رغم صغر سنه تحول الكاتب والباحث المصري أحمد عبد الحليم إلى أحد الوجوه الجديدة المهمة داخل المشهد الثقافي العربي، وتعد مؤلفاته قليلة من حيث الكم وغنية من حيث النوعية.

إذ يستغرب المرء كيف لكاتب بعمر 28 عاما، أن يكتب بتلك الطريقة المدهشة التي يسعى من خلالها جاهدا إلى الحفر في قضايا فكرية ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل الثقافة العربية المعاصرة، بحكم أنه طرق في كتاباته الأخيرة قضية فكرية شائكة لم تعهدها الثقافة العربية بعد.

بل إنه حاول عبر دراسات الكتاب أن يقوم بنوع من التأصيل الفكري الذي سيجعل الموضوع مألوفا ومستساغا داخل الفكر العربي المعاصر. وإن كان موضوع السجن قد استنفد مادته على مستوى التفكير والكتابة داخل الأدبيات الفلسفية المعاصرة، فإنّه ما يزال في العالم العربي محكوما عليه بالنسيان.

بل إنّ صاحب كتاب "من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية" يُسلّط الضوء على عدّة مفاهيم ذات علاقة بحياتنا اليوم كما نعيشها. وإذا كان الكتاب ينطلق من تجربة شخصية، فقد كان حريصا على أن يأخذ شكل الكتابة طابعا فكريا جدليا، يستكنه به عوالم فضاء السجن في علاقته بالأجساد. من ثم، كان لزاما عليه أن يعمل على تشريح دقيق لمفهوم الجسد من خلال مجموع تمثلاته داخل فضاء السجن، وذلك في علاقته بمفهوم الجنسانية، وما يطرحانه من أسئلة عميقة مرتبطة بتحولات الجسد في الحقبة المعاصرة.

كتاب "من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية" صدر حديثا عن "مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث -بيروت" (الجزيرة)

عن مضامين الكتاب وعوالمه الفكرية، وصولا إلى أهمية موضوع الجسد وما يطرحه من أسئلة شائكة داخل الفكر العربي المعاصر، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الكاتب والباحث المصري أحمد عبد الحليم:

الفضاء والجسد إلى أي حد ساهم السجن في ارتفاع منسوب الوعي بحساسية هذا الفضاء ومدى تأثيره على أجساد السجناء خلال فُسحة وجودهم؟

لم يرفع السجن مدى الوعي حول فضاء السجن فحسب، بل امتدّ الوعي إلى فضاءات كثيرة. عبر السجن، خاصة في مصر، يتعرّف الإنسان على الدولة ومؤسساتها الواسعة كمّا وكيفا، يرى، عبر التجربة، كيف تشتغل الدولة المصرية يوما بعد يوم، يرى كيف تعامل مواطنيها وأجسادهم، عبر الاستبعاد والنبذ والامتلاك.

لذلك كانت تجربة السجن، بالنسبة لي، هي التجربة التي غيّرت، بل وشكلت من جديد، مدارات أفكاري، حول الذات والجسد والمعرفة والسُلطة والسياسة والثورة والمجتمع والمؤسسات وأشياء أُخرى.

في نظرك، كيف يمكن للعلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية أن تساهم في إغناء هذا الحقل المعرفي الذي لم يأخذ حقه من ناحية التفكير والدراسة والتحليل، رغم أنه موضوع سبق عرضه في الفكر الفلسفي المعاصر خاصة بعد ثورات فرنسا عام 1968؟

برأيي، مؤخرا قد نالت الأكاديمية العربية سواء الرسمية أو غيرها من مؤسسات معرفية قدرا جيدا من الاهتمام بدراسات الجسد، وذلك بعد حركة الترجمة النشطة التي تقوم بها بعض من مراكز أبحاث الفكر ودور النشر، والتي ساهمت في نقل وترجمة نظريات وأفكار حول الجسد والمعرفة والسلطة، لفلاسفة وأساتذة، مثل بيير بورديو وجورجيو أغامبين ومارسيل موس ودافيد لو بروتون وبيونغ تشول هان وميرلو بونتي وإلزا دورلين و إيرفنغ غوفمان ومن قبلهم ميشيل فوكو وبراين ترنر وغيرهم.

كما يشتغل المؤرخ المصري خالد فهمي على الجسد وعلاقته بالسُلطة وتطورها من خلال دراسة وتحليل بناء الدولة المصرية الحديثة، مثلما فعل في عمله الأخير المترجم عن دار الشروق (مصر 2022) المعنون تحت "السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة"، وتكمن أهمية أعمال فهمي ومِثلها، في أنها، نابعة من أساتذة عرب، تحاول فهم علاقة الجسد بالسُلطة والمعرفة من خلال قراءات تاريخية حية لمجتمعاتنا العربية، وهذا يُصوّب الدقة بشكل أكبر مقارنة باستدعاء النظريات الغربية، والتي هي نابعة من مُنظري غربيين، هم أَسرى -بشكل أو بآخر- تجاربهم ضمن تاريخ مجتمعاتهم الغربية.

أسئلة الفكر العربي هل تعتقد أن الفكر العربي المعاصر، ما يزال يعيش نوعا من الرجعية الفكرية التي تجعله يُكرّر التفكير في موضوعات لا علاقة لها بالواقع العربي اليوم؟

توجد حركة دينامية في تطور المعرفة ونقدها في منطقتنا العربية، حيث أرى أنه بالفعل، توجد مؤسسات تعمل في إنتاج معرفة عربية تواكب الواقع. لكن، مع الأسف في نفس الوقت، تعيش الحركة الثقافية تحت واقع استبدادي سلطوي، وهذا ما يجعلها تقف محلها، بل حتى تتراجع إلى الوراء. وهذا أمر نسبي يصعب قياسه، لكن ما هو مؤكد، أن إنتاج المعرفة الحقيقية التي تتقدم بها المجتمعات والأمم، تتناسب طرديا مع حجم الحرية التي تعيشها الحركة الثقافية والمجتمعات، فالاستبداد هو مؤذّن لخراب الثقافة والأخلاق والحاضر والمستقبل.

توجد مؤسسات تعمل في إنتاج معرفة عربية تواكب الواقع. لكن، مع الأسف في نفس الوقت، تعيش الحركة الثقافية تحت واقع استبدادي سلطوي، وهذا ما يجعلها تقف محلها، بل حتى تتراجع إلى الوراء.

رغم المكانة التي بات يحتلّها هذا الفكر في دينامية ونسيج الفكر المعاصر، ما تزال موضوعات الجسد ومدى تمثلاته داخل الفنون البصرية المعاصرة غائبة بشكل كامل في الإنتاج الفكري العربي. هل تعتقد أنّ هذا الأمر عادي؟

مسألة الجسد داخل الفنون المرئية العربية تحتاج إلى مزيد من التدقيق والدراسة، إذ أرى من خلال متابعتي، أن الجسد، بالفعل، أخذا حيزا كبيرا في كثير من الأعمال الفنية سواء في السينما أو الدراما أو حتى المسرح، لكن تلك الأعمال لم تأخذ قدرا كبيرا من التحليل والتفكيك من قِبل نقاد الفن؛ إذ تجد نظريات الفرنسي بيير بورديو وإرفينغ غوفمان عن الجسد كـ"رأس مال رمزي"، موجودة في قلب أعمال نجيب محفوظ السينمائية، مثل فيلم "الشيطان يعظ" (1981) و"سَمارة الأمير" (1992).

كذلك في أعمال المخرج المصري خالد يوسف، مثل فيلميّ "كلمني شكرا" (2010) و"حين ميسرة" (2007)، وكما في فيلم المخرج المصري محمد أمين، مثل فيلم "فبراير الأسود" (2014). وكثير من أعمال مصرية، ممتدة من الستينيات حتى وقتنا الحالي، صنعتها أسماء فنية، مثل إحسان عبد القدوس وصلاح أبو سيف وحيد حامد وسمير سيف وعاطف الطيب وداود عبد السيد وأسامة فوزي ومصطفى ذكري وغيرهم الكثير.

حتى في الفيلم العربي للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، والذي كان عنوانه وقصته، تتحدث بشكل صريح عن الجسد، وهو فيلم "الرجل الذي باع ظهره" (2020)، حيث صور الفيلم الجسد كسلعة فنية تعرض وتُؤجر وتُباع في المتاحف والمعارض.

ورغم هذا، لم ينل الفيلم نقدا واشتباكا فنيا حول الجسد وعلاقته برأس المال في الواقع الحالي. إذ وُجد الجسد داخل الفن، لكن لم يوجد نقد واشتباك جاد حول الموضوع ذاته. ومن هنا نرى حضور الجسد في الأعمال الفنية المرئية العربية، لكن يوجد غياب للاشتباك النقدي والتحليلي حيال علاقة الجسد في الفن العربي. وربما في الحاضر القريب، أحاول الاقتراب والاشتباك في هذا الحقل المعرفي والبحثي.

السلطوية التي تشكل الجسد، ليست بالضرورة يجب أن تكون سلطوية سجنية، بل ربما تكون سلطوية نيوليبرالية، تشكّل الجسد وفقا لرؤيتها في فضاءاتها المختلفة، مثل الحفلات ومراكز التسوق وشركات العمل والإنتاج.

عن الجسد والمتخيل صدر لك هذه الأيام مؤلف آخر بعنوان "تمثلات المجتمع المصري في الذات والجسد والهوية". ما حدود التقاطع والتلاقي بينهما؟

الكتاب مقسم لـ5 فصول. الفصل الرابع، أتناول فيه تمثلات الجسد في المجتمع المصري، في السلطة والبطولة والنبذ والموت. في هذا الفصل خرجتُ بالجسد إلى فضاءات مختلفة مثل رأس المال والنيوليبرالية والتقنية. وحاولت إيضاح ما وراء تمثلات الجسد المتقاطعة والمتباينة. وهنا جاءت أوجه التقاطع من خلال تبيان أن السلطوية التي تُشكّل الجسد، ليست بالضرورة يجب أن تكون سُلطوية سجنية، بل ربما تكون سلطوية نيوليبرالية، تشكّل الجسد وفقا لرؤيتها في فضاءاتها المختلفة، مثل الحفلات ومراكز التسوق وشركات العمل والإنتاج.

كما تناولت في هذا الفصل، كيف يصبح الجسد منبوذا في عين السلطوية السياسية، كما الجسد ما بعد الموت. وفي الوقت الحالي، أعمل على مشروع "كتاب" عن علاقة الجسد بالسياسة في مصر الحديثة، تحديدا مصر ما بعد سلطوية الثالث من يوليو/تموز 2013.

الهوية المصرية وسردياتها المتداخلة والمتباينة شهدت انكماشا وامتدادا وتقاطعات مختلفة على مرّ القرنين الماضيين.

إذا ما أردنا استعادة وعرض عنوان الكتاب، كيف تمثّل الاجتماع المصري داخل الجسد والهوية؟

سأبدأ بالهوية، الهوية المصرية وسردياتها المتداخلة والمتباينة شهدت انكماشا وامتدادا وتقاطعات مُختلفة على مرّ القرنين الماضيين، وتحديدا القرن الـ20. السرديات الفكرية الكبرى، الإسلام بتنوعاته المختلفة، الحركية، السياسية منها والدعوية، اليسار بكافة اختلافاته وانشقاقاته، العروبة والقومية، الليبرالية والعلمانية.

من حيث الهُوية، شهد تمثيلها في المجتمع المصري ما بعد 2013، انكماشا ومواتا حادا، بسبب النظام السياسي المصري الذي انقلب على الثورة، وأمات السياسة وسردياتها الفكرية، ووضع سردية الاستثناء (القمع) كمرجعية لحكمه السلطوي.

تمثل المجتمع المصري بتيه من حيث الهُوية والانتماء، عكس ما كانت عليه فئات مجتمعية كثيرة قبل 2013. هذا التيه انعكس على الجسد، بشكل أو بآخر، إذ باتت مظهرية الجسد ذاتها فاقدة للهوية، بل وخاضعة لتشكل هويّات جديدة، تحت مسمّيات السوق والاستهلاك والتقنية والعرض والطلب وغير ذلك.

وهنا تمثل المجتمع المصري بتيه من حيث الهُوية والانتماء، عكس ما كانت عليه فئات مجتمعية كثيرة قبل 2013. هذا التيه انعكس على الجسد، بشكل أو بآخر، إذ باتت مظهرية الجسد ذاتها فاقدة للهوية، بل وخاضعة لتشكل هويّات جديدة، تحت مسمّيات السوق والاستهلاك والتقنية والعرض والطلب وغير ذلك. لذا وُجدتْ علاقة قوية بين الجسد وتمثيله والهوية وتمثيلها داخل المجتمع المصري.

ما مشاريعك القادمة في البحث والكتابة؟

في الوقت الحالي أعمل على 3 مشاريع؛ الأول هو كتاب "الجسد وتمثيله: من السياسة إلى الاستهلاك"، وهو عنوان أولي وليس نهائيا. أحاول فيه عرض نقاش عن علاقة الجسد والسلطة خارج الفضاء السجني، مُتّخذا بداية حكم محمد علي لمصر (1805) سياقا تاريخيا وفلسفيا، ومركّزا على سلطة ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013. كما أبحث في انتقال الجسد وتمثيله من السياسي إلى الاستهلاكي.

أما الثاني فهو نقل كتاب "من يمتلك حق الجسد"، من العربية إلى الإنكليزية. أما الثالث فأدبي، رواية "التابع وسليمان: رواية للآخر"، وهو عنوان أولي أيضا. وتُحاكي الرواية قصة حياة أحد التابعين في مصر، والتابع هنا أقصد به تعريف غرامشي، أي الذي لا ينتمي إلى فئات حزبية أو فكرية أو سياسية. وأتمنّى أن أُتمّ نشر هذه المشاريع الثلاثة بحلول نهاية عام 2023.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المجتمع المصری الفکر العربی الجسد فی ل الجسد من خلال ما بعد فی مصر من حیث

إقرأ أيضاً:

المدينة الآثمة بوصفها سردية العار المؤسس: الوليد مادبو وتفكيك الجنسانية السلطوية

(( المدينة الآثمة: "حديث الجنسانية" للدكتور الوليد مادبو نص يتجاوز التنظير إلى مساءلة الذات السودانية من خلال تشريح علاقتها بالجنسانية والجسد والسلطة )).

ليست هذه المدينة التي يصفها الوليد مادبو مكانًا بعينه، بل وعيًا مكسورًا يمشي على قدمين. مدينة لا تُبنى من حجارة، بل من وجوه، من نفاقات صغيرة، من خيانات ناعمة، من تلك الجُمل التي نتلفّظ بها ونحن نُخفي رغبتنا ونبتسم، من اللغة نفسها وقد صارت خادمة للسلطة وأداة للتبرير. المدينة الآثمة ليست هي الجغرافيا، بل هي المعجم حين يصير في خدمة القهر. إنها التجلي اللغوي للعار حين يُصبح نظامًا، للذة حين تتحول إلى حقل ألغام، وللأجساد حين تُعاد صياغتها لا بوصفها كيانات تشتهي وتُحب، بل كأوعية للسلطة، وساحات للعقاب.

في هذا النص المدهش، لا يكتب مادبو عن الجنسانية كما يُكتب عنها عادة، بوصفها تيمة بيولوجية أو مجازًا اجتماعيًا، بل بوصفها العقدة العصبية التي تتقاطع فيها السياسة، والدين، واللغة، والتاريخ، والطبقة. كتابه أشبه بتشريحٍ حارٍّ لجسدٍ مصلوب في قلب مدينة بلا قلب. جسد لم يُمنح أن يتكلّم، بل أن يُقال عنه، أن يُقرأ من أعلى، أن يُفسَّر دائمًا بغير لسانه، وأن يُطوى داخل أخلاق ملفّقة ليست سوى تجميل للهيمنة، وإعادة إنتاج للسيطرة.

في فضاء مثل الفضاء السوداني، حيث الجنسانية تُختزل في “الحياء”، ويُدار الجسد كملف أمني، ويُحوَّل الجمال إلى إثبات إدانة، فإن الكتابة عن الجنس ليست تجرؤًا، بل مساءلة للبنية الأخلاقية نفسها. مادبو لا ينطلق من فضيحة، بل من سؤال: من الذي يحق له أن يعرّي من؟ من يملك تعريف الحياء؟ من يصوغ اللغة التي نعبّر بها عن رغبتنا؟ ولماذا تكون الفحولة، حين ترتدي بزّة العسكر أو جبّة الإمام، محلّ احترام، بينما الحنان يُعدّ هشاشة؟ لماذا الفجور المنظَّم هو ما تمنحه المدينة شرعيتها، بينما الحب المتلعثم هو ما تسخر منه؟

هنا، تستدعي أطروحة مادبو استبصار بيير بورديو في “العنف الرمزي”، حيث تتحول أدوات التعبير إلى أدوات للهيمنة، وتُعاد صياغة الرغبة ضمن شروط السلطة. الجسد لا يُمنَع فقط، بل يُعلَّب. لا يُراقب فحسب، بل يُحتَقر.
لا يُخنق فحسب، بل يُختزَل. ولذلك، فإن اغتصاب النساء والأطفال – الذي يناقشه النص بشجاعة وصرامة – ليس انحرافًا فرديًا، بل ذروة نظامية لانهيار الرمز، وانكشاف الكبت كأداة سلطوية تُمارس بوَجهَيْن: الطهارة المدّعاة في العلن، والتوحش المؤسسي في الظل.

لكن ما يستدعي وقفة أطول في نص مادبو هو اشتغاله على اللغة ذاتها، لا بوصفها حاملًا للمعنى، بل بوصفها بُنيةً تشريحيةً للجسد الاجتماعي. هنا، لا يكون النص تفكيكًا لما هو مفعول به في الواقع فحسب، بل أيضًا لما هو مفروض علينا في المعجم. إذ لا يمكن للجنسانية أن تتحرّر ما دامت مفرداتها تُصاغ من داخل مخيلة القامع، ولا للجسد أن يسترد حقه في اللذة ما دام يُكتب بلغة العار.

في هذا السياق، يبرز استخدام لفظ “النياكة” بوصفه مركزًا دلاليًا يُلخّص كيف تتحوّل اللغة نفسها إلى أداة من أدوات الإخضاع.

لا يتحدث مادبو عن هذه المفردة بوصفها فعلًا جنسيًا، بل كمفردة ثقافية، كنظام لغوي متكامل يُعيد تشكيل الجسد ضمن علاقات الخضوع. وحين يستعمل هذا اللفظ، لا يفعل ذلك بهدف الإثارة أو الصدمة، بل ليكشف المسافة الفاجعة بين لغة الرغبة ولغة السيطرة، بين الجسد كحاجة بشرية، والجسد كأداة استعراض سلطوي.

يشير مادبو صراحة إلى أن هذا اللفظ كان ينتمي إلى بنية تعبيرية مشروعة، لكنها أُفرغت من معناها الديني، وصارت تُستخدم لاحقًا للتصنيف والازدراء، كما في قوله: “منيكة ساكت”. وهذا ما يستدعي قراءة سيميائية للنص، لأن اللغة هنا ليست وعاءً بريئًا، بل طرفًا أصيلًا في الجريمة.

إنها اللغة نفسها التي، حين تقول “شرف”، تُخفي اغتصابًا؛ وحين تقول “عفّة”، تُبرّر قتلًا؛ وحين تقول “رجل”، لا تعني نضجًا بل سطوة.

هكذا يتحوّل المعجم من أداة تواصل إلى سلاح تأديب، وتتحول الكلمات من علامات إلى قيود، من رموز للحياة إلى نصوص للعقاب.

المدينة الآثمة، إذن، ليست التي “يحدث فيها الفساد”، بل التي تمنح للفساد لغته النبيلة، وتسميه “مروءة”، وتُنتج خطابًا مخصيًّا، ثم تسميه دينًا. ولذلك، فإن السؤال الجوهري الذي يسكن النص هو سؤال العدالة الرمزية: كيف يمكن أن نعيد للغة بريقها، للأنوثة معناها، وللرغبة لغتها، في مجتمع يجلد الجسد بتواطؤ من النصوص، والشعائر، والميكرفونات؟

أحد أقوى مواضع الكتاب، حين يصف مادبو اغتصاب الأطفال بوصفه “مرآة المدينة” لا استثناءً منها. إنها لحظة سقوط جماعي. لحظة تتكشّف فيها البنية كاملة: الأب الذي لا يُصغي، الأم التي لا تجرؤ، الجار الذي يصمت، الخطيب الذي يحرّض، الدولة التي تبرّر، والصحف التي تهمس.
إنها لحظة تواطؤ لا يمكن تبريره، وهنا يُستدعى تحليل من علم النفس التحليلي الجمعي، حيث يتحول المجتمع إلى “أنا كليّة خائفة” تهرب من اعترافها، وتختبئ خلف قيم مصطنعة. يشبه الأمر ما أشار إليه إريك فروم عن “الشخصية السادية” التي تتلذذ بالسيطرة حين تعجز عن الحب.

ولا يمكن فصل ذلك، كما يرى مادبو، عن سقوط المشروع السياسي ذاته، لا لأن السياسة فشلت في منع الجريمة، بل لأنها أُعيدت صياغتها بوصفها تكنولوجيا للفحولة، حيث السلاح لا يُستخدم لحماية المدينة، بل لإخضاعها. الإنقاذ لم تكن مجرد نظام سلطوي، بل نظام لغوي أيضًا، نظام أعاد تعريف الشرف والخوف والمواطنة والفضيلة، حتى صرنا نُصدّق أن الجمال خطر، وأن المرأة فتنة، وأن العناق خيانة، وأن الجسد عورة، وأن القُبح فضيلة!

وحين يتحدث الكاتب عن زيارته للجنوب، فإن اللغة تهدأ فجأة، وكأن النص يتحول من سِفر الاحتجاج إلى نشيد اعتراف.
يعترف: لقد خذلنا الجنوب. ليس لأننا لم نحافظ على وحدته فحسب، بل لأننا صدّرنا إليه وهم الطهر، بينما كنا نغتصب ذواتنا في الخفاء. الجنوب، في هذا المقام، ليس إقليمًا، بل مرآة. مرآة كنا نخاف أن ننظر فيها لأننا سنرى ملامح الوحش الذي صنعناه، وسنسمع صراخ الأنوثة وهي تُسحق تحت عمامة الفقيه، وفوهة البندقية.

وفي لحظة نادرة من الحفر، يربط مادبو بين انهيار الزواج كمؤسسة، وبين تدمير القدرة على الحميمية. ليس لأن العلاقات انتهت، بل لأن الثقة ماتت. لأن المدينة، حين تتحول إلى مراقب، تقتل الحميمية، وحين تُحاكم اللمسة، تزرع فينا الخوف من أن نُحب. ويكتب: “ما عاد بالإمكان القبول بمحاولات الإصلاح التلفيقية”، وكأن كل محاولة للتجميل ليست سوى تجديد لقناع الجريمة، وأن أول خطوة نحو النجاة هي الاعتراف بأن الجسد لا يُصلح من فوق، بل يُحرّر من الداخل، من المعنى، من الرغبة.

في قلب هذا النص، يتبدّى أن الجنسانية ليست مجرد مسألة رغبة أو تابو اجتماعي، بل هي البنية العميقة التي يعيد النظام من خلالها إنتاج نفسه، وتوزيع الخوف، وتمويه الخضوع.
لقد أدرك الوليد مادبو أن الجسد ليس ساحة هامشية في خطاب السلطة، بل هو المسرح الأساسي للعقيدة السلطوية. تمامًا كما ذهب إتين دو لا بويسيه حين قال إن الطغيان لا يحتاج إلى القمع وحده، بل إلى الخنوع المُستبطن. والمدينة الآثمة ليست سوى التعبير المكثّف عن هذا الخنوع وقد صار سياسة، وصار أخلاقًا، وصار ديكورًا يوميًا للحياة.

لماذا لم يُسمّها “المدينة الساقطة”؟ ولماذا اختار “الآثمة”؟ الكلمة نفسها محمّلة برنين لاهوتي، تحيل إلى الخطيئة، إلى الذنب، إلى لعنة مؤسسة. وكأن مادبو يريدنا أن نعيد تأويل نصنا الأخلاقي الجمعي من جديد: أن نعيد تسمية ما نظنه فضيلة، ونُدقق في ما نظنه إثمًا. ليس الآثم من يرغب، بل من يكبت ويقتل. ليس من يُحب هو المجرم، بل من يجرّم الحب ويُشيد حوله أسوار الحذر. في هذه التسمية يكمن البُعد الما-ورائي للنص، حيث المدينة ليست “مدينة دنيوية” فحسب، بل كيان لاهوتي فاسد، كما تصوّرها أدورنو حين قال: “حيث تغيب الرحمة، تبدأ السياسة”.

والرحمة هنا ليست شعورًا فرديًا، بل هي نظام حياة. ولأن الرحمة لا تُمارَس، فإن الجميلات، في هذا النص، لسن مجرد نساء. هن استعارة مكثفة لمفهوم الجمال حين يتحول إلى عبء. الجمال، في المدينة الآثمة، ليس امتيازًا، بل خطر دائم، يُراقَب، يُشتم، يُزدرى، ويُقمع. يكتب مادبو: “الجميلات هن الجميلات”، جملة تتكرر بشكل شبه جنائزي، وكأنها نشيد لجنازة علنية لحق الجمال في أن يُرى دون أن يُنتهك، وفي أن يُعاش دون أن يُحتقر.

في المجتمعات التي تنتج ذكورة مخصيّة، حيث يُربّى الذكر على الخوف من الحنان، والخجل من الاعتذار، والتباهي بالعنف، تصبح الجميلة هي العدو، لأنها تذكّر هذا الذكر بعجزه، وتمنحه مرآة لا يريد أن ينظر فيها. وهكذا، لا يعود الجمال إغواءً للذات، بل فضحًا لخللها، ومصدرًا لاحتقار الذات المُستلبة، كما عند بول ريكور حين يتحدث عن “الشر الذي لا يُغتفر”: أن تكره من يُظهر لك هشاشتك.

ولعل أكثر ما يُحسب لهذا النص، أنه لا يُحمّل الذكر وحده مسؤولية الخراب، بل يرى أن المنظومة بأكملها ـ من المدرسة إلى المسجد، من الأم إلى الخطيب، من القانون إلى الحي الشعبي ـ قد اشتركت في إنتاج هذا العنف المقنّع. الكل، بدرجات متفاوتة، شارك في تربية الذكر بوصفه مشروع اغتصاب محتمل، والأنثى بوصفها مشروع لوم جماعي. ولهذا لا يتردد مادبو في أن يقول: “لقد ساهم أكثرنا بالأنانية والتجاهل والجبن في تشييدها”؛ المدينة، أي مدينة، لا تُبنى فقط بالحجارة، بل بما نمرره من سكوت، وبما نباركه من لغة، وبما نتغافل عنه من فجور مقنّع.

وهنا يجب أن نستعيد البعد الطبقي للنص. فالمتحرش ليس فقط منتجًا فرديًا لاختلال جنسي، بل ابن نظام طبقي يُشعره يوميًا بوضاعته، وبلا جدواه، وبأن المدينة ليست له. وحين لا يستطيع أن يملك المدينة، يملك الجسد. وحين يُقصى من السلطة، يبحث عن ضحية. هذه ليست سردية لتبرير العنف، بل لتفكيكه. وكما يقول إرنست بلوخ: “حين لا يجد الإنسان معنى، يبدأ في تعذيب مَن حوله”. والسوداني المقموع، كما يصفه مادبو، لا يعذّب فقط، بل يعيد إنتاج العذاب تحت اسم الشرف.

ووسط كل هذا الظلام، لا ينعدم الأمل، بل يتخذ شكلاً مراوغًا. الأمل، في هذا الكتاب، ليس شعارًا، بل فعل مقاومة رمزية، تبدأ من استعادة اللغة، ومن استعادة الحق في الكلام عن الرغبة دون أن نُشعر بالذنب. يبدأ الأمل من الاعتراف، لا من الخطابة. من الحنان، لا من الطهرانية الزائفة. من القدرة على أن نقول إن الجسد ليس مؤامرة، وإن الحب ليس خيانة، وإن الحياء لا يُبنى بالجهل، بل بالمعرفة العميقة بالنفس.

وربما يكون أكثر ما يمكن أن يُقال عن هذا النص، أنه يكتب من نقطة في القلب ليست محايدة. فمادبو لا يُحلل فقط، بل يُحاكم. لا بوصفه قاضيًا أخلاقيًا، بل بوصفه واحدًا من الذين ساروا في شوارع هذه المدينة، سمعوا أنينها، وشاركوا – بدرجة ما – في صمتها، ثم اختاروا أن يتكلموا. أن يضعوا الكلام في مواجهة الخوف، وأن يقولوا إن الجنسانية ليست عيبًا، بل العيب أن نعيش عمرنا نرتجف كلما نطقت الرغبة فينا.

في لحظة ما، وأنت تقرأ المدينة الآثمة، تدرك أن الجنوب، ذلك الذي أفرد له مادبو فصلًا شفيفًا، لا يتكلم. الجنوب يُحكى عنه، يُروى بوصفه مكانًا للحظة استبصار، أو كمرآة تعكس تشوهنا في المركز، لكنه لا يظهر كذات. وهذا ليس سهوًا شكليًا، بل فجوة رمزية، تستحق أن تُقرأ في ضوء تحليل الخطاب. إذ لماذا لا نتخيل الجنوب ناطقًا؟ لماذا نظل نضعه في خانة المتلقي الأبدي للخذلان؟ أليس في هذا التوزيع الصامت للتمثيل، ما يعكس استمرارًا خفيًا لمركزية لغوية تتنكّر لما تدّعي تجاوزه؟

قد يكون هذا الغياب، هو أكثر ما يجعل من نص مادبو نصًا صادقًا: لأنه لا يتجمّل. لا يدّعي العدالة المطلقة، بل يترك في سرده فجوات يمكن أن تدخل منها الأسئلة. وهذا ما يجعلنا نتساءل: ماذا لو كتب هذا النص بجسد جنوبي؟ هل كانت المدينة ستكون آثمة بذات الطريقة؟ هل كان الشرف سيتجلّى كخطاب مخصي بنفس التركيب؟ هذه الأسئلة لا تنقض النص، بل تُتمّه. لأنها تُظهر أن ما لم يُكتب، لا يقل أهمية عن ما كُتب. الصمت ليس فراغًا، بل جزء من المعمار الرمزي.

وعليه، فإن الرهان الأكبر لهذا النص هو على إمكانية الاعتراف. ليس الاعتراف الجنسي، بل الاعتراف بالانحراف البنيوي في فهمنا للذات. حين يتحول الاعتراف من فعل فردي إلى ممارسة جماعية، يصبح الجسد ليس فقط موضوعًا للرغبة أو العار، بل موضوعًا للعدالة. العدالة بوصفها استردادًا للغة. فالذي يُحرم من التعبير عن رغبته، يُحرم من اسمه. ومن هنا نفهم كيف أن المدينة الآثمة لا تقتل بالجسد، بل بالصمت.

ما يطرحه مادبو ليس مشروع إصلاح سلوكي، ولا دعوة لمزيد من التنوير المدرسي. إنما هو دعوة لتغيير جذري في الخيال الاجتماعي. الخيال الذي يشكّل تصوراتنا عن الأنثى، عن اللذة، عن الحياء، عن الحب، عن الذكر، عن الغواية. هذا الخيال – كما يرى كورنيليوس كاستورياديس – لا يتغير بالمواعظ، بل بالثورات الرمزية، بتغيير اللغة، وتكسير الصور، وإعادة رسم المتخيَّل العام. والمدينة لا تُشفى بإصلاح البنية التحتية، بل بإعادة صياغة المعنى الذي نحيا به.

وربما هنا، في هذه النقطة تحديدًا، يصبح لهذا النص ضرورة. لأنه لا يقول لنا فقط أن المدينة آثمة، بل يضعنا، نحن القراء، موضع التورط. نحن لسنا خارج النص. نحن لا نقرأه من علٍ. بل نحن أحد أشكال هذه المدينة. صمتنا جزء منها، حذرنا، تهذيبنا المصنوع، سكوتنا حين يُذكر الجنس، تلك الابتسامة المتواطئة حين تمر امرأة جميلة في شارع مليء بالذكور، تلك الغمزات، تلك النكات، ذلك العجز عن قول “أنا أحتاج” دون أن نخاف من أن نُجرَّم.

لذلك، فإن هذا النص لا يطلب إعجابك، بل يُحرّضك على الخوف من نفسك. لا يطلب التصفيق، بل يجعلك تسأل: هل أنا أحد هؤلاء الذين بنوا هذه المدينة؟ هل كنت فاعلًا أم متفرجًا؟ هل أُحب دون أن أُسيء؟ هل أُرغب دون أن أمتلك؟ هل أستطيع أن أرى جسد الآخر دون أن أختزله؟ هل أملك الشجاعة لأقول إنني أريد، دون أن أُستدعى إلى محكمة الأخلاق؟

وأنت تخرج من هذا النص، لا تحمل حلاً. بل تحمل مرآة. لكن هذه المرآة لا تعكس ملامحك فقط، بل تعكس المدينة بكاملها، وأنت فيها. هذا ليس كتابًا يُقرأ، بل يُنصت إليه كوشوشة آخر الليل، حيث تعود رغباتك القديمة لتقول لك: لم تكن آثمًا حين أحببت. الآثمة كانت المدينة.

هذه المدينة الآثمة لا تحتاج إلى إسقاطٍ جديد، بل إلى اسم جديد للبوح المُحرّر من الوصاية.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • رافينيا.. من لاعب منبوذ ترفضه الأندية لنجم برشلونة الأول
  • السجن لـ6 أشخاص بسبب ارتدائهم الزي العسكري في حفل زفاف .. فيديو
  • قوات سجون ولاية البحر الأحمر بسجن بورتسودان تكرم المدير العام لقوات السجون
  • أصوات فكرية تطرح أسئلة الموازنة بين الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي
  • حملة دعائية شاملة داخل وخارج معرض السفر العربي للمقصد السياحي المصري (صور)
  • تفاصيل الجناح المصري المُشارك في معرض سوق السفر العربي 2025 ATM
  • تعرف على الجناح المصري المُشارك في معرض سوق السفر العربي (2025 ATM) بمدينة دبي
  • وزير السياحة والآثار يقوم بجولة داخل الجناح المصري في معرض سوق السفر العربي
  • المدينة الآثمة بوصفها سردية العار المؤسس: الوليد مادبو وتفكيك الجنسانية السلطوية
  • وزير السياحة والآثار يقوم بجولة داخل الجناح المصري المُشارك في معرض سوق السفر العربي