11 سبتمبر اللاتيني وزمن الارتدادات الاجتماعية
تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT
من المفارقات الصارخة التي لا تزال تصرخ في وجوه البشر باستمرار منذ أكثر من ثلاثة عقود أن الفقر لا يفتأ يتفاقم وظروف المعيشة تسوء والهشاشة الاجتماعية تستفحل والأجيال الناشئة تواجه مستقبلا غير مطمئن (مقارنة بنعمة الاستقرار، بل وحتى الازدهار، التي نعم وينعم بها الآباء بفضل جني ثمار دولة الرعاية الاجتماعية التي سادت في معظم البلدان الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية)؛ ولكن رغم ذلك كله فإن اليسار السياسي يتراجع في كل البلدان تقريبا، سواء في الشمال المراكم لقرون من رأس المال واقتصاد الاستغلال أم في الجنوب الذي تركزت عقيدة معظم أنظمته على محو مظالم الاستعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية الضامنة لكرامة شعوبه والفاتحة على آفاق النهضة والانبعاث.
والنتيجة أن اليمين السياسي، بمختلف تلويناته القديم منها والجديد، هو الذي لا يزال يحكم في معظم بلدان المعمورة منذ أكثر من ثلاثة عقود دون أن يفلح اليسار في تقديم أي بديل معقول، أو في إقناع الفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات الليبرالية الاقتصادية المتوحشة بأن ظروفها المعيشية لن تتحسن وآفاق مستقبل أبنائها وبناتها لن تشرق إذا استمرت في التصويت لأحزاب اليمين الحاكمة، أو استمرت في تأبيد بقاء اليمين في الحكم بواسطة العزوف عن ممارسة الحق الانتخابي.
وقد كان لـ11 سبتمبر دور تدشيني في انهزام اليسار أمام اليمين وانتصار نظريات الأمريكي ميلتون فريدمان (ملهم الاقتصاديات الريغانية، «ريغانوميكس») والبريطاني كيث جوزيف (مهندس العقيدة التاتشرية) على نظريات البريطاني جون ماينارد كينز والنمساوي كارل بولياني. وليس المقصود 11 سبتمبر 2001 أو ما تسميه البشرية المعاصرة «ناين إيلافن» تأثرا بعادات الأمريكيين في التأريخ بقلب التواريخ، تقديما للشهور على الأيام. ليس اليوم المقصود 11 سبتمبر 2001، كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما هو 11 سبتمبر 1973.
سلسلة الهزائم اليسارية التي لا تزال مستمرة منذ انتصار التاتشرية والريغانية قد وقعت ولا تزال تقع مدنيا، أي بالسلاح الانتخابي السلمي
يومذاك وقع في تشيلي الانقلاب العسكري الذي أنهى التجربة الديمقراطية الاشتراكية لحكومة سلفادور ألندي الفائز بانتخابات عام 1970. وأعقبت الانقلاب 17 سنة من الدكتاتورية العسكرية التي أصابت كثيرا من العائلات بكرب عظيم: 40 ألفا من ضحايا التعذيب، و3200 قتيل وفقيد، ومليون من المشردين في المنافي (إضافة لانتحار ألندي الذي رفض الاستسلام أو الهروب). أما تركة هذا الحكم الاستبدادي البائس، فقد تمثلت في إسلام أمر الاقتصاد، أي مصير البلاد، إلى «فتية شيكاغو». وهذه تسمية أطلقت على خبراء الاقتصاد التشيليين (والأمريكيين اللاتينيين عموما) الذين درسوا في كلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو، وصاروا من مريدي طريقة الشيخين ميلتون فريدمان وأرنولد هاربرغر، أي من المؤمنين المبشرين بالديانة النيولبرالية.
ولكن إذا كانت هزيمة اليسار في تشيلي قد وقعت بالعنف والغدر، فإن سلسلة الهزائم اليسارية التي لا تزال مستمرة منذ انتصار التاتشرية والريغانية قد وقعت ولا تزال تقع مدنيا، أي بالسلاح الانتخابي السلمي.
والواقع أن عجز اليسار عن كسب ثقة الناخبين، رغم تدهور الأوضاع الاجتماعية في معظم البلدان، أمر محير. ولعل بريطانيا وفرنسا هما النموذجان الأبعث على الحيرة. إذ رغم أن حزب المحافظين لم يعرف طيلة تاريخه ساسة أقل كفاءة وأسوأ مسلكا وأعقم فكرا من ساسة الجيل الحالي، ورغم أن بريطانيا بلغت في السنوات الأخيرة من بؤس الحال ما جعلها تلقب برجل أوروبا المريض، فإن احتمال فوز حزب العمال بالانتخابات القادمة لا يعزى إلى مصداقية برنامجه السياسي أو التفاف الناخبين حوله. بل كل ما في الأمر أن حزب المحافظين، الذي يحكم منذ عام 2010، قد أصابه «اهتراء السلطة» أي الاستنزاف الناجم عن طول البقاء في الحكم.
أما في فرنسا فإن تشرذم قوى اليسار وإصابة الحزب الاشتراكي بما يشبه السكتة الدماغية، وعجز السياسي البارع جان لوك ميلنشون عن توحيد هذه القوى (لأسباب عديدة، منها ميوله الاستبدادية شبه الستالينية) كل ذلك ينذر بأنه لن يكون ثمة خيار انتخابي مستقبلا إلا بين يمين تقليدي واهن ويمين متطرف صاعد.
إنه مصير مأساوي ظالم لليسار الذي اضطلع، طيلة قرنين من النضال الفكري والسياسي، بدور مركزي في تثبيت فرنسا على نهج الحداثة التقدمية والعدالة الاجتماعية. وإذا كان قد كتب الكثير عن هذا النضال الملحمي، فإن المرجع الوافي هو كتاب «اليسارات الفرنسية» للمؤرخ جاك جوليار الذي رحل عن هذه الدنيا الأسبوع الماضي. لماذا اليسارات، هكذا بصيغة الجمع؟ لأن التعدد هو أصل هذه القصة الجديرة بأن تروى.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفقر اليمين الحكم الفقر الحكم اليمين سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لا تزال
إقرأ أيضاً:
الانتخابات الألمانية المحمومة بصعود اليمين
بسم الله الرحمن الرحيم
#الانتخابات_الألمانية المحمومة بصعود اليمين
دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري
تتجه #ألمانيا إلى انتخابات مُبكّرة في 23 فبراير/شباط 2025 وسط أزمات سياسية واقتصادية متفاقمة؛ يتصدرها انهيار الائتلاف الحاكم بقيادة المستشار «أولاف شولتس»، الأمر الذي دفع الرئيس الألماني «فرانك-فالتر شتاينماير» إلى حل البرلمان، مما وضع البلاد في حالة من عدم اليقين.
مقالات ذات صلةهذه الانتخابات أصبحت ساحة لصراع أيديولوجي بين الأحزاب التقليدية واليمين الشعبوي، مع محاولات خارجية للتأثير على نتائجها.
أسباب حل البرلمان
الركود الاقتصادي والتضخم: تواجه ألمانيا أزمة اقتصادية حادة، حيث سجّل الناتج المحلي الإجمالي انكماشا بنسبة 0.3% في الربع الأخير من 2024، مع ارتفاع التضخم إلى 6%، حيث تضرّرت الصناعة الألمانية بشكل كبير، لا سيما في قطاعي السيارات والطاقة، مما أدى إلى ارتفاع البطالة وإفلاس العديد من الشركات الصغيرة.
أزمة الطاقة وعودة الفحم: تعليق صفقات الغاز الروسي أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 25%، مما دفع الحكومة إلى إعادة تشغيل محطات الفحم، بينما انتقد حزب الخضر هذه الخطوة، والتي اعتبرها «شولتس» «إجراء اضطراريا» في مواجهة الأزمة.
صعود حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD): حقق حزب البديل تقدما كبيرا، حيث وصلت شعبيته إلى 20% على المستوى الإتحادي، وأكثر من 33% في ولايات شرق ألمانيا، مستغلّا الاستياء الشعبي من الهجرة والتدهور الاقتصادي.
الاحتجاجات والإضرابات: اندلعت احتجاجات واسعة من قبل المزارعين وعمال القطاع العام، الذين يطالبون بزيادة الأجور ودعم الوقود، مما أدى إلى شلل في حركة النقل في العديد من المدن الكبرى.
تنافس الأحزاب مع تغيّر في المشهد السياسي
الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) نحو اليمين: بقيادة «فريدريش ميرتس»، تبنى الحزب الديمقراطي المسيحي خطابا يمينيا أكثر تشددا، مع التركيز على سياسات الهجرة الصارمة، وإعفاءات ضريبية للصناعات التقليدية، في محاولة لاستعادة الناخبين الذين انضموا إلى حزب البديل.
الحزب الديمقراطي الاشتراكي (SPD) في موقف دفاعي: يواجه المستشار شولتس صعوبة في استعادة ثقة الناخبين، حيث تراجعت شعبية حزبه إلى 16%، وهو الحزب الذي كان يعتمد على الناخبين التقليديين واليسار المعتدل، لكنه يواجه معارضة قوية من اليمين.
حزب الخضر (Grüne) وحزب اليسار (Die Linke) بين التراجع والضعف: بينما لا يزال حزب الخضر قويا في الأوساط الليبرالية، فإن سياسته البيئية لم تعد تحظى بالدعم الشعبي نفسه في ظل الأزمة الاقتصادية. أما حزب اليسار فقد تراجع إلى 5% ويواجه انقسامات داخلية.
حزب سارة فاغنكنيشت (BSW): أسست «سارة فاغنكنيشت» حزبا جديدا يُركّز على القضايا الاجتماعية ومعارضة العقوبات على روسيا، ورغم حصوله على دعم بعض الناخبين اليساريين، إلّا أنه لم يحقق اختراقا كبيرا بعد في استطلاعات الرأي.
التدخلات الخارجية
أثارت زيارة نائب الرئيس الأمريكي «جيه دي فانس»، الذي يمثّل التيار الترامبي، إلى مؤتمر الأمن في «ميونيخ» جدلا واسعا، حيث التقى بزعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا، «أليس فايدل» لمدّة نصف ساعة، متجاهلا لقاء المستشار أولاف شولتس، الأمر الذي يُعدّ صفعة دبلوماسية لألمانيا.
يُعتبر هذا اللقاء على أنه دعم أمريكي ضمني لليمين المتطرّف، مما دفع شولتس إلى التحذير قائلا: «لن نسمح بتدخّل جهات خارجية في الانتخابات الألمانية». هذه الخطوة أثارت غضب النخب السياسية في برلين، في وقت تتزايد فيه الخلافات بين برلين وواشنطن حول السياسات الأوروبية والدعم لأوكرانيا.
السيناريوهات المحتملة بعد الانتخابات
استنادا إلى المشهد السياسي العام، فإن السيناريوهات الأكثر ترجيحا بعد الانتخابات هي:
تحالف الحزب الديمقراطي المسيحي مع الحزب الديمقراطي الحر (FDP) بدعم غير مباشر من حزب البديل من أجل ألمانيا، وقد يشهد هذا التحالف سياسات أكثر تشددا ضد الهجرة ودعما أكبر للصناعات التقليدية.
تحالف الحزب الديمقراطي المسيحي مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي في حكومة وحدة وطنية، قد يؤّدي إلى تسويات سياسية تساهم في استقرار مرحلي، رغم وجود خلافات داخلية قد تؤثّر على تناغم الحكومة.
أمّا النموذج غير المرغوب في الأروقة السياسية والمطروح، هو عدم حسم الانتخابات، مما قد يؤدّي إلى أزمة سياسية جديدة وإجراء انتخابات مُبكّرة أخرى في 2026.
تداعيات الانتخابات على أوروبا والعالم
إذا صعد اليمين المتطرّف، فقد يؤثّر ذلك على سياسة ألمانيا تجاه الاتحاد الأوروبي، خاصّة في قضايا المناخ والاقتصاد والهجرة، إضافة إلى علاقات برلين مع واشنطن، حيث الخلافات المتزايدة بينهما قد تدفع ألمانيا إلى إعادة تقييم علاقاتها مع القوى الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا، فضلا عن سياسة ألمانيا تجاه أوكرانيا الوارد جدا تأثّرها، إذ يدعو حزب البديل من أجل ألمانيا إلى خفض الدعم العسكري لكييف.
هذا دون الأخذ بالاعتبار عمّا قد يتطور بين إدارة ترامب واليمين الألماني بظلّ اللقاء الأمريكي في «مؤتمر ميونخ للأمن» معه.
ألمانيا على مفترق طرق
هذه الانتخابات تمثّل لحظة حاسمة في تاريخ ألمانيا الحديث؛ بين صعود الشعبوية اليمينية والتدخّلات الخارجية، والأزمات الاقتصادية التي تعصف في البلاد، وهو ما يُنظر إليه على أنه أكبر اختبار لاستقرارها السياسي منذ عقود.
السؤال المطروح هو: هل ستتمكّن ألمانيا من الحفاظ على توازنها الديمقراطي واجتياز هذا المنعطف الحرج دون أن تفقد هويتها الديمقراطية؟ أم أنّ رياح التغيير ستُعيد تشكيل ملامح القوة في أوروبا بأكملها؟ بحيث أنها ستتجه نحو تحوّل جذري في سياساتها الداخلية والخارجية.
الإجابة اليقين ستتضح بعد 23 من هذا الشهر، ومن الواضح أن أوروبا والعالم يراقبان ألمانيا عن كثب، فقد تكون لهذه الانتخابات تداعيات تتجاوز حدود برلين بكثير.
Ahmad.omari11@yahoo.de