مسقط-أثير
د. رائدة العامري- أكاديمية عراقية

لكل امرأةٍ مظلومة حكايةٌ بدأت كآخر أمل وتحولت إلى نداء بصمت صارخ وتساؤلات ممزوجة بالألم والغضب واليأس. نداءات استقرت بقراءة نقدية لقصيدة : (نداء من امرأة مظلومة) للشاعر كريم العراقي..


نص شعري في تركيب أسلوبه يجمع العديد من الرموز والمعاني العميقة. خطاب استنطاق الذات على الآخر في دوامة النداء.


نداء استغاثة من صوت الصمت يستغيث في متاهات المسكوت عنه للبوح عن عدالة الذات والمشاعر والعواطف الداخلية للمرأة المظلومة، ويلقى الضوء على النص ليعكس قوته وإصراره على مواجهة الظلم بصرختها وندائها للعدالة والمساواة.
يوظف العنوان قيمتي “النداء” و “المظلومة”، كلمات ذات دلالة قوية تشير بشكل تشويقي لجلب انتباه المتلقي وفهم القضية التي تتناولها، وذلك في إيصال رسالة العدالة والتضامن مع المرأة المظلومة.
إذ يقول:
يا صاحبَ الخطأ الكبيرْ
رفقاً بقلبٍ من حريرْ
يا أعرفَ الناسِ بها.. وبما يدور بقلبها
نداء عاطفي يبدأ من المرأة/ الآخر إلى صاحب الظل المظلم يعصف بالجرح المستتر صاحب الخطأ الكبير رفقا بقلب من حرير كعصفور يحمل الأحاسيس المتقاطرة ويختنق في صمت الوهم ليراقب همس الكلمات ويعانق المستحيل… تشبيها يعكس عمق الألم في إيصال رسالة للآخر وأدرك حجم الخطأ والألم الذي يتقاطر بالأسى لحقوق محطمة معاشة ولا سيما فهم ذاتها بإنسانية وعدالة مشيرة إلى هشاشة قلبها وحاجتها للرقة والرعاية.
رموز متسربة لفك شفرات القصيدة ولاستخلاص المعنى الخفي بالإحساس العميق أدركاً حقيقيا للعواطف المكتومة التي تنبض بالأمل والألم المكبوت، تعكس المشاعر والتضاريس الداخلية لتوجه رسالة إلى المتلقي وذلك لفهم النسق الخفي والمكبوت الكامن في الذات يحفز النظر بعمق ورقة إلى تلك الأحاسيس.
مَرضَتْ تُريدك قربها.. بك لا بغيركَ تستجيرْ
أتنام ليلكَ هانئاً.. ودموعُ عينيها سعيرْ؟
ضاقت بها أيامها.. وترادفتْ سودُ الظروفْ
وتكسّرت آهاتها في صدرها مثلَ السيوف
يسهم النص في إثراء المعنى وإيصال المشاعر بشكل أعمق وأكثر تجسيدا إذ يستخدم اللغة بشكل مجازي للتعبير عن المشاعر والأفكار بأسلوب غني ومثير فتظهر الرمزية في النص ليعرض الشاعر حالة انحباس واحتياج ملح في توجه لحظة الاقتراب من الحبيب ذلك الملاذ الوحيد للقوة والأمان في الألم والوجع من خلال توظيف ثيمة (مرضت) التي ترمز إلى الشغف العميق لشفرة العشق وشغف الشاعر للحبيبة، وللإحساس بالأمان بعد الضيق والتعب الذي يعاني منه الشاعر من جانب، ورمز إلى الشوق العميق والحاجة الماسة للحب والوجود المستدام للحبيب من جانب آخر.
لا سيما يرافقها رمز التناقض والتضاد لحالات السعادة والحزن/ النفسية والعاطفية. حيث يشير إلى لحظات السعادة والهناء التي يعيشها الشاعر طول ليلته، فضلا عن المشاعر المتناقضة للألم العميق مع دموع الحبيبة المشتعلة… صور مكتنزة تكونت وتراكمت حولها.
لاسيما يسلط الشاعر الضوء على صورة مترادفة ترمز إلى الأوجاع ذات الارتباط الشديد برمزية سواد الظروف ايقونة للأوضاع الصعبة وظروف الحياة القاسية التي تتكدس حولها… من عزلة وصمت، مما يعزز الفكرة والحالة المؤلمة التي تمر بها.
توظيف عميق يسهم في إيصال المشاعر وإبراز الواقع القاسي بثنائية رمزية لنقل المعاني والأفكار بشكل مجازي وغير مباشر وذلك في إيصال المعنى والرسالة الشعورية بأسلوب شاعري مجازي في خلق تأثير عاطفي وجمالي يضفي على النص الشعور بالغموض والقوة الشعرية. التي تسهم في إيصال الأفكار بشكل فني وجمالي، وتخلق تأثيرا عاطفيا لدى المتلقي.
وتكسّرت آهاتها في صدرها مثلَ السيوف
لو في غيابك يسألون.. تطريك بالصوتِ الحنون
توصيف يقارن تصويرا لآهات شفرات تندب مؤلمة وحادة ــ آهاتها ــ التي تكسرت في صدرها فيبرز الألم الشديد والحزن العميق الذي يختلج صوتها المكسور كالعزف على أوتار الحنين المتسلسل في صدرها لعلها ترضي العاطفة المشتاقة التي تحولت إلى جروح مؤلمة تشبه نفوذ السيوف، فضلا عن إضافة دلالة القوة والحدة العاطفية لمشاعر الشاعر جمال وعمق تحمل تأثيرها العاطفي للنص،إذ يتم وصفها للسيوف التي تتكسر في آهات الذات لتعبير عن حدة الألم الذي تشعر به. فتتناغم السيوف مع الصدر لإظهار كيف أن الألم يؤثر بشكل مباشر على قلبها وروحها.
يتحلى توظيف السؤال بأسلوب رموز مجازية للحضور والغياب ــ لو في غيابك يسألون ــ لإعطاء عمق إضافي وذلك من خلال معنى متعدد الأبعاد. وذلك من خلال استخدام الفعل “يسألون” للدلالة على الاشتياق والحاجة لوجود الشخص الحبيب. لاسيما إبراز الشوق والحنين الشديدين التي تشعر بهما الذات/ الآخر لحبيبها، والسماع لهمس الصوت بوضوح، فيعكس انتظار شدة الحاجة الوجود. فضلا عن تعزز تأثير العمق العاطفي في وجود الآخر القريب البعيد. لمنح النص طابع تأويل الغياب/ الفقد العاطفي العميق لأظهار شدة الألم والاشتياق المتواجدة في النص بشكل فعال للمتلقي، إذ يثري تفسير النص بمعان غير مباشرة ذات طابع مجاز ومعنوي أعمق، ومستوحى من الصور البصرية، التي تعزيز التأثير الجمالي ونقل العاطفة والتأثير المباشر للمتلقي بشكل أكبر.
تكتسب الأبيات الشعرية دلالة قوية وعاطفية. إذ تصف الآخر بحالة الألم والحزن التي تشعر بها الشخصية النسائية في القصيدة بدلالة وصف آهاتها التي تنكسر في صدرها مثل السيوف، مما يعكس حدة الألم الذي تعان منه. كما يوضح السؤال الموجه إليها في حال غياب الحبيب، حاجتها الشديدة إلى صوته الحنون، مما يعبر عن الشوق والحنين. يتم من خلال التعبير عن العواطف القوية والرغبة الشديدة في التواجد مع الحبيب.
ما زال في عينيّ طفلاً.. والأمُّ تغفرُ للصغيرْ
وطنٌ لها آهاتها.. ووحيدةٌ بين الذئابْ
وقويةٌ لكنما.. كم مهجةً سحقَ العذابْ
أعطتْ مثالاً للإباءْ.. غلبت عليها الكبرياءْ
مظلومةٌ مهمومةٌ والظلمُ ظلمكَ يا أميرْ
يجسد النص المعاني العميقة بشكل بصري من خلال إثارة التأمل واستدعاء المشاعر والأحاسيس وتوجيه الأفكار بعمق المعنى والتعبير، رسائل تترك أثرا قويا للمتلقي. لتعطي النص طابع مزيج من الغضب والتحدي.
إذ وظف الشاعر الصورة البصرية ليصف المظهر الجسدي وذلك ليحتفظ بروح الطفولة كصورة تعطي إحساسا بالبراءة والعذوبة التي ما تزال موجودة في داخلها، ولا سيما يعكس الحنان والرعاية التي تقدمها الأم إلى أطفالها على الرغم من وجود القهر والظلم الذي تتعرض لها الذات/ الآخر.
تتواجد أيضا صورة أخرى للأم في النص، من خلال تسلط الضوء على قوتها وشجاعتها وقدرتها على المواجهة بمفردها في وجه الصعاب والتحديات. وإظهار القوة والصلابة الداخلية للأم في مواجهة الصعاب والتحديات الحياتية المستمرة، فتشعر الأم بالوحدة بين الذئاب، “ووحيدة بين الذئاب” صورة بصرية وتشبيه يعبر عن الوحدة والعزلة التي يشعر بها الشاعر والأم في هذا العالم المليء بالتحديات والصعوبات.
تجسيد لإيصال الشعور بالألم والمحنة كمهجة تطحن العذاب لتبرز القوة الداخلية للأم وقدرتها على مواجهة الصعاب والمعاناة التي تنال منها. “كمْ مهجة سحق العذاب” شفرة رمزية إلى العالم القاسي والاختبارات الصعبة التي تواجهها الأم وحدها، لا يزال لديها رغبة العودة والأمان في وطنها… فالوطن رمز إلى الانتماء يعكس مشاعر الحب كإحساس بقوة وصمود الأم أمام الصعاب والالتزام تجاهها فضلا عن استلاب الهوية وتعزيز فكرة الظلم الذي يواجهها وتحديها في حياتها.
النص يحمل الصور البصرية بين القوة والوحدة والظلم والمعاناة، وصبر وإباء الأم التي تتجاوز كل الصعاب وتبقى واقفة رغم الظروف الصعبة والظلم الواقع عليها للتعبير عن صعوبة حياة الأم ومعاناتها النفسية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه تبرز قوتها وصمودها في مواجهة التحديات التي تعاني منها الأم في مجتمع قاس ولا يدعمها في معاناتها. فيعكس السعي للبقاء والتأقلم في بيئة ضعيفة وعدم وجود دعم ومساندة من الجميع
يتحلى النص بأفكار ومشاعر عميقة ومعقدة بطريقة مشوقة وجمالية بالكبرياء يرمز إلى القوة والصمود والشموخ القوة والكبرياء كرمز القوة النفسية والعقلية للتغلب على المحن والصعوبات. فقوة الأم وكبريائها الذي يمكنها من التغلب على الصعاب والمحن على الرغم من ذلك تظل الأم يافعة ومهمومة في أعين الشاعر، على الرغم من المحن والصعوبات التي مرت بها الأم، فإنها لم تستسلم للعذاب وظلم الظروف إذ استطاعت أن تظهر قوتها ومثابرتها إذ- أعطت مثالا للإباء ــ إشارة إلى الشجاعة والقوة التي تتحلى بها الأم في مواجهة التحديات، وتتجاوز التحديات وتثبت هويتها وكيانها رغم الظروف الصعبة. وتعبر عن تفوقها على المشاعر الضعيفة والهزيمة. تعكس استمرار الأم في صمودها وتصميمها على التغلب على الصعاب، تعبر عن قوة الإرادة والتصميم التي تمتلكها الأم، وعن كبريائها الذي ينهض رغم المحن التي تواجهها. لغة مجازية بارعة تبوح بمظلومة مهمومة والظلم ظلمك يا أمير، وتؤكد استمرار تحملها للهموم والظلم المباشر، مع الأمل في أن يأتي يوم من العدل والتحرر.
وهي التي خطفتكَ من حدبِ الهموم
حملتك من بئرِ الأسى نحو النجوم
إبك اعتذاراً يا ملولْ.. كي تسعد الوجه الخجولْ
وأسرع كطيرٍ خائفٍ.. هذا النداءُ هو الأخيرْ
يوحي النص إلى لحظة تحول حاسمة في حياة الآخر إذ يستخدم الشاعر التوظيف الدلالي بالانتقال من حالة الحزن إلى حالة السعادة والأمل. من خلال الكلمات “خطفتك، وحملتك” إشارة إلى القوة والقدرة التي تشعر بها الذات التي تمكنت من إيقاع الهموم والأعباء التي تحاصر الآخر، لتعكس تحرر الشاعر من الأحزان والمتاعب والتطلع للمستقبل القريب.
نص يوحي بانسنة الأشياء بين ذات الآخر والطير كخطاب بنداء أخير “أسرع” مع صورة مجازية للخوف وحركة مفاجئة تشبه حركة الطير المذعور. ينم عن ضرورة الاستجابة من خلال التبادر بالتسامح وتقديم الاعتذار وانتزاع الحزن من الذات المكبوتة التي تأمل بالتعويض، بهدف إدخال السعادة والبهجة في وجه الآخر الخجول الذي فقد طاقته وحيويته. كي تعزز الرغبة في التغيير والتقدم والشعور بالأمل والتحفيز. صور بصرية تعزز الرؤية والمشاعر بشكل أكثر قوة وإثارة التي يحاول الشاعر إيصالها المتلقي في مواجهة التحديات والتغلب على المخاوف والتألق كالنجوم.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: فی مواجهة فی إیصال فی صدرها الأم فی من خلال فضلا عن

إقرأ أيضاً:

لحظات فاصلة في تجديد الخطاب الديني.. مشاتل التغيير (15)

تكشف متابعة "الخطاب الديني" عبر قرنين، في الأمة العربية والإسلامية عامة، عن عدد من المحدِّدات أو العوامل التي أسهمت في كل مرة -بدرجات متفاوتة- في منح هذا الخطاب خصائصه وشاكلته التي تبدّى عليها، ويمكننا من متابعة هذا التطور اكتشافُ بعض نقاطٍ فاصلة واصلة؛ نقاطِ جدال ثقافي وسجال فكري، تبلورت فيها ألوانُ الخطاب الديني: مرجعياته ومنطلقاته، ومنهجيات احتجاجه وآليات منازعته، وقابلياته ومكناته.. الأمر الذي يمكن ترتيبه حسب معيارين: أحدهما يتعلق بمجال الخطاب؛ وهو القضايا محل السجال ومحل إنتاج الخطاب وإعادة إنتاجه، والآخر يتعلق بالتطور التاريخي الواصل؛ وهو التطور التاريخي ومحطاته المتكررة أو المتجددة. ويمكن تبيُّن ثلاثة أنماط من اللحظات التاريخية الموضوعية في هذا الصدد:

- اللحظات الفارقة: وهي التي تمثل العُقد الأساسية في تطور قرنين من الزمان، واللذين يبدآن بلحظة فارقة مهمة تتمثل في الحملة الفرنسية على مصر والشام؛ يتوالى على إثرها عدد آخر من اللحظات الفرقانية التي تفرق بين ماضٍ وآتٍ، وبين موروث ووافد، وبين مقاوم ممانع من جهة ومساير متابع من جهة أخرى، ولعل أهمها اللحظة التحديثية، ولحظة الحملة الإنجليزية، واللحظة التغريبية في منعطف القرن العشرين، ولحظات الاستقلال المنقوص والقاصر للدولة العربية التي نشأت مشوهة ومشوشة، حتى لحظة الحملة الأمريكية مجددا التي تجلت في مواقف عدة؛ أعلاها اللحظة النماذجية التي يمثلها ترامب وسياساته.

اللحظة الفارقة تحث الذهن على أن يفرق ولا يغرق ولا تلتبس عليه الأمور؛ أن يقوم بعملية فرقان؛ كحالة من البيان الحق الواضح بلا اشتباه، لحظة فرقان تؤدي إلى فائدة وعي "الكيان"؛ الوعي بالذات وبحال الوهن والضعف المستولي عليها، والوعي بالمكنات والإمكانيات التي تقدمها الذات الحضارية لإعادة مياه الحياة إلى مجاريها (اللحظة النابليونية). إن اللحظة الفارقة تولد مفارقاتٍ وتصنع مفارق طرق رئيسة.

متابعة تطور وتجدد الخطاب الديني هو عبرة القرنين وخبرة التفارق والتدافع بين مشروعات العلمانيين ومشروعات الإسلاميين باسم التجديد.. ذلك في إطار عملية "تجديد الأمة" لا مجرد "تجديد الخطاب الديني" فقط على نحو ما يراد لنا ضمن الحملة الأمريكية الراهنة على الأمة، فلا بد من السؤال الصحيح قبل الجواب الصحيح.. لا بد من الخطاب الذي يحقق الوعي بالحقائق: يحقق ميلاد مجتمع يتواصل مع أصول وسنن أمة السفينة وسفينة الأمة
- اللحظات الكاشفة: وهي اللحظات الكاشفة لطبيعة القضية نفسها داخل التطور الزمني والموضوعي للخطاب، يتم فيها تتبع التطور أو التجديد في الخطاب والفكر والأداء داخل القضية الواحدة، أثناء اللحظات الفارقة وفيما بينها. فليس معنى "التطور" أن نتمادى وراء المتابعة الزمنية للقضية، ولكن ينبغي أن نقف أيضا عند لحظات كاشفة تتميز فيها الخطوط الفكرية والتوجهات التجديدية بقدرٍ قلما يتكشف في التطور التالي بعد تلك اللحظات الكاشفة. وبالطبع، يستحيل في حدود هذا المقام المضيّق أن نستقصي كل هذه اللحظات؛ والنسب في هذا المقام الوقوف عند بعض اللحظات الأكثر "كشفا".

- اللحظة المقوّمة: وهي اللحظة التي تتبدى فيها استجابات الخطاب النابع المعبِّر عن الذات تجاه الخطاب المقتحم، وتجاه الخطاب التابع، وهي لحظة تدخلنا في ثلاث قضايا مهمة أو ثلاثة أنماط أطرا لمواجهة الخطاب التغريبـي:

أ- الأطر الناقدة للأفكارِ التابعة الوافدة من نسق معرفي وافد: تعيب غيرها ولا تبني نفسها.

ب- الأطر الدفاعية المقتصرة على الدفاع عن الرؤية التجديدية الذاتية ولا تنتج تجديدا.

ج- الأطر البنائية للرؤية الإسلامية التجديدية، أو على الأقل الأطر البيانية المبيِّنة لهذه الرؤية (الرؤية البيانية البانية).

والمقصود في هذا المقام أساسا هي الرؤية البنائية، والتي في إطارها فقط يمكن قبول الرؤيتين "الناقدة" و"الدفاعية" إذا عملتا في الإطار البنائي، ولا يمكن قبول الرؤيتين الأخيرتين أو الاكتفاء بهما إلا في ظل هذه الرؤية البنائية، أو على الأقل في إطار عملية البيان. إن هذه اللحظات -خاصة المقوِّمة- تمثل الأعمدة لبناء سقف التجديد في الخطاب وتوجهاته، التي تمكننا من أن نستخلص مجموعة "السنن الحاكمة/القوانين المسيِّرة" للخطاب الديني وعمليات تجديده، حيث تتوفر ثلاثة مستويات أو خرائط في هذا الصدد:

أ- خريطة رصد الاتجاهات العامة التي تتفارق وتتفتق عنها اللحظات الفارقة الكبرى.

ب- خريطة الاتجاهات لكل قضية، والتي تكشف فيها درجات تمثل كل اتجاه لمقولاته ومبادئه وحفاظه عليها وسعيه لتفعيلها وإقرارها.

ج- الخريطة المتشابكة الجامعة للقضايا وللتوجهات حولها (الخريطة الشبكية، شبكة الخطاب).

وفي مسار البحث البصير عن الأطر البنائية والبيانية، يلاحظ أنه كانت هناك محاولات لإبرازها عبر الأزمات التي مر بها الخطاب الديني.. لكنها لم تكن بالمستوى الذي يسمح لها أن تُحدث حالة من حالات التكافؤ مع الأزمة.. هذه المحاولات قد تُحدث نوعا من الوعي، ولكنه محدود.. وقد تُحدث نوعا من السعي؛ لكنه مؤقت..

لقد أبرزت اللحظات الفارقة افتراقا بين توجهين أساسين تجاه القضايا والأزمات المختلفة التي عبر عنها تطور الخطاب الديني في الأمة عبر قرنين:

- التوجه العلماني التغريبي الحداثي: بين الإدبار عن الذات والبحث عنها في الآخر.

- التوجه الديني الإسلامي التأصيلي: أزمة المسلمين، والتجديد القاصر والقصير والمقصور.

هذه هي الإشكالية التي لا تريد أن تنفضَّ حتى الآن لغلبة الجانب النقدي أو الدفاعي على حساب الجانب البياني والبنائي في الرؤية التجديدية الإسلامية وخطابها.

من هنا نأتي إلى السؤال الشامل للأطر الثلاثة (البنائي/ الدفاعي/ النقدي) وهو: على أي أرض نقف: تجديد الخطاب الديني، مفرق الطرق يعود مع الحملة الأمريكية المستجدة؟

إن متابعة تطور وتجدد الخطاب الديني هو عبرة القرنين وخبرة التفارق والتدافع بين مشروعات العلمانيين ومشروعات الإسلاميين باسم التجديد.. ذلك في إطار عملية "تجديد الأمة" لا مجرد "تجديد الخطاب الديني" فقط على نحو ما يراد لنا ضمن الحملة الأمريكية الراهنة على الأمة، فلا بد من السؤال الصحيح قبل الجواب الصحيح.. لا بد من الخطاب الذي يحقق الوعي بالحقائق: يحقق ميلاد مجتمع يتواصل مع أصول وسنن أمة السفينة وسفينة الأمة.. إن تجزيء المسألة بالوقوف عند الخطاب دون الأمة، وبالوقوف عند القضايا فرادى يتامى لا رحم لها ولا أم ولا أمة، إنما هو خضوع للمعايير الأمريكية.

دراسة الخطاب الديني وتجديده والتي تفتتح متابعتها بدءا من الحملة الفرنسية، وتتوسط سبيلها حملة إنجليزية، تنتهي بالحملة الأمريكية مجددا: مفترق طرق وافتراق في الأدوات والأساليب.. ومن هنا نتساءل:

هل سنجدد الخطاب الديني تحت أزيز الطائرات الأمريكية والحضور العسكري اللافت؟ ومن سيجدده: هل هم هؤلاء الذين يتواردون الواحد تلو الآخر على "المذبح الأمريكي" أو ينبطحون في معيته وأمام سياساته؟

إن الأمر في حقيقته لا يمكن إلا أن يستحث الوعي والسعي لاستحداث خطاب ديني يقوم على قاعدة من الممانعة والمواجهة والمقاومة، وهكذا يكون الخطاب الديني لأمة المسلمين. إن خطاب الإقصاء أو الإخصاء أو "الإسلام منزوع الفتيل" لم يعد له مكان داخل سياج جوانتانامو الكونية الأمريكية.. فإن ذلك مما لا يعد تجديدا، بل تبديدا ونكوصا؛ فننتقل بذلك من خطاب إحياء الأمة وبعثها إلى خطاب تهدئة الخواطر وتهرئة الخمائر أو تهيئة الأرضية لاستقبال القادم، فإنه قد يتبدى أن من الواجب علميا وعمليا التركيز على عدد من الأسئلة:

- ما دور السياق الإقليمي والعالمي ووعي المفكرين المسلمين به، في تحديد خصائص خطابهم الديني، وفي تطورات سجالات تياراتهم حول تجديد الفكر أو إصلاحه؟

- ما هي أنماط هذه السياقات؟ وأنماط الاستجابة لها عبر هذين القرنين؟ بمعنى كيف كان للاقتراب الغربي المطّرد -عبر القرنين- من عالم المسلمين: من الالتفاف إلى الاحتلال، آثاره في خصائص هذا الخطاب وسجالاته؟ وكيف كان للاقتراب المصري كذلك من الغرب: انتباها (الحملة الفرنسية)، ثم مشاهدة (البعثات) ثم التقاء واصطداما (الموجة الاستخرابية) آثارها ومآلاتها؟

- ما أهم القضايا التي أثيرت ضمن "الخطاب الديني" عبر القرن؟ وما المرجعيات التي تساجلت حولها؟ وما مناهج إنتاج الخطاب في كل مرجعية؟ وكيف تطورت كل هذه المحددات للخطاب؟

هذه أسئلة رئيسية دونها أسئلة كثيرة، لكن ما ينبغي التوكيدُ عليه هو أن المناط التاريخي والموضوعي الجامع والمعلِّل للتطور الذي حاق بالمسألة التجديدية عامة وبالتجديد في الخطاب الديني بخاصة، هو أن هذا التجديد جاء متأثرا بالاحتكاك الحضاري الذي وقع بين عالم المسلمين والغرب؛ حيث صار ثمة تحدٍّ حضاريُُّ مفروض وماثل للعيان ومتصاعد الوطأة مع الزمن، خاصة أن هذا الالتقاء جاء على حينِ انكسارة وترهل في الذات الحضارية، لم تكن عناصر التجدد الذاتي تعمل بنفس كفاءتها المعتادة، كانت مفاتيح التجدد والمواجهة قد علاها صدأٌ ثقيل، وخصائص الذات غير متميزة بوضوح، اللهم إلا عند نفر قليل عزَّ ظهورهم، وكُبّل سعيهم بوطأة الحال وتفشي الوهن في القوم وسراتهم.

لقد كان سبيل التجديد بين خيارين:

- إما الالتفات إلى الذات وأمرها، وفق قواعد التجدد الذاتي الحضاري الإسلامي؛ بالتفتيش عن مصادر الوهن، وتلمس مفاتيح التجدد النابع، فيكون الصحو من الغفلة، والنهوض من الرقدة، والمضي قدما في سبل الكرامة والتقدم بعد المكوث في الذيل والذل.

- وإما الالتفات بانبهار ووله وولع إلى الآخر بمنطق المغلوبية والولع بالغالب (وفق السُّنة التي كشف عنها ابن خلدون)، وإدارة الظهر للذات وأمارات العزة والاعتزاز فيها، فيكون التغرب والتغريب، والغرق في الآخر والتبعية له.

إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين
إن ناظم المسألة ومناطها هو الوعي بـ"عناصر التجدد الحضاري الذاتي"، والسعي بها في البحث عن مخرج من المأزق الحضاري الذي فرضه الاحتكاك بالآخر. إن جوهر الأزمة -كما كشف عنه مسار التجديد عبر قرنين- تمركز في "مناهج التفكير ومناهج التدبير ومناهج التغيير"، وأن بعض الذين أبدوا استعدادا لتلمس هذه المناهج والعناصر التجديدية قدموا جهودهم ومحاولاتهم؛ إما على نحو "لا يكفي" وإما على نحو "لا يكافئ" المستويات التي كانت أزمة الأمة قد بلغتها.

من هنا يمكن تضمين قضايا القرنين -بل كذلك القضايا التي ستجدُّ من بعد- في هذا الإطار: ضرورة وضوح رؤية إسلامية (حضارية ذاتية) شاملة لعناصر التجدُّد الحضاري الذاتي ومرجعيته والسنن الحاكمة له، وضرورة الجمع بين الوعي العميق بها، والسعي سعيا غير قاصر ولا جزئيا ولا ذا علة بما يتبدى في البنية التقويمية للخطاب الديني وأطره. إننا بهذا نقف بين تجديد حقيقي قوامه الذات الحضارية ومكنات التجدد فيها، وتجديد زائف على قاعدة من استبدال الأسس الحضارية للأمة، والرضاء بموقف الذيلية تجاه الآخر (الغرب).

التجديد النابع لم يكمل متسلسلة أسئلته من جهة، ولم يواجه واقعه بالوسائل المكافئة من جهة أخرى، فظل يتعامل مع القضايا إما تجزيئيا أو كردِّ فعل، ولم يلتفت إلى أن فضيلة المنظومة الإسلامية الأساس إنما هي في منظوميتها ووحدتها كنسيج لا ينقض غزله وهو على حاله؛ ومن ثم لم يكن ممكنا تناول القضايا المنبثقة عبر المسير بعيدا عن نسيجها الحضاري المتماسك. هذا الإغفال -أو هذه الغفلة- كان مجالا للخطاب التابع ليعيد تسكين القضايا في أطر الآخر وبعيدا عن الذات.

إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين.

لقد عبرت مسيرة القرنين أو يزيد؛ عن حالة من الاشتباك على مائدة قضايا واحدة، لكن بين صفين أو شبكتين من المفاهيم: بين من أراد أن يداوي أزمة الواقع لكن من صيدلية الغرب والهجرة عبر المكان، ومن أراد أن يصنع أدوية الواقع المعتل من خلال الهجرة عبر الزمان. إن هذا يذكرنا بالمقولة الذهبية لابن القيم للجمع بين نوعي الوعي أو الفقه: "الفقه فقهان: فقه في الأمور الكلية، وفقه في الحوادث الجزئية، ولا بد أن نعطي الواجب حقه من الواقع، والواقع حقه من الواجب"، وهذا ما لم يفعله الفريقان إما كليا وإما جزئيا. حديث الخطاب الديني وعمليات تجديده هي في قلب تلمس طريق النهوض ومسالك الإصلاح ومشاتل التغيير.

x.com/Saif_abdelfatah

مقالات مشابهة

  • الاتحاد العراقي ينتقد الاحداث التي شهدتها مباراة نوروز وزاخو
  • لحظات فاصلة في تجديد الخطاب الديني.. مشاتل التغيير (15)
  • الإبادة المستمرة خلف القضبان.. قراءة في يوم الأسير الفلسطيني 2025م
  • بغداد تعلن دعم الكاردينال العراقي ساكو لخلافة البابا فرانسيس.. ما الذي تعرفه عنه؟
  • بغداد تعلن دعم للكاردينال العراقي ساكو لخلافة البابا فرانسيس.. ما الذي تعرفه عنه؟
  • صحيفة إسرائيلية تهاجم البابا الراحل بشكل حاد.. بوصلته الأخلاقية تعثرت
  • صحيفة اسرائيلية تهاجم البابا الراحل بشكل حاد.. بوصلته الأخلاقية تعثرت
  • صحيفة جيروزالم بوست تهاجم البابا الراحل بشكل حاد.. بوصلته الأخلاقية تعثرت
  • بنكيران يصف الدعوات التي ترفض استقبال ممثل عن حماس بالمغرب بـقلة الحياء (شاهد)
  • القاهرة تشهد فعاليات تأبين الشاعر والدبلوماسي السوداني محمد المكي إبراهيم