د. عبدالله الغذامي يكتب: موت النقد الأدبي
تاريخ النشر: 16th, September 2023 GMT
في عام 1996 أطلقت في تونس مقولة (موت النقد الأدبي)، وهي حالة تشبه مقولة التدمير الخلاق (Creative Destruction) عند الاقتصاديين حين يرون ضرورة التخلص من أي منشأة تعطلت قدراتها الإنتاجية، ما يستوجب التخلص منها والشروع بمشروع يعد بنتائج أكثر نفعية، وهذا أمر لن يكون سهلاً في مجال المفاهيم المعرفية لأن المفاهيم تتجذر في الأذهان وتتشابك مع النسيج الذهني، ولن يتسنى الخلاص منها إلا بحيل مجازية تتعامل مع الذهنيات وتطمح لاستئصال أثر مفهوم ما بإحلال غيره محله، ولهذا تعمدت ارتكاب جنايتي العلمية الخاصة بإطلاق شعار قد يبدو ظاهرياً أنه عدواني وإقصائي، لكنه في حقيقته هو محاولة لممارسة نوع من التدمير الخلاق بإحلال مفهوم يعد بفتح منهجي يعطي غير ما هو من معطيات النقد الأدبي.
وجاء هذا الشعور عندي نتيجةً لحالة ثقافية وربما نفسية من القلق المعرفي، تجلى ذلك ابتداءً من عام 1987، حيث إني فيما قبل ذلك العام أجهدت نفسي في بحوث الجماليات الشعرية مع كتابي (الخطيئة والتكفير)، وما تعاقب من كتب تتصل بالنظرية النقدية الألسنية بتفرعاتها البنيوية والتشريحية والسيميولوجية، وفجأةً جاءتني دعوة يبدو أنها فجرت الحالة القلقة عندي من الإغراق في الجماليات الشعرية، وكانت الدعوة من اتحاد الأدباء العرب، وخصصوا موقعها في أبوظبي، والبحث المطلوب كان عن الشعر الحداثي في الخليج، وهنا وقعت في حيرة مع نفسي وقد شارفت أقصى حدود التوتر المنهجي من الخوض في جماليات الشعر، وكنت أشعر بما يشبه الانسداد المعرفي مع المنهجية النقدية بصيغتها المستقرة في النقد الأدبي، وكنت أعاني من تساؤلات عن نجاعة النقد الأدبي في كشف غير الجمالي في النقد، وكأن أدوات النقد الأدبي قد استنفدت طاقتها في قتل الجمالي لدرجات الوقوع في التكرار، وكأن النصوص أصبحت تتشابه بسبب أن النظر إليها استقر وتيبس على ما هو جمالي، بينما النصوص تحفل بمضمرات لا حيلة لأدوات النقد الأدبي القارة على كشفها أو الحفر عنها، وقد فكرت أن أعتذر عن تلك الندوة، لولا أني كنت أعرف سلفاً أن عذري لن يكون مقبولاً من منظمي المؤتمر العلمي في أبوظبي، وهنا اتجهت لإعمال حيلةٍ علمية تسمح لي بالبحث دون الغرق فيما تشبعت منه، وكتبت بحثاً بعنوان (نماذج للمرأة في الشعر المعاصر) واخترت له ثلاثة نصوص لشاعر كلاسيكي معاصر ولشاعر رومانسي ولشاعر حداثي، ورحت أستخرج صورة المرأة في هذه النصوص المتفاوتة تنوعاً وذهنيةً، أي أني دخلت في نظرية (النسق المضمر) قبل أن تتشكل عندي وفق هذا المصطلح ووفق ذلك التخصيص. ولا شك أن البحث نفسه وفي مراحل إعداده قد فتح أمامي أبواب النسقية الثقافية بأخطر صيغها متمثلاً بمقام المرأة في الثقافة، ومن ثم في حضورها في نصوص الشعر.
والشعر ديوان العرب، بمعنى سجلهم المعنوي والقيمي وفيه كنوزهم المعنوية والقيمية، وفيه تتشكل الذهنيات عبر التوارث الممتد على قرونٍ وقرون لدرجة أن يتشابه نزار قباني مع عمر بن أبي ربيعة نسقياً، رغم فروقات الزمن وفروقات الوعي، فما الذي يجعل صورةَ المرأة عند نزار لا تختلف عن صورتها عند ابن ربيعة.
وهل هذا تقليد شعري كتقاليد الوقوف على الطلل الذي نجده عند امرئ القيس ونجده عند الشريف الرضي ونجده عند أحمد شوقي بوصفه تقليداً عابراً للأزمنة، وسنقول هنا إنه تقليد شعري دأب عليه الشعراء في مبارزة تنافسية ليقيس المتأخر منهم مهاراته على مهارات سالفه حسب نظرية هارولد بلوم (لوحة التلقي) التي يرسم فيها خطى الشاعر في تصديه لمنافسة سابقه النموذجي، وهذا وجه من وجوه القراءة حسب معطيات النقد الأدبي، أم نقول إن هناك نسقاً ثقافياً مخبوءاً في اللاوعي الثقافي، أي أن الثقافة نفسها هي المؤلفة الكامنة خلف المؤلف الواعي، وهذا ما سميته بعد ذلك بـ (المؤلف المزدوج)، أي أن في كل نص ٍمؤلفين اثنين هما المؤلف الواقعي الذي نرى اسمه على جبهة النص، وكذلك المؤلف المضمر الذي هو الثقافة نفسها، ومن ثم نكون أمام نسقين، أحدهما ظاهرٌ وهو النص الذي نستهلكه بالقراءة الواعية، ونسقٌ مضمر لا نراه ولكنه يتسلل إلى ضمائرنا ويشكل ذهنيتنا وذوقنا، ويشكل ما هو أخطر من ذلك وهو عقليتنا.
وتتوج ذلك بصدور كتابي «النقد الثقافي» (2000)، وهو قراءة في الإنساف الثقافية العربية، ومنه عبرت خط النار الأمامي وفتحت مضماري المنهجي الخاص بما توالى من كتب تعتمد المنهجية نفسها في سبر الأنساق المضمرة. وبذا أنجزت مغامرتي في التحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي عبر مجازية (التدمير الخلاق). أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: خطاب تويتر (X) د. عبدالله الغذامي يكتب: النسق بين الشعرنة والعقلنة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً:
هناك فرق كبير بين السودان وإسرائيل.. السودان زمن الإنقاذ كان “دولة مارقة”
قد يقارن البعض قرار المحكمة الجنائية ضد نتياهو بقرارها ضد البشير وأنه رغم ضعف النظام والسودان ككل إلا أن قرار الجنائية ضد البشير لا تأثير له.
ولكن هناك فرق كبير بين السودان وإسرائيل. السودان زمن الإنقاذ كان “دولة مارقة”، و عندما صدرت المذكرة ضد البشير لم يكن لدى النظام أي ارتباط بالغرب أساسا لا بأوروبا ولا أمريكا. النظام نفسه كان معاديا للغرب من البداية.
بالنسبة لإسرائيل الوضع مختلف. فهي بشكل ما تستمد وجودها كله من الغرب، وارتباطها بأوروبا ارتباط حيوي ومهم بالنسبة لها ولوجودها. وهي كانت دائما تقدم نفسها في الغرب وأمام كل العالم كضحية وأنها محاصرة بأعداء همج وبرابرة وأنها واحة الديمقراطية والتقدم في المنطقة. هذه الصورة التي تقدم بها إسرائيل نفسها للعالم تتغير الآن وبشكل درامي.
البشير لم يخسر الكثير عندما لم يعد قادرا إلى السفر إلى فرنسا مثلا أو هولندا، وذلك لا يعني له شيء. بالنسبة لنتياهو الأمر مختلف تماما.
النقطة الأخرى والأهم أن هذه مجرد البداية. قد نرى غدا قادة إسرائيل الآخرين مطاردين في المحاكم في أوروبا وفي غيرها وما أكثر جرائمهم. وربما أصبحوا، لسخرية القدر، مثل ضباط هتلر النازيين الذين طاردتهم إسرائيل نفسها. أنت تتكلم هنا عن جرائم حرب مستمرة لعشرات السنوات في فلسطين وأيضا في لبنان، مجازر عديدة مثل صبرا وشاتيلا قد ينفض الغبار عنها وتتم مطاردة المتورطين فيها.
بكل المقاييس حدث اليوم هو حدث تاريخي.
حليم عباس