خالد المطاوع: المشهد الثقافي الليبي يجب أن يتخلص من تقديس التراث وتمجيد الماضي
تاريخ النشر: 15th, September 2023 GMT
- في ليبيا يتم محو إنسانية الآخر ورأينا أن الفن قادر على كسر المشاعر العدوانية
- المجتمعات العربية بالكاد تجاوزت مرحلة الأمية والشفوية
- مسؤولية الفن هي نقل وتوثيق وتدبر الحالة الإنسانية لا معالجتها
- وضعنا لائحة بحوالي 400 مثقف والكثير لم يفهم فكرتنا أو يرد على مراسلاتنا
- ليس الشعور بالديْن للوطن هو ما يحركني
- المشهد الثقافي أكثر حيوية ومصداقية الآن في ليبيا
- أحاول أن أضيف لما أترجمه إيقاع الشعر كما أستوعبه
رغم هجرته إلى أمريكا منذ زمن طويل إلا أن الشاعر والأكاديمي خالد المطاوع مشدود إلى أصله الليبي بجذر قوي راسخ يشبه جذر شجرة عملاقة، وليس أكثر دلالة على هذا من أنه قضى وقتا طويلا بصحبة آخرين لإعداد هذا الكتاب الملهم، الذي يمكن التعامل معه باعتباره مرجعا مهما عن ليبيا وزمنها الجميل، وهو كتاب «وجوه ليبيا».
خالد المطاوع المولود في بنغازي عام 1964 هو أستاذ مساعد للكتابة الإبداعية في جامعة ميشيجان، بأمريكا التي هاجر إليها عام 1979. حصل على زمالة مؤسسة ماك آرثر عام 2014، وجائزة أكاديمية الشعراء الأمريكيين، وجائزة PEN للشعر في الترجمة في عامي 2003 و2011، كما فاز أيضا بجائزة أركنساس للترجمة العربية عن ترجمته لقصائد الشاعر العراقي هاتف الجنابي وجائزة بانيبال عن مجموعة قصائد الشاعر السوري أدونيس.
في هذا الحوار ينطلق المطاوع من تجربته في كتاب «وجوه ليبيا»، ثم يتحدث عن تجربته الخاصة مع الشعر والترجمة.
• من صاحب التفكير في مشروع «ألبوم ليبيا»؟ وكيف اجتمعتم أنت (المشرف) وليلى المغربي وريم جبريل وطه كريوي؟
- فكرة تجميع مجموعة هذه الصور في ألبوم هي فكرتي، ولكن فكرة كتابة نص عن صورة لها عدة مصادر، أولها من خلال القراءة والانطباع المختلف الذي تضيفه الصور لنص ما. لعل أول مرة أختبر هذا كان في طفولتي في السبعينيات من خلال العمل الأرشيفي الذي كان يقوم به المؤرخ الرياضي الليبي فيصل فخري، فهذا الرجل في أرشفته لتاريخ كرة القدم الليبية فتح منفذا لتاريخ أصرَّ نظام القذافي على محوه تماما. من خلال مشاهدة صور للاعبي كرة القدم في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات أصبح بالإمكان تخيل حياة شبه ممنوع الحديث عنها، وهنا، وقد أكون أحلل نفسيتي، ربما تكونت لديَّ فكرة قدرة الصورة على تمكيننا من تخيل باقي العالم الذي جاءت منه.
عندما بدأت أُدرّس وأُعلّم الكتابة الإبداعية التي يتم فيها تحفيز الكتاب الناشئين عبر تمارين عديدة، كان هناك تمرين يطلب من الكاتب أن يكتب عن صورة له، ويحكي عن الأحداث التي تحيط بها. ثم تُعطى له صورة أخرى لأشخاص لا يعرفهم ويطلب منه أن يتخيل حياتهم ويكتب عنهم ويكوِّن قصة حولهم. الصورة هنا تكون بؤرة لدخول عوالم منسية من الماضي الخاص بالكاتب، وكذلك فرصة لتخيل ماض لأناس آخرين أو لصناعة حكايات متخيلة لهم. كل هذه العوامل التي لها علاقة بقدرة الصورة على تأجيج الذاكرة والخيال، وهذا ما حدث معنا بشكل ما.
أضف لذلك فكرة أن يكتب عدة أشخاص ذكريات خاصة وجمعها معا رأيت أنها ستكون قادرة على تكوين كيان متخيل يجمع بين الأرشفة والأدب والصور ويلحم الخريطة الجغرافية والسيرة الذاتية والتاريخ الاجتماعي في فسيفساء أو جدارية واحدة.
بالنسبة لتجميع فريق العمل، فالحقيقة كان عفويا جدا. أنا وزوجتي ريم نعمل معا كفريق في كل مشاريع مؤسسة أريتي منذ تكوينها في 2012. سبق لليلى وأنا عملنا معا في تحرير كتاب «شمس على نوافذ مغلقة» وكانت تجرية ناجحة وسلسة، ولذلك كان الترابط مرة أخرى أمرا طبيعيا زاده كون طه كريوي، زوج ليلى، فوتوغرافي مميز. عملنا معا في كل مراحل تحرير وتجهيز الهوية البصرية للمشروع (الكتاب والموقع). أما المعارض فقامت ريم بتصميمها لأنها فنانة تشكيلية وقيّمة أيضا.
• تساءلتم في المقدمة الجماعية لكتاب «ألبوم ليبيا»: ما هو الدور الذي يمكننا أن نقوم به بصفتنا مواطنين وفنانين لنعيد النظر أو لنكتشف خبراتنا وإنسانيتنا المشتركة في ليبيا؟ بطبيعة الحال راودنا الشعور بأن الإجابة لا بد أن تكون عملا فنيا يتجاوز اللحظة الراهنة. فكيف تجاوزتم الصراعات السياسية لتنتجوا كتابا فنيا خالصا؟
- طلبنا من المشاركين عدم التعرض للصراع الحالي على السلطة وربما لم نحتج لأن نخبرهم بذلك. قد يكون موقفهم أيضا هو أن الصراع الحالي هو ليس بداية ليبيا ولا نهايتها، بل وأن حلحلة الصراعات الحالية تتطلب نظرة أكبر لتاريخ البلاد ومجتمعها، وهنا يأتي دور الفن والثقافة عموما. أطراف الصراع الحالي يعملون على طمس إنسانية خصومهم، وهذه باتت نبرة الخطاب السياسي التي سادت عموم ليبيا خصوصا في وسائل التواصل الاجتماعي، هذا المحو لإنسانية الآخر يتم عفويا وبشكل منظم كذلك. رأينا أن العمل الفني بمقدوره أن يشوش هذا الطنين العدواني بقدر من الصمت والتأمل لكسر زخم المشاعر العدوانية التي تملأ الأثير. في ليبيا كما في أغلب دول منطقتنا هناك مشاكل اقتصادية عويصة وفساد إداري ومؤسساتي مهول وشعور باللاجدوى والشلل المعنوي. ربما مسؤولية الفن هي نقل وتوثيق وتدبر الحالة الإنسانية، ولن نقول معالجتها. الفن قادر على إحياء روح الفضول عن الحياة وأن يجعلنا نقاوم الخضوع لليأس الذي نشعر به.
• يجمع كتاب ألبوم ليبيا صورا وقصصا من السير الشخصية للعديد من الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين الليبيين فكيف اخترتم الأسماء المشاركة؟
- لم نختر بقدر أننا بحثنا عن أشخاص رأينا فيهم هذا الجانب في كتاباتهم أو طرحهم الفني. وضعنا لائحة لحوالي 400 أديب وفنان ومثقف، متوقعين أن التجاوب سيكون صعبا نظرا لأن فكرة المشروع جديدة على المشهد. وهذا ما حدث فعلا، فالكثير لم يفهم الفكرة، وأكثر من ذلك لم يرد على مراسلاتنا. أردنا أن يكون هناك تنوع بين المشاركين ليشمل أكبر عدد ممكن من الخلفيات والأعمار وأن يكون هناك توازن جندري فهو بالذات ما قد يجعل المشروع مختلفا بشكل حقيقي.
طلبنا من كل شخص أن يتحدث عن ذاته ولا أن يشعر أنه يمثل منطقة أو توجها سياسيا، ولا أن يكتب لنا خطابا طنانا عن حب الوطن، إلخ. بالنسبة للبحث عن المواد المناسبة، وجدنا قليلا منها على الفيسبوك وطلبناها من كاتبيها وقمنا بتحريرها. كما وجدنا بعض الصور المثيرة وطلبنا من أصحابها أن يكتبوا عنها. وهناك أشخاص كان من البديهي أن نسألهم. د. محمد ذهني، مثلا، ألَّف واحدا من أجمل كتب السيرة التي قرأتها في حياتي، «عصير العمر»، و د. محمد المفتي، وهو طبيب، هو عميد التاريخ الاجتماعي في ليبيا، حيث كانت السيرة الذاتية نقطة انطلاق في أعماله. كان من البديهي أن نراسلهما. أيضا د. جازية شعيتير، أستاذة في القانون الجنائي وأكاديمية مميزة، راسلناها ربما لنتعرف ععلى المحرك العاطفي الذي يغذي نشاطها الفكري، وكانت الصورة التي قدمتها فعلا رائعة إذ أدت هذا الغرض بامتياز.
• هل ترى أن الأصداء الطيبة للكتاب حتى الآن تقول إنكم نجحتم في محاولة جعل العالم ينظر بصورة مختلفة إلى ليبيا بعيدا عن الصورة التي رسمها السياسيون لها، الصورة المرسومة غالبا بمداد النفط؟
- لا ندري، وقد لا ندري أبدا لأننا لا نعرف أصداء الكتاب والموقع بعد. قد نكون نحن الذين اخترنا كلمة «مختلفة» ولكنني الآن أريد أن أستبدلها بتوضيحين. أولا، القضية ليست بالذات صورة مختلفة بقدر ما هي صورة أكثر إنسانية وأكثر واقعية. عندما نتحدث عن الواقعية نحن عادة نقصد الفنون التي تُظهر القبيح خلف الغشاء الجميل الزائف. بالنسبة لليبيا قد نقول: إن الغشاء أو القناع الذي كان يغطينا هو الميليشياوي والجهادي المسلح أو القذافي وفترة حكمه، وكل هذه صور قبيحة حجبت عن شعب وأناس عاديين مسالمين الحياة كباقي البشر. إذن أردنا أن نظهر جانبا أعمق من واقع الليبيين وهو جانب إنساني خالص. أما بالنسبة للعالم، فالحقيقة نحن يهمنا أكثر أن يرى الليبيون أنفسهم بشكل أكثر إنسانية من خلال مرآة أكثر واقعية وتسامحا نحوهم. عندما تنظر لصور الليبيين، منذ الاستعمار الإيطالي وحتى الانتفاضة التي أزالت القذافي، وهو ما يمثل قرنا كاملا من الفوتوغرافيا، ستجدها مليئة بمشاهد العنف والصراع الأيديولوجي، لا مكان فيه للإنسان الذي يحيا حياته العادية. لذا فلنقل نحن نحاول أن نستبدل الذاكرة الفوتوغرافية لدى الليبيين بذاكرة تقبل الإنسان كما هو وتسجل حياته اليومية وربما تحتفي بها، بكل جوانبه، وإذا كان هذه له تأثير على العالم فزيادة الخير خيرين.
• ماذا كان أسلوب تحريركم للنصوص التي وصلتكم؟
- بعض النصوص التي وصلتنا كان أقل بكثير من الحجم الذي طلبناه وهو 500 كلمة، وبعضها كان أطول، وهذا قد يعود لكون المشارك كاتبا أم لا. بالطبع كان عملنا مع النصوص القصيرة أكثر تكثيفا لأنه تطلب أن نسأل المشارك أسئلة إضافية عن الصورة وسياقها وأن يجيبها من خلال النص. هناك نصوص كانت أطول وتم تقصيرها، وكان هناك أحيانا أكثر من نص عن الصورة فأصبح دورنا تجميعها وتحريرها لتكون نصا واحدا. لم تكن هناك معادلة معينة للنص، ولكن التركيز كان عن سرد الأحداث والتفاصيل والتقليل بقدر الإمكان من التأويل الفلسفي أو الاجتماعي.
• بعض المشاركين رحلوا قبل صدور الكتاب، فهل تواصلتم مع عائلاتهم لتمنحوهم نسخا من العمل؟
- نعم. تواصلنا مع عائلة الأستاذ يوسف الشريف وعائلة الأستاذ طارق الرويمضن رحمهما الله. وأوصلنا لهم نسخهم من الكتاب.
• ما أبرز الحكايات التي أثرت فيك بشكل شخصي؟
- هذا سؤال صعب الجواب عنه، لأنني لن أستطيع أن أستغني عن أي من الصور والحكايات التي في الألبوم. ما يثيرني في هذه المشاركات هو الإحساس بضخامة المشهد الإنساني الذي أمامنا عندما ننتقل من قصة لأخرى. نبدأ بإبراهيم الإمام الذي يكتب عن نبع هو مصدر الماء والحياة في مدينة غدامس الساحرة، ثم ننتقل إلى إبراهيم عثمونة حيث يكتب حكاية محاولة وصوله للقذافي ليخلي سبيل أخوته المعتقلين، ثم أحمد الفيتوري وتعلقه بكتبه منذ الطفولة مرورا بفترة السجن وبمكتبته الوافرة في بنغازي، إلي إدريس القايد وتعلمه الموسيقى وهو تلميذ، وأم العز الفارسي التي تتذكر أمسية تأبين زوجها ورفيقها، ثم أمل منصور وهي تتذكر يوما في غاية البهجة في سنتها الأولى بالمدرسة. هذا التنقل بين المشاعر والمشاهد والحقب التاريخية يحرك فيّ شعورا كبيرا بالانبهار والامتنان لتنوع وجودنا كبشر على هذه الأرض وخصوصية حياتنا الفردية في مكان ما وفي زمان ما. القصص في مجملها تعطيني غبطة وجودية وشعورا بالتعجب حيث إنك تستطيع أن تمسك في يدك جانبا صغيرا من الحياة بينما أيضا يمكنك أن تشعر بسمو تلك الحياة وضخامتها المهولة.
• هل لديك شعور ما وأنت صاحب هوية مزدوجة «الليبية - الأمريكية» بأنك مديون لليبيا ورددت الديْن أو جزءا منه بهذا الكتاب؟
- ليس الشعور بالديْن هو ما يحركني، فليس من السهل استيعاب قدر الديْن الذي أعطته لك بلدك أو الشروخ التي تركتها في نفسيتك. أظن ما يحركني هو شعور بالفعالية والتلاحم مع المشهد الذي وجدت نفسي فيه ووجدت فيها مصدرا للتفاعل الإيجابي. قررت أنا وريم زوجتي أن نرجع لليبيا بعد الثورة لمدة عام أو أكثر لتكوين مؤسسة أريتي لمساندة المشهد الثقافي والشباب عموما. رأينا أن سقوط نظام القذافي فرصة غير مسبوقة للعمل الفني والثقافي، وهذا ما جرى ولا يزال، إذ أن المشهد الثقافي أكثر حيوية ومصداقية الآن في ليبيا، ربما في كل تاريخها، وإن كان لا يزال ضعيفا وقليل الموارد، محاطا بمجتمع نفطي استهلاكي يكبله التعنت والفساد المالي والإداري. في هذا المشهد تمكنا نحن ومجموعات أخرى في فترات متفاوتة أن نبث بذور مشهد ثقافي مستقل يدعم الإبداع وحرية التعبير. لا أشعر بالندم بقدر شعوري بالامتنان لكل الذين تعاونوا معنا وشاركوا في نشاطاتنا ودعمونا معنويا وماديا. منذ بداية انخراطي في الأدب والعمل الثقافي في فترة الجامعة يبدو أنني شعرت بضرورة تكوين كيانات وتفعيل أنشطة تجمع الناس وتجلبهم نحو الأدب والفنون والحوارات التي تثيرها. لذلك أشعر بتناغم كبير بين عملي مع جمعية الأدباء العرب الأمريكيين (راوي)، وأكاديمية الشعراء الأمريكيين، و«أريتي» بليبيا. أشعر أنها كلها جزء من مسار وجودي وفني واحد.
• يمتلئ الكتاب بصور عظيمة من ليبيا وأحيائها وصحرائها وعيونها ومكتبات أدبائها وبيوتهم وحكايات الأمهات أو الجدات والأساتذة ويستدعي الماضي وفيه لحظات جميلة وكذلك لحظات مأساوية إذا كانت تتعلق مثلا بزمن المعتقلات (العقيلة)، يستعيد الراديو والأصوات القديمة كصوت عبد الجليل الهتش، هل يمكن القول: إن المقالات هي مكعبات البازل التي تكوِّن صورة كاملة في النهاية لليبيا؟
- نعم، بالضبط، وقد حاولت أن أقول ذلك بشكل أقل شعرية في إجاباتي السابقة. التنوع في الصور والحكايات مبهر ويوحى لنا بأننا نستطيع أن نضيف المزيد من الصور والحكايات. الجميل في المشروع الآن هو أنه بدأ يوحي بشساعة المشهد الإنساني ليس في ليبيا فقط، وكسر بخصوصية محتوياته الشعور بالمحددوية. فأنت لا تشعر أن ليبيا صغيرة عندما تقرأ النصوص، وإن كنت تشعر بالحميمية في الوقت نفسه، وكذلك تشعر بأنك أمام جدارية يمكن الإضافة لها، وكل حكاية جديدة تتمتع بخصوصيتها وتوحي بضخامة الحياة. ولذلك فهي في الحقيقة لا يمكن أن تكوّن «صورة كاملة»، إذ لا أعرف متى وكيف ستكوِّن صورة كاملة لأن الصور والحكايات يمكن أن تستمر بلا نهاية. أتمنى للمشروع إذا تمكنا من الإضافة له أن تكون الصور متجددة وأن لا يشوبها التكرار. وأكثر من ذلك، نحن حريصون على أن لا تشوب المشروع النوستالجيا والحنين، وهذا يتطلب منا وعيا بمكونات الجدارية والالتزام بالاتجاه «الواقعي» الذي نريده لها.
• صدور العمل عن مؤسسة للثقافة والفنون غير هادفة للربح مثل «أريتي» هل يعني شيئا محددا بالنسبة لكم؟
- مشروع ألبوم ليبيا هو ربما أكبر مشروع لمؤسسة أريتي من ناحية التكلفة والتنسيق والفعاليات، فهو كتاب يضم 85 مشاركا، وموقعا، ومعرضا متنقلا أقيم في طرابلس وفي بنغازي في أغسطس هذا العام، وسيتحرك إلى مدينة أخرى على الأقل في ليبيا، وربما خارج البلاد. والموقع سيستمر ليجمع المزيد من الصور والحكايات. فكرة أن هذا مشروع قامت به مؤسسة أنشأناها هي شيء مبهج لنا، وهو أيضا دليل على أننا في مرحلة تحول له جوانب إيجابية عديدة وإن كان هذا التحول متعثرا وعسيرا. هذا المشروع لم يكن سيصدر من مؤسسة ربحية لو انتظرنا ذلك مائة قرن، ولا أظن أن حكوماتنا لديها الإحساس بالناس والصبر والطموح الذي يتطلبه مثل هذا المشروع. ولعل أجمل شيء هو أن هذا المشروع صدر من مؤسسة مجتمع مدني، ونتاج مؤسسة ثقافية مستقلة.
• ما الذي تفتقد إليه الثقافة الليبية في وجهة نظرك؟ وهل ترى أن الكتَّاب الليبيين يحصلون على مساحة الضوء الكافية في الوسط الثقافي العربي والعالمي؟
- ليست لديَّ إجابة وافية، أو منصفة خصوصا للطرف الأول من السؤال فهو سؤال كبير جدا. ولكن فلنقل بخصوص المشهد الثقافي في ليبيا فهو يحتاج للدعم، وللأسف ليس هناك مصدر إلا الحكومة، التي لا تزال مفلسة ثقافيا. المشهد ذاته لا بد أن يتخلص من تقديس التراث وتمجيد الماضي، وأن يتجرأ ويواجه المستقبل ويفتح المجال للتيارات الفنية الجديدة والمواهب الجديدة ووسائطها الفنية الحديثة وأن يضمن لها حرية التعبير والتجمع والاحتكاك بالعالم وما ينتجه من إبداع. أرى أن المناخ السياسي/ الاجتماعي خانق للمشهد الثقافي، والمشهد ذاته لا تزال تسري فيه قناعات بالية وممارسات تعيق العمل الجاد والتجديد.
بالنسبة لوجود الأدب والفنون الليبية في ساحة الضوء فعادة المركز يتجاهل الهامش وليبيا تكمن في الهامش لأنها ليست مركزا يستقطب الآخرين. كما أن ليبيا بلد أصغر من ناحية تعداد السكان ولذلك لن تنتج عددا كبيرا من المثقفين. أضف لذلك أن المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي في ليبيا كان مغلقا لعدة عقود ولا يزال منعزلا إلى حد كبير. كل هذه عوامل مهمة، وهي نفس العوامل التي تجعلنا لا نعرف الكثير عن أدباء اليمن وتونس وموريتانيا مثلا، لأنهم أيضا خارج مساحة الضوء.
لكن لابد أن نشير إلى أن الرواية الليبية والروائيين الجدد مثل محمد النعاس وعائشة إبراهيم ونجوى بن شتوان أصبحوا ينالون قدرا لا بأس به من الاهتمام وإن كان لا يصاحبه ما يكفي من النقد الجاد.
هذا عن ليبيا خاصة، ولكن لنقل الحقيقة أن الكتابة في بلداننا أيضا كادت تختفي من مساحة الضوء. المجتمعات العربية بالكاد تجاوزت مرحلة الأمية والشفوية ومع بروز محطات التلفزيون الكبيرة ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الكتابة المكثفة والعميقة ومن يكتبها أقل تواجدا، خصوصا في ازدحام سوق المؤثرين ومن يسمون بصناع المحتوى. هناك نشاز ساذج خاو يصاحب فرقعات الحروب وهذا يجعل عملية القراءة أصعب. ولا نستغرب ذلك من مجتمعات وحكومات تكمم حرية الرأي والفكر وتعاقب من يحاول ممارستها.
• أنت شاعر ومترجم للشعر.. ماذا يمكن أن يقدم شاعر إلى شاعر من ثقافة ولغة أخرييْن؟ أقصد ما الذي قد تضيفه من روحك إلى الترجمة؟
- باختصار شديد، أحاول أن أضيف لما أترجمه إيقاع الشعر الذي استوعبته. في الترجمة للإنجليزية يهمني أن يكون الشعر الذي أترجمه يسير بإيقاع الشعر الأمريكي المعاصر وأن يكون بلغة سلسة، مع الحرص الشديد على حرفية المعنى. عندما أترجم للعربية أترجم وفقا لإيقاع داخلي ربما يمزج بين اللغتين ويوحي بروح موسيقية ويحاول الاحتفاظ بكثافة القصيدة المترجمة.
• وما الجديد الذي تعمل عليه في الوقت الحالي؟
- قصائد ومقالات نقدية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المشهد الثقافی فی لیبیا أن یکون أن یکتب من خلال ن صورة
إقرأ أيضاً:
سيف الحكمة .. عرض يعلي صوت الطبول ليقدم أربعة حكم صينية
حلَّت فرقة "مسرح يو" الصينية على أرض سلطنة عُمان، حاملين معهم الطبول الصينية التقليدية مختلفة الأحجام والأنغام، لتقدّم عرضها المسرحي "سيف الحكمة" على خشبة دار الفنون الموسيقية بدار الأوبرا السلطانية مسقط يومي اليوم الجمعة وأمس الخميس، وتميّز العرض المبهر بروعة الأداء الاستعراضي الجسدي وفنون القرع على الطبول متعددة الأحجام، ما بين الكبيرة التي يقرع عليها شخصان من الأمام والخلف، والضخمة التي يزيد طولها على طول الرجل الواحد، والصغيرة التي تُحمل على كفّ واحدة، وغيرها من الأحجام، إلى جانب الأداء الغنائي الصيني بمختلف طبقات الصوت، والضرب بالهراوات على الطبول حينًا، وعلى أرضية الخشبة حينًا آخر، ليمتزج كل ذلك في تجسيد أربعة حكمٍ صينية تقليدية نابعة من المعتقد الديني لديهم، هي حكمة "هراوة واحدة.. مثل سيف الحكمة"، وحكمة "هراوة واحدة.. مثل البحث عن ثعبان في العشب"، وحكمة "هراوة واحدة.. مثل زئير الأسد"، وحكمة "هراوة واحدة.. ليست في الهراوة".
وكما جاء في كتيب الحفل، فإن عرض "سيف الحكمة" يحكي عن رحلة المحارب في البحث عن ذاته، حيث يواجه تحديات الحياة التي تثير المخاوف في داخله، وفي هذه الرحلة، ينطلق المحارب للبحث عن الحكمة، ويستخدم السيف كوسيلة لإدراك نقاط ضعفه، وللتحلي بالشجاعة التي تمكّنه من مواجهة العقبات بشجاعة وإصرار، ودار حول حكاية محارب قبل انطلاقته في رحلته بعدة سنوات عاش 36 يومًا في عزلة تامة في منزل قديم على جزيرة نائية، وخلال تلك الفترة، كان يتأمل بعمق، إلى أن واجه رؤيا غيّرت مساره، وتزامنت هذه اللحظة مع دوي الرعد وتسرّب المياه إلى المنزل، مما جعلها محطة فارقة في حياته، ويبرز العرض الثقافة الصينية، منها رمز "الثعبان" الدال على الحكمة والطبيعة البشرية، وهو أيضًا إشارة إلى المكر والعلاقات المتشابكة التي قد تكون حقيقية أو وهمية.
وقد مرّت كل هذه الفنون الأدائية عبر 7 مشاهد، المشهد الأول "انطلاق الرحلة"، وتلخّص في فكرة تحقيق البطل، هو محارب لذاته والبحث عن حقيقتها ومدى طاقاتها الكامنة، فيكتشف نفسه من خلال إطلاق الرحلة التي بدت ضعيفة ومنكسرة إلى نفس غاضبة تبعث في الناس الخوف، بل ويمتلك قدرة على الدخول في عقول الناس أثناء نومهم فيظهر في أحلامهم، أما المشهد الثاني، فيتركّز على دخول البطل في نفسه، ليسأل نفسه السؤال الفلسفي العميق "من أنا؟"، فيجد في داخله أناسًا كثيرة تشبهه بطباع مختلفة، فمن يكون هو الحقيقي! وفي المشهد الثالث المعنون بـ"جزّ العشب للعثور على الثعبان" ويتأكد المحارب أن من رآهم في ذاته هم جميعًا "هو" نفسه التي تظهر في الجسد الخارجي وفق المقتضيات والمواقف، هو الحليم، وهو الغاضب، وهو الطيب، وهو الشرير! بينما ينتقل في المشهد الرابع "مشهد عبور النهر" إلى مواجهة بين نفوسه المتعددة، ليجد نفسه في صراع لا ينتهي، فكل نفس تحاسب الأخرى، أما في المشهد الخامس "مشهد زئير الأسد"، يخرج المحارب من صراعه الداخلي إلى مواجهة الحياة، مستعينًا بجيشه الداخلي الذي وظّفه للتعامل مع الحياة بالشكل الصحيح والصائب، أما المشهد السادس "مشهد سيف الحكمة" فتتركّز فيه فنون الاستعراض، حيث يسير مجاميع العمل الفني بنغم واحد وأداء مبهر لم يعكره خطأ ولو كان بسيطًا، كل يسير في محور ثابت وقرع بصوت واحد على الطبول، وفي المشهد الأخير، يضع المحارب سيفه، في رسالة إلى انتهاء مهمة البحث عن الذات ورسالة يقول فيها: "إني أنا هذا، المتعدد في الطباع، والقوة، والإمكانات، وهي حقيقتي التي وجدتها في تلك الرحلة"، وعرض "سيف الحكمة" هو عرض مسرحي استثنائي يمزج بين فنون الدفاع عن النفس والدراما والموسيقى والرقص الإيقاعي، بفضل سنوات من التدريب المتقن، ويقدّم العرض تجربة فنية متكاملة، حيث أُضيفت الآلات الخشبية والمعدنية لتعزيز التنوع الموسيقي، كما أعطى دمج الطبول مع الرقص الاحتفالي نهجًا فريدًا لفن الأداء الإيقاعي، ويتجاوز العرض كونه مجرد استعراض، ليعبّر عن فلسفة عميقة تجمع بين الحركة والسكون، وبين القوة والمرونة، يحفّز المرء على استكشاف معاني الحياة بأسلوب إبداعي فريد.