أزمة مياة النيل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومى المصرى

السياسة الخارجية وضعت قضية مياة النيل على رأس مرتكزات الدبلوماسية المصرية

الموقف القانونى المصرى راسخ يتسق وقواعد ومبادئ وأعراف القانون الدولى

 

أعلنت إثيوبيا انتهاء الملء الرابع من سد النهضة، فى المقابل ردت الخارجية المصرية تعقيباً على الإعلان الإثيوبى أن هذه الخطوة تُعد إمعاناً من الجانب الإثيوبى فى خرق التزاماته بمقتضى واستمراراً من جانبها فى انتهاك إعلان المبادئ الموقع بين القاهرة أديس أبابا والخرطوم عام 2015، والذى ينص على ضرورة اتفاق الدول الثلاث على قواعد ملء وتشغيل السد الإثيوبى قبل البدء فى عملية الملء».

دون التوصل لاتفاق مع مصر والسودان، دولتى المصب. أيضاً أكد البرلمان العربى أن إعلان إثيوبيا بدء تشغيل سد النهضة مساس خطير ومرفوض بالحقوق المائية لمصر والسودان.

هذه التصرفات الأحادية من الجانب الإثيوبى تثير التساؤلات حول مدى قانونية تلك التوجهات من جانب، ومدى تأثيرها على الطبيعة القانونية والتاريخية للحصص المائية الثابتة لكل من مصر والسودان، والمعترف بها دوليا فى ضوء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الحاكمة لمجارى الأنهار الدولية من جانب أخر.

التوصيف القانونى لواقع نهر النيل.

نهر النيل هو نهر دولى بالمحددات القانونية والجغرافية والفنية، ولكونه نهر دولي؛ فهو خاضع لأحكام وقواعد ومبادئ القانون الدولى الناظمة لاستخدام المجارى المائية الدولية للأغراض غير الملاحية، هذه المبادئ الرئيسة تتمثل فى:

هذه المبادئ هى نتاج للقواعد العرفية الدولية الخاصة باستخدامات الأنهار الدولية لغير الأغراض الملاحية، والتى أقرتها فيما بعد عديد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة؛ وقد مرّ القانون الدولى عبر تطوّره التاريخى الطويل بمرحلتين مهمتين. فقد انبثق أصلاً من قاعدة ترسيخ حرية الملاحة النهرية فى المجارى المائية القابلة للملاحة، ثم انتقل فيما بعد إلى الاهتمام على نحو رئيسى بموضوع تنظيم استخدامات المجارى المائية الدولية لغايات أخرى غير الملاحة (زراعة، صناعة، توليد طاقة كهربائية…). وفيما بعد تمَّ استخراج ما استقرّ عليه التعامل الدولى بهذا الصدد من قواعد ومبادئ عامة، مثل مؤتمر فيينا لعام 1815، واتفاقية برشلونة 1921، كذلك أقرتها قواعد هلسنكى لعام 1966 حول الاستخدام المشترك للموارد المائية والتى تعد بمثابة نظام قانونى كامل للقواعد التى تحكم استخدام الأنهار الدولية فى الأغراض غير الملاحية مثل انتاج الطاقة الكهرومائية. كما أن هذه القواعد هى الأساس الذى قامت عليه اتفاقية الأمم المتحدة والمعروفة باتفاقية نيويورك لعام 1997 لاستخدام مياه الأنهار الدولية فى الأغراض غير الملاحية.

لذلك فالمحددات القانونية لمياه النيل تتعلق بالالتزامات الواجبة على الطرف الإثيوبى فيما يتعلق باستخدامات مياه النيل فى ضوء المبادئ السابقة، وآثار ذلك الاستخدام على دولتى المصب مصر والسودان.

الإشكالية القانونية هنا أنه لا يوجد حتى الان إطار قانونى حاكم وناظم ومتفق عليه لحوض نهر، وفى المقابل توجد مجموعة من الاتفاقيات التى وقعت منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى عام 1959، وهى الاتفاقيات التى تستند إليها كل من مصر والسودان، فى حين ترفضها دول المنابع بقيادة إثيوبيا وتتنصل منها تماماً.

غير أن الأساس الرئيسى للموقف القانونى المصرى يتركز بالأساس فى اتفاقيات 1902، ومذكرات 1925، واتفاقية 1929، ثم اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه حوض النيل بين مصر والسودان فى عام 1959، وهذه الاتفاقية مكملة لاتفاقية 1929، حيث أقرت هذه الاتفاقيات وعملت على تقنين الحقوق الأساسية للموقف المائى المصرى. فى المقابل عمدت دول المنابع ـبعد استقلالهاـ خاصة إثيوبيا إلى الرفض الكامل لتلك الاتفاقيات والمعاهدات وتحديداً اتفاقيتى 1929 و 1959 بزعم أن هاتين الاتفاقيتين تمنحان مصر سيطرة فعلية على النهر ومنابعه، واستندت دول المنابع إلى ما يعرف بــ«مبدأ نيريرى» عام  1964 أو ما سماه بالصفحة البيضاء، والذى ذهب إلى أن الدولة المستقلة غير ملزمة بالمعاهدات والاتفاقيات التى وقعت فى حقبة الاستعمار، وقد انضمت كل من: تنزانيا، أوغندا، وكينيا إلى «مبدأ نيريرى»، وتبعهم كل من رواندا وبوروندى عقب توقيعهم على اتفاقية نهر كاجيرا عام 1977، وبالطبع كانت ولا تزال إثيوبيا أشد الدول تأييداً لذلك المبدأ وتستند إليه فى رفض اتفاقيات 1929 و 1959 منذ عهد هيلا سيلاسى وحتى الآن. 

كذلك يستند الموقف الإثيوبى إلى ما يعرف بنظرية «السيادة المطلقة» أو «مبدأ هارمون» الصادر عام 1895، ووفقاً لهذا المبدأ يكون لكل دولة الحق فى الاستغلال الكامل والسيادة المطلقة للدول فى الجزء من النهر المار بأراضيها، دون اعتبار ما قد يحدثه من أضرار على الدول الأخرى، كما لا تعترف بوجود قواعد قانونية لاستخدام الأنهار الدولية.

تفنيد الادعاءات الإثيوبية والرد عليها

يجب التأكيد على أنه ليس لدول المنابع أية أسانيد قانونية فى مسعاها لتقليل حصص المياه المتدفقة إلى كل من مصر والسودان أو التأثير عليها، فى ضوء ما يلى:

أولاً: فى ضوء قواعد القانون الدولى لا يمكن لدول المنابع رفض الاتفاقيات السابقة، حتى لو كانت موقعة مع الدول المستعمرة نيابة عن الدولة الأصلية، ذلك استناداً إلى كل من؛ نصوص المادتين 11، 12 من اتفاقية فيينا لعام 1978 والخاصة بتوارث الدول بشأن المعاهدات الخاصة بالحدود والأوضاع الإقليمية، حيث المعاهدات الخاصة بالحدود لا تتأثر بالتوارث بين الدول، وتسرى على الدولة الوارثة، لذك فاتفاقيات مياه النيل تسرى على دول المنابع خاصة إثيوبيا؛ لأنها اتفاقيات نظمت الحدود بين الدول وترتب عليها أوضاع إقليمية، لذك لا يجوز التنصل منها لأنها تقوض الأساس القانونى لتلك الدول. كما أن إثيوبيا من الدول التى وقعت على اتفاقية فيينا لعام 1978 وصدقت عليها فى 23 أغسطس 1978 بلا أى تحفظات وبالتالى تسرى كل قواعدها تجاهها، كما لا يجوز تعديلها وفقا لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969. كذلك لا يجوز الاستناد إلى مبدأ التغيير الجوهرى فى الظروف التى تدعى به إثيوبيا كسبب لإنهاء المعاهدات والانسحاب منها إذا ما كانت تلك المعاهدة منشئة للحدود، وهو ما يعد من قبيل المخالفة لقاعدة أولية من قواعد القانون الدولى على النحو الذى يفضى إلى الفوضى وإثارة المنازعات الدولية وبالتالى تهديد السلم والأمن الدوليين. وعلى العكس تماماً مصر هى صاحبة الحق الأصيل فى الاستناد إلى مبدأ التغيير الجوهرى فى الظروف فى ضوء الزيادة السكانية الكبيرة فى مصر واعتماد مصر بنسبة 97% على مياه النيل لتدبير احتياجاتها المائية على عكس باقى دول الحوض.     

ثانياً: إنه عند توقيع اتفاقية 1902 لم تكن إثيوبيا مستعمرة آنذاك، ووقعها الإمبراطور الإمبراطور منليك الثانى ملك ملوك أثيوبيا والذى تعهد فى المادة الثالثة من هذه المعاهدة بألا ينشئ أو يسمح بإقامة أى عمل على نهر النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط، من شأنه تعطيل سريان المياه إلى نهر النيل إلا بالاتفاق مع الحكومة البريطانية وحكومة السودان. كما أن إثيوبيا التى ترفض تلك المعاهدة هى نفسها اعترفت بصحتها واستخدمتها لدعم موقفها فى النزاع الحدودى مع السودان، وذلك بموجب مذكرات متبادلة بين الطرفين فى مايو 1972، وكذلك استخدمت إثيوبيا تلك المعاهدة فى النزاع الحدودى مع إريتريا وتنظيم الحدود بين إثيوبيا وإريتريا والسودان عام 2002.

ثالثاً: أن معاهدة 1902، والاتفاق المبرم بين بريطانيا وإثيوبيا فى ديسمبر 1906، وكذلك بروتوكول 1891، أكدوا على ضرورة «موافقة» مصر والسودان مجتمعين، وهو ما يعنى أن تلك الموافقة الأصل فيها أن تكون صريحة لا تكفى فيها الموافقة الضمنية، وأن مجرد التشاور لا يكفى للشروع فى أية أعمال من قبل دول المنابع على مجرى النهر.

رابعاً: أن الحقوق والحصص المائية لكل من مصر والسودان محفوظة ومصانة مسبقاً ما قبل اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، وذلك بموجب المذكرات المتبادلة بين بريطانيا وإيطاليا فى ديسمبر 1925، والتى اعترفت فيها إيطاليا «بالحقوق الهيدروليكية» التى اكتسبتها مصر والسودان سابقاً، بما يعنى النص صراحة على «الحقوق المكتسبة» لمصر والسودان، وبمعنى أخر فإن تلك الحقوق المائية كانت متواجدة قبل عام 1925 بآلاف السنين وأن اتفاق 1925 ما هو إلا كاشف وحافظ لها.

خامساً: اتفاقية 1929 بين كل من مصر وبريطانيا العظمى نيابة عن (السودان – كينيا – تنزانيا – أوغندا)  أكدت مبدأ عدم التسبب بأضرار ملموسة وذات شأن بدول المجرى المائى الدولى فيما يتعلق بنهر النيل وكذلك مبدأ الإخطار المسبق؛ حيث نصت على إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وإن لمصر الحق فى الاعتراض (فيتو) فى حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده. وأن لا تقام بغير اتفاق سابق مع الحكومة المصرية أعمال رى أو توليد قوى أو أى اجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التى تنبع سواءً من السودان أو البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية من شأنها إنقاص مقدار المياه الذى يصل لمصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أى وجه يلحق ضرراً بمصالح مصر.

سادساً: إن الاتفاق المبرم فى 23/11/1934 قد نص وأكد أيضاً شرط ومبدأ الإخطار المسبق؛ إذ ألزم الدولة التى ترغب فى استخدام مياه النهر لأغراض الرى بإخطار الأطراف الأخرى المتعاقدة ستة أشهر مسبقاً للسماح بمعرفة أى اعتراضات ودراستها.

سابعاً: اتفاقية 1959 نظمت الحقوق المكتسبة لكل من مصر والسودان، ومشروعات ضبط مياه النهر، وكيفية استغلال الفواقد، ومن ثم فأحكام الاتفاقية أكدت على نحواً قاطع على عدم المساس بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل والمقدرة بنحو 48 مليار متر مكعب، وكذلك الحصة المائية للسودان، وكذلك توزيع المنافع الناجمة عن انشاء السد العالى بالتساوى بين كل من مصر والسودان.

ثامناً: إن التذرع الإثيوبى بمبدأ السيادة لهارمون؛ هى حجة قد تنطبق على الأنهار الداخلية غير الدولية، أى التى تقع فقط داخل إقليم الدولة الواحدة، اما الأنهار الدولية ـــ التى تمر بدولتين أو أكثر كما هو الحال فى نهر النيل ـــ فلا يمكن أن تطبق عليها نظرية السيادة المطلقة؛ حيث مبدأ هارمون الذى أصبح من التاريخ، كما أن قواعد هلسنكى 1966، واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997، قد رفضا على نحو قاطع منطق السيادة المطلقة على المجارى المائية الدولية، اتفق فى ذلك قرارات المحكمة الدائمة للعدل الدولى ولجنة القانون الدولى.

تاسعاً: من الناحية القانونية لا تعد اللجنة الثلاثية التى شكلت من خبراء من كل من مصر والسودان وإثيوبيا تطبيق لمبدأ الإخطار المسبق؛ لكنها جاءت فى إطار قواعد المجاملات الدولية، حيث يلزم التطبيق الفعلى للإخطار المسبق أن تقوم الدولة صاحبة المشروع بعدم البدء الفعلى فى إجراءات البناء والتشغيل قبل اخطار دول الحوض والموافقة عليها، وهو ما لا ينطبق على حالة سد النهضة فى ضوء الإجراءات احادية الجانب والتصرفات المنفردة من جانب إثيوبيا.

إن الأزمة الحالية لمياه النيل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومى، ومن ثم وضعت السياسة الخارجية المصرية فى أعقاب 30 يونيو قضية مياه النيل على رأس مرتكزات الدبلوماسية المصرية، فى إطار نهج قائم على التعاون المشترك، يدعم ليس فقط حقوق الدولة الإثيوبية، ولكن جميع دول حوض النيل فى التنمية، لكن دون الإضرار بحقوق مصر المائية خاصة وأن النيل يمد مصر بأكثر من 90% مما تحتاجه من المياه للرى والشرب وتوليد الكهرباء، بينما الميزان المائى لدول حوض النيل مجتمعة لا يستند بنسب كبيرة على مياه النيل للزراعة والتنمية بل على مياه الأمطار. لذلك؛ بيان الخارجية المصرية يفضح الممارسات الأحادية الإثيوبية، ويؤكد النهج المصرى القائم على عدم ممانعة مصر فى تنمية شعوب دول حوض النيل شريطة الالتزام بالاتفاقيات الدولية وعدم الإضرار بالدول الأخرى المشاركة فى النهر. وليس أدل على التزام مصر بنهج التعاون من المشاركة المصرية الكبيرة فى بناء سد جوليوس نيريرى لتوليد الطاقة الكهرومائية بدولة تنزانيا.

لذلك فى ضوء ما سبق؛ فإن الموقف القانونى المصرى هو موقفُ راسخ؛ يتسق وقواعد ومبادئ وأعراف القانون الدولى، وأنه لا يجوز بأى حال من الأحوال لأى دولة من الدول المشاطئة فى مجرى نهر النيل، أن تتجه منفردة إلى القيام بأى عمل أو تصرف من شأنه التأثير على الحقوق والمصالح المكتسبة لدول الحوض الأخرى خاصة دولتى المصب. كما أن عدم وجود إطار قانونى، أو اتفاق جامع لا يعنى أن سيادة الدولة على الجزء من النهر الذى يمر بإقليمها مطلقة، إذ لا يجوز التعسف فى استعمال الحق، وهناك مسئولية على جميع الدول منابع ومصب بعدم إحداث ضرر من شأنه التأثير سلبياً ومباشرةً على الاحتياجات المائية لمصر من مياه النيل.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الأمن القومي المصرى السياسة الخارجية اثيوبيا الخارجية المصرية سد النهضة المجارى المائیة میاه النیل حوض النیل دول الحوض نهر النیل لا یجوز کما أن

إقرأ أيضاً:

الإدارة المحلية: بين الانتخاب والتعيين – وجهة نظر قانونية

صراحة نيوز- بقلم/ د نوفان العجارمة

يبدو في الأيام المقبلة سوف تتقدم الحكومة بمشروع قانون لتعديل قانون الإدارة المحلية لسنة 2021، لمعالجة بعض المشكلات الناجمة عن تطبيق هذا القانون، ولحسم بعض المسائل المتعلقة بمجالس المحافظات وكذلك طبيعة ونطاق العلاقة ما بين الحكومة المركزية (ممثلة بوزارة الإدارة المحلية) والمجالس البلدية فهل تمتد وتشمل هذه العلاقة نوعاً من الرقابة الفعلية على هذه المجالس ام تبقى تلك العلاقة في نطاق الوصاية الإدارة المعروفة. وهناك من يطرح فكرة التعيين لبعض رؤساء المجالس البلدية الكبرى على غرار ما هو معمول به في امانة عمان الكبرى وهناك من يعارض ذلك، ولكل منهم وجهة نظرة وأسبابه.

ونحاول في هذا المقال: بيان مدى اتفاق هذا التعيين مع مفهوم وجوهر اللامركزية بشكل خاص والادارة المحلية بشكل عام، لاسيما ان الدستور الاردني في المادة (121) منه نص على ان الشؤون البلدية والمجالس المحلية تديرها مجالس بلدية او محلية وفقاً لقوانين خاصة ولم يحدد طريقة معينة لاختيار اعضاء هذه المجالس تاركا هذا الامر الى السلطة التقديرية للمشرع، والمشرع الاردني تارة اخذ بالانتخاب (في المجالس البلدية) وتارة زاوج ما بين الانتخاب والتعيين كما هو الحال (في امانة عمان الكبرى).
يترتب على منح البلديات الشخصية المعنوية أو القانونية، أن تصبح مجرد وحدات اعتبارية مستقلة عن الأفراد المكونين لها، ومن ثم فإنه يلزم أن يكون لها ممثلون آدميون يعبرون عن إرادتها ويباشرون باسمها ونيابة عنها الاختصاصات الموكلة إليها، ومع ذلك يجب أن نشير إلى أنه إذا كان هؤلاء الممثلون مرتبطين وتابعين للسلطة المركزية فإن استقلال الهيئات المحلية يصبح مجرد حبر على ورق ،ولهذا يمكن القول أن قيام نظام الإدارة المحلية يتوقف في الواقع على درجة ما يتمتع به أعضاء المجالس المحلية من استقلال عن السلطة المركزية بحيث أنه كلما قوي هذا الاستقلال كلما قوي النظام ذاته والعكس صحيح.

فهناك من يرى بأن استقلال (المجالس البلدية) لا يتم إلا باختيار أعضائها بطريق الانتخاب، بينما يذهب اتجاه آخر إلى القول بأن الانتخاب ليس شرطا ضروريا لتحقق استقلال (المجالس البلدية)، إذ يكفي أن يتم اختيار أعضاء هذه المجالس بطريق التعيين مع منحهم الضمانات الكافية في إدارة شؤونهم.

فالاتجاه الأول : يرى بان الانتخاب ليس ركناً لازماً في الإدارة المحلية وليس شرطا لتحقيق اللامركزية الإدارية للمجالس البلدية : فلا يجوز الربط ما بين اللامركزية وضرورة اختيار أعضاء المجالس الممثلة لها بالانتخاب، ذلك أن الركن المعتبر في نظام اللامركزية هو استقلال الهيئات المحلية وهذا الاستقلال لا يتحقق فقط بانتخاب أعضائها ، بل يمكن ان يتحقق بوسائل عديدة منها الصلاحية التي يستمدها أعضاء هذه المجالس من القانون في اتخاذ قرارات نهائية ذات صفة تنفيذية، وبالتالي لا يوجد ما يحول دون تحقيق النظام اللامركزي عن طريق تعيين هؤلاء الأعضاء بواسطة السلطة التنفيذية من بين سكان المنطقة بشرط أن يكفل لهم استقلالهم في إدارة المرفق البلدي .
فمثلا أعضاء السلطة القضائية يتم اختيارهم – عادة- في الكثير من دول العالم بواسطة التعيين من قبل السلطة التنفيذية او يتم التنسيب بتعينهم من قبل السلطة التنفيذية، ومع ذلك فإن هذا التعيين لا ينتقص من استقلال القضاء طالما أن القضاة غير قابلين للعزل، ولا يوجد محل لقياس المجالس البلدية على المجالس النيابية – للقول بضرورة الانتخاب- لان اختصاص كل منهما ذو طبيعة مغايرة للآخر، فاختصاص المجالس النيابية ذو طبيعة تشريعية أو سياسية، بينما اختصاص المجالس البلدية يتمثل في ممارسة جزء من الوظيفة الإدارية يكون ذا طبيعة إدارية لا سياسية.
وبالتالي فان الانتخاب ليس الوسيلة الوحيدة لتحقيق استقلال المجالس البلدية بل قد يتحقق هذا الاستقلال من خلال التعيين من بين السكان بشرط توافر الضمانات التي تحفظ للأعضاء المعينين استقلالهم في مباشرتهم اختصاصاتهم.

اما الاتجاه الثاني: فيرى بان الانتخاب ركن لازم للإدارة المحلية ويعتبر شرطا لازماً لتحقيق اللامركزية الادارية: فانتخاب أعضاء المجالس البلدية ليس فقط مجرد شرط يتحقق به استقلال هذه المجالس وإنما هو أيضاً ركن أساسي من أركان الإدارة المحلية أو اللامركزية الإقليمية، بمعنى أنها لا تقوم بدون تحققه أو كما يقول البعض أن الانتخاب هو الذي يفرق اللامركزية عن (عدم التركيز الإداري).
فالانتخاب هو ضمان استقلال المجالس البلدية ، وهذا الاستقلال لا يتحقق إلا إذا تم اختيار أعضاء هذه المجالس بطريق الانتخاب، ولا يمكن اعتبار المجالس البلدية مستقلة إلا منذ اللحظة التي تشكل فيها بواسطة إرادة الناخبين ، وان الأخذ بطريقة التعيين بالنسبة لكل أعضاء هذه المجالس أو لأغلبيتهم لابد سوف ينتهي عملاً إلى إهدار كل قيمة جدية لهذا الاستقلال، وبالتالي إهدار فكرة اللامركزية من أساسها، نظرا لارتباط وخضوع وتبعية هؤلاء الأعضاء المعينين للسلطات المركزية التي عينتهم، وهو ما يحملهم في الأعم الأغلب على محاولة تسيير الشؤون البلدية بالشكل الذي يرضي اتجاهات هذه السلطات الرئاسية بأكثر مما يستجيب لمصالح المرفق البلدي .

يتضح مما تقدم:
بأن الاتجاه الأول يركز أساساً على استقلال المجالس البلدية بصرف النظر عن الوسيلة المؤدية إلى تحقيق هذا الغرض. فالاستقلال هو المعتبر وليست الوسيلة، بينما يركز الاتجاه الثاني على الوسيلة ويربط بينها وبين قيام نظام الإدارة المحلية، بمعنى أن هذا الرأي يذهب إلى أن انتخاب أعضاء الهيئات المحلية- بوصفه وسيلة وحيدة لتحقيق استقلال هذه الهيئات- هو المعتبر ركناً لازماً لقيام الإدارة المحلية.
إن سبب هذا الخلاف يرجع في الواقع إلى اعتبار أو عدم اعتبار نظام الإدارة المحلية تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة، فمن يقول بذلك أي من يعتبر أن هذا النظام تطبيقاً للديمقراطية كان الانتخاب في نظره ركناً لازماً لقيامه، ومن يذهب إلى غير ذلك فإنه لا ينظر إلى الانتخاب إلا باعتباره وسيلة من بين وسائل عديدة يمكن إتباعها في اختيار أعضاء المجالس البلدية او المحلية.
وللموازنة بين هذين الاتجاهين يتعين علينا أن نحدد ابتداء الهدف الأساسي من نظام الإدارة المحلية ومعرفة عما إذا كان يمثل تطبيقا للديمقراطية في مجال الإدارة، أم أنه يتمثل في إدارة مرافق إدارية بصورة تتلاءم مع متطلبات البيئة المحلية لتلك المجالس.
في حقيقية الامر ، لا يمكن إنكار الدور الذي قد تلعبه الإدارة المحلية في المجال السياسي وبصفة خاصة دورها في إشراك المواطنين في إدارة أمورهم بأنفسهم وفي اعتمادهم على ذاتهم في مباشرة شؤونهم وهذه من سمات الديمقراطية، ولكن من ناحية أخرى يجب ألا يغيب عن البال أن نظام الإدارة المحلية ما هو إلا مسألة اختيار أفضل الوسائل لتحقيق الأهداف الإدارية، ومن ثم فهو أسلوب من أساليب التنظيم الإداري يهدف أساساً إلى أن يعهد إلى أبناء الوحدة المحلية بإدارة ما يهمهم من مرافق ذات طابع محلي دون تدخل من جانب السلطة المركزية إلا في حدود ما يقرره القانون في هذا الخصوص.
هذا هو الهدف الذي تسعى اللامركزية إلى تحقيقه وأما الاهداف تتعلق بتدعيم الديمقراطية وتدريب الناخبين على تولي شؤون الحكم والإدارة المحلية وغيرها من الأهداف المماثلة، ومع تسليمنا الكامل بأهمية تحقيقها، إلا هناك وسائل أخرى مباشرة لتحقيق هذه الأهداف، والأمر ليس وقفا على اللامركزية وحدها.
وترتيباً على ذلك يمكن القول أن الانتخاب وإن كان شرطاً مهماً في اختيار أعضاء المجالس البلدية إلا أنه لا يعتبر مع ذلك ركناً في نظام الإدارة المحلية، يؤدي انعدامه إلى انعدام النظام برمته.
فقد يتم اختيار هؤلاء الأعضاء بطريق الانتخاب كما قد يتم اختيارهم بطريق التعيين أو بطريق الجمع بين التعيين والانتخاب(وهذه أفضل طريقة في نظرنا) ، فأيا كانت الطريقة فلا أثر لذلك على قيام نظام الإدارة المحلية في ذاته، ذلك أن المعتبر في هذا الخصوص أي ما يعد ركناً لازماً لقيام النظام هو استقلال هؤلاء الأعضاء في مواجهة السلطة المركزية، وهو ما قد يتحقق بوسائل عديدة منها: الانتخاب، او التعيين مع تقرير ضمانات كافية للأعضاء المعنيين كضمانه عدم القابلية للعزل الا بالطريق التأديبي أو عدم الخضوع للسلطة التأديبية من جانب الحكومة المركزية، ومنح هؤلاء الأعضاء سلطة البت واتخاذ القرارات النهائية فيما يباشرونه من أعمال.

حاصل القول، لا يجوز الخلط بين استقلال الهيئات المحلية او المجالس البلدية وهو ما يجب أن يتأكد في كافة أنظمة الإدارة المحلية وأياً كان المجتمع الذي تطبق فيه هذه الأنظمة، وبين وسيلة تحقق هذا الاستقلال وهي ما يمكن أن تختلف من نظام إلى آخر أو من دولة إلى أخرى أو حتى داخل الدولة الواحدة من وقت إلى آخر وذلك تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.

مقالات مشابهة

  • نجاة عبد الرحمن تكتب: قانون الإيجار القديم .. بين استرداد الحقوق وضمان الاستقرار
  • الإدارة المحلية: بين الانتخاب والتعيين – وجهة نظر قانونية
  • ما رسالة إثيوبيا من دعوة مصر والسودان لحفل افتتاح سد النهضة؟
  • عباس شراقي: إثيوبيا حجبت 60 مليار متر مكعب مياه قبل وصولها المصب المصري
  • رئيس الحكومة يوافق على إعفاء عميد كلية الحقوق بأكادير
  • إنطلاق العملية الوطنية لتكريم المجاهدين
  • مصر ترفض سياسات الأمر الواقع بشأن سد النهضة: لن نسمح بالهيمنة على مياه النيل
  • إثيوبيا تدعو مصر والسودان لافتتاح سد النهضة في سبتمبر المقبل
  • حركة أمل: نرفض أي محاولة لربط ملف إعادة الإعمار بأي التزامات سياسية تتعارض مع ثوابت لبنان
  • أخبار التوك شو| وزير الري: نرفض قطعيا فرض إثيوبيا سياسة الأمر الواقع بإجراءات أحادية تخص نهر النيل.. حقيقة تعرض مصر لـ تسونامي