أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج

المنفى؟ ما أبسط هذه الكلمة وما أقساها وما أصعبها. هل هناك شيء مؤقت في مسألة المنفى؟ أي أن ما سنقوم به سيكون مجرد لحظة استراحة ريثما تستقر الأوضاع تعقب ذلك عودة سريعة. يجب أن نلوي لساننا سبع مرات قبل أن ننطق بكلمة منفى، فليست كباقي الكلام أبدا. المنفى كلمة محدودة الحروف، لكنها تخفي وراءها إرثا بشريا ثقيلا ومرا، مخترقا بالأشواق وآلام الفقدان، ومرارات لا يمكن حصرها وتمزقات وجراحات أدت بأصحابها إلى الهلاك.

هذا المنفى يمكنه، إذا تم استيعابه بشكل عقلاني، أن يكون معبرا نحو الكثير من السعادات الصغيرة غير المرئية. ولهذا، فكلما سمعت كلمة منفى، ينتابني إحساس غريب، ملتبس ومليء بالبياض، وهذا السؤال المرتبك والهش: ما معنى المنفى بالنسبة لفنان، منفاه الأول هو عتاده ولغته التي يكتب بها والتي لا يمكنه التنصل عنها لأنها وسيلته للعبور نحو الآخر. هو أصلا في عمق المنفى من حيث هو كاتب؟ اللغة تصنع عالما موازيا يعج بتفاصيل الحياة التي نحس بانتماءاتها لنا ولكنها لا تنتمي في نهاية المطاف إلا إلى اللغة ونظامها الصارم. وإذن أين يتجلى هذا المعنى العميق الذي تتبطَّنه هذه الكلمة المولدة للخوف ولمختلف الاهتزازات الداخلية؟ هل المنفى مثلا هو افتقاد الأرض التي شيد عليها الفنان ذاكرته وأشواقه؟ فكم من أرض يملك الكاتب إذن: أرض الطفولة التي يفقدها في سن مبكر ولا تستعيدها إلا الكتابة بشهواتها المختلفة ومخيالها الذي يهزنا بمتعته كلما توغلنا فيه مثلما حدث لفلادمير نابوكوف، طوماس مان وابنه كلاوس مان، نيكوس كزانتزاكي، ابن حزم، ابن رشد، ابن خلدون وغيرهم؟ أليس فعل الكتابة عن المكان هو اعتراف ضمني بالفقدان؟ هل هي أرض الشباب، التي سرعان ما تنطفئ داخل مجتمعات متخلفة تحاسبك على حبك وتتصيد تنفسك لأنه لا يشبه تنفس الآخرين وخرج عن نظام المجموعة الذي يجب أن لا تُخترق إذ ليس لك، في نظام الهيمنة والسيطرة، أن تحب، أن تتحرك كما تشتهي، ولكنك تكون الآخر الذي يشتهي أن يرى صورته المقهورة والمتخلفة فيك مما يضطرك إلى ترك أرضك والذهاب بعيدا نحو أرض أخرى، وربما كانت الكتابة والفن هي وطنك الموازي؟ هل المنفى إذن هو الارتحال عن أرضك، التي ليست هي أرضك الأولى، باتجاه أرض أخرى يفترض أن تمنحك الأمان والمحبة وبعضا من الراحة والحرية خصوصا، لأن التنقل لو اختزل في الرغبة في العيش والاستمرار في الحياة، يفقد معانيه العميقة والحية.

فالمشكلة ليست في الحفاظ على النوع لأنه آيل إلى الزوال ويحمل عناصر موته ضمن رصيده الجيني الثابت؟ عن أي شيء يبحث الكاتب إذن وهو يغسل يديه من وطن ورثته له التربة وخطابات الأهل والساسة المحنكون؟ عن وطن الحياة الكريمة؟ عن وطن العيش الحر، حيث يمشي ولا يلتفت وراءه كلما سمع وقعا خشنا لأحذية لم يتعود على سماعها؟ عن وطن الكتابة الذي ينشئ فيه كل حياته الموازية الجميلة؟ وإذن ما هي الخسارات اللاحقة المتولدة عن هذا الترحيل ألقسري من أرضه الصغيرة التي نبت في حدائقها كأية زهرة برية باتجاه توطين ليس دائما فعلا هينا؟ وماذا يمنح له هذا التنقل من اكتشافات جديدة يحافظ بها على الاستمرارية بمعناها الوجودي وليس البيولوجي فقط؟ كنت أظن أن المنفى مجرد كذبة نجمِّل بها النصوص والأشواق الدفينة. لم أكن أعرف أن لعبة الكتابة ستصبح فعلا تراجيديا. وأن الكتاب الأول الذي نشرته في حياتي الأدبية: ألم الكتابة عن أحزان المنفى، سيضعني أمام اختبار صعب كنت أظنه مجرد لغة أو لعبة لفظية حاسبني عليها الأصدقاء وقتها بأني أتحدث عن شيء لا أعرفه. لم يكن المنفى كذبة، كان جرحا بليغا. تراجيديا الأنا الهشة في مواجهة يقينيات الآخر الصارمة. ماذا بقي اليوم من تلك اللحظة المنكسرة والمعطلة؟ لا شيء سوى ألم عميق مبطن مثل المعدن الثمين، وروايات كثيرة مليئة بشيء أساسي: التعطش المستميت للحرية في عنفوانها الأقصى، وحياة موازية بين الأحرف والكلمات والقصص التي نخرجها من آلامنا، تشهد أن الحزن يومها كان كبيرا. وكلمات لا تبرحني أبدا وتمنحني مزيدا من الصمود والمطالبة بالحق في الحياة الأفضل: مؤقت؟ لكن متى كان المنفى فعلا مؤقتا. غياب السنة يمكن أن يتحول في لحظة إلى عمر. لا سنة تشبه أختها أبدا. فجأة تكتشف، وأنت أمام المرآة الطويلة التي تحتل وسط الخزانة، تصفف ما تبقى من شعرك أو تحلق وجهك المتعب الذي بدأت خطوط العمر والألم ترتسم عليه يصعب إخفاء شقائها وتجاربها وانكساراتها. كل شيء تغير، حركتك التي أصبحت متعقلة جدا وثقيلة بعض الشيء. انحناءة خفيفة في الظهر تدل بوضوح أن الزمن مر من هنا وسحب الكثير من النور في العينين:أنت لم تعد أنت. أصبحت شخصا آخر، محملا بذاكرة طال أمدها حتى أصبح من الصعب تحملها. حتى عندما تعود إلى أرضك من حين لآخر مخترقا الصعوبات والممنوعات، تشعر بها وبناسها بعيدين. حاجز ما ارتسم بقوة بينكما؟ تقاومه لكنه أثقل من كل إرادتك. وأن ما كنت تقبل به سابقا ويمر أمامك عابرا، لم تعد قادرا على تحمله. بدءا من حركة المطار. تقرأ شيئا من العبث في الأشياء. مسافرون كثيرون مجمعون عند بوابات شرطة الحدود التي تختم الجوازات. بوابة واحدة تشتغل وتسع مغلقات. الناس واقفون كأنهم غير معنيين. تصرخ في داخلك: لماذا لا يخففون عن المسافرين ويفتحون بقية البوابات؟ تنظر إلى الوجوه. تشعر كأن الأمر عادي بالنسبة لهم. لماذا تحمل على عاتقك شيئا لم يعد يثير البشر؟ تصمت، تحني رأسك ثم تمضي وقتا طويلا في سحابة الانتظار. أنت تعرف جيدا أنه لا وجود لأي منفى مؤقت في الدنيا حتى ولو حاولت خوض حرب استماتة ضده. المشكلة أن المنفى يصبح نظرة للحياة وفلسفة يستحيل التخلص منها. ويصبح تآلفك مع الرداءة وأنصاف الحلول صعبا إلا إذا خلقت حياة موازية ترمي فيها كل ما لا يروق لك وتظل في ألقك الداخلي وربما كان ذلك أقسى المنافي التي لا تشعر بها ولكنها تأكلك من الداخل إلى يوم تتجمع وتفاجئك بشهقة قلبية تشبه السكتة التراجيدية في كل شيء، حتى في طريقة إجهازها عليك.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

شواطئ.. الخطاب الروائي في أدب جمال الغيطانى (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

بين عالمين، الكتابة، والواقع يقف الراوي مستلهما من بيئته ومجتمعة، ما يجعل هذا الترابط ملموسا ومحسوسا ومرئيا، من خلال الإحالات النصية حينا، والنص الموازى حينًا آخر، في عنوانه، أو تمهيد، أو مدخل، وعلاقة ذلك كله بالنص، في إطاره الفني. ومن خلال العلاقة بخلفيات اجتماعية، وثقافية، وسياسية، أو بالعلاقة الضمنية، التي توجد بين النصوص. ولقد تداخلت الأنواع الأدبية في عصرنا الراهن، نظرًا لمتغيرات التاريخ، ومستجدات الواقع، وتحولات الاستقبال، فلم تعد محافظة على تراتبها الموروث، هذه القراءة النصية، التي يتحول فيها السرد التتابعى، إلى سرد آنٍ، وهو ما يتيح قراءة هذا النسق الزمني لفضاء النص، بموازاة التاريخ، وما تنتجه البنية النصية، وما يتم بها من تفاعلات، على المستويين: الجمالي والدلالي، والغيطانى وصاف وراو في الوقت ذاته، وفى خطاب الدفاتر مستويات عدة سردية: مستوى السرد من الخارج، ومستوى السرد من الداخل، ثم مستوى الخطاب بصنفيه، ويمكن القول إنه من خلال قراءة زمكانية، يسهل الربط بين الدفاتر وما سبقها للكاتب من أعمال، من ناحية، وبالموروث، من ناحية أخرى. فمما أثرى تجربته الإبداعية أنة لم يقطع صلته بمواريثه الروحية والفكرية والفنية على السواء. 

من هنا تأتى أهمية كتاب "الخطاب  الروائي في دفتر التدوين لجمال الغيطانى" للباحثة عتاب عادل والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. 

اضطلع جمال الغيطانى برواية دفاتره في صورة الراوي الظاهر، الذي لم يختف أبدا ولم يتخف، فكان دائما ما يعلن نفسه راويا: بانطلاقة الدائم من لحطة الكتابة – حاضر الكتابة – فكما تتمثل لنا " صورة شهرزاد وهى تتربع كل ليلة أمام سرير شهريار، لتسمعنا معه صوتها، كذلك يتربع الغيطانى على كرسيه، أمام مكتبة ليسمعنا صوته " انتبه الآن أثناء تدويني هذا إلى الأثر الصادر عنها". 

ويقول: "كم مضى على حضورها الأول لحظة تدويني هذا".. هكذا دائما يطالعنا الراوي، ليس من حاضر زمن القص، بل من حاضر زمن الكتابة، قابعا أمام مكتبة،كما تقبع شهر زاد أمام سرير شهريار، وليس جديدًا على الغيطانى أستلهامة للتراث، الصريح أو الضمني، كما في الدفاتر أو غيرها من أعماله. 

إن نص "دفاتر التدوين" الذي بين أيدينا يظهر راويا مختلفا من نوعه، متخطيا اعتبارات كثيرة، كاسرا كل الحوائط والحواجز بينة وبين نصه، فإن كان الذي يتحدث في القصة ليس هو الذي يكتب سطورها وليس هو الشخص الموجود خلف المكتب ممسكا بالقلم. فما بال هذا الراوي الذي يقول: أحيانا أضيق باستعاداتى بعضا مما جرى. فما البال بحالي عند الإقدام على تسطيره. أليس هو ذاك الشخص الذي يقبع خلف المكتب ممسكا بالقلم، يتذكر لحظة ويوارى أخرى، عبثا أحاول أن أحدق فيما لا أقدر على تعيينه، في المتبقي عندي، لا أعرف مستقرة أو مقامة، أو الشروط التي تدفع بعض التفاصيل إلى التواري أو الظهور، عبثًا أجتهد لاستحضار ملامح يفصلني عنها أكثر من أربعين عاما.  

وكم أشار إلى جلسته خلف المكتب المتمثلة في لحظة التدوين: "إحدى وثلاثون سنة تفصل بين تدوين هذا وتلك الأيام، وعبر الزمن ومحطاته المتعددة توارت لحظات، وبقيت أخرى، ثمة صورة ناصعة ماثلة، وأخرى لاستعادتها. وكم أدلى بمعلومات صريحة عن شخصه كاسم والده: "عند عبورنا فناء المحطة والوقت ليل، سرت الرعشة منه إلى أمي، اضطرت إلى التوقف والصيحة، الحقنى يا أحمد". وكذلك لقب والدته بين الجيران: "الحقينى يا جمال..." واسمه الذي جاء صريحا أكثر من مرة: "خارج دائرة الجمرك تنتظر سيدة ترتدي معطفا أسود تحته قميص أحمر، وحذا أبيض وترفع لافتة مستديرة مكتوب عليها أسمى هكذا Ghitany Gamal، ومولدة وسنة  تخرجه: بدأت سنة ثلاث وستين بعد تخرجي بحوالي عام وأنا دون الثامنة عشرة لتخرجي صغير السن: إذ حصلت على الدبلوم ولى من العمر ستة عشر عاما وشهور قليلة.   

إن الغيطانى في دفاتره لم يقدم على كتابة موضوع محدد، بل كتابة حياة كاملة، ممتدة، بحيث تبدأ من مرحلة الطفولة وحتى الشيخوخة، إنها حياته، وهى ليست حياة عادية، بل حياة كاتب رحالة، بدأ الرحلة طفلا حيث إقامة الأسرة بمحافظة القاهرة، والعودة في كل أول صيف إلى حيث الأهل والأقارب في مسقط رأسهم " جهينة " بمحافظة سوهاج، وما أن انتهى من دراسته بمدرسة الصنايع، قسم زخرفة،  حيث تخصص فى صناعة السجاد، وهذا ما جعله يبدأ الترحال إلى جميع المحافظات للأشراف على مراكز صناعة السجاد التابعة للمؤسسة التي يعمل بها، ثم اشتغل فيما بعد بالصحافة وبدا الترحال حول العالم، ولا تفوتنا مرحلة عملة كمراسل حربي، التي اطلعتة على جانب آخر من الحياة، وهو أجواء الحروب والمعسكرات وأيضا مراحل اعتقاله، كل هذه الجوانب مما زخرت بة حياة الكاتب، عندما يحاول أن يلم بها جميعا، فإنه من العسير أن يشملها خيط واحد، لذلك تنوعت الأشكال الضامة لهذه الأحداث والأشخاص والأزمنة والأمكنة، والسيرة الذاتية والرواية والرحلة وحتى الخواطر. 

وكان زمن ما قبل الكتابة أقل حدة على الغيطانى فى " دفاتر التدوين " مما سواه، وأقل حدة على كتاب السيرة الذاتية بشكل عام من سائر كتاباتهم، فزمن ما قبل كتابة السيرة الذاتية، ما هو الإ عملية اختيار وترتيب لأحداث موجودة بالفعل. إن ما يسمى " بالمخاض الإبداعي " يظهر في صورة ما يعتمل في ذاكرة الكاتب من مد وجزر، حتى يصل إلى مرحلة يمكنه فيها ترجمة هذه العواطف على وريقات، تكون بمثابة كتابات أولية يمكننا نحن القراء أن نطلع عليها، حتى تستوي على الصورة النهائية التي نراها، فزمن " المخاض الإبداعي " خاص بالكاتب ولا نعلم عنه شيئا، وهذا هو الجديد الذي خرج به علينا الغيطانى، إذ أشرك القارئ معه فى زمنه، وهو زمن ما قبل الكتابة إذ قام بتدوين هذه الوريقات وإلصاقها بصفحات الدفاتر، فرأينا ما يعتمل بذاكرته أثناء عملية المخاض الفكري، حيث قال: " أما التحنين – كما أفهم – فهو الحض على الشوق، والتشجيع على الميل. وكلاهما لا يكون إلا من أجل عزيز، غالٍ، بعيد، وهناك أعز على المرء من عمره ؟ هل ثمة أقسى من اللحظات المولية ؟ لا أظن. لذلك شرعت، غير أنني أبدأ بالتحنين، فالمسافات بعيدة والعلامات باهتة، بل إن بعضها محي تمامًا فعملية التحنين هذه ومحاولة استثارة كوامن النفس، حتى تحدث ما بها من ذكريات، هي عملية خاصة بالكاتب، وتكون فى زمن ما قبل الكتابة، ومما أستخدمه الغيطانى في ذلك ذكر المرأة، يقول أما الرفارف التي أحاطت بى ومستني وأجتنى، فمتعلق أمرها بالمرأة. 

مقالات مشابهة

  • السودان الجديد الذي يسوق له “دقلو” هو ارض جدباء بلا سكان ولا بنى تحتية
  • مجلة أمريكية: علينا ان نستذكر “المرة الوحيدة” التي أوقف فيها “الحوثيون” هجماتهم في البحر 
  • شواطئ.. الخطاب الروائي في أدب جمال الغيطانى (1)
  • بلاد لا تشبه الأحلام لبشير البكر.. سيرة المنفى السوري
  • عزة هيكل: موسم دراما رمضان 2025 متنوع وورش الكتابة نقطة ضعف
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: الشبكة التي نتخبط فيها
  • زايد بن حمد يفتتح عمومية المنظمة العالمية للجواد العربي “الواهو “
  • الجزائري خالد ونوف يفوز بعضوية في الاتحاد العربي لـ “الجيدو”
  • إزالة الحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة التي وضعها النظام البائد أمام “فرع فلسطين” بدمشق وتسهيل حركة الآليات والمركبات أمام السائقين
  • اليوم.. ما الذي ناقشته واشنطن ولندن مع “السعودية” بشان “البحر الأحمر”