قام أستاذ جامعي شاب يبلغ من العمر 36 عامًا يسمى "بول رومر" في أكتوبر من عام 1990 بنشر نموذج رياضي للنمو الاقتصادي في ورقة بحثية بدا عنوانها بسيطاً جداً ومخادعاً: "التغيير التكنولوجي الداخلي" وفاز بنوبل في ٢٠١٨. خلص رومر في ورقته البحثية أن يعرف العوامل التي تقود الأمم نحو الثراء. يقول رومر إن الأفكار والاكتشافات التكنولوجية هي المحركات الدافعة للنمو الاقتصادي.

فعلى عكس عوامل الإنتاج التقليدية – الأرض والآلات ورأس المال – التي تتميز بالندرة، نجد أن الأفكار والمعرفة تتميز بالوفرة، ولكن الأهم من ذلك هو أنها تبنى على بعضها البعض ومن الممكن أن يتم نسخها دون تكلفة أو بثمن بخس. بعبارة أخرى، الأفكار لا تخضع لقانون تناقص الغلة. وفي سعيه لتوضيح ذلك، كتب: "إن السمة المميزة للتكنولوجيا كأحد مدخلات الإنتاج هي أنها ليست سلعة تقليدية أو عامة وإنما سلعة غير تزاحمية (Non rival) وغير قابلة للاستبعاد جزئيا (Partially excludable). ويشرح أن السلع التزاحمية هي السلع التي يؤدي استهلاك أحد الأشخاص لها إلى تقليل المتاح منها للأخرين، وهذا ينطبق على كل السلع التي تستطيع أن تمسكها بيديك كالأجهزة الكهربائية والطعام وما إلى ذلك، في حين أن السلع غير التزاحمية هي تلك التي لا يقلل استهلاك أحد المستخدمين لها من المتاح منها للآخرين، وهذا ينطبق على كل أنواع المعرفة.

منذ انقلاب عبود، دخل السودان نفق الدائرة الشريرة ولم يخرج منه حتى الان. ورغم ان دول عديدة في العالم استطاعت النفاذ من عالم القطبين واستفادت منه للتقدم واستغلت القطب الواحد لتواصل تطورها والخروج من تصنيف الدول النامية (الهند وماليزيا وسنغافورة وفيتنام والبرازيل وغيرها)،

الا ان السودان لم يكن يقرأ كتاب الجيوبوليتيكا اصلاً، وليس في مخايل حكامه او مثقفيه. حتى نهاية القرن كان السودانيون اسرى الداخل سياسياً واجتماعياً واسري الدولارات النفطية خارجياً، مع انفتاح قليل على كليات الغرب ودول شرق اوربا. حتى معهد الدراسات الاسيوية الافريقية الذي من المفترض ان يعمل على جيوبوليتيك هذه المنطقة، كان منغلقاً على داخله وتناسى الغرض الاساسي.

يعجب المرء من قلة اشتغالنا بالجيوبوليتك على كافة المستويات وارجعها في الغالب لنشوء بنية عقلية النخبة من مفاهيم رسختها مجلة "السودان في مدونات ورسائل" وهي مغرقة في المحلية لاحتياجات المستعمر. الغريب ان السودان ومنذ السبعينات شغل اهتماماً دولياً وتدخلات وتدويل لقضاياه. وكانت هذه اول مرة ان الخارج في باب وطنك وانت غير مهتم به.

منذ منتصف التسعينات بدأ السودانيين الانفتاح على عالم مابعد الخليج وليبيا واليمن، ببدء الهجرات الى اوربا والولايات المتحدة واستراليا وغيرها واندماجهم في هذه المجتمعات، خاصة اجيالهم الجديدة. بدأنا نلحظ اهتماماً طفيفاً بالجيوبوليتيكا اخذ يتطور عبر السنوات. وجاءت الحرب وبدأنا نلحظ الاهتمام في بعض اطراف الساحات العامة السياسية والاجتماعية. وسوف نجد في المستقبل القريب ان العالم الذي نعرفه لم يعد هناك وان علينا ان نطالع مراحل نشوء الجيوبوليتيكا الجديدة لنكون جزءاً منه او خارجه. فكيف تبدو صورة جيوبوليتيا المستقبل سودانياً.

بدأت ملامح هذه الجيوبوليتيكا في حرب جنرالات السودان وانخراط القوى القديمة المتلاشية من الكيزان سدنة المشروع الحضاري، الذي تدهور بالوطن لقلة اشتغالهم بتغيرات الجيوبوليتيكا من حولهم في الثلاث عقود التي سيطروا فيها وتضعضع مشروع الامبراطورية العربية الاسلامية التي اودت بحياة رائدها القذافي وحامل لوائها آل دقلو ومنظريها السودانيين. فتوقعات انتهاء عصر النفط والتغيير في طرق التجارة (طريق الحرير الصيني عبر اسيا والباكستان وجنوب اوربا) وقرب انتهاء دور الخليج المالي والتجاري، وعمل مراكز خليجية على احتلال السودان بثرواته وموقعة كمدخل لافريقيا جنوب الصحراء، بإلإضافة لموارده المرغوبة اقليميا ودولياً هو احد اسباب التكالب عليه. وكان في القلب منه منع استمرار ثورته التي امتدت لاكثر من اربع سنوات وتجفيف منابعها حتى لاتصبح عدوى ونموذجاً للاقليم.

الجيوبوليتيكا القادمة تشمل ان يكون السودان على بعد كبير من تطور العلم والتطور. لكن يمكن اذا بدأنا منذ الان في انشاء مؤسسات الابحاث والتطوير في جميع المجالات مستفيدين من علمائنا في كافة ارجاء الارض، ودخول عالم التكنولوجيات كما فعلت الهند عبر رؤية واضحة التزمت بها.

نبدأ من حيث يقف العالم الان، وننشيء مركز السودان للتكنلوجيا من الفتات كما فعلت تايوان في انشاء شركة تايوان لاشباه الموصلات، وكما فعلت الهند في تحويل البلد لمركز القيادة في البرمجيات. وبدلا من غرق علمائنا وعقولنا، في الداخل والخارج في مراكز العلم، في امور السياسة والحكم والمنازعات في المبادرات والطنين ومباريات ال show، ليتفرغوا للوطن لتحويله في الربع القرن الحالي الى واحة للعلم والتقدم ونخرج من جيوبوليتيكا بعانخي والسلطنة الزرقاء لافاق جديدة.

حتى تتمكن بلادنا من الدخول في الجيوبوليتيكا الجديدة، علينا انجاز قضايا تنتمي للقرن السابق من اعادة بناء الدولة بكامل مؤسساتها، خاصة اعادة بناء جيش وطني محترف وحديث ملتزم بعقيدته الوطنية وخارج السياسة والمدن، والوصول لصيغة مناسبة من نظام الحكم المبني على سلطة الشعب، وحياة حزبية برنامجية مستقرة ونظام تعليمي تتم مراجعته لغرس السلوكيات الاخلاقية والوطنية والكفاءة وغيرها. اذا لم نستوعب هذا التغير في عوامل صياغة جيوبوليتيك بقية القرن الحالي عالمياً واقليمياً ومحلياً واستعدينا لها بشكل ملائم ونقرأ تاريخنا ونفهمه، ولا نكرر اخطائه، فسوف نجد انفسنا نكررها وندخل الزمن الجديد كما فعلنا من قبل.

السودان لديه دول جوار في الغرب والشرق والجنوب غنية الموارد وشعوب فقيرة مثله تماما. يمكن ان يقود السودان حركة تغيير افريقية شاملة بدلا من التخبط في الدائرة الشريرة ،التي خبرنا هباءها ودمرنا الوطن، وتحويلها لقوة ضاربة من المدنية والديمقراطية وايقاف مهاجع الفساد ومواجهتها وكسر شوكتها، والمنتشرة في مجمل بلادنا والبلاد المحيطة بنا، وتحويل موقعنا الجيوبوليتيكي من مركز للهجرة والوصول للارض والمياه واستغلال شهامة وكرم السكان الى دافع لبناء كافة الدول بالتعاون المثمر والخالي من الفساد وغسيل الاموال.

السودان بوضعه الجيوبوليتيكي يجاوره دول ضخمة الكثافة السكانية (مصر واثيوبيا) تتعاظم احتياجاتها الغذائية في ظل ضغوط كبيرة من مراكز السلطة والمال الدولية، في حين تتمتع بلادنا بوفرة الارض والمياه والبيئة الملائمة وقليل صناعات. علينا ان نبحث معاً عن اسس جديدة من الندية السياسية، عدم التدخلات والتحول الى لغة المصالح المشتركة، للتوصل لشراكات حقيقية تضبطها اتفاقيات ولخير الجميع وارضاء المصالح المشتركة. بدلاً من الحديث النظري يمكن ان تكون هذه مثالاً ونموذجاً عملياً في تطوير وحدة افريقيا تفتح الطريق لتكوين تجمع اقتصادي اجتماعي مثل الاسيان والوحدة الاوربية وغيرها.  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

مجلس الأمن يعقد جلسات عن سوريا وغزة وليبيا والسودان خلال الأسبوع الجاري

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يعقد مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، على مدى الأسبوع الجاري، العديد من الجلسات المغلقة والمفتوحة، إزاء حالة الاضطراب التي تشهدها ملفات المنطقة، من سوريا إلى فلسطين وليبيا والسودان.

ويشهد مجلس الأمن، اليوم الاثنين، جلسة إحاطة نصف شهرية عن الحالة في ليبيا، ومن المتوقع أن تقدم ستيفاني كوري، نائبة الممثل الخاص والموظف السياسي المسؤول عن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وممثلة المجتمع المدني، إحاطة إعلامية.

وذكر بيان صادر عن مجلس الأمن أنه من المتوقع أن يقدم رئيس لجنة الجزاءات المفروضة على ليبيا، السفير كازويوكي يامازاكي (اليابان)، إحاطة عن أنشطة اللجنة، ومن المقرر أن تعقب جلسة الإحاطة المفتوحة مشاورات مغلقة.

وفي غضون ذلك، يعقد مجلس الأمن، اليوم، إحاطة عن الحالة الإنسانية في أوكرانيا، طلبتها إكوادور وفرنسا، ويقدم الإحاطة مديرة شعبة التمويل والشراكات التابعة لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، ليزا دوتين.

ويعقد مجلس الأمن، يوم غدٍ الثلاثاء، إحاطة ومشاورات بشأن التطورات السياسية والإنسانية في سوريا، ومن المتوقع أن يقدم المبعوث الخاص لسوريا، جير بيدرسن، ووكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، توماس فليتشر، واثنان من ممثلي المجتمع المدني، إحاطة إعلامية.

كما يشهد المجلس، يوم غدٍ، تقديم إحاطة من وكيلة الأمين العام للشؤون السياسية وبناء السلام، روزماري ديكارلو، بشأن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، الذي أيد خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن برنامج إيران النووي في عام 2015، ومن المتوقع أن تقدم السفيرة فانيسا فرايزر (مالطا)، ميسرة المجلس، تقريرًا عن أعمال المجلس، ومن المتوقع أيضًا أن يقدم رئيس وفد الاتحاد الأوروبي لدى الأمم المتحدة، السفير ستافروس لامبرينيديس، إحاطة بصفته منسق اللجنة المشتركة، التي أنشأتها أطراف خطة العمل الشاملة المشتركة للإشراف على تنفيذها.

ويشهد مجلس الأمن، يوم الأربعاء، إحاطة ومشاورات شهرية بشأن "الحالة في الشرق الأوسط، بما في ذلك قضية فلسطين"، ومن المقرر أن تقدم فيها روزماري ديكارلو، وكيلة الأمين العام للشؤون السياسية وبناء السلام، وممثلة المجتمع المدني، إحاطة.

ويعقد مجلس الأمن، يوم الخميس، إحاطة على المستوى الوزاري بشأن السودان، ستركز على المسائل الإنسانية، ومن المتوقع أن يرأس وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، الاجتماع، الذي من المقرر أن يقدم فيه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، أو وكيله المعين ووكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، توماس فليتشر، إحاطة، ويجوز أيضًا لممثل واحد أو أكثر من ممثلي المجتمع المدني تقديم إحاطات.

ويعقد مجلس الأمن، يوم الجمعة، التصويت على مشروعي قرارين: أحدهما يجدد ولاية قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، والآخر يجدد ولاية بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

كما يشهد المجلس جلسة إحاطة بشأن غرب إفريقيا ومنطقة الساحل، ومن المتوقع أن يقدم الممثل الخاص ورئيس مكتب الأمم المتحدة لغرب إفريقيا والساحل، ليوناردو سانتوس سيماو، وممثل المجتمع المدني، إحاطة، ومن المقرر أن تعقب جلسة الإحاطة المفتوحة مشاورات مغلقة.

ويعقد مجلس الأمن جلسة إحاطة في إطار بند جدول الأعمال المعنون "الأخطار التي تهدد السلام والأمن الدوليين"، وطلبت روسيا مناقشة إمداد أوكرانيا بالأسلحة الغربية، ومن المقرر أن تترأس السفيرة ليندا توماس جرينفيلد (الولايات المتحدة)، رئيسة المجلس لشهر ديسمبر، جلسة اختتام لأنشطة الشهر لعضوية الأمم المتحدة الأوسع.

مقالات مشابهة

  • الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء: القرن الحادي والعشرين فرصة لفهم الإسلام الصحيح
  • 21 سبتمبر.. امتحانات تحديد المستوى للطلاب العائدين من روسيا وأوكرانيا والسودان
  • مجلس الأمن يعقد جلسات عن سوريا وغزة وليبيا والسودان خلال الأسبوع الجاري
  • متحدث الدفاع المدني في غزة: المجازرُ التي ارتكبها الكيانُ الصهيونيُّ في غزةَ لم يحدُثْ مثلُها في القرن الـ 21
  • التعليم تصدر إعلاناً مهماً لطلبة الصف الحادي عشر في غزة - امتحان الاستكمال
  • عالم مصري يشغل الإنترنت.. اقترح حلاً فعالاً لسد النهضة
  • تامر أمين: الأوضاع في سوريا والسودان تتطلب تضافر الجهود لدعم الشعبين
  • إعلان توصيات المؤتمر الأدبي الرابع والعشرين لإقليم القاهرة الكبرى
  • شاهد بالفيديو.. بروفيسور ومؤرخ سوداني يفجر المفاجأت: البئر التي رمي فيها سيدنا يوسف موجودة بالسودان ووالده سيدنا يعقوب كان يقيم في جبل مرة بدارفور ورحل إلى مصر بعد الواقعة
  • أردوغان يعلن استعداده للوساطة لحل الخلاف بين الإمارات والسودان خلال اتصال مع البرهان