المادة الحية.. ثورة جديدة في عالم تنقية المياه
تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT
عادة ما تكون الاختراعات التي تتعامل مع قضايا تنقية وتعقيم المياه حصرا على الباحثين المتخصصين في علوم المواد، الذين يكون جُلّ اهتمامهم اختراع مواد جديدة تؤدي هذه المهام، ولكن الأمر المثير للدهشة، أن يكون من بين قائمة الباحثين بأحدث دراسة في هذا المجال خرجت من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ونشرتها دورية "نيتشر كومينيكيشن"، علماء متخصصون في علم الوراثة، وذلك لطبيعة المادة الجديدة التي اخترعها الباحثون.
أطلق الباحثون على مادتهم الجديدة اسم "المادة الحية"، وهي عبارة عن هيكل مطبوع ثلاثي الأبعاد مصنوع من بوليمر مستخلص من الأعشاب البحرية مع بكتيريا هُندِست وراثيا لإنتاج إنزيم يحوّل الملوثات العضوية المختلفة إلى جزيئات حميدة، وصُمّمت البكتيريا -أيضا- لتدمر نفسها ذاتيا في وجود جزيء يسمى "الثيوفيلين"، الذي يوجد غالبا في الشاي والشوكولاتة، وهذا يوفر طريقة للقضاء عليها بعد قيامها بعملها.
يقول جون بوكورسكي، أستاذ هندسة النانو بجامعة كاليفورنيا، والباحث المشارك بالدراسة في بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة في 5 سبتمبر/أيلول الجاري "الأمر الجديد هو إقران مادة البوليمر مع نظام بيولوجي لإنشاء مادة حية يمكنها العمل والاستجابة للمحفزات، بطرق لا تستطيع المواد الاصطناعية العادية القيام بها، ولذلك تم التعاون في هذا العمل بين المهندسين وعلماء المواد وعلماء الأحياء، في مركز علوم وهندسة أبحاث المواد بجامعة كاليفورنيا".
وسمح هذا التعاون لعلماء الأحياء بتطبيق معرفتهم بعلم الوراثة وعلم وظائف الأعضاء في البكتيريا الزرقاء لإنشاء مادة حية، كما توضح سوزان غولدن، عضو هيئة التدريس في كلية العلوم البيولوجية، والباحثة المشاركة في الدراسة في البيان الصحفي الذي نشره موقع الجامعة.
كيف تم التصنيع؟لإنشاء المادة الحية في هذه الدراسة، استخدم الباحثون "ألجينات"، وهو بوليمر طبيعي مشتق من الأعشاب البحرية، ورطّبوه لصنع هلام (جِلْ) وخلطوه مع نوع من البكتيريا التي تعيش في الماء، التي تعمل التمثيل الضوئي والمعروفة باسم "البكتيريا الزرقاء".
وأُدخِل الخليط في طابعة ثلاثية الأبعاد، وبعد اختبار مختلف الأشكال الهندسية المطبوعة ثلاثية الأبعاد لموادهم، وجد الباحثون أن الهيكل الشبيه بالشبكة كان الأمثل لإبقاء البكتيريا على قيد الحياة، حيث يحتوي الشكل المختار على نسبة مساحة السطح إلى الحجم عالية، مما يضع معظم البكتيريا الزرقاء بالقرب من سطح المادة للوصول إلى العناصر الغذائية والغازات والضوء، كما أن زيادة مساحة السطح تجعل المادة أكثر فعالية في إزالة التلوث.
وكتجربة لإثبات المفهوم، هندس الباحثون البكتيريا الزرقاء الموجودة في مادتهم وراثيا لتنتج باستمرار إنزيما مطهرا يسمى "لاكاز"، وأظهرت الدراسات أنه يمكن استخدام الإنزيم لتحييد مجموعة متنوعة من الملوثات العضوية، بما في ذلك ثنائي الفينول أ (BPA)، والمضادات الحيوية والأدوية الصيدلانية والأصباغ.
التخلص من الصبغة الزرقاءوفي هذه الدراسة، أثبت الباحثون أن موادهم يمكن استخدامها لتطهير الصبغة القرمزية النيلية الملوثة، وهي صبغة زرقاء تستخدم على نطاق واسع في صناعة النسيج.
كما طور الباحثون طريقة للقضاء على البكتيريا الزرقاء بعد إزالة الملوثات، وهندسوا البكتيريا وراثيا للاستجابة لجزيء يسمى "الثيوفيلين"، حيث يحفز الجزيء البكتيريا على إنتاج بروتين يدمر خلاياها.
ويقول بوكورسكي، "يمكن للمادة الحية أن تعمل على الملوثات محل الاهتمام، ثم يمكن إضافة جزيء صغير بعد ذلك لقتل البكتيريا، وبهذه الطريقة، يمكننا تخفيف أي مخاوف بشأن وجود بكتيريا معدلة وراثيا باقية في البيئة".
ويشير الباحثون إلى أن الحل الأفضل هو جعل البكتيريا تدمر نفسها دون إضافة مواد كيميائية، وسيكون هذا أحد التوجهات المستقبلية لهذا البحث.
ويضيف بوكورسكي، "نحن متحمسون للإمكانات التي يمكن أن يؤدي إليها هذا العمل، والمواد الجديدة المثيرة التي يمكننا صنعها، وهذا هو نوع البحث الذي يمكن أن ينتج عندما يجتمع الباحثون ذوو الخبرة المتعددة التخصصات في المواد والعلوم البيولوجية".
الإنتاج التجاري للمادةمن جانبه، لا يرى بوكورسكي، أي عوائق كبيرة أمام الإنتاج التجاري للمادة، قائلا في تصريحات خاصة عبر البريد الإلكتروني للجزيرة نت، إن "المادة الأساسية مشتقة من الطحالب والموارد اللازمة لنمو البكتيريا الزرقاء متاحة، وهي الهواء والماء والضوء".
ويوضح أن ما توصلوا إليه هو عمل أولي، حيث يمكنهم الآن التفكير في حالات الاستخدام المحتملة، سواء كان ذلك معالجة المياه على نطاق واسع، أو شبكة صغيرة الحجم أكثر توزيعا.
وعن إمكانية التفكير في تطوير مادتهم الجديدة لتعمل مع ملوثات أخرى مثل جزيئات البلاستيك، وهي المشكلة التي أصبحت أكثر خطورة، قال، "سنعمل على ذلك، حيث توفر البيولوجيا مجموعة من الموارد المحتملة التي يمكن إعادة استخدامها لأغراض إزالة التلوث البيئي، وتتمتع المادة الحالية بالقدرة على تطهير الأصباغ الصناعية والمواد الكيميائية الدقيقة والمستحضرات الصيدلانية، ونتوقع دمج وظائف بيولوجية جديدة في المستقبل، منها التعامل مع المواد البلاستيكية".
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
حين تصبح الذئاب حليفا في مواجهة التغير المناخي
بعد مرور أكثر من مئتي عام على آخر مرة سُمع فيها عواء الذئاب في مرتفعات أسكتلندا، يعتقد الباحثون أن الوقت قد حان لعودة هذه المفترسات إلى هناك، حيث كانت تستوطن تلك العوالم منذ آلاف السنين.
ويبني الباحثون هذا الرأي على نتائج دراسة أجراها فريق من جامعة ليدز في المملكة المتحدة عن علاقة مثيرة بين وجود الذئاب ومكافحة التغير المناخي من خلال المساهمة في نمو الغابات، حيث أظهرت محاكاة جديدة أن عودة الذئاب قد تؤدي إلى خفض كبير في انبعاثات الكربون.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الفيضانات القديمة تكشف عن ماض مناخي درامي لشبه الجزيرة العربيةlist 2 of 2آثار مدمرة للحرب بأوكرانيا على النظام البيئي في المنطقةend of listوقد شهدت المنطقة تراجعا حادا في أعداد الذئاب بسبب عمليات الصيد الجائر والأنشطة البشرية المكثفة، وكان آخر توثيق لعملية صيد ذئب قبل حوالي 250 عاما.
ومع هذا التراجع الحاد، بدأت معالم الطبيعة في البلاد تتغير بشكل دائم، لاسيما بعد تمرد اليعاقبة عام 1745 الذي شهد إزالة واسعة للغابات وإنشاء أراض مخصصة للصيد.
وبغياب الذئاب، تزايدت أعداد الغزلان الحمراء التي كانت تسيطر عليها المفترسات الطبيعية، ويُقدّر عددها نحو 400 ألف غزال، مما أدى إلى تدهور الأرض بسبب التهام الأشجار الصغيرة وإعاقة نمو الغابات. واليوم، تغطي الغابات المشجرة أقل من 4% من مساحة أسكتلندا، مما يجعلها واحدة من أدنى النسب في أوروبا وفق بيان صحفي رسمي صادر عن الجامعة.
وفي النظم البيئية، تلعب بعض الأنواع دورا حيويا في الحفاظ على التوازن الحيوي والبيئي، وتُعرف باسم "الأنواع الرئيسة" وتُعدّ الذئاب مثالا بارزا على ذلك. فمن خلال افتراسها لحيوانات الرعي والعشب مثل الغزلان الحمراء، تساهم الذئاب في الحفاظ على صحة الغطاء النباتي، مما يسمح للغابات بالنمو والاستمرار.
إعلانوقد أثبتت فكرة إعادة إدخال الذئاب لاستعادة التوازن البيئي نجاحها في أماكن أخرى من العالم، أبرزها حديقة يلوستون الوطنية بالولايات المتحدة. إذ ساعدت عودة الذئاب في الحد من أعداد الغزلان مما أدى إلى انتعاش الحياة النباتية، وهو ما انعكس إيجابيا على التنوع البيولوجي حيث استفادت منه العديد من الأنواع الأخرى.
وفي حال تطبيق هذا النموذج على أسكتلندا، يعتقد الباحثون في الدراسة المنشورة حديثا بدورية "بريتيش إكولوجيكال سوسايتي" أن إعادة إدخال الذئاب قد تسهم في استعادة انتشار الغابات في البلاد.
وتشير محاكاة الباحثين إلى أن إدخال الذئاب إلى 4 مناطق رئيسة في أسكتلندا قد يؤدي إلى تقليص كثافة الغزلان في هذه المناطق، مما يهيئ بيئة ملائمة لنمو الأشجار الصغيرة وتعافي النظم البيئية.
وبمرور الوقت، ستؤدي هذه الغابات المتوسعة دورا حاسما في امتصاص الكربون من الغلاف الجوي، مما يساعد البلاد على تحقيق أهدافها المناخية.
ويقدّر الباحثون أن كل ذئب يمكن أن يساهم في امتصاص نحو 6080 طنا متريا من ثاني أكسيد الكربون سنويا، وهو ما يعادل 195 ألف دولار بناء على أسعار السوق الحالية لائتمانات الكربون.
وتحمل هذه الاستعادة إمكانات هائلة على المدى الطويل، إذ يمكن لهذه الغابات الجديدة، على مدار 100عام، امتصاص ما يصل إلى 100 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون، مما يسهم بشكل كبير في جهود أسكتلندا لمكافحة التغير المناخي.
كما أن توسّع هذه الغابات قد يساعد في تحقيق الأهداف المناخية الوطنية، إلى جانب توفير فرص اقتصادية لمالكي الأراضي والمجتمعات من خلال التمويل الكربوني، الذي يشمل بيع الائتمانات الكربونية الناتجة عن قدرة الغابات على امتصاص الكربون.
وعلى الرغم من الفوائد البيئية والاقتصادية الواعدة، فإن إعادة إدخال الذئاب إلى أسكتلندا لا تخلو من التحديات. إذ تُعد الصراعات بين الإنسان والحيوانات البرية، لا سيما مع الضواري الكبيرة، أمرا شائعا. ويقر الباحثون بأن نجاح إعادة الإدخال يتطلب سياسات عامة مدروسة بعناية.
إعلانويشير عالم البيئة والمزارع لي شوفيلد، المشارك في تأليف الدراسة، إلى أن تفهُّم مخاوف الجمهور وإشراك المجتمعات المحلية في عملية صنع القرار سيكون أمرا حاسما لضمان نجاح المشروع. ومن خلال الاستفادة من الدروس المستخلصة من عمليات إعادة إدخال الذئاب بالولايات المتحدة وأوروبا، يعتقد الفريق أن تنفيذ إستراتيجيات مناسبة يمكن أن يحقق توازنا بين احتياجات الإنسان والحياة البرية.