معضلة الديمقراطية التونسية بين النهضة والقوى الحداثية (1)
تاريخ النشر: 15th, September 2023 GMT
رغم فشل كل ثورات "الربيع العربي" والانتصار المؤقت لما يُسمى بـ"محور الشر" أو محور الثورات المضادة، فإنّ أسباب ذلك الفشل ومساراته وتمظهراته (انقلابات، حروب أهلية) تفرض علينا منذ البدء أن نصوغ ملاحظتين: أولا، وجود قابلية داخلية للفشل أو بالأحرى عدم تعلق الفشل بالتدخلات الخارجية مهما كان حجمها (وهي قابلية تختلف محدداتها من سياق وطني إلى آخر)، ثانيا، عدم وجود أي تنسيق/ إسناد متبادل بين قيادات "الثورات" على خلاف التنسيق الاستراتيجي بين أعدائها من القوى الإقليمية والدولية.
ولا شك في أن "الثورة التونسية" التي كانت مهد الثورات العربية قد استطاعت أن تؤجل نهايتها، لكن النخب المهيمنة على الحكم والمعارضة لم تكن قادرة على تجنيب البلاد نهاية مماثلة للتجارب العربية الأخرى. فـ"الجو الانقلابي" كان مهيمنا على مسار الانتقال الديمقراطي منذ المرحلة التأسيسية، ولم يكن انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021 إلا حلقة في سلسلة انقلابية بدأت منذ تبني منطق "استمرارية الدولة" ومأسسة استحقاقات الثورة؛ تحت إدارة رموز المنظومة القديمة وحلفائهم التقليديين و"المطبعين" معهم من القوى السياسية الجديدة (خاصة أصحاب السرديات الكبرى في اليسار الماركسي والقومي وفي حركة النهضة ذات "المرجعية الإسلامية").
"الثورة التونسية" التي كانت مهد الثورات العربية قد استطاعت أن تؤجل نهايتها، لكن النخب المهيمنة على الحكم والمعارضة لم تكن قادرة على تجنيب البلاد نهاية مماثلة للتجارب العربية الأخرى. فـ"الجو الانقلابي" كان مهيمنا على مسار الانتقال الديمقراطي منذ المرحلة التأسيسية، ولم يكن انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021 إلا حلقة في سلسلة انقلابية بدأت منذ تبني منطق "استمرارية الدولة" ومأسسة استحقاقات الثورة؛ تحت إدارة رموز المنظومة القديمة
بعد الثورة التونسية، كان دخول حركة النهضة للحقل السياسي القانوني واحتلالها مركز ذلك الحقل (بحكم قاعدتها الشعبية الكبيرة وقوة رأسمالها الرمزي المتمثل في "مظلوميتها" زمن المخلوع) مؤذنا بانكسار بنيوي في المجال السياسي "المتجانس" (أي ذلك المجال الذي يهيمن فيه زعيم/ حزب واحد يسمح بوجود معارضة كرتونية مدجّنة؛ ولكنها معارضة "علمانية" ومعادية بالجوهر والقصد للإسلام السياسي بكل تشكيلاته وأطروحاته).
ورغم قوة الخطابات التخويفية من مشروع "أخونة الدولة" أو "أسلمة المجتمع" (وهي خطابات اكتسبت مصداقيتها من تنامي الخطر "السلفي"، ومن عدم حسم النهضة بصورة مبكرة لعلاقتها بالسلفية أو عجزها عن ذلك بحكم واقع "الاستضعاف المعمّم" للدولة بعد الثورة)، أكدت حركة النهضة منذ الأيام الأولى للثورة أنها منحازة لمشروع "العيش المشترك" بين كل التونسيين، بل عملت على تقديم تطمينات كثيرة للقوى "الحداثية" لتأكيد أن خيارها الاستراتيجي هو أن تكون شريكا للقوى العلمانية في الحكم وليس بديلا لها، أي تأكيد أنها قد خرجت نهائيا من منطق البديل الرافض للمشروع "العلماني" إلى منطق الشريك الذي يقبل الاحتكام لفلسفة الحكم الحديث.
رغم قبول النهضة -في إطار ما أسمته بـ"التنازلات المؤلمة"- بأن تجعل حجم وجودها في أجهزة الدولة مختلفا جذريا عن حجمها الانتخابي (بل قبولها بالعمل المشترك مع وجوه سياسية معروفة بمعاداتها في إطار "التوافق")، ورغم دعمها القوي للفصل بين مسار المساءلة والمحاسبة وبين مسار المصالحة وجبر الضرر (وهو ما كان مشروع العدالة الانتقالية يفرض الوصل بين مساريه لتفكيك بنية الفساد والاستبداد)، ورغم أن سقف "الإصلاح" لديها (أو مأسسة شعارات الثورة وتحقيق انتظارات الناخبين) يهدد المصالح المادية والرمزية لمنظومة الاستعمار/ الاستحمار الداخلي، أي النواة الصلبة لمنظومة الحكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، رغم ذلك كله فإن حركة النهضة فشلت في الحصول على اعتراف "القوى الدمقراطية" وفي ضمان حماية مبدئية من "الدولة العميقة"، أي بقيت في وضعية "الخارج/ الشر المطلق" الذي لا يمكن استدماجه في "العائلة الديمقراطية" أو حتى قبول وجوده "القانوني" في الحقل السياسي، فما بالك بالقبول بهيمنته على السلطة في إطار النظام البرلماني المعدّل.
إن السؤال الذي تفرضه المعطيات الواردة أعلاه هو التالي: ما هو السبب الأهم أو العلّة الأساسية التي أوصلت النهضة إلى وضعيتها الحالية؟ هل هو خيارها التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة؛ وبعيدا عن أي "إصلاح" اقتصادي ملموس يستطيع أن يحرك عموم الشعب للدفاع عنها وعن "الديمقراطية التمثيلية" التي تحتلها واسطة عقدها؟ هل هو الضغائن الأيديولوجية التي تحرك خصومها في "العائلة الديمقراطية" بمكوناتها الليبرالية والقومية واليسارية، وهي ضغائن لا يمكن بالضرورة أن تكون ناتجة عن حسابات عقلانية؟ هل هو خوف "الديمقراطيين" من دخول فاعلين جدد لأجهزة الدولة وبالتالي تهديد احتكارهم التقليدي لوظيفة "الحراسة الإيديولوجية" للنظام وما يوفّره ذلك من مكاسب مادية ووجاهة اجتماعية؟
هل هو خوف الجزائر مثلا من عدوى الديمقراطية وما يمثله ذلك من تهديدٍ وجودي للنظام العسكري ذي الواجهة المدنية الشكلية؟ هل هو خوف بعض أنظمة الاستبداد الخليجية (خاصة الإمارات والسعودية) من نجاح النموذج الديمقراطي التونسي وما يمثله من إغراء لبعض الدعوات الإصلاحية هناك؟ هل هو الخوف السعودي من نجاح التوافق بين "الإخوان" و"العلمانيين"، وما قد يشكله ذلك من خطر على المشروع "الوهابي" القائم على القول بـ"كُفرية" الديمقراطية ورفض إشراك "الرعايا" في إدارة الشأن العام وصناعة القرارات السيادية؟ هل هو الخوف المشترك بين النخب العلمانية العربية وفرنسا وبعض دول الخليج من نجاح المشروع الديمقراطي التونسي وكسر "مقولة الاستثناء الإسلامي"، أي تلك المقولة التي تصادر على وجود تناقض جوهري وغير قابل للتجاوز بين الإسلام في ذاته وبين فلسفة الحكم الديمقراطي؟
لا شك في أن كل سبب من الأسباب الواردة أعلاه يمثل عاملا من عوامل فشل التجربة الديمقراطية التونسية وليس فشل حركة النهضة فحسب، ولا شك أيضا في أن تفسير ما حصل بالخوف على "النموذج المجتمعي التونسي" أو "محاربة الفساد" أو "إنقاذ الدولة" يظل مجرد تبريرات واهية ومتهافتة. فـ"القوى الديمقراطية" قد نجحت بوجود النهضة (الإسلام لايت) في تمرير ما عجزت عن تمريره في عهد المخلوع نفسه (تقنين جمعية المثليين، رفع الاحترازات على بعض بنود اتفاقية سيداو، والمشاركة في السلطة بصرف النظر عن الوزن الانتخابي، وتغوّل النقابات وتحولها مع أغلب منظمات المجتمع المدني إلى ظهير سياسي للقوى الانقلابية، ارتفاع سقف الحرية الإعلامية التي كانت في أغلبها في خدمة المنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين.. الخ).
أما الجناح المالي الجهوي في منظومة الاستعمار الداخلي فقد استطاع أن يضاعف مكاسبه بوجود حركة النهضة وأن يكون في مأمن من أية مطالب جادة للمساءلة والمحاسبة، بل إنه قد تحوّل إلى فاعل سياسي رئيس من خلال تمويل الأحزاب والهيمنة على المشهد الإعلامي، وما يعنيه ذلك من قدرة على تشكيل الرأي العام ونوايا التصويت.
في نهاية هذا الجزء الأول من المقال، فإننا نطرح جملة من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في الجزء الثاني بإذن الله: لماذا حرّض أغلب المستفيدين من "العشرية السوداء" على الانقلاب عليها؟ وما هي عقلانية هذا الخيار إذا ما نظرنا إليه من جهة المآلات -أي من جهة الواقع السياسي الجديد الذي نتج عن "تصحيح المسار" والذي رمى بأغلب "الانقلابوقراطيين" إلى دائرة التهميش بل الاستهداف السلطوي-؟ وهل إن المواقف/ الأوضاع الداخلية كانت هي المحدد الجوهري لنجاح 25 تموز/ يوليو؟ وما هي البُنى الذهنية والأطر الموضوعية التي ساهمت في تعميق ما تسميه البيانات الغربية وبعض قوى "الموالاة النقدية" بـ"الانجراف الاستبدادي"؟ ولماذا تُصرّ القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الشأن التونسي على ترك النظام في وضعية "الموت السريري"، أي في وضعية لا تسمح بسقوطه ولا بخروجه من وضعية الأزمة الخانقة التي يمر بها؟ وهل تمتلك السلطة والمعارضة بمختلف مكوّناتها، خاصةً حركة النهضة؛ أي مشروع حقيقي للتحرير الوطني وللتخلص من منظومة الاستعمار الداخلي؟
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية النهضة الديمقراطية الإنقلاب تونس النهضة الديمقراطية مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حرکة النهضة ذلک من
إقرأ أيضاً:
130 زلزالا في 14 يوما .. هل ينهار سد النهضة قريبا؟
فيما كانت إثيوبيا تشهد في المتوسط من 3 إلى 6 زلازل سنويا، تعرضت خلال 14 يوما (الفترة من 21 ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى 4 يناير/كانون الثاني 2025) إلى 130 زلزالا، وأثار هذا الارتفاع في النشاط الزلزالي تساؤلات حول تأثيره المحتمل على سد النهضة.
ورغم أن الخبراء يتفقون على أن قوة وموقع هذه الزلازل لا يمثلان تهديدا مباشرا لسلامة جسم السد، فإن الآراء انقسمت بشأن تفسير ردود الفعل العامة، فبينما يرى البعض أنها مبررة علميا، إذ يرى آخرون أنها تبتعد عن جوهر القضية الرئيسية، المتمثلة في ضرورة التوصل إلى اتفاق حول تشغيل تعاوني بين سد النهضة والسد العالي، لضمان حماية مصر من مخاطر نقص المياه في المستقبل.
وكان الأستاذ في كلية فيتربي للهندسة بجامعة جنوب كاليفورنيا، الدكتور عصام حجي، من أبرز المتحفظين على ردود الفعل العامة المصرية، ورأى في تعليق كتبه على صفحته بموقع "فيسبوك" أنه تم توجيهها إعلاميا لمداعبة مشاعر الجموع التي تتخيل أن العدالة الإلهية لهذه القضية ستكون بانهيار السد وهو (مفهوم خاطئ يزيد الطين بلة) في رأيه، إذ أنه يلهي عن تساؤلات أهم مثل ما الذي يدور في المفاوضات منذ 13 عاما؟ ولماذا لم تحرز تقدما، وماهي المكاسب المرتقبة وماهي التسويات التي قدمت؟ ويصور ذلك الرأي العام والرأي العلمي في مصر أنهما يفتقرا لفهم طبيعة النهر، ويجعل المطالبة بالعدالة في توزيع موارده أكثر تعقيدا".
إثيوبيا بدأت تشييد السد في 2011 (رويترز) انهيار السد.. احتمال ضعيفوالرأي العلمي الدقيق، كما ذكره د.حجي في تعليقه، هو أن "النشاط الزلزالي الحالي في إثيوبيا يتركز في منطقة الأخدود الأفريقي العظيم، والذي يبعد أكثر من 560 كيلومترا من موقع سد النهضة، وهو صدع جيولوجي نشط منذ أكثر من 25 مليون سنة، أي أن هذا النشاط الزلزالي ليس وليد اللحظة، وهو نتاج البراكين التي تنشط بين الحين والآخر بفترات متباعدة تتراوح بين عشرات وآلاف السنين، ويسبق تلك البراكين نشاط زلزالي طبيعي مثلما يحدث اليوم، ومن الطبيعي أن يستمر في الفترة المقبلة، وليس بسبب بحيرة السد كما يشاع إعلاميا".
وتابع موضحا أن الكوارث الطبيعية مثل الزلازل لها تأثير كبير على المنشآت مثل السدود، ولكن عند بنائها يتم الأخذ في الاعتبار الطبيعة الزلزالية لموقع البناء ويتم التصميم بمعايير دولية تحمي المنشآت من الهزات المتوقعة، ولذلك فإن الزلازل المدمرة التي حدثت في تركيا والمغرب في العامين السابقين لم تتسبب في انهيار للسدود القريبة منها، وبالتالي فإن احتمالية انهيار سد النهضة بسبب الزلازل الحالية ضعيفة.
ولا يختلف أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة الدكتور عباس شراقي، مع ما ذهب إليه حجي من أن الزلازل الحالية ضعيفة للغاية بحيث يمكن أن تؤثر على سد النهضة، لكنه يختلف مع ما يبدو في تعليقه من استبعاد لتأثيرات الزلازل على سد النهضة.
إعلانويقول شراقي: "صحيح أن الزلازل الأخيرة حدثت على بعد 560 كيلومترا من موقع سد النهضة، لكن هناك زلزال وقع في مايو/أيار 2023 على بعد 100 كيلو متر من سد النهضة، وعلى الرغم من أنه كان منخفض القوة (نحو 4.2 درجات)، فإن ذلك لا يلغي احتمالات حدوث زلازل أقوى في السنوات القادمة تؤثر على السد".
فرضية علمية تنتظر التحقيقولا يجزم شراقي بأن مشروع السد يتحمل المسؤولية عن تواتر حدوث الزلازل في الفترة الأخيرة بإثيوبيا، لكنه في نفس الوقت يثير فرضية علمية تحتاج لمزيد من التحقق، يثيرها التزامن الواضح بين تصاعد وتيرة الزلازل وتطورات عملية ملء خزان سد النهضة الإثيوبي.
ويوضح شراقي أن الملء الأول للخزان بدأ بعد موسم الأمطار عام 2020، وتم تخزين نحو 4.9 مليارات متر مكعب من المياه، وفي هذا العام شهدت إثيوبيا حدوث 3 زلازل فقط، ومع تخزين نحو 13.5 مليار متر مكعب إضافية من المياه في عام 2021، وقعت 8 زلازل خلال العام، وتم رفع حجم المياه المخزنة ليصل إلى نحو 22 مليار متر مكعب عام 2022، ومعها زاد عدد الزلازل خلال العام لتصل إلى 12 زلزالا، ومع الملء الرابع عام 2023، وصل إجمالي حجم المياه المخزنة إلى نحو 31 مليار متر مكعب، وزاد في المقابل عدد الزلازل ليصل إلى 38 زلزالا خلال العام، وفي عام 2024 ، وصلت كمية المياه في خزان السد إلى 60 مليار متر مكعب، وارتفع في العام نفسه إجمال عدد الزلازل إلى 90 زلزالا، وخلال 4 أيام من عام 2025، وصل إجمالي عدد الزلازل إلى 32 زلزالا.
وينتقل من هذا الاستعراض الرقمي للقول: "ألا يثير هذا التزامن بين تصاعد وتيرة الزلازل، وزيادة حجم المياه المخزنة، تساؤلات حول علاقة ارتباط بينهما، تحتاج إلى دراسات تؤكدها أو تنفيها؟".
أحد التفسيرات المحتملة هو أن هذه المياه المسربة وصلت إلى أخدود النيل الأزرق (الفرنسية) تسرب المياه.. هل يحفز الزلازل؟ويجد شراقي في دراسة لفريق بحثي من جامعتي ميشيغان وأريزونا الأميركيتين نشرها في يوليو/تموز من العام الماضي دورية "بي إن إيه إس"، التابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأميركية، مما يدعم رأيه، حيث ذهبت هذه الدراسة إلى حدوث تسرب لكمية ضخمة من المياه المخزنة بخزان سد النهضة تم تقديرها بنحو 19.8 مليار متر مكعب خلال السنوات الثلاث الأولى من ملء السد.
إعلانويقول: "ربما يكون أحد التفسيرات المنطقية هو أن هذه المياه المسربة وصلت إلى أخدود النيل الأزرق، المتصل بمنطقة سد النهضة، وانتقلت منه إلى مصدر الزلازل الحالية، وهو الأخدود الأفريقي، الممتد على طول شرق أفريقيا، لتكون محفزا لحدوث الزلازل بهذه الوتيرة المتصاعدة".
ويمكن أن تلعب المياه المتسربة دورا في تحفيز حدوث الزلازل من خلال 3 تأثيرات هي:
زيادة الضغط المسامي: عندما تتسرب المياه إلى الصدوع أو الفجوات تحت الأرض، تزيد من الضغط المسامي في الصخور، وهذا الضغط يقلل من الاحتكاك بين السطوح الصخرية على جانبي الصدع، مما يجعل الصخور أكثر عرضة للتحرك، وإذا كانت هناك ضغوط تكتونية مخزنة في المنطقة، فإن زيادة الضغط المسامي قد تسبب في تحرير هذه الطاقة على شكل زلزال.
تحفيز حركة الصدوع: المياه المتسربة قد تؤدي إلى تحفيز الحركة في الصدوع الموجودة، فإذا كانت الصدوع قريبة من نقطة الانزلاق أو الحركة، فإن إضافة المياه قد تخفض من الاحتكاك وتُطلق حركة مفاجئة على شكل زلزال.
تحلل المعادن وتآكل الصخور: المياه التي تحتوي على مواد كيميائية قد تؤدي إلى تحلل المعادن في الصخور وتآكلها على مدى فترة زمنية طويلة، وهذا يؤدي إلى إضعاف الصدوع وتسهيل انزلاقها.
ويعود شراقي إلى لغة الأرقام مجددا، قائلا: "عندما يحدث 11 زلزالا يوم الجمعة الماضي، كان أكبرها قوة زلزال (5.5 درجات)، و6 زلازل يوم السبت، أخطرها بقوة (5.8 درجات )، وهو الأول من نوعه بهذه القوة منذ 15 عاما، فكل ذلك، يجب أن يثير الانتباه لتأثير سد النهضة".
كمية إضافية من التسريبويتفق الباحث في جامعتي ميشيغان وأريزونا الأميركيتين كارم عبد المحسن، والمشارك بالدراسة التي أشار إليها د.شراقي، مع ما ذهب إليه أستاذ العلوم الجيولوجية بجامعة القاهرة على أن تسرب المياه من خزان السد، قد يكون عاملا محفزا للزلازل في إثيوبيا، ويحتاج إلى مزيد من الدراسات حوله.
إعلانويلجأ عبد المحسن مثل شراقي إلى لغة الأرقام، قائلا إن "أرقامهم السابقة في الدراسة والتي كانت تتحدث عن تسرب وصلت كميته إلى 19.8 مليار متر مكعب خلال السنوات الثلاث الأولى من ملء السد، قد أضيف لها 9.6 مليارات أثناء الملء الرابع لخزان السد.
وخلال دراسة عرضت في ديسمبر/كانون الأول الماضي بالاجتماع السنوي للاتحاد الجيوفيزيائي الأميركي، أثبت عبد المحسن وزملاؤه، باستخدام "قياسات مباشرة" بالأقمار الصناعية، أنه أثناء الملء الرابع لخزان سد النهضة (في 28 سبتمبر/أيلول 2023)، وصلت المياه إلى سعة 39.8 مليار متر مكعب وارتفاع 620 مترا، وبحلول 18 يونيو/حزيران 2024، انخفضت كمية المياه إلى 30.2 مليار متر مكعب وارتفاع 614 مترا، وهذا يعني أن 9.6 مليارات متر مكعب من المياه تسربت، ليصل إجمالي المياه السربة خلال فترات ملء السد الأربعة إلى نحو 30 مليار متر مكعب.
ويشبه عبد المحسن تأثيرات المياه عبر الصدوع والفوالق الجيولوجية بتأثير الشحوم على التروس في الماكينات.
ويقول: "عندما يتم إضافة الشحم إلى التروس في الماكينات، يتم تقليل الاحتكاك بينها مما يسمح لها بالتحرك بسلاسة وكفاءة أكبر، وكذلك فإن المياه تعمل كعامل تشحيم بين الصفائح التكتونية المتحركة على طول الصدوع، فعندما تتسرب المياه، تقلل الاحتكاك بين الصفائح، مما يسهل حدوث انزلاق الصفائح في بعض الأحيان، وبالتالي يمكن أن تحفز حدوث الزلازل عندما يكون هناك تراكم للطاقة في هذه المناطق".
ويضيف أن "هذا التأثير المحتمل للسد في حدوث زلازل على بعد مئات الكيلومترات من موقعه، نتيجة تحرك المياه المتسربة لمسافات طويلة، يعني أن التأثيرات التي تطول منطقة السد نفسها قد تكون ضعيفة، وبالتالي لن يكون لها تأثير على هيكله".
انهيارات محلية في منطقة السدوالتأثيرات المتوقعة على هيكل السد، لن تأتي من الزلازل البعيدة عن موقعه، لكن ما يخشاه أستاذ هندسة الاستكشاف وتقييم الطبقات بقسم هندسة البترول في كلية الهندسة جامعة القاهرة د.عبد العزيز محمد عبد العزيز، هو حدوث انهيارات محلية في منطقة السد نفسها.
ويقول: "الزلازل تحدث على حدود الألواح التكتونية، حيث تتحرك تلك الألواح في منطقة الحدود نحو بعضها البعض، وعندما تصطدم ببعضها، قد يحدث ضغط شديد، مما يؤدي إلى تراكم الطاقة داخل الأرض، وعندما يتجاوز الضغط حدود الاحتكاك بين الألواح، يحدث انزلاق مفاجئ، مما يتسبب في حدوث زلزال، وهذه التأثيرات التي يمنحها تسرب المياه فرصة الحدوث بسهولة ويسر، ستكون بعيدة عن جسم السد (أقرب زلزال لجسم السد وقع في مايو/أيار 2023 على بعد 100 كيلو متر بقوة نحو 4.2 درجات )، لكن الخوف الأكبر من عملية الإطماء التي تحدث في بحيرة السد".
إعلانويشرح عبد العزيز عملية الإطماء بأنها " تراكم للرواسب (مثل الطين، والرمال، والطمي) التي تنقلها المياه المتدفقة إلى بحيرة السد بمرور الوقت، ومع استمرار تدفق المياه إلى البحيرة، فإن سرعة المياه تتباطأ، مما يسمح للرواسب بالاستقرار في القاع، لتسبب مع الوقت في حال عدم إدارة عملية تراكمها بشكل جيد، مشكلة التكهف، وهي هبوط مفاجئ أو انهيار في الأرض، قد يحدث في مناطق قرب السد".
ويحدث التكهف لعده أساب، منها تراكم الرواسب بشكل غير متساوٍ في الجزء السفلي من البحيرة ، بما يؤدي إلى زيادة الضغط على المناطق التي تحتوي على كثافة أعلى من الرواسب، مما يؤدي إلى حدوث تكهف أو هبوط في الأرض، كما أن تراكم الرواسب في مناطق معينة من السد يمكن أن يسبب عدم استقرار الأراضي المحيطة بالبحيرة، خاصة في الأماكن التي تكون فيها الطبقات الأرضية غير متينة، وهذا ينطبق على حالة سد النهضة المبني على منطقة تحتوي على صخور جيرية، كما قد يتسبب تراكم الرواسب في بعض الحالات، في زيادة الضغط على التربة المحيطة بالسد أو على هيكل السد نفسه، مما يؤدي إلى حدوث تشققات أو انهيارات.
وإذ تشير بعض التقديرات إلى أن إجمالي تراكم الرواسب في خزان سد النهضة يمكن أن يصل إلى حوالي 20 مليار متر مكعب على مدار العقود القادمة، فإن ذلك يعني، أن حجم الخزان في سد النهضة البالغ نحو 74 مليار متر مكعب، سيفقد 27% من سعته التخزينية بسبب الرواسب، كما يوضح د.عبد العزيز.
هل يهتم المصريون بسلامة السد؟ويرى عبد العزيز أن الاطمئنان على سلامة السد، هو أمر لا يقل أهمية عن متابعة مدى تأثيراته على حصة مصر من المياه، من منطلق أن حدوث انهيار للسد سيتسبب في دمار واسع في دولة السودان الشقيقة، وسيحتاج إلى إجراءات سريعة تنفذها مصر خلال أسبوع لتهيئة السد العالي ومفيض توشكي لاستقبال المياه المتدفقة.
إعلانولنفس المبررات، يتبنى د.شراقي الرأي ذاته، مضيفا أن "سيناريو الانهيار لا نتمناه، لأنه يعني ضياع كمية كبيرة من المياه كان يمكن أن تصل مصر لتستفيد منها، فالمياه المخزنة في سد النهضة، دائما ما أصفها بـ "الأمانة المصرية لدى أثيوبيا"، والتي يجب أن نكون حريصين على الاطمئنان عليها والعمل على استردادها".
ولاسترداد هذه الأمانة، يرى الدكتور حجي، أن ما يجب أن يشغلنا هو الوصول لاتفاق لتشغيل تعاوني بين سد النهضة والسد العالي، لحماية مصر من شح المياه، قائلا: "هذه هي نقطة النقاش الرئيسية التي يجب أن تركز عليها المفاوضات، وتكون محل اهتمامنا جميعا، بدلا من الاهتمام بخطر انهيار سد النهضة".
ويرى في دراسة نشرها مؤخرا بدورية " كوميونيكيشنز إيرث آند إنفايرومنت"، أن حل أزمة هذا السد لا يزال ممكنا، حيث قدم خلالها نموذجا عمليا لتقاسم مياه النيل وتشغيل السدود عليه بما يضمن توليد طاقة مستدامة مع تقليل العجز المائي في دول المصب.