كتب وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، عبر حسابه على منصة "أكس": "نختلف مسلمين ومسيحيين على مسألتين مرتبطتين بالسيّد المسيح، الأولى تتناول طبيعته، والثانية تتعلّق بحيثيات مغادرته العالم الأرضي، ولكننا جميعاً نؤمن أنه جاء رحمةً وخلاصاً للناس كلّ الناس، وأنّه في السماء حيٌّ إلى أبد الآبدين.   

‏اليوم إخواننا في هذا الوطن وفي الإنسانية وفي المسيح يحتفلون بعيد الصليب رمزاً للخلاص والحياة الأبدية وعنواناً للإنتصار على الشرّ.

 

‏فلتكن أعيادنا الإيمانية مناسبات مقدّسة لإعلان الفرح بالآخر وحفظه والتمسّك بالعيش الواحد معه، هكذا نُفرحُ المسيح ونُحصّن وطننا ونغلب أعداءنا المنظورين وغير المنظورين". 

المصدر: لبنان ٢٤

إقرأ أيضاً:

حين يمُر العيد من القلب


سلطان بن محمد القاسمي

بعض الأيام لا تأتي وحدها، بل تُحضر معها مشاعر لا تُشترى، وذاكرة لا تُنسى، وشوقا لا تفسير له. وهناك لحظات تنادي القلب قبل أن تطرق أبواب الوقت، لحظات كأنها موعودة مع الفرح، وبين هذه اللحظات... يأتي العيد.

فما أن يُعلن عن قدومه، حتى تبدأ الأرض تتنفس شيئًا من البهجة، وتبدأ الوجوه في التهيؤ للابتسام. ليلة العيد ليست كأي ليلة، فالضوء فيها أكثر دفئًا، والضحك أكثر صدقا، والقلوب أكثر استعدادا للعطاء. الجميع في حالة ترقّب: الأطفال لا ينامون بسهولة، والأمهات يضعن لمسات أخيرة على موائد الفرح، والآباء يراجعون الأسماء التي سيزورونها، كأنهم يراجعون أبوابا للخير.

كذلك الأسواق تزدحم، والأنوار تتلألأ في الطرقات، وتنتشر روائح العطور والبخور في كل مكان، كأن العيديمرّ قبل أن يصل، يخبرنا بأنه قريب. وتجد بعضالناس يحرصون على تجهيز ركن صغير في منازلهم، يضعون فيه تمرًا وحلوى وعبارات ترحيبية، كأن العيديبدأ من عتبة بيوتهم، لا من الساعة. وآخرون يُعدّون حلوى منزلية تُقدم للضيوف لأول مرة، لأنهم يحبون أنية يقدّموا شيئًا من قلوبهم.

وفي لحظة ما، قبل الفجر بقليل، تشعر أن الكون كله في حالة استعداد. البيوت تستيقظ بهدوء، ولكن بشغف، وكل شخص يتحرك وفي قلبه أمنية. الرجال يستعدّون للصلاة، والنساء ينهمكنّ في إعداد أو لمائدة للفرح. رائحة القهوة والهيل تفوح، كأنها أول التهاني التي تصل للأنف قبل الأذن. الأطفال يلبسونك أنهم يستعدون لمهرجان، لا لعيد، والكل يضحك... حتى الجدران.

وقبيل الصلاة، يعلو صوت التكبير في الأرجاء:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ذلك الصوت الذي يخترق السكون، يهزّ القلوب قبل أنيهزّ المآذن، ويبعث في النفس طمأنينة لا توصف. لحظة تختلط فيها المشاعر، فالعين تلمع، والقلب يخشع، والروح تردد مع الجمع كأنها تُحلّق.

ثم تبدأ صلاة العيد، وتبدأ معها لحظة تتوقف فيها الحياة لتتأمل نفسها. ذلك التكبير الجماعي، ذلك الاصطفاف البهي، تلك الأكتاف المتجاورة رغم ما بين أصحابها من المسافات. وكأن العيد يقول: كلنا سواسية، كلنا نحتاج بعضنا، كلنا نكبر سويا.

وما إن يُنهي الخطيب خطبته، حتى تبدأ اللقاءات. العناق الأول بعد الصلاة، ابتسامة العم، دمعة الجدة، نظرة الصديق القديم، كلها تفاصيل صغيرة، لكنها تصنع عيدا لا يُنسى. والتهاني تنساب كما الماء، بلات كلف، بلا رسميات. فقط قلوب تقترب.

حتى الذين لا يُجيدون التعبير، تفضحهم أعينهم، فتقول ما عجزت عنه الكلمات. والذين فرّقتهم الأيام، يجمعهم العيد في لحظة صادقة، كأن شيئا لم يكن.

وما زاد المشهد بهاء، هو هذا المشهد الذي يخطف العين قبل القلب: مشهد اللباس العُماني الأصيل. رأيت رجالا وأطفالا يسيرون في الطرقات كأنهم صفحة منتاريخ مشرق، كل واحد منهم يلبس دشداشته البيضاء كأنها نية طاهرة، ومصره كأنه توقيع هوية، وخنجره كأنما هو سلاح الصبر والفخر. حتى الصغار لم يغبعنهم هذا الوعي، يسيرون بأثوابهم اللامعة كأنهم أمراء الفرح، وكأنهم يقولون: "نحن الجيل الذي سيحمل راية الأصالة".

كان مشهدًا لا يُشبع العين، ولا تنساه الروح، مشهد يختصر حب الوطن في صورة، ويختصر هيبة العيد في وقفة.

ثم تبدأ الزيارات. أول بيت نزوره غالبا ما يكون لوجهكبير في العائلة: الجد، الجدة، العم الأكبر، أو حتى الأم الحنون التي تنتظرنا كل سنة بكوب قهوة ودعوة طاهرة. هذه اللحظة ليست مجرد زيارة، بل اعتراف بالجميل، ووفاء للذاكرة. بعدها تبدأ الدائرة تتوسع: أبناء العم، الأصدقاء، الجيران، زملاء العمل، حتى من لم نرهم منذ شهور.

وفي بعض البيوت، نُقابل غرباء، لكنهم أهل لمن نحب. نُعانقهم بحرارة، ونتبادل التهاني، ونُدرك فجأة أن العيد لا يُقرّب فقط من نعرفهم، بل يجعلنا نُحب من لم نكن نعرفهم.

لكن خلف هذه البهجة، ثمة شيء آخر… شيء لا يُقال بسهولة. ففي داخل كل هذه الضحكات، ترفّ دمعة لرمضان الذي رحل. نعم، نفرح بالعيد، لكننا نُحب رمضان، بل نشتاق له ونحن في قلب الفرح. لأن رمضان لم يكن شهرا، بل كان وطنا مؤقتا سكنّا فيه ثلاثين يوما، وألفنا فيه أنفسنا. حين غادر، ترك فراغا لا يملؤه ضجيج العيد، ولا حتى ضحكات الصغار.

وفي كل سنة، نعيش هذا المشهد: نُضحك وجوهنا ونُطمئن قلوبنا، لكن شيئا من الحنين يسكن في الزوايا. حنين لصوت الإمام في التراويح، لدمعة خفية في لحظة دعاء، لسجدة طويلة شعرت فيها بقربك من الله. حنين لنقاء افتقدناه منذ ودّعنا رمضان.

وقد لا يقولها أحد، لكننا جميعا نُحسها. نُحس أن رمضان يُربّينا، يهدّئ قلوبنا، يذكّرنا بما هو أثمن، ثم يغادر ويتركنا أمام اختبار الاستمرار. فالعيد في أحد وجوهه، ليس إلا أول امتحان بعد رمضان: هل نستمر على الخير؟ هل نُحافظ على صفائنا؟ أم أن العيد يكون لحظة ننسى فيها ما كان؟

وفي زاوية أخرى من المشهد، هناك مَن يغيب. أولئك الذين كانوا يجلسون معنا على ذات المائدة، ويقاسموننا الحلوى والدعاء، صاروا اليوم في قلوبنا فقط. كانوا معنا في تفاصيل كل شيء، في صلاة العيد، في صوت التكبير، في توزيع العيديات، فيترتيب المقاعد، في إعداد القهوة، حتى في تلك النظرات التي تقول دون كلام: العيد لا يكتمل إلا بكم. كانوا يسابقوننا إلى المصلى، ويحرصون على أن نُسلّم على من لم نره منذ عام، ويُضحكوننا ونحن نرتدي أحذيتنا للخروج. اليوم، رحلوا… لكنهم تركوا لنا أثرًا لايُمحى.

اليوم، نذكرهم، ونتنفس ذكراهم في كل زاوية. نترحم عليهم، ونمسح دمعة لا نريد لأحد أن يراها، ونهمس في سجودنا: اللهم اجعل عيدهم في قبورهم أجمل، واجعل نور الجنة يملأ مضاجعهم، وبلّل أرواحهم بسلامك، وامنحنا الصبر حتى نلقاهم. فبعض الكراسي تبقى فارغة حتى في أكثر الأيام ازدحاما، لكنها تظل أكثر حضورا من كثير من المقاعد الممتلئة.

ورغم كل ذلك، لا يزال العيد يُقدّم لنا الفرص. فرصة لنعيد ترتيب العلاقات، لنتصالح دون أن نسأل: لماذا افترقنا؟، لنعانق من اختلفنا معه، ونرسل تهنئة لمنغاب، ونفتح أبوابنا لمن طرقها متأخرا. فالعيد لا يحاسب، العيد يحتضن.

أما الأطفال، فهم أبطال الحكاية. في عيونهم ترى الفرح الخالص، لا يفكّرون كم بقي من الراتب، ولا من سيزورهم أولا، ولا من لم يعايدهم. فقط يركضون، يضحكون، يمدّون أيديهم بثقة، ويخبّئون العيديات كأنها كنز لا يُقدّر بثمن. فهم العيد بصورته الأولى، وهم الفرح حين كان بسيطا.

ويظل من أجمل ما نعيشه في هذه المناسبة، أن الكل فيها واحد. الغني والفقير، القريب والبعيد، الكلي بتسم، الكل يأكل نفس الحلوى، ويشرب نفس القهوة، ويُعانق بنفس الحرارة. ذلك مشهد يعيد للإنسانية معناها، ويُذكّرنا أن الفرح حين يُقسم على الجميع، يصبح أعمق وأجمل.

ثم تأتي لحظة المساء، حين تهدأ الحركة، وتخف الضجة، ويجلس كل فرد في مكانه، يراجع في داخله كل ما جرى، ويبتسم دون أن يدري. لا لشيء، فقط لأن اليوم كان جميلًا، وكان مليئا بأشخاص أحبهم.

وهنا، يظهر السؤال: هل نستطيع أن نُبقي شيئا من هذا النقاء؟ أن نحمل معنا من العيد صفاءه؟ ومن رمضان نوره؟ وهل نقدر أن نعيش ببساطة هؤلاء الأطفال، وبصدق تلك الجدة، وبتسامح من صافحناهم بلا تردد؟

فإن العيد لا يُقاس بعدد الضيوف، ولا حجم المائدة، ولا عدد العيديات، بل يُقاس بعدد القلوب التي اقتربت، بعدد العيون التي ابتسمت، بعدد الأرواح التي اغتسلت بالحب. يُقاس بالعناق الصادق الذي أنهى خصاما طويلا، بالدمعة التي نزلت من عين أم رأت أبناءها متصافين، بالدعاء الذي خرج من قلب جدة ارتاحت أخيرا من همّها، وهي ترى أحفادها حولها كفرحة مؤجلة طال انتظارها.

فإن كنت ممن بادروا، وسامحوا، ووصلوا، واحتضنوا، وذكروا الغائبين، وواسوا الحزانى، فقد عشت العيد بكل معانيه. وإن كان بيننا من لم يجد مكانًا يفرح فيه، فلنكن نحن ذلك المكان. وإن مرّ أحدهم من أمام بابك دون تهنئة، بادر أنت، وكن أول من يزرع الفرح.

فما أجمل أن نكون سببا في عيد أحدهم، وما أصفى القلوب حين تكون العيد نفسه.

كل عام وأنتم بخير، وكل عيد وأنتم أقرب لله، ولأنفسكم، ولمن تحبون.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • الصليب الأحمر تحذر من خطر يتفاقم في العراق وتضرب مثلاً بـالديوانية
  • الصليب الأحمر لـ«الاتحاد»: ملايين السوريين بحاجة لدعم إنساني طويل الأمد
  • حين يمُر العيد من القلب
  • عبد المسيح: لإصلاح شامل وجذري في أجهزة الرقابة كافة
  • «المفتي» يحذر المسلمين من الانتكاسة الإيمانية بعد شهر رمضان
  • أغسطس المقبل.. ميل جيبسون يبدأ تصوير الجزء الثاني من فيلم "آلام المسيح"
  • "ثنائيات في أمثال السيد المسيح".. عنوان عظة البابا تواضروس اليوم
  • عبد المسيح: دورة الصمود التي رُقِّي بموجبها 26 رتيبًا في أمن الدولة إلى رتبة ملازم تواجه اليوم خطر إلغاء مرسومها
  • الجيش يتجه لإعلان الخرطوم خالية من قوات الدعم السريع
  • أغنيس مريم الصليب.. راهبة الأسد