تقول منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة «اليونسكو»، إن معدل نشر الكتاب في العالم العربي لا يتجاوز 7 في المائة، وإن نصيب كل مليون عربي من الكتب المنشورة في العالم لا يتجاوز 30 كتابا، مقابل 584 كتابا لكل مليون أوروبي و212 مليون أمريكي، وفي دراسة رصدت صناعة النشر العربية بالأرقام والإحصاءات من 2015 وحتى 2019 أظهرت أن 20 دولة عربية أنتجت 315 ألف كتاب في 5 سنوات، أقلها كان عام 2015، حيث أنتج 54 ألف نسخة، وأكثرها في 2019 الذي أصدرت فيه الدول العربية قرابة 70 ألف كتاب.

الأرقام هنا تتحدث عن نفسها، وتوضح أن حركة الطبع والنشر والكتابة في الدول العربية ضعيفة جدا، ضعيفة إلى مستوى رأى فيه البعض أنها أدت إلى العزوف عن القراءة، وبالتالي أصبح ما ينشر رغم شحه وضعفه يفوق ما يقرأ، وهو الرأي الذي تبناه مؤخرا الكاتب عبدالعزيز الخاطر في مقال قال فيه «إن إشكاليتنا عميقة، كنا خلال عقود التنمية السابقة نبحث عن الكاتب، ونشتكي من قلة عدد الكتاب وندرتهم ولا نزال، مقارنة بغيرنا من دول الخليج الأخرى، كانت القراءة مجالاً مفتوحاً وأفقاً شاسعاً، الكل يريد أن يقرأ لكن الرافد الوطني من الندرة بشكل يجعل من المجتمع يصاب بخيبة أمل بين رغبة في القراءة في الشأن المحلي وندرة الكتاب أصحاب الشأن فيه، ما بين غمضة عين وانتباهتها انقلب الوضع رأساً على عقب، هناك فجوة معرفية اخترقت الصفوف لتحل محل القراءة وتدفع في نفس الوقت الى ازدياد عدد الكتاب خاصة من العنصر النسائي»، وأضاف الخاطر: «إن خسارة المجتمع للقراءة خسارة كبيرة وخطيرة، لا يمكن تعويضها، ووجود كتاب من غير قراء يعني انهم زيادة عن الحاجة وطاقات معطلة عليها ان تبحث عن عمل انتاجي آخر. نبشوا معي عمن يقرأ حتى أجد أنا وغيري من الكتاب معنى لوجودنا في مجتمع لا يقرأ».
«العرب» استطلعت آراء بعض الكُتاب والقراء، والذين تباينت وجهة نظرهم، فمنهم من رأى أن قلة القراء تؤثر فعلا في الإنتاج الفكري، فيما رأى البعض الآخر أن الكاتب يخضع فقط لإبداعه وما لم يقرأ اليوم قد يقرأ في وقت لاحق.

د. حسن رشيد: لمن نقرأ في زمن «النائحات المستأجرات»؟!

 أيد الإعلامي والناقد الدكتور حسن رشيد طرح الكاتب عبدالعزيز الخاطر، وقال: في الوقت الذي تشير فيه التقارير إلى أن عدد مبيعات نجيب محفوظ لا تتجاوز الـ 3 آلاف نسخة سنوية، فلا بد ألا يصيب الإحباط أي كاتب، ورأى أنه من الأجدر طرح السؤال بطريقة أخرى وهي «لمن نقرأ»؟!
 وأضاف: إن القارئ اختلطت عليه الأمور بكثرة الغث في مجتمعاتنا، وكثرة الكتاب الذين لا يرق مستوى انتاجهم إلى ما يجعله جديرا بالقراءة.
 وأوضح د. رشيد، في قطر كانت لنا أقلام نسائية تستحق التقدير مثل نورة السعد، ونورة محمد فجر، وكلثم جبر وهدى النعيمي وبشرى ناصر وأسماء أخرى كثيرة تشكل عالما من الفكر والثقافة والابداع، لكنهن غير موجودات على الساحة حاليا، ولربما المبدع يحتاج إلى دعم أكبر ليستطيع الصمود في هذا الزمن الذي تغيرت فيه الوسائط، وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي والتي فرضت مقاييس مختلفة للابداع ورجحت كفة الكم على الكيف. وأعتقد أن هناك عالما من الغث الذي يغلف الوقائع وهذه حالة عامة في الوطن العربي، والعديد من الكاتبات يستأجرن من يكتب لهن، ولربما هذا وباء في منطقة الخليج، وهو ما يمكن تشبيهه بظاهرة النائحات المستأجرات وقد استوقفني إعلان لمكتبة في أحد الشوارع الرئيسية والذي تقول فيه إن لديها من يكتب البحوث الجامعية، فإذا كان ذلك حال الباحثين، فكيف هو حال الكاتبات والكتاب؟. واستدرك د. رشيد أن الأمر لا يعمم فهناك من الأسماء الكبيرة ما يكفي لإيجاد منتوج أدبي وفكري كبير وبمستوى عال ولديهم قراؤهم الأوفياء الذين يتابعونهم على مختلف المنصات، وهم من يستحقون الدعم، وأن عدد القراء لا يعبر أبدا عن مستوى الكاتب ولا كتاباته.

أمل عبد الملك: حينما تتحول «الكتابة» إلى «وجاهة»

تعتبر الكاتبة والإعلامية أمل عبد الملك أن الكاتب المتمكن لا يهمه عدد القراء، ولن تثنيه قلتهم عن الكتابة فرأي سديد أو نقد بناء يكفيه.
 وتقول أمل: تعّبر الكتابة عن أفكار الكاتب سواء كان كاتب مقالات أو روايات، وعادة تعالج الكتابة مواضيع متنوعة تلامس المجتمع والشأن المحلي ثقافياً، اجتماعياً، اقتصادياً وكل جوانب الحياة، ويطرح الكاتب أحياناً تساؤلات وهموم الرأي العام بناء على ما يسمعه وتتم مناقشته، والكتّاب يُعّدون العين الناقدة والفاحصة لقضايا المجتمع التي يجب أن تصل لصنّاع القرار والحكومة في الدولة ولعقود طويلة كان للكاتب شأن في بلده أينما كان لقدرته على التأثير على الرأي العام بتوجهاته وأفكاره.
وأضافت أمل: مع طغيان وسائل التواصل الاجتماعي وظهور كثير من المؤثرين البعيدين عن الكتابة إلاّ أنهم يتمتعون بمهارات يعبرون من خلالها عن قضايا المجتمع وكأنهم يوازون الكتّاب الصحفيين الذين بدأ البعض منهم اعتزال الكتابة لأسباب، منها عزوف الكثير عن قراءة الصحف أولاً وثانياً لكثرة الكتّاب الهواة من جانب آخر، فللأسف البعض يعتقد أن الكتابة تساعد على الشهرة أو أنها وجاهة لذلك البعض ممن لا يمتلك مَلكة الكتابة يلجأون لمن يكتب لهم المقالات أو الكتب وتصدر بأسمائهم وهذا ما زعزع مكانة بعض الكتّاب، خاصة عندما يلجأ البعض لتسويق المؤلفات التي صدرت بأسمائهن في الفعاليات سواء نساء أو رجال، وأعتقد أن الكاتب المثقف والذي يمتلك الموهبة وتَدّرج في الكتابة وله نَفَس واستمرارية للكتابة لا يقبل بتسويق مقالاته ومؤلفاته وإنما يكتبها لإيصال أفكاره ويكفيه شخص أو اثنان يثنون على مقالاته ويتأثرون بأفكاره. 
وأعربت أمل عبدالملك عن اعتقادها أن نشر المقالات في وسائل التواصل الاجتماعي يساهم في نشر الأفكار ووصول المقالات لأكبر شريحة من المجتمع، لذلك لابد من استغلال هذه المنصات في نشر المعرفة.

شيخة الزيارة: إن تعطل صوت القلم تعطلت الأمم

اعتبرت الكاتبة شيخة الزيارة أن غياب القارئ لا يُغيّب الكاتب، وقالت: من وجهة نظري إن تعطلت القراءة لا تتعطل الكتابة، فمن يكتب لديه صوت يريد توصيله في مجال معين، وإن لم يُقرأ له العدد المتوقع الذي قد يضعه الكاتب في عين الاعتبار وفي القياس لاحقًا ليبقى سؤالا دون إجابة «كم قارئا قرأ ما كتبت؟» بالنهاية من سيقرأ بالتأكيد هو مهتم.
وأضافت الزيارة قائلة: الموضوع متشعب أكثر من وجهة نظري، لا أستطيع لوم من لا يقرأ وتحميله تهمة تعطيل الكتابة، فمن جهة القراء أيضًا أنواع كأنواع الكتابة، غالبًا القارئ يقرأ ما يميل إليه، والموضوعات التي تثيره ويهتم بها. ومن جهة أخرى القارئ اليوم أصبح من السهل أن يبحث عما يريده عبر أكثر من وسيلة فهنا نطرح سؤالا لماذا لم يستطيع الكتاب جذب هذا القارئ لقراءة ما يكتبونه، لنعود لتساؤل آخر وهو هل يُجود الكتاب كتاباتهم بما يتناسب مع تطورات القارئ؟.
واعتبرت الزيارة أن المنتوج الفكري هو إرث فكري، وقالت من وجهة نظري الاستمرار بالكتابة من شأنه أن يبني مجدًا ويترك إرثًا فلو قارنا بعض الكتب القديمة التي ما زال يعاد إحياؤها وتقرأها كل الفئات لو تساءلنا لم؟ رغم أنها كتبت بسيمائية زمن محددة وإسقاطات بعيدة عن حاضرنا. والكتابة لا تتعطل وللكاتب صوت يستطيع أن يعزز به أهمية القراءة، فإن تعطل صوت القلم تعطلت أمم خلفه.

فاطمة العتبي: بين العزوف المزمن والواقع المتراكم

اعتبرت الكاتبة فاطمة العتبي أن كثرة الكتاب أمر إيجابي، وأن عزوف الناس عن القراءة لا يد لهم فيه، وإنما هو تراكمات، وقالت: قد قالت العرب فيما مضى: (الأدب مرآة الواقع) ولا شك أن هذا التعبير يلامس الحقيقة بشكل أو بآخر لأسباب كثيرة منها: أنّ الأديب هو ابن الواقع الذي يعيش فيه، ومنخرط به إلى حد كبير؛ لذلك لا يمكن أن ينسلخ عن هذا الواقع، وستظهر ترسباته في كتاباته؛ ولعلنا نستذكر قصيدة أبي العتاهية (مَن للرعية) التي رفعها للخليفة يشكو فيها واقع الناس المؤلم من فقر، وجوع، وقلة ذات اليد، فقام الخليفة بعدها بمساعدة الناس وتحسين أحوالهم، وهذه دلالة على أن الأدب يعالج الواقع في كل أشكاله، يرى العيوب فيصلحها، ويرى الإيجابيات فيأخذ بيدها، ويشجع عليها.
وأضافت فاطمة: أما اليوم وما نراه من عزوف واضح عن القراءة، فليس للكتابة أو الكتّاب يدٌ في هذا أو ذاك؛ بل طبيعة الحياة وتراكماتها وانشغال الناس بهوامش هذه الحياة - خاصة وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها - أشغلت الكثيرين عن شؤونهم الخاصة وليس عن القراءة فحسب، فالواقع هو من فرض على الناس هذا العزوف الواضح والغريب عن القراءة، وقد استبدلوا (مواقع التواصل الاجتماعي ) بمقولة (الكتاب خير جليس)؛ لذلك نجد عنصر الثقافة قد هبط لمستوى كبير، وتراكم غبار السنين على الكتب الغنية وذات النفع الكبير، ومع هذا فإن رسالة الكاتب هي للمجتمع ككل؛ لأنه يكتب عما يراه وعما يشعر به وعما يعتقده، وليست مهمة الأديب أن يلزم الناس على القراءة، وكثرة الكتّاب اليوم هو أمر غاية في الإيجابية؛ لأن الرؤى عندما تتعدد تعطي صورة واضحة عن الواقع. وتابعت: مع تلك التراكمات وهذا العزوف، تقوم دولتنا الحبيبة قطر بدور كبير جداً تجاه القراء والقراءة من خلال تشجيع طلبة المدارس على القراءة من خلال (تحدي القراءة) الذي يتم تفعيله في كل المدارس على مستوى قطر؛ ولعلها بذرة خير تؤسس لمستقبل واعد وقراءة رافدة وجيل واع بأهمية القراءة ودورها في رفع مكانة المعرفة والسير في دروب الثقافة وفروعها. ولا يسعنا إلا القول تبقى القراءة هي البوابة الكبرى للولوج في عالم المعرفة وإن شحّ مريدوها، فالكاتب اليوم يحمل رسالة عظيمة عليه أن يوصلها ولا يلتفت لكثرة القرّاء أو قلتهم؛ لأننا إن قسنا مستوى الكتابة بمستوى القراءة سنقع في إشكالية التصنيف الخاطئ وغير المنصف؛ لذلك على الكاتب أن يتابع طريقه، ويكتب ما يراه وما تجيش به نفسه، فإن لم يصل اليوم سيصل غداً، فالدرب طويل جداً؛ لكن عزيمة المسير تقلل المسافات وتصل بنا إلى حيث نبتغي ونتمنى.

سلمى العامري: على القارئ أن يكون انتقائياً

تقول القارئة سلمى العامري إنها كقارئة تعتقد أنه ورغم انتشار المكتبات العامة وإقامة معارض الكـتاب في معظم البلدان العربية، إلا أن الناس انصرفوا عن القراءة بشكل ملحوظ. وفي ظل زيادة أعداد الكُتَّاب والإصدارات في مختلف أنواع الثقافة وهو ما يعني وجود المهتمين، إلا أن الخبراء يؤكدون أن معظم الصحف والمجلات في العالم العربي تُعاني من حالة ركود وعدم إقبال على الشراء.
وأضافت: العالم الآن يستهلك صورا أكثر من استهلاكه للكلمات، وهذا يفرض تحديات جديدة على صناعة الكتاب على مستوى الشكل والمضمون»، مضيفة إن القراءة تتخذ صورا عديدة، منها السماع والرؤية ما يعني أن القراءة تجاوز قراءة المكتوب إلى السماع والرؤية بل إن الوعي المعاصر الآن يتشكل عبر الهاتف المحمول، واعتبرت سلمى أنه للقراءة فوائد لا تحصر، لكن أيضا على القارئ أن يكون انتقائيا ولا يجتر كل ما يقدم له، فبعض المقالات أو الكتب مضيعة للوقت، ولا يستفيد منها القارئ شيئا ولا توفر له المتعة التي يجدها في بعض القراءات التي تكون لكتاب مرموقين.
وبالنسبة لكثرة الكتاب مقارنة بعدد القراء قالت: صحيح أننا مجتمعات لا تقرأ، ولكن لا يمكن الجزم بأن عدد القراء اقل من عدد الكتاب لأنه لا يمكن حصرهم، فمثلا يمكن قراءة مقال على مواقع التواصل الاجتماعي دون شراء الكتاب أو الجريدة أو المجلة، أو تداوله عبر الواتس أب أو أي من التطبيقات التي يستحيل أن نحصرها وأن نحصر عدد القراء فيها، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تروج للكتاب ولكتاباتهم فبعض الكتاب لم نكن نعرفهم لكن عرفناهم بفضل المقاطع التي تروج لهم.

المصدر: العرب القطرية

كلمات دلالية: قطر اليونسكو الطبع والنشر وسائل التواصل الاجتماعی عن القراءة عدد القراء لا یمکن من یکتب

إقرأ أيضاً:

استجابةٌ أولى تستبطِنُ نداءَ الكتابة، فلِلبَيَانِ صهيلُه ونجواه

khalaph@hotmail.com

algassas@hotmail.com

osmanhamed@hotmail.com

استجابةٌ أولى تستبطِنُ نداءَ الكتابة، فلِلبَيَانِ صهيلُه ونجواه

محمَّد خلف

أوَّل مارس 1989

لم نقرأ شعرَه، لكنَّنا رغم ذلك ممتلئونَ بشِعرِيَّتِه. هكذا تُبرِزُ الإلفةُ فتنتَها أو هكذا تُعِلِنُ الكتابةُ فَرقَها. لم تذهب مكتباتُنا مذهبَ عِشقٍ في اتِّجاهِ صوتِها العموديِّ أو هكذا كلَّمني الشَّرقُ، بيد أنَّ للصُّدفةِ منطِقَها الحضاريَّ الغلَّاب، فكان للمكانِ هيئتُه الَّتي استضافت ظاهرةُ الشِّعرِ العربيِّ المعاصرِ في المغرب وحداثةُ السُّؤال. هيأ الشَّرقُ للشِّعرِ خياماً وبيوتاً ومعتقلات، فكان للبيتِ هيئةُ الأسرِ والقبرِ معاً. أيُّ شعرٍ يُقاسِمُه العقلُ كسرةَ الخبزِ ودفءَ الفراش؛ فللأسرِ اتِّساعُه اللَّامرئيُّ، ولحياةِ الأسرِ عُمقُها النَّوعيُّ كذلك. ولكن أليسَ للأسيرِ أن يخرُجَ يوماً على سلطةِ الأسر. إنَّنا نشهدُ الوعيَ العربيَّ يتقدَّمُ عبر مسارِه التَّحرُّريِّ، حَيِيَّاً، من خليجِ الكلامِ إلى محيطِ الكتابة. فلنستأنِفَ النَّظرَ في وُجهَةِ تحرُّرِه، ولنتبيَّنَ منطِقَ تقدُّمِه، ولنبدأ محاورتَه، عبر بنيسَ، بكلِّ المحبَّةِ، في بيانِ الكتابة.
يرسمُ البيانُ منذُ البدءِ فضاءَ قلقِه الأنطولوجيِّ؛ إن لم نقُل، ترفيعاً لفهمِنا المعاصرِ، منطقَه الجدلي. الكتابةُ ضدَّ كلِّ سلطة: الجاهزُ، المغلقُ، المستبِدُّ. لكن، لهزيمةِ تلك السُّلطةِ لا بُدَّ من إضفاءِ مشروعيَّةٍ ما لسلطةٍ مضادَّة؛ وبحسب بنيسَ: سلطةُ تشريعِ البداية؛ سلطةُ تأسيسِ المنطلق، تلك السُّلطة الَّتي لا تقومُ الكتابةُ بدونِها. الكتابةُ ضدَّ كلِّ سلطة، لكنَّها في ذاتِ الوقتِ لا تقومُ بدونِ تعزيزِ الدَّعاماتِ الأوَّليَّة لتلك السُّلطة. هل نحنُ بهذا التَّصريفِ نضَعُ الكتابةَ أمام استحالتِها؟ منطقُ التَّماثُلِ وحدُه هو الَّذي يضعُنا أمام تلك الاستحالة. إن لم تكنِ الكتابةُ بدءَ تشريعٍ لتكوينٍ جديد، فهي -إذاً- محضُ تجريبٍ مبهَم، جبرا من الكلمات الجوفاء، منطقٌ يتأسَّسُ خارج اللُّغةِ والجسدِ والتَّاريخ. هل يبدأ الهدمُ دون تأسيسٍ ومواجهة؟ أن تصنعَ مِعولاً (تأسيساً) ثم تُحسِنُ استخدامَه (مواجهةً)، هو أن تشرعَ في تهشيمِ المستبدِّ، في خلخلةِ سلطةِ الذَّاكرة، وفي انتهاكِ حُرمةِ السَّائد.
يُحاوِلُ البيانُ سَفَرَاً جماعيَّاً باتِّجاهِ الرَّاهن. كيف يظَلُّ هذا الرَّاهنُ المقصيُّ منكفئاً على وَحشَةِ منفاه، كيف يُخفي تعدُّديَّةَ مسالِكِه، كيف يطمئنُّ، في السِّترِ، إلى وحدةِ تناقضاتِه؟ بأيِّ حرفٍ خارقٍ نُدَشِّنُ اجتماعَنا إليه، بأيِّ تدخُّلٍ سافرٍ نُقارِبُ وقتَه المستعصي؟ يستقصي بنيسُ عن فشلِ الشِّعرِ المغربيِّ المكتوب باللُّغةِ الفصحى ويلتمِسُ في علاقةِ الهيمنة الَّتي ترهَنُ الشِّعريَّ للحديثِ السِّياسيِّ مبرِّراً للتَّراجعِ ومسوِّغاً للانقطاعِ لدى أغلبِ شعراءِ مرحلةِ ما قبل السَّبعيناتِ في المغربِ العربي. ضدَّ هذا الانقطاعِ الَّذي يُبطِلُ شرائطَ التَّحوُّلِ الشِّعريِّ، يهجسُ البيانُ برؤيةٍ مغايرةٍ للعالم، رؤيةٍ تتملَّكُها الطَّليعةُ الشِّعريَّة العربيَّة، وتهزِجُ بها في طقسٍ جماعي. الكتابة، بهذا المعنى، محفلٌ شعبيٌّ لإعادةِ النَّظرِ في الجماليِّ، الاجتماعيِّ، التَّاريخيِّ، السِّياسيِّ؛ أفقٌ ممتدٌّ؛ ثورةٌ محتملةٌ ضمن الثَّورةِ الاجتماعيَّةِ المحتملة. تلك الرَّجفةُ الخفيفةُ في الأعماقِ تفتحُ للشِّعرِ كُوَّةً جديدة، مساراً مغايراً، أفقاً يتناسَجُ النَّصُّ فيه وفقَ منوالٍ يُؤالِفُ بين التأسيسِ والمواجهة، وقتاً يتراوحُ بين التَّأمُّلِ والممارسة، حضرةً تُقامُ على القشرةِ كمدخلٍ أوحدَ إلى لُبِّ السُّؤال.
المغامرةُ هي القاعدةُ الأولى لنصِّ التَّأسيسِ والمواجهة: لا بدايةَ ولا نهاية، فالكتابةٌ نفيٌ لكلِّ سلطة. ما يبدأُ لِينتهيَ مآلُه العفن؛ ينتهي النَّصُّ، لِينموَّ في اتِّجاهِ التَّحوُّلِ، بحثاً عن شَفَقٍ غامضٍ وانفتاحٍ جديد؛ ينتهي النَّصُّ، لِينموَّ في اتِّجاهِ المطلق، نفياً لزمنِ الموتِ واجترارِ العدم. الكتابةُ خلقٌ ونموٌّ ناهضٌ على الاحتمال؛ فعلٌ مضادٌّ لكلِّ نموذجٍ مسبق؛ وَجْدٌ يبحثُ عن منطقِ تكوينِه. ما يبدأُ لِينتهيَ مُنافٍ للإبداع؛ إنَّه المطمئنُّ إلى الأصل. ضدَّ هذا الوهم، تستنطِقُ الكتابةُ ما ذُهِلَ عنه في المُبهَمِ، في الغريبِ، في الهامشِ المنسيِّ من طرفِ المعيش.
ينهضُ النَّقدُ كأساسٍ للإبداع، وبما له من وشائجَ بالتَّحوُّلِ، قاعدةً ثانية للكتابة. النَّقدُ فعلٌ وترياقٌ مضادٌّ لسلطةِ الذَّاكرة. هو ما سَكَتَت عنه مدارسُنا؛ ما نرتجِفُ حين نسمعه، أو نُعنَفُ حين نُمارِسُه. نختلف في ترتيبِ الأولويَّات؛ نميلُ إلى توجيهِ سلاحِ النَّقدِ نحو البنياتِ السُّفلى. هل نحنُ، على وُدٍّ، مختلفون؟ بيروتُ، كما قُلتُم، بؤرةُ الحداثةِ ومختبرُها. احتدمَ الصِّراعُ الاجتماعيُّ فيها، فأنتجَ حرباً وحقلاً آيديولوجيَّاً ملتهِباً، تصاعدَ منه خطابٌ يُضاهي ما تبنَّيتُم من نقدٍ إستراتيجي؛ والرِّباط متاخمةٌ لمنشأِ الحداثة، تمرُّ الخطاباتُ إليها عبر غلالةٍ شفَّافة، فتنهَدُّ فيها سماءٌ، وتنهضُ في الأرضِ أسئلةٌ مُحرِقةٌ ونقدٌ مزدوج. ونحنُ أبناءُ العواصمِ الأخرى تستظِلُّنا سماءٌ نُراعي حقَّها؛ نختارُ الأرضَ كخيارٍ منهجيٍّ، ولكنَّنا -مع ذلك- نهفو للمتعالي في القممِ الرَّفيعةِ من تعاليه، فهذا الاضطرابُ لا يأتينا إلَّا من جهةِ تظاهُراتِه.
تتراصفُ عندنا التَّشكيلاتُ السَّابقةُ للرَّأسماليَّة مع النُّموِّ الطُّفيليِّ الجديد، فلا ينهضُ بينهما حوار. ضدَّ هذا الوضعِ الشَّائه، نتوجَّهُ بالنَّقد؛ ضدَّ هذا الرَّاهنِ العلنيِّ، نلتمسُ الخلاص. لا يُنتَجُ نقدٌ جذريٌّ إلَّا في أوضاعٍ جذريَّة؛ ولأنَّ المتعالياتِ، كما قلتُم، يدَقُّ خفاؤها بين شعاب النَّصِّ والجسدِ والمجتمع، فإنَّنا -وإن لم نرَ في نقدِ الجزءِ المحدَّدِ ما يكفي لتحديدِ بقيَّةِ الأجزاء- ننظرُ إلى البنيةِ بمنظارِ غشتالتيٍّ، فنرى فيها ومن خللِ أجوائها السُّفلى إطاراً شاملاً تنمازُ فيه الأجزاءُ بعلاقاتِها.
لا كتابةَ خارجَ التَّجربةِ والممارسة. تلك هي القاعدةُ الثَّالثة للكتابة، فالتَّجربةُ والممارسةُ نموٌّ داخل الزَّمن؛ فعلٌ أوَّلُ لكلِّ تجاوُز. الكتابةُ زحزحةٌ للمألوفِ، خلجلةٌ للذَّاكرة. الكتابةُ رسفٌ وتقييدٌ ضروريٌّ للحلم؛ ولا معنى للحلم إن لم يكُن مِعبَرَاً للتَّجربة؛ إن لم يكُن مُندَغِماً في اللُّغةِ والذَّاتِ والمجتمع. وتكونُ الكتابةُ بالتصاقِها بالملموسِ، تجذيراً للمعرفةِ وتثويراً لها.
ولا معنَى للنَّقدِ والتَّجربةِ والممارسة، إن هي لم تكُن متَّجهةً نحو التَّحرُّر. تلك هي القاعدةُ الرَّابعة. الكتابةُ تجربةٌ وممارسةٌ مكرَّسةٌ لتحويلِ الواقعِ وتغييرِه. والنَّقدُ العلميُّ في تبديدِه لأوهامِ الآيديولوجيا يختطُّ منهاجاً لتحريرِ النَّاسِ كافَّةً. ففي تفكيكِ المفاهيمِ والتَّصوُّراتِ السَّائدةِ تدشينٌ لقدرةِ الفعلِ؛ كما في إزاحةِ الأوهامِ بالوقائعِ والمعطياتِ تأسيسٌ لزمنِ القرارِ الإنساني. ولا يكونُ هنالك تحرُّرٌ دون إنتاجِ حساسيَّةٍ مغايرة؛ نصٌّ تنسرِبُ الكتابةُ فيه من هيئةِ الشِّعرِ إلى حضرتِه، فتنهزِمُ الذَّاكرة، وتتحرَّرُ المُخيِّلة، ويعودُ الإنسانُ المُبعَدُ الملغيُّ من هامشِ القمعِ إلى ساحةِ القدرةِ عنصراً فاعلاً في نشيدِ التَّحوُّلِ، وخندقاً مضادَّاً لكلِّ نظامٍ سلطوي؛ فالتَّحرُّرُ في النَّصِّ دحرٌ للنُّصوصِ السَّائدة، وتأسيسٌ لمقالٍ مغاير.
تنفتحُ القواعدُ الأربع على ثلاثةِ مجالاتٍ للكتابة: اللُّغة والذَّات والمجتمع؛ وفي انفتاحِ الكتابةِ على مجالاتِها هيكلٌ أساسٌ لبنيةِ التأسيسِ والمواجهة. بدأ الشِّعرُ عندنا معموراً بالكلام؛ واللُّغةُ العربيَّةُ في بنيةِ أنساقِها المتعارَفِ عليها مرتبطةٌ أمداً برؤيةٍ مطمئنَّة. والمبدعون وحدهم هُمُ الَّذين خلعوا عنها نمطيَّتَها المتوهَّمة، فكان الإشراقُ الصُّوفيُّ -عِشقاً وشِعراً- توكيداً لحضرةِ الذَّاتِ المترنِّحةِ في هيئةِ الكتابة. فالدَّلالةُ الشِّعريَّةُ أساسٌ لكلِّ شعرٍ، واللُّغةُ هي ما يُشكِّلُ النَّصَّ زماناً، ومكاناً، ونحواً، وبلاغة. زمانُ الشِّعرِ مصنوعٌ من نَفَسِ الدَّواخل؛ فله ما يصدُرُ عنها من فيوضٍ وانحسارات. وليس ما تعامدَ من الشِّعرِ سوى احتمالٌ بين احتمالاتٍ تتقصَّدُها الكتابةُ في حرِّيَّةِ انتقالِها التاريخي. لا يخرجُ الإيقاعُ من منعطفِ الوعي وحده؛ فللَّاوعيُ قوانينُه الَّتي تصوغُ الإيقاعَ، فتُلزِمُه، مرَّةً، بخُطَّةِ سيرٍ محدَّدة، وتُطلِقُه، آناً، فينسكِبُ على قنانٍ واهية وجداولَ منسيَّة.
خضع الكلامُ الشِّعريُّ عند العرب لمنواليَّة البداية والنِّهاية، فكانتِ البنيةُ الإيقاعيَّةُ فيه نَفَسَاً واحداً متكرِّراً، توحَّدت فيه الوقفاتُ الإيقاعيَّة والنَّحويَّة والبلاغيَّة. والزَّمانُ في الكتابةِ فعلٌ مضادٌّ لحتميَّةِ البدايةِ والنِّهاية؛ كسرٌ لنمطيَّةِ القالب؛ ممارسةٌ شرعيَّة في إعادة تركيبِ النَّصِّ وفقَ اتِّجاهاتِ النَّفَس. وزمانُ الكتابةِ، بهذا المعنى، خلعٌ للجسد عن خطِّه الميتافيزيقيِّ المعلوم، وتهيئةٌ لقفزةٍ أخرى في الظَّلام، حيثُ يرهجُ الوقتُ بخصبِ الاحتمالات. ظلَّ الكلامُ مرهوناً لاستبداديَّةِ الإيقاعِ، والكتابةُ ملغيَّةٌ، والتَّركيبُ الخطِّيُّ لم يستعلِنْ عن نفسِه، بعدُ، بُعداً بلاغيَّاً جديداً يفتحُ النَّصُّ على البصرِ بعد أن قَبَعَ زماناً في حدودِ السَّمع.
المكانُ، في الكتابةِ، وشيجةٌ بين الخطِّ والصَّفحةِ البيضاء. لم يجتلِ الشُّعراءُ أهمِّيَّةِ المكانِ ولم يستكنهوا حمولاتِه الدَّلاليَّة إلَّا بظهورِ مجتمعِ الكتابة، حيثُ أمكنَ لأوَّلِ مرَّةٍ التَّحقُّقُ المكانيُّ للُّغةِ في الخطِّ، وكان قبل ذلك شعراً مسترسلاً في الزَّمانِ من حيثُ هو وحيٌ وفيضٌ من كلام. انتقلَ المكانُ، في الكتابةِ، عبر الزَّمنِ، من حالٍ إلى حال. فمن تشطيرِ الرُّقعةِ إلى توشيجِها، انفتحَ النَّصُّ، عبر جدليَّةِ الملءِ والإفراغ، على حقلٍ مُفعَمٍ بالإشاراتِ الموحية، فصارتِ الكتابةُ دعوةً إلى إعادةِ تشكيلِ المكانِ من خلالِ الخطِّ الكتابي. فالخطُّ نسقٌ مباطنٌ للكلام، يحتشِدُ علناً باللُّعة، ويخرجُ تكنيكيَّاً على مألوفِها، فينهضُ فيه جديدُها بلاغةً مغايرة؛ شهوةً تطِلُّ من نومِها؛ جسداً يسترسِلُ في تحصيل رغائبه.
يتمرَّدُ الخطُّ على نمطيَّةِ الحرفِ المطبعيِّ وتكراريَّتِه، ويُبدِّدُ كلَّ مصداقيَّةٍ متوهَّمةٍ للنَّصِّ كحاملٍ محايدٍ للمعنى. بهذا العصيان، بتلك الغواية، تدخلُ الكتابةُ حضرتَها؛ ومن الوجودِ المترنِّحِ للمعنى، تستمِدُّ القراءاتُ المتباينة شرعيَّتَها، ويبسِطُ النَّصُّ سلطتَه في لحظتَيِ التَّأسيسِ والمواجهة. تحترمُ الكتابةُ الخصوصيَّة، وتنبُذُ الانغلاق؛ تعترفُ بالمركز، وترفض خضوعَ الطَّرفِ لاستبداديَّتِه، ولا تستسلِمُ لمحوِ الفرق. وينتجُ الخطُّ، فيما ينكفيءُ على خصوصيَّتِه ويُسائلُها، جسداً مُشرِفاً على حافَّةِ الذُّهول.
يتركَّبُ النَّصُّ من أبنيةٍ نظميَّةٍ وصرفيَّةٍ تتحاورُ أدِلَّتُها في تواشجٍ ترابطيٍّ وتوارُدي. وإذا كان اليوميُّ خارجاً، بسيمائه النَّاصعة، من القوانينِ العامَّةِ للغةِ التَّواصُل، فإنَّ الشِّعريَّ يخرجُ قصديَّاً على تلك القوانين وينسِفُها، لِيبنيَ فوق رُكامِها لغتَه السِّرِّيَّة. ولا يكونُ الخروجُ إبداعاً إذا انحرفت مسيرتُه من تماسُكِ النَّصِّ إلى فوضاه. يأتي الخروجُ مُقنِعاً بكسرِ الحلقةِ الضَّعيفةِ في السَّائد، بخلخلةِ علائقِ التَّرابطِ والتَّوارُدِ داخل النُّصوصِ المغلقة، بتدشينِ رؤيةٍ مغايرة.
تستقدِمُ الكتابةُ عالمَها بتدميرِ سلطويَّةِ اللُّغةِ واستبداديَّتِها، وتستعينُ بالنَّفَسِ والإيقاعِ على تهشيمِ البنيةِ النَّحويَّةِ القائمة؛ تُعيدُ الكتابةُ توزيعَ الأزمنة؛ تُلجِمُ تدفُّقَ الفعلِ أو تُعلِّقه؛ تُجَدِّدُ طُرُقاتِ اللُّغة؛ تُغيِّرُ إشاراتِ مرورِها؛ وتستنفِرُ القارئ على إعادةِ بَنيَنَتِها، فتكونُ القراءةُ خَلقاً وتحضيراً للقاء. يستكمِلُ الشِّعرُ في لانحويَّتِه بنيتَه المغايرة؛ وبتمرُّدِه على الرُّؤى السَّائدة وبانحرافِه عن شرائطِ التَّواصُلِ العاديِّ، يأخذُ الشِّعرُ بناصيةِ اللُّغة، ويمتلكُ الكلام، ويُهيؤُ الجسدَ المُنهَكَ لحساسيَّةٍ جديدة وفوَرانٍ دائم. الكتابةُ بحثٌ عن أسلوب؛ ممارسةٌ قصديَّةٌ تعتصرُ المعاني من تقاسيمِ الأدِلَّة؛ تقتنصُ الحقائقَ ولا تستسلِمُ لوثوقيَّتِها المُضلِّلة. ولا أسبقيَّةَ للمعنى، لا روابطَ أزليَّةً بين الأشياءِ والأسماء، ولا حقائقَ ممكنةً خارجِ السِّياقِ الَّذي يضبطُ علاقاتِها.
تأتي بلاغةُ الكتابة من تآلُفِ بنياتِ الزَّمانِ والمكانِ والنَّحو؛ وبتواشُجِها الشَّائكِ، يصِلُ النَّصُّ إلى نشوةِ تحوُّلاتِه. ولا تقِفُ الكتابةُ عند مداخلِ المألوفِ إلَّا لِتحاوُرَ صمتَه وتكسِرَ عزلتَه؛ تُسائلُ السَّائدَ، تنتهِكُ قداستَه؛ تزرعُ الكتابةُ ألغاماً في تخومِ الذَّاكرةِ وتُصدِّعُها، فينهضُ النِّسيانُ مرتكزاً أساساً لبلاغةٍ مغايرة. تُمارِسُ الكتابةُ لعبة الإغماضِ، لِتُراوِغَ النَّصَّ الواضحَ الَّذي يُكرِّسُ، في تسيُّدِه، غريزةَ الاستهلاكِ والاستسلامِ للسُّلطاتِ القامعة.
يدخلُ الجديدُ في عزلتِه، عادةً، لأنَّ الشَّرائطَ الاجتماعيَّةَ والتَّاريخيَّةَ والثَّقافيَّةَ السَّائدة تُطفيءُ جُذوةَ التَّساؤلِ وتُخمِدُ النُّزوعاتِ المائلةَ إلى التَّحرُّر. والكتابةُ في خروجِها هذا لا تخضعُ للتَّبدُّلاتِ العفويَّةِ السَّاذَجة الَّتي تُكرِّسُ الوضعَ القائم؛ ولكنَّها، في نفسِ الوقتِ، تضَعُ تبدُّلَ القوانين البلاغيَّة كشرطٍ أوَّلَ لكلِّ تحرُّرٍ ممكنٍ من الذَّاكرةِ الجماليَّةِ السائدة. ففي الذَّاتِ تحتشدُ اللُّغةُ وتتلوَّنُ وفقاً للتَّبدُّلاتِ الَّتي تطرأُ على درجةِ الوعيِ وحالةِ الحساسيَّة. كما للذَّاتِ تدخُّلاتُها الحاسمة في تشكيلِ فضاءِ النَّصِّ وإعادةِ بَنيَنَتِه؛ وفي نفيِها، تأكيدٌ لذيليَّةِ الإبداعِ وتكريسٌ لخضوعِه الكسير لسلطةِ السِّياسيِّ وحقيقتِه المطلقة.
الكتابةُ تحريرٌ للذَّاتِ من ثوابتِ القيمِ وكوابحِ الأخلاق. وفي تشوُّقِها لتلك الحالة، تتوسَّلُ الكتابةُ عقلَها وجنونَها، منطِقَها وفوضاها؛ فالكتابةُ نبشٌ وجريانٌ جديدٌ لنهرِ الطُّفولة؛ استنشاقٌ للمتعة؛ تفريخٌ للحلم؛ إحياءٌ لسُنَّةِ الرَّفضِ والنَّقدِ في الأرضِ بعد طولِ سُبات. تعقِدُ الكتابةُ حِلفاً عميقاً مع كيتس وشيلي وويردذويرث وكولريدج ولورد بايرون والأخوين روسيتي، ولا تنسى في أوجِ ابتهاجِها الرُّومانسيِّ بالذَّاتِ أن تُدوزِنَ أوتارَها وتُعلِنُ الفرق. فالذَّاتُ، في الكتابةِ، تاريخيَّةٌ؛ حضورٌ يُناوِسُ بين الجذوةِ والامِّحاق؛ جسدٌ مزدانٌ بهشاشةِ يقينِه ونسبيَّتِه. والذَّاتُ المبرمَجةُ على صِيَغِ الأمرِ والنَّهيِ وقوالبِ الكلامِ الجاهزِ عاجِزةٌ بِحُكمِ تركيبِها عن بلوغِ المعرفة. نحو تلك الذَّاتِ الأسيرة، تتَّجه الكتابة؛ تُساعِفُها؛ تُفكِّكُ شعائرَها؛ تُسائلُ منسيها؛ وتُهيؤُ لانخراطِها الدَّائبِ في علاقاتِ الآنِ والممارسة.
تفِضُّ الكتابةُ مغاليقَ النَّصِّ وتفتَحُه على تاريخِ اللُّغةِ والذَّاتِ والمجتمع. تُخاصِمُ الكتابةُ تلك الرُّؤية الَّتي تحبِسُ اللُّغةَ، وتشِلُّ الجسدَ، ولا ترى إلى وجودِ المجتمعِ في وحدةِ تناقضاتِه وتصدُّعاتِه - تلك الرُّؤية الَّتي تُباعِدُ -شكليَّاً- بين الثُّنائيَّاتِ الضِّدِّيَّة، وتُماثِلُ -ميتافيزيقيَّاً- بينها وتُؤطِّرُها في مجالٍ معرفيٍّ واحد تتماهى فيه الأقطابُ وتتطابقُ حمولاتُه الدَّلاليَّةُ البعيدة. ضد تلك الرُّؤية، تأتلِفُ الكتابةُ وتحتفي بفورانِها الدَّائم؛ لأنَّ الكتابةَ -بحسب بنيسَ- عشقٌ شهوانيٌّ مفتوحٌ للحياة؛ فعلٌ تحرُّريٌّ مُتَّصِل؛ نزوعٌ وقَّادٌ لعالمٍ مغايرٍ في النَّصِّ وبالنَّصِّ؛ عالمٍ لا تمتَثِلُ فيه اللُغةُ للثَّوابتِ، ولا تتمَثَّلُ فيه الذَّاتُ هيئةَ قاهرِها، ولا يخضَعُ فيه المجتمعُ لتراتُبٍ طبقيٍّ قسري.
تتقدَّمُ الكتابةُ بوعيٍ نقديٍّ نقيض، وتستقدِمُ مجتمعاً نقيضاً محتملاً؛ جسداً ضاجَّاً بعنفوانِه وتبدُّلاتِه اللَّانهائية؛ انشباكاً ممكناً تتخلَّى الكتابةُ فيه عن حيادِها الرَّماديِّ، وتُعلِنُ انحيازَها للكتلةِ التَّاريخيَّةِ المعنيَّةِ بأمرِ التَّغيير. ويستكمِلُ الوعيُ النَّقديُّ للكتابةِ مشروعَه الثَّقافيَّ بمساءلتِه لصنميَّةِ التَّقنيةِ الغربيَّة، وبتدشينِه لمدخلٍ ذهنيٍّ جديدٍ لآركيولوجيا الجسد. ويختتِمُ البيانُ قولَه بالتَّركيزِ على جدليَّةِ التَّأسيسِ والمواجهة، وتعدُّديَّةِ أنماطِ الخروجِ على منظومةِ السُّقوطِ والانتظار وما رسَّخه الإرثُ التَّاريخيُّ من مواضعاتٍ تُخرِسُ القولَ وتفرِضُ الانزواء. ويُجدِّدُ البيانُ الدَّعوةَ لإعادة كتابتِه ومراجعتِه بوعيٍ له قيمةُ الكشفِ ومتعةُ المساهمةِ في التَّحرُّرِ الاجتماعي. وإذا كان الكاتبُ هو حاملُ القولِ وليس قائلَه، فله أن يشقى بحَملِه الجميل، وله أن يسعَدَ بمخاضِ الكتابةِ فيما يستقبِلُ العالمَ مولودٌ جديد.

   

مقالات مشابهة

  • العام الهجري 1446.. الإفتاء تستطلع هلال شهر محرم الجمعة
  • الاستسلام او الموت ...الحصار يزداد على مليشيا الحوثي والدخول في ورطة وانعدام الخيارات امامها بعد خطفهم للطائرات
  • البرتغال ضد سلوفينيا.. كريستيانو رونالدو ينهار باكيا بعد إهدار ركلة جزاء «فيديو»
  • كتاب «ثورة 30 يونيو».. مصطفى بكري يكشف أسرار الأيام الأخيرة لحكم جماعة الإخوان الإرهابية
  • أمراض المهنة.. الكتابة تسبب أمراض العمود الفقري
  • مغامرة بمتحف التحرير.. تمثال يُثبت أن الخط العربي والخطوط القديمة أصولهم مصرية
  • أمراء الحرب يدمّرون السودان وشعبه
  • «الإفتاء» تجيب عن سؤال: هل تجب الطهارة لترديد القرآن مع القارئ؟
  • العسكر يقرأون من نفس الكتاب القديم والقوى المدنية لم تتعلم الدرس
  • استجابةٌ أولى تستبطِنُ نداءَ الكتابة، فلِلبَيَانِ صهيلُه ونجواه