم والتدريب الزراعي وتجلب المحاريث لحراثة الأرض وتعمل على بناء المخازن في المراكز الرئيسية على طول الطريق إلى مصر لتوفير مياه الشرب لتسهيل الحركة التجارية وتصدير المواشي بشكل خاص كما اهتمت الحكومة بإدخال محاصيل نقدية جديدة مثل الصمغ، السنامكي ،والنيلة . الخ. واهتمت بالثروة الحيوانية وجلبت الفلاحين والعمال المهرة في الزراعة واهتمت بالتقاوي المحسنة والأشجار المثمرة واهتمت بمكافحة الآفات مثل الجراد .
ولكن رغم تلك التحسينات التي أدخلتها الحكومة بهدف تطوير القوى المنتجة في الزراعة والإنتاج الحيواني الا أن الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها على المزارعين والرعاة أدت إلى هزيمة هذا الهدف، فقد هجرالاف المزارعين سواقيهم في الشمالية ، كما هرب الاف الرعاة بمواشيهم إلى تخوم البلاد ، هكذا نجد أن سياسة الحكومة التي كانت تعتمد على القهر والضرائب الباهظة أدت إلى انخفاض الإنتاج الزراعي والحيواني، وبالتالي أدي ألي تدهور الأحوال المعيشية وأدي ذلك ألي المجاعات والأمراض والخراب الاقتصادي وغير ذلك مما شهده السودان في السنوات الأخيرة للحكم التركي- المصري.
خامسا - شهدت تلك الفترة قيام صناعات جديدة مثل صناعة البارود وصناعة النيلة وصناعة حلج القطن و صناعة الذخيرة كما تطور قطاع الخدمات حيث تطورت المواصلات (بواخر نهرية) إدخال التلغراف ، كما تم تحسين ميناء سواكن وتم توصيل خط السكة الحديد إلى مدينة وادي حلفا (الشلال).
سادسا - عرفت دولة الحكم التركي التفاوت الطبقي وكان التركيب الطبقي للدولة يتكون من : الحكام وكبار موظفي الدولة الأجانب والمحليين ،زعماء ومشايخ الطرق الصوفية، الجنود، المزارعون، العمال والموظفين المأجورين، الرقيق.
سابعا - حول سمات وخصائص التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية لدولة الحكم التركي نلاحظ الآتي:-
(أ) كانت تشكيلة تابعة، ولم تكن مستقلة على نمط التشكيلات السابقة الرأسمالية في السودان لممالك السودان القديم وفي العصور الوسطى.والمقصود بتشكيلة تابعة : أن كل النشاط الاقتصادي والاجتماعي في تلك الفترة كان موظفاً لخدمة أهداف دولة محمد علي باشا في مصر، وبالتالي تم إفقار السودان وتدمير قواه المنتجة (المادية والبشرية) وكان ذلك جذراً أساسياً من جذور تخلف السودان الحديث.كما اتسعت تجارة الرقيق.
(ب) أرتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي عن طريق تصدير سلع مثل : الصمغ العربي ، العاج ، والقطن. الخ.
كما شهد السودان خلال تلك الفترة غرس بذور نمط الإنتاج الرأسمالي في السودان على الأقل في سمتين أساسيتين من سمات نمط الإنتاج الرأسمالي هما :
*اتساع عمليات التعامل بالنقد والعمل المأجور بعد اقتلاع المزارعين من سواقيهم وأراضيهم.
*الارتباط بالتجارة العالمية.
(ج) التحولات التي أحدثها نظام الحكم التركي محدودة (الاقتصاد ، التعليم ، الصحة، المواصلات. الخ).وظل الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في السودان خلال تلك الفترة حبيس القطاع المعيشي ( التقليدي) وظلت قوي الإنتاج وعلائق الإنتاج بدائية ومتخلفة.
ويمكن القول أن السودان في تلك الفترة شهد تدمير أو خسارة للتشكيلة الاجتماعية القديمة دون كسب تشكيلة اجتماعية أرقى، وهذه العملية شبيهة إلى حد ما بتدمير الاستعماريين البريطانيين لنمط الحياة القبلي القديم في الهند والتي وصفها ماركس بقوله " أن سكان الهند خسروا عالمهم القديم دون كسب لعالم جديد " .
ثامنا - شهدت تلك الفترة تراكمات كمية من الانتفاضات والثورات ضد النظام ما أن تندلع انتفاضة ويتم إخمادها حتى تندلع أخري من جديد، وأدت تلك التراكمات الكمية من الانتفاضات إلى تحول كيفي في الثورة المهدية.
هكذا نجد جذور الثورة السودانية الحديثة التي ترجع إلى فترة الحكم التركي وبداية قانونها الأساسي الذي يبدأ بمقاومة النظم الاستبدادية بأشكال وصيغ مختلفة ويتم تتويجها بالانتفاضة الشاملة التي تطيح بالنظام ، على ان عنف ووحشية دولة الحكم التركي هي التي ولدت الانتفاضة الشعبية المسلحة في الثورة المهدية.
تاسعا - كما شهدت هذه الفترة غرس بذور الثقافة الحديثة، التعليم المدني الحديث ، القضاء المدني، الطباعة ، الصحافة ،بدايات المسرح، وبدايات استقلال فن الشعر الغنائي عن الدين وعن نمط الغناء التقليدي (الدلوكه) الذي كان سائداً أيام الفونج.

عاشرا - عرف السودانيون خلال فترة الحكم التركي المصري الملكية الخاصة للأرض وبيع الأراضي ورهنها وتوريثها حسب الشريعة الإسلامية والأعراف، وكان ذلك من التطورات التي شهدها السودان في ملكية الأراضي وتعبيراً عن ارتباط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي .
كما عرفت التشكيلة الاجتماعية انماطاً مختلفة من الإنتاج التي كانت سائدة في التشكيلات الاجتماعية السابقة مثل : نمط الإنتاج البدائي، و نمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الإقطاعي، ولكن الجديد هنا كما أشرنا سابقاً أن السودان عرف البذور الأولى لنمط الإنتاج الرأسمالي والذي نشأ مع اتساع التعامل بالنقد والارتباط بالتجارة العالمية وتحول قوة العمل إلى بضاعة، واقتلاع آلاف الفلاحين من أراضيهم نتيجة للقهر والضرائب الباهظة .

أهم المراجع:-
1/.بشير كوكو حميدة: ملامح من تاريخ السودان في عهد الخديوي إسماعيل (مطبوعات كلية الدراسات العليا بحث رقم "10"1983م).
2/ تاج السر عثمان الحاج : التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي ، مركز محمد عمر بشير 2006م.
3/ حسن أحمد إبراهيم : محمد علي في السودان ، دار جامعة الخرطوم للنشر، بدون تاريخ ، رسالة ماجستير.

alsirbabo@yahoo.co.uk  

مقالات مشابهة

  • شذى حسون عن خلافها مع أحلام: كانت صديقتي لكنها لم تحترمني .. فيديو
  • كيف كانت طبيعة ووظائف الدولة في فترة الحكم التركي؟
  • سلمى لاغرلوف.. أول امرأة تفوز بنوبل في الأدب هل كانت تستحقها؟
  • إعلام أمريكي: الغارات دمرت منصات حوثية كانت تستعد لهجمات جديدة
  • البعاتي كانت عيناه تتحركان بشكل آلي (ومخيف نوعا ما)
  • لماذا غضب نتنياهو من صفقة تبادل الأسرى التي وافقت عليها حماس؟
  • فيما ورد خبر من هيئة البث الإسرائيلية ذو صلة بالانفجارات … هذه هي المناطق التي استهدفها الطيران في العاصمة صنعاء ” صور ” 
  • خريس: اسرائيل كانت ولا زالت الشر المطلق
  • عاجل . البنك المركزي اليمني يكشف عن نقل مراكز البنوك التي كانت بصنعاء الى إلى عدن. ضربة موجعة للمليشيا الحوثية
  • مساعد وزير الخارجية: مصر كانت تُسابق الزمن لتنظيم كوب 27