النزف الصامت والعقبة أمام الحل في السودان
تاريخ النشر: 15th, September 2023 GMT
النزف الصامت والعقبة أمام الحل في السودان
عثمان ميرغني
خمسة أشهر ولم تحسم الحرب، أو يحسم السودانيون خلافاتهم، بينما يعاني البلد نزفاً صامتاً غير النزيف العسكري. شلل في الاقتصاد. نزوح رؤوس الأموال أو ما تبقى منها. انهيار الخدمات الصحية وتعطل أكثر من 70 في المائة من المستشفيات عن العمل. تعطل النظام التعليمي بكل ما يعنيه ذلك على مستقبل الطلاب.
يعاني الناس شحاً في السلع الغذائية، والموجود منها تضاعفت أسعاره 3 مرات أو أكثر. وتزداد معاناتهم مع شح السيولة المتوفرة لديهم بعد توقف رواتب العاملين في الدولة لأكثر من 4 أشهر، نتيجة الشلل في الوزارات المركزية في الخرطوم، والأضرار الهائلة التي أصابت الجهاز المصرفي جراء النهب والتدمير مثلما أصابت مؤسسات القطاع الخاص.
أضف إلى ذلك أن نحو ثلثي السكان في المناطق المتأثرة بالحرب كانوا يعتمدون على الأعمال اليومية مصدر دخل، وهذه تعطلت أيضاً بشكل كبير بسبب المعارك وصعوبة الحركة والتنقل. لذلك جدّدت منظمات إغاثية دولية هذا الأسبوع تحذيراتها من أن نصف سكان السودان سيحتاجون إلى مساعدات إنسانية بسبب الحرب وما أدت إليه من فقر وانهيار في الخدمات والمؤسسات ونقص في الموارد.
هذا النزف إذا استمر سيترك البلد أشلاء لمن يرثها أو يحلم بأن يرثها. فمناظر الصفوف الطويلة للمتدافعين للحصول على جوازات سفر بعد استئناف العمل في استخراجها قبل أيام بعد أن ظلت متوقفة منذ اندلاع القتال، كانت مؤشراً على رغبة مزيد من السودانيين في الهجرة بسبب الأوضاع المتردية. كثيرون لم يفكروا في هجر السودان ذات يوم، باتوا الآن يبحثون جدياً في مغادرته، تاركين وراءهم كل أحلامهم وممتلكاتهم وهم يعلمون أنهم ربما لن يتمكنوا أبداً من تعويضها.
وتتوقع منظمات شؤون اللاجئين والهجرة والإغاثة الدولية أن يصل عدد اللاجئين الفارين من الحرب إلى دول الجوار إلى نحو مليون و800 ألف بنهاية العام الحالي، إضافة إلى أكثر من 7 ملايين من النازحين والمهجرين في الداخل منهم 3 ملايين و800 ألف شخص نزحوا منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم.
في أحاديث الناس ومنتدياتهم تلمس اليوم إحباطاً متزايداً من تردي الأوضاع، وعدم وضوح الرؤية حول متى وكيف تنتهي الحرب. فالانقسام بين السودانيين، والاستقطاب الشديد الحاصل يسهمان في استمرار الحرب وإطالة أمدها بلا أفق لحل أو نهاية وشيكة، وهنا لبّ المشكلة في تقديري.
الخلافات والصراعات بين الأطراف المختلفة مثلما تسببت في عرقلة الفترة الانتقالية ووأد أحلام ثورة الشباب، فإنها قادت إلى تهيئة الظروف لهذه الحرب، وتسهم الآن في إطالة أمدها. لو كان الفرقاء السودانيون سعوا إلى توافق لكانوا قد تجنبوا الحرب، لكنهم انغمسوا في صراع إقصائي عدمي بين قوى الحرية والتغيير (قحت) أو أطراف فيها من جهة، والإسلاميين (الكيزان) وفلول نظام عمر البشير الساقط من الجهة الأخرى، وهو الصراع الذي لا يزال طاغياً على المشهد حتى اللحظة، وينعكس على الحرب بشكل مباشر، بل ويؤثر على نظرة العالم لها.
التصنيفات عقّدت الصورة حتى في الاصطفاف الحاصل في الحرب، بين التيار الداعم للجيش، وبين التيار الداعي لوقفها. فخلافاً للصورة المشوهة الرائجة، ليس كل من يناصر ويدعم الجيش هو من جناح الكيزان والفلول، وليس كل من يدعو للحل التفاوضي هو بالضرورة من المنتمين لقوى الحرية والتغيير (قحت).
هذا الاستقطاب الحاد في المشهد السوداني جعل الأطراف التي تريد المساعدة في حل الأزمة، تتريث في مساعيها. صحيح أن هناك دعوات ومسارات ومبادرات مختلفة تدعو لإنهاء الحرب، أهمها في تقدير الكثيرين هو منبر جدة لأنه يحظى بإجماع وتوافق الأطراف المختلفة، لكن باتت هناك قناعة بأنه لا أمل في تحقيق حلول ما لم يكن هناك توافق بين السودانيين أنفسهم، وهذا ما تسمعه يتردد كثيراً في عواصم مختلفة مهتمة بالأزمة السودانية وتداعياتها على البلد والمنطقة.
التوافق المطلوب في هذه المرحلة يتطلب تنحية الخلافات والسمو فوقها من أجل استعادة الدولة من حافة الضياع، وإنقاذ الوطن المهدد لا في وحدته وسيادته فحسب بل في وجوده بالصورة التي عرفناها عنه. ولكي لا نبقى نلف وندور في فراغ، فإن هذا التوافق لن يتحقق ما لم نتخلَّ عن الحلول المنقوصة، ونتجاوز الخلاف العدمي بين «كيزان» و«قحت». الطرفان لا يمثلان كل السودان، لكن صراعهما المحتدم أكبر مهدداته في هذه اللحظة.
الوضع الراهن يستدعي حواراً لا يُقصى منه أي طرف، وأن يترك الإقصاء للشعب السوداني عبر صناديق الانتخابات متى ما وصلنا إلى تلك النقطة. إذا تجاوزنا هذه العقبة مهما بدت صعبة في نظر الكثيرين، نكون قد نزعنا فتيل تأجيج الحرب كمرحلة أولى، يعقبها التوافق على كيفية استئناف الفترة الانتقالية، ومن ثم تنبري القوى المختلفة للاتفاق على كيف يحكم السودان، وكيف ننهي أزماته المزمنة.
ما لم نتجاوز هذه العقبة سيبقى البلد عالقاً لفترة لا أحد يعلم مداها في نفق هذه الحرب، وسيستمر النزف الصامت حتى يقضي على أي أمل في استعادة السودان استقراره الذي عصفت به كثيراً الصراعات الإقصائية.
* نقلاً عن الشرق الأوسط
الوسومالحرية والتغيير الخرطوم السودان الشرق الأوسط الكيزان النظام البائد عثمان ميرغني قحتالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحرية والتغيير الخرطوم السودان الشرق الأوسط الكيزان النظام البائد عثمان ميرغني قحت
إقرأ أيضاً:
البلد دي ماشة وين
البلد دي ماشة وين
حيدر المكاشفي
البلد دي ماشة لي وين والحرب حتنتهي متين، سؤالان ظل يصفعني بهما كل من يعلم اشتغالي بالصحافة، ويظن وبعض الظن (ماسورة) أنني بسبب هذه الشغلانة من العالمين ببواطن الحرب والمطلعين على خفايا (الامور)، وهذه الاسئلة وغيرها أصبحت من متلازمات الحياة اليومية في السودان، تواجهك اينما حللت واتجهت في الشوارع والاسواق وفي الأفراح وفي الأتراح، بل وحتى كمدخل تعارف من أناس تلتقيهم لأول مرة. وبالطبع لم أكن أجيب بغير وما المسؤول بأعلم من السائل، على رأي القائل (نحنا بقينا ما فاهمين أي حاجة ولاااا الوضع بقي ما فاهمنا ولااا انحنا ما فاهمين الوضع ولا الجوه فاهم الوضع ولا البره فاهم الوضع ولا الجاي فاهم الوضع ولا الماشي فاهم الوضع) والفهم ذاتو ما مفهوم فهمو شنو، ونضيف من عندنا ولا البلابسة فاهمين الوضع ولا البرهان ذاتو فاهم الوضع ولا كباشي ولا ياسر العطا ولا ابراهيم جابر ولا كرتي ولا عقار ولا مناوي ولا جبريل ولا طمبور ولا اردول ولا حميدتي ولا ابوكيعان كلهم فاهمين الوضع، فالقاعدة تقول أن من يشن الحرب لا يعلم متى تتوقف وأين تتوقف وكيف تتوقف، فالحرب في رواية اخرى كالحب من السهل أن تبدأها ولكن من الصعب أن تنهيها ومن المستحيل أن تنساها. لأن الحرب تجسيد للكراهية وانتصار لثقافة الموت والنهب والإبادة الجماعية، وكذلك تفاقم الحرب أيضاً الفقر وتولد المجاعات والأوبئة، وبالإضافة إلى الدمار والأنقاض التي تحدثها تترك جروحاً مفتوحة لا تندمل في ذاكرة الشعوب وقلبها. فأيما إنسان عاقل يستطيع أن يرى في الحرب وصورها المشؤومة مظهراً من مظاهر الشر المطلق، وظني أن حال كل هؤلاء المار ذكرهم، يماثل حال الطرفة التي تحكي أن فتاة ذهبت إلى احد المحال المتخصصة في بيع لوازم السيدات والآنسات لتشتري (لبسة) فاختارت (بلوزة) و(إسكيرت) وسألت شاباً كان يقف بجوارها، ويبدو أنه كان مسطولاً فقالت له (البلوزة دي ماشة مع الإسكيرت ده) فرد عليها حسب السطلة (وهو الإسكيرت ماشي وين؟)، وان كان لي أن أرد على سؤال البلد دي ماشة وين على غرار الطرفة، فلن أزيد على أن أقول (وهي البلد دي أصلا ماشة عشان نعرف ماشة وين)، ولو افترضنا جدلا انها ماشة فالمؤكد أنها (ماشة لي وراء).
الشاهد ان البعض يعتقد خاطئاً ان استمرار الحرب حتى الحاق الهزيمة الساحقة بالمليشيا بل وافنائها تماما، هو نهاية لكل اوجاع البلد واسقامها وكوارثها وأزماتها، وان السودان بعد ذلك سيستشرف اوضاعا عامرة بالرخاء والنماء والاستقرار والاعمار، ولكن يغيب عن هؤلاء ان الازمة التي صنعت هذه الحرب، هي في أسها واساسها أزمة سياسية، وان الحرب انما هي نتيجة طبيعية لهذه الأزمة السياسية، وأن الحرب كانت أهم تجليات تلك الأزمة السياسية الخانقة، ولن تزول مشاكل البلاد وازماتها المختلفة وكوارثها إلا بمعالجة الأزمة السياسية، كما لا بد من استصحاب الواقع الحالي بكل تعقيداته وارثه السلطوي الذي ما زال يزيد الأزمة السياسية تصعيداً، واذا ما كنا جادين في حل الازمة السياسية وتجاوزها وصولا لحل كل المشكلات والازمات الاخرى اقتصادية كانت أو أمنية أو اجتماعية وحتى ثقافية، هناك قضيتين أساسيتين لن يتم تجاوز الازمة السياسية دون أن يتحققا، أولى القضيتين هو الوفاق الوطني، ولن يتحقق الوفاق الوطني الا في وجود دولة يشارك الجميع في صناعتها ويعمل على إدارتها الناس بمختلف فئاتهم وأفكارهم ومواقعهم وتعدد رؤاهم فهذا شرط وجوب لن يتم أي علاج لأزماتنا في غيابه، وثاني القضيتين هو التعايش السلمي وهو ما يتطلب إنهاء سيناريو الحروب وإزالة الاحتقان السياسي السائد، ولن يستطيع اقتصاد الوطن المنهك والهش الان أن يتحمل تبعات حرب تبتلع كل إمكانات الدولة المالية فتأكل الحرب الموارد وتطالب بالمزيد، والقتلى يتساقطون والمرافق العامة تدمر وفاتورة الإنفاق الأمني تتصاعد وما زالت الحرب حبلى تلد كل يوم عجيب. ففي حالة الاحتقان والاستقطابات الجارية الآن والتي بلغت مداها، والانقسام الذي ضرب كافة فئات المجتمع، يبقى الاهم اليوم هو البحث عن الحكمة الغائبة حتى الآن، الحكمة المطلوبة لحل أيما مشكلة أو قضية عن طريق التفاوض والتراضي والاتفاق وليس أي أسلوب غيرها، فتلك هي خبرة البشرية ودرس التاريخ وسنته الماضية، فلا أقل من أن نعتبر بها، ولهذا سنظل دعاة تلاحم وتلاق وطني، ولن ندعو لشحن النفوس وازكاء ما يفرق حتى يعم الخراب كل الأنحاء والأرجاء، فحاجة البلاد الآن إلى حكماء يطببون جراحها وليس حكامات يزيدون حريقها بل اطفائيون يعملون على التهدئة لا الشعللة، ويعنَّ لي هنا أن أتساءل ببراءة وطنية خالصة عن مدى إمكانية افتراع طريق ثالث مؤداه، الشعب لا يريد شيئاً غير أن يأتلف الجميع ويلتقوا في رحاب الوطن الكبير، ويجمعوا على كلمة سواء تستوعب الكل بلا إقصاء لكل راغب بصدق وجدية في التغيير ولم يتلوث بفساد ولم تتلطخ يداه بدم، وذلك بأن يتوافقوا على برنامج حد أدنى يلملم شتات البلاد أولاً ويعصمها من الانزلاق إلى مآلات التشرذم والتفتت، التي انزلقت اليها بعض دول الجوار، ويستجيب ثانياً للمطلوبات الأساسية التي طالب بها ثوار ديسمبر وتحتاجها عملية بناء أمة هي بكل المقاييس لا تزال تحت التكوين وبناء دولة تحتاج الكثير حتى تقف على رجليها كتفاً بكتف مع من سبقنها في مجالات التطور والبناء، وهذه مهمة شاقة حتى ولو توافر عليها الجميع بروح النفير دعك من جماعة واحدة مهما ادَّعت من قدرات وملكات، فالحاجة الحقيقية والماسة التي تحتاجها البلاد بأعجل ما تيسر ليست هي – بأية حال – الصراعات والاستقطابات والمكايدات والمماحكات والتكتيكات والتلاعب بالشعارات، بل الحاجة إلى أن نوجد أولاً وطناً متماسكاً بوحدته الوطنية وقوياً ببنيته الأساسية، لا أن ينخرط السياسيون وينغمسوا في صراع وملاسنات حول لا شيء، فما يسود الساحة ويسوّد المشهد الوطني الآن من هرج ومرج واختلافات وانشقاقات حتى بين أهل التوجه الواحد والتنظيم الواحد والحزب الواحد، في الوقت الذي تفتقر فيه البلاد لأبسط الخدمات الضرورية والتي إن وجدت لن يجد الكثيرون المال الذي يوفرها لهم، فذلك لا يبني وطناً بقدرما يهدم حتى القليل الموجود وبرنامج الحد الأدنى المطلوب صياغته والالتفاف حوله ليس شيئاً عصياً إذا ما خلصت النيات وتوفرت العزائم وخلت النفوس من الأطماع الحزبية والتطلعات الشخصية، وليس هو مما يمكن أن يثير حفيظة أحد أو يتسبب في تحفظ جهة، وإنما بالعكس تماماً فهو برنامج يشكل البؤرة التي يلتقي حولها الجميع، فمن ذا الذي يعارض أو يتحفظ على برنامج تقوم سداته على مشاركة الجميع في حكم وإدارة شؤون بلادهم، ويجعل أي مواطن يشعر بأن نظام الحكم القائم يمثله وله فيه نصيب، ولحمته التنمية والنماء والتطور وحل المشاكل التي أضحت مزمنة منذ عهد الاستعمار، واجتثاثها من جذورها، وليس أدلّ على الخيبة التي نعيشها، من هذه المشاكل المتكررة بذات اسمها مع الزيادة المضطردة في حجمها عاماً تلو عام منذ عام الاستقلال والى الآن، وكأنما قدر هذه البلاد أن تظل تراوح مكانها وتدور في حلقة مفرغة، ومن بعد الفراغ من هذه المهمة الوطنية الجليلة والعظيمة فليطبق من شاء البرنامج الذي يشاءه محمولاً بإرادة الجماهير وليس مجنزرات الدبابات، فهل هذا عصي أو عسير أم أنه برنامج طوباوي خيالي مثالي لا حظّ له إلا في دولة من الملائكة؟.
الوسومالحرب السودان المليشيا الهزيمة حيدر المكاشفي خفايا الأمور