معضلة الديمقراطية التونسية بين النهضة والقوى الحداثية (1)
تاريخ النشر: 15th, September 2023 GMT
رغم فشل كل ثورات "الربيع العربي" والانتصار المؤقت لما يُسمى بـ"محور الشر" أو محور الثورات المضادة، فإنّ أسباب ذلك الفشل ومساراته وتمظهراته (انقلابات، حروب أهلية) تفرض علينا منذ البدء أن نصوغ ملاحظتين: أولا، وجود قابلية داخلية للفشل أو بالأحرى عدم تعلق الفشل بالتدخلات الخارجية مهما كان حجمها (وهي قابلية تختلف محدداتها من سياق وطني إلى آخر)، ثانيا، عدم وجود أي تنسيق/ إسناد متبادل بين قيادات "الثورات" على خلاف التنسيق الاستراتيجي بين أعدائها من القوى الإقليمية والدولية.
ولا شك في أن "الثورة التونسية" التي كانت مهد الثورات العربية قد استطاعت أن تؤجل نهايتها، لكن النخب المهيمنة على الحكم والمعارضة لم تكن قادرة على تجنيب البلاد نهاية مماثلة للتجارب العربية الأخرى. فـ"الجو الانقلابي" كان مهيمنا على مسار الانتقال الديمقراطي منذ المرحلة التأسيسية، ولم يكن انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021 إلا حلقة في سلسلة انقلابية بدأت منذ تبني منطق "استمرارية الدولة" ومأسسة استحقاقات الثورة؛ تحت إدارة رموز المنظومة القديمة وحلفائهم التقليديين و"المطبعين" معهم من القوى السياسية الجديدة (خاصة أصحاب السرديات الكبرى في اليسار الماركسي والقومي وفي حركة النهضة ذات "المرجعية الإسلامية").
"الثورة التونسية" التي كانت مهد الثورات العربية قد استطاعت أن تؤجل نهايتها، لكن النخب المهيمنة على الحكم والمعارضة لم تكن قادرة على تجنيب البلاد نهاية مماثلة للتجارب العربية الأخرى. فـ"الجو الانقلابي" كان مهيمنا على مسار الانتقال الديمقراطي منذ المرحلة التأسيسية، ولم يكن انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021 إلا حلقة في سلسلة انقلابية بدأت منذ تبني منطق "استمرارية الدولة" ومأسسة استحقاقات الثورة؛ تحت إدارة رموز المنظومة القديمة
بعد الثورة التونسية، كان دخول حركة النهضة للحقل السياسي القانوني واحتلالها مركز ذلك الحقل (بحكم قاعدتها الشعبية الكبيرة وقوة رأسمالها الرمزي المتمثل في "مظلوميتها" زمن المخلوع) مؤذنا بانكسار بنيوي في المجال السياسي "المتجانس" (أي ذلك المجال الذي يهيمن فيه زعيم/ حزب واحد يسمح بوجود معارضة كرتونية مدجّنة؛ ولكنها معارضة "علمانية" ومعادية بالجوهر والقصد للإسلام السياسي بكل تشكيلاته وأطروحاته).
ورغم قوة الخطابات التخويفية من مشروع "أخونة الدولة" أو "أسلمة المجتمع" (وهي خطابات اكتسبت مصداقيتها من تنامي الخطر "السلفي"، ومن عدم حسم النهضة بصورة مبكرة لعلاقتها بالسلفية أو عجزها عن ذلك بحكم واقع "الاستضعاف المعمّم" للدولة بعد الثورة)، أكدت حركة النهضة منذ الأيام الأولى للثورة أنها منحازة لمشروع "العيش المشترك" بين كل التونسيين، بل عملت على تقديم تطمينات كثيرة للقوى "الحداثية" لتأكيد أن خيارها الاستراتيجي هو أن تكون شريكا للقوى العلمانية في الحكم وليس بديلا لها، أي تأكيد أنها قد خرجت نهائيا من منطق البديل الرافض للمشروع "العلماني" إلى منطق الشريك الذي يقبل الاحتكام لفلسفة الحكم الحديث.
رغم قبول النهضة -في إطار ما أسمته بـ"التنازلات المؤلمة"- بأن تجعل حجم وجودها في أجهزة الدولة مختلفا جذريا عن حجمها الانتخابي (بل قبولها بالعمل المشترك مع وجوه سياسية معروفة بمعاداتها في إطار "التوافق")، ورغم دعمها القوي للفصل بين مسار المساءلة والمحاسبة وبين مسار المصالحة وجبر الضرر (وهو ما كان مشروع العدالة الانتقالية يفرض الوصل بين مساريه لتفكيك بنية الفساد والاستبداد)، ورغم أن سقف "الإصلاح" لديها (أو مأسسة شعارات الثورة وتحقيق انتظارات الناخبين) يهدد المصالح المادية والرمزية لمنظومة الاستعمار/ الاستحمار الداخلي، أي النواة الصلبة لمنظومة الحكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، رغم ذلك كله فإن حركة النهضة فشلت في الحصول على اعتراف "القوى الدمقراطية" وفي ضمان حماية مبدئية من "الدولة العميقة"، أي بقيت في وضعية "الخارج/ الشر المطلق" الذي لا يمكن استدماجه في "العائلة الديمقراطية" أو حتى قبول وجوده "القانوني" في الحقل السياسي، فما بالك بالقبول بهيمنته على السلطة في إطار النظام البرلماني المعدّل.
إن السؤال الذي تفرضه المعطيات الواردة أعلاه هو التالي: ما هو السبب الأهم أو العلّة الأساسية التي أوصلت النهضة إلى وضعيتها الحالية؟ هل هو خيارها التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة؛ وبعيدا عن أي "إصلاح" اقتصادي ملموس يستطيع أن يحرك عموم الشعب للدفاع عنها وعن "الديمقراطية التمثيلية" التي تحتلها واسطة عقدها؟ هل هو الضغائن الأيديولوجية التي تحرك خصومها في "العائلة الديمقراطية" بمكوناتها الليبرالية والقومية واليسارية، وهي ضغائن لا يمكن بالضرورة أن تكون ناتجة عن حسابات عقلانية؟ هل هو خوف "الديمقراطيين" من دخول فاعلين جدد لأجهزة الدولة وبالتالي تهديد احتكارهم التقليدي لوظيفة "الحراسة الإيديولوجية" للنظام وما يوفّره ذلك من مكاسب مادية ووجاهة اجتماعية؟
هل هو خوف الجزائر مثلا من عدوى الديمقراطية وما يمثله ذلك من تهديدٍ وجودي للنظام العسكري ذي الواجهة المدنية الشكلية؟ هل هو خوف بعض أنظمة الاستبداد الخليجية (خاصة الإمارات والسعودية) من نجاح النموذج الديمقراطي التونسي وما يمثله من إغراء لبعض الدعوات الإصلاحية هناك؟ هل هو الخوف السعودي من نجاح التوافق بين "الإخوان" و"العلمانيين"، وما قد يشكله ذلك من خطر على المشروع "الوهابي" القائم على القول بـ"كُفرية" الديمقراطية ورفض إشراك "الرعايا" في إدارة الشأن العام وصناعة القرارات السيادية؟ هل هو الخوف المشترك بين النخب العلمانية العربية وفرنسا وبعض دول الخليج من نجاح المشروع الديمقراطي التونسي وكسر "مقولة الاستثناء الإسلامي"، أي تلك المقولة التي تصادر على وجود تناقض جوهري وغير قابل للتجاوز بين الإسلام في ذاته وبين فلسفة الحكم الديمقراطي؟
لا شك في أن كل سبب من الأسباب الواردة أعلاه يمثل عاملا من عوامل فشل التجربة الديمقراطية التونسية وليس فشل حركة النهضة فحسب، ولا شك أيضا في أن تفسير ما حصل بالخوف على "النموذج المجتمعي التونسي" أو "محاربة الفساد" أو "إنقاذ الدولة" يظل مجرد تبريرات واهية ومتهافتة. فـ"القوى الديمقراطية" قد نجحت بوجود النهضة (الإسلام لايت) في تمرير ما عجزت عن تمريره في عهد المخلوع نفسه (تقنين جمعية المثليين، رفع الاحترازات على بعض بنود اتفاقية سيداو، والمشاركة في السلطة بصرف النظر عن الوزن الانتخابي، وتغوّل النقابات وتحولها مع أغلب منظمات المجتمع المدني إلى ظهير سياسي للقوى الانقلابية، ارتفاع سقف الحرية الإعلامية التي كانت في أغلبها في خدمة المنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين.. الخ).
أما الجناح المالي الجهوي في منظومة الاستعمار الداخلي فقد استطاع أن يضاعف مكاسبه بوجود حركة النهضة وأن يكون في مأمن من أية مطالب جادة للمساءلة والمحاسبة، بل إنه قد تحوّل إلى فاعل سياسي رئيس من خلال تمويل الأحزاب والهيمنة على المشهد الإعلامي، وما يعنيه ذلك من قدرة على تشكيل الرأي العام ونوايا التصويت.
في نهاية هذا الجزء الأول من المقال، فإننا نطرح جملة من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في الجزء الثاني بإذن الله: لماذا حرّض أغلب المستفيدين من "العشرية السوداء" على الانقلاب عليها؟ وما هي عقلانية هذا الخيار إذا ما نظرنا إليه من جهة المآلات -أي من جهة الواقع السياسي الجديد الذي نتج عن "تصحيح المسار" والذي رمى بأغلب "الانقلابوقراطيين" إلى دائرة التهميش بل الاستهداف السلطوي-؟ وهل إن المواقف/ الأوضاع الداخلية كانت هي المحدد الجوهري لنجاح 25 تموز/ يوليو؟ وما هي البُنى الذهنية والأطر الموضوعية التي ساهمت في تعميق ما تسميه البيانات الغربية وبعض قوى "الموالاة النقدية" بـ"الانجراف الاستبدادي"؟ ولماذا تُصرّ القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الشأن التونسي على ترك النظام في وضعية "الموت السريري"، أي في وضعية لا تسمح بسقوطه ولا بخروجه من وضعية الأزمة الخانقة التي يمر بها؟ وهل تمتلك السلطة والمعارضة بمختلف مكوّناتها، خاصةً حركة النهضة؛ أي مشروع حقيقي للتحرير الوطني وللتخلص من منظومة الاستعمار الداخلي؟
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية النهضة الديمقراطية الإنقلاب تونس النهضة الديمقراطية مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حرکة النهضة ذلک من
إقرأ أيضاً:
ضغط ميداني جنوباً وشرقاً على العهد والحكومة والقوى العسكرية
يتصاعد القلق من عودة لبنان ساحة استقطاب او توظيف او تلق لتطورات شديدة الخطورة سواء عبر حدوده الجنوبية مع إسرائيل او حدوده الشرقية مع سوريا. صورة التداعيات التصعيدية التي تتفاقم يومياً مع العمليات الميدانية الحربية التي تمضي فيها إسرائيل في الجنوب كما صورة المخاوف من انسحاب الاشتعالات الأهلية الدموية في الساحل السوري على مناطق البقاع والشمال، علماً أن منطقتي البقاع الشمالي وعكار عادتا تشهدان نزوح ألوف السوريين الهاربين من سوريا ، هاتان الصورتان ترسمان واقعيا معالم سيناريو مقلق للغاية كان اللبنانيون ظنوا او راهنوا على انه طوي مع بدء الحقبة الجديدة في لبنان.وكتبت "النهار": الواقع بمعطياته الميدانية او الأمنية والعسكرية على جوانب الحدود اللبنانية مع إسرائيل وسوريا عاد يضغط بهواجسه على العهد والحكومة والقوى العسكرية والأمنية من جهة كما على الرأي العام الداخلي الذي تعتريه نقزة واضحة حيال الخشية من التطورات التصعيدية جنوبا وتداعيات الفوضى الأمنية الدموية في سوريا على لبنان عبر الحدود الشرقية والشمالية . ولذا، تبدو السلطة اللبنانية في موقع لا تحسد عليه وهي ستكون موقع الرصد والترقب في الأيام القليلة المقبلة لاستكشاف مدى قدرتها على توظيف التحرك الديبلوماسي بكل وجوه الضغط الممكنة التي سيعتمدها لمنع عودة الأمور الى الوراء خصوصا ان الورشة الكبيرة الداخلية انطلقت في ملفات التعيينات والإصلاحات والإجراءات المالية والمساعي لتوفير مستلزمات إعادة الاعمار والاستعدادات للانتخابات البلدية، وكلها أولويات مزدحمة بأجندات لم تعد تحتمل مزيدا من الارجاء والترحيل. وكتبت "الديار": اعتبرت اوساط وزارية لبنانية، ان ما يحصل في سورية لا بد له من ان ينعكس على الساحة اللبنانية، في نقطتين اساسييتين، قد تعرض الداخل لخطر كبير، وهما: - مسألة النزوح وفلتان الحدود، وهو ملف بحثه الرئيسان اللبناني والسوري في القاهرة، حيث من مصلحة سورية كما لبنان حسم هذا الملف، خصوصا في ظل موجة النزوح الجديدة التي بدأت بعيد الانقلاب الذي شهدته سورية، مع دخول عشرات آلاف السوريين من مؤيدي النظام الى مناطق متفرقة من لبنان، بينهم عدد لا يستهان به من العسكريين السابقين، وهم يشكلون قنبلة موقوتة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فلتان الحدود، لجهة استخدام المعابر غير الشرعية المستحدثة والمستخدمة في حركة الذهاب والاياب من والى سورية. - النقطة الثانية، امكان استفادة بعض الخلايا الارهابية النائمة من الوضع القائم، لتنفيذ اجندات معينة، في ظل الاحتقان الذي تعيشه بعض المناطق، سواء شمالا، او بقاعا، والدعوات لحملات النصرة والجهاد.
غير أن الاوساط تستدرك، معتبرة ان الاجهزة الامنية والعسكرية، تتابع عن كثب وبدقة الوضع ، حيث تؤكد وفقا لتقاريرها ان الارض والشارع مضبوطان، وان الحدود ممسوكة الى حد كبير، كاشفة ان الاطراف الداخلية تبلغت ان أي محاولات للعب بالنار ستواجَه بحزم وقوة لان القرار متخذ بابقاء لبنان خارج دائرة الصراع، فالغطاء السياسي مؤمن للقوى الامنية لضرب أي محاولات لاستجلاب الصراع الى الداخل اللبناني. وتحدث النائب سجيع عطية عن "موجات كبيرة جداً" من النزوح عند الحدود الشمالية بين سوريا ولبنان، وتحديداً في عكار. وأشار عطية في تصريح لـ"الشرق الأوسط" إلى أن "الآلاف يصلون إلى 5 أو 6 قرى علوية في عكار، بحيث بات المنزل الواحد يعيش فيه العشرات"، لافتاً إلى أن "عدد الوافدين في يوم واحد بلغ 10 آلاف، بحيث إن النازحين من الساحل السوري يصلون وفوداً عبر الحدود غير الشرعية". وأضاف: "حالياً لا معابر شرعية بيننا وبين سوريا في شمال لبنان. فإسرائيل قصفت المعابر الثلاثة (الشرعية) وهي العريضة والعبودية والبقيعة، ومن ثم لا أمن عام لضبط حركة النزوح. كما أن الجيش اللبناني لا يتصدى لهذه الموجات". وشدد عطية على وجوب قيام الدولة اللبنانية بواجباتها واتخاذ الإجراءات المناسبة لجهة إحصاء الداخلين وتنظيم دخولهم، مستهجناً عدم التعلم من تجربة النزوح السابقة. وقال: "إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن مليون نازح سوري جديد سيضافون إلى مليونين وصلوا قبل سنوات". وأشار إلى أن "عكار، التي تكاد تكون منطقة نازحة في لبنان، أصبحت تستضيف آلاف النازحين، كما أن نحو ألفي نازح وصلوا مؤخراً إلى منطقة جبل محسن في طرابلس موضحاً أنه أطلع نائب رئيس الحكومة طارق متري على هذه المعطيات ليقوم بدوره بإبلاغ رئيس الحكومة نواف سلام بها "لاتخاذ الإجراءات اللازمة". وفي المشهد الجنوبي واصل الجيش الاسرائيلي العمليات التصعيدية بعد ليل ناري شن فيه الطيران الحربي الإسرائيلي سلسلة غارات عنيفة غير مسبوقة منذ سريان اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل . وامس شنت مسيرة إسرائيلية غارة على سيارة في بلدة خربة سلم ما ادى إلى مقتل مواطن وإصابة آخر بجروح، بحسب مركز عمليات طوارئ الصحة العامة التابع لوزارة الصحة العامة. وأفاد الجيش الاسرائيلي أنه استهدف عنصرا من "حزب الله" عمل على اعمار بنية تحتية لتوجيه أنشطة الحزب في جنوب لبنان.