قراءة في كتاب يؤرخ لعلاقة الإعلام بالقضية الفلسطينية قبل الاحتلال وأثناءه
تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT
صدر عن مركز الأبحاث ـ منظمة التحرير (رام الله، ط1، 2023)، الكتاب الموسوعي "أطلس الصحافة العربية الفلسطينية"، تحرير المؤرخ اليساري الفلسطيني عبد القادر ياسين.
وقد كانت الكاتبة الفلسطينية معالي أحمد عصمت، قد كتبت هنا في "عربي21"، في أيار مايو الماضي تعريفا بالكتاب وأهم محاوره، واليوم يسلط الكاتب والباحث الفلسطيني في الشؤون التاريخية أحمد الدبش الضوء على الدور المحوري الذي لعبه الإعلام في التعريف بفلسطين كبلد وهوية وشعب وقف في وجه كل الغازين والمحتلين.
هدف المُحرر، من وراء كتابه هذا، إلى "الاطلاع على الدور الوطني للصحافة العربية الفلسطينية". (تصدير المُحرر، ص 11) ولتحقيق هذا الهدف، كتب مُحرر الكتاب عبد القادر ياسين خمسة من فصول الكتاب الثلاثة عشر، بينما غطى الفصول الثمانية الباقية: صلاح عبد الرؤوف (مصر)، د. إلهام شمالي (فلسطين ـ غزة)، عادل عشماوي (مصر)، الراحل غسان الشهابي (فلسطين ـ سوريا)، إنشراح عاشور (فلسطين ـ هولندا)، الراحل على الخليلي (فلسطين ـ الضفة الغربية)، محمد كريم (فلسطين ـ سوريا)، منى أسعد (سوريا).
جاء تقسيم الكتاب في أربعة أبواب (313 صفحة من القطع المتوسط)، أختص أولها بالصحافة العربية الفلسطينية تحت الاحتلال البريطاني (1918 ـ 1948)؛ وضم أربعة فصول، جاء أولها تحت عنوان: "رصد صحافة الحقبة"، عدد المؤرخ اليساري الفلسطيني عبد القادر ياسين، جملة من المحدّدات لظهور الصحافة العربية في فلسطين، منها: المحدد الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. فكان أول ظهور للصحافة العربية، في فلسطين، بعد دخول الطباعة العربية إلى فلسطين بثلاثين عامًا، "ففي عام 1876، أصدرت السلطات العثمانية صحيفتي (القدس الشريف) و(الغزال)".
واتسمت الصحافة حينذاك بـ"التكلف، في الشكل والإخراج، كما في المحتوى". واتسمت موضوعات صحف المرحلة الأولى من الحركة الوطنية الفلسطينية (1918- 1929) بأنها "شاملة، ولغتها ــ بوجه عام ــ مهذَّبة، وعباراتها مفهومة، وكلامها ينطق بأدب جمّ، وغيرة وطنية مشكورة". وفتحت هبة البراق، في آب/ أغسطس 1929، صفحة جديدة في تاريخ الصحافة العربية الفلسطينية، التي اعتبرها المُحرر صحف المرحلة الثانية من الحركة الوطنية الفلسطينية، التي أظهرت "نشاطًا سياسيّاً مجدياً، رفد الحركة الوطنية الفلسطينية". فاشتدت الهجمات الصحفية على الاحتلال البريطاني، ما أدى إلى إصدار حكومة الانتداب، عام 1933، "قانون المطبوعات"، "من أجل مضاعفة القيود المضروبة على الصحافة". أما المرحلة الثالثة فهي صحف أربعينيات القرن العشرين التي وقفت على "قدم المساواة مع الصحافة اللبنانية والسورية، وإن ظلت دون مستوى الصحافة المصرية، فنياً".
وتضمن هذا الفصل جداول بـ" اسم كل صحيفة صدرت حينذاك، وتخصصُّها، واسم صاحب امتيازها، ورئيس تحريرها، وتاريخ صدورها".
في الفصل الثاني "مجلة الاقتصاديات العربية"، استعرض الباحث المصري، صلاح عبد الرؤوف، فكرة مجلة "الاقتصاديات العربية" لمؤسسها فؤاد سابا، وسماتها وتوجهاتها، فعمدت إلى نقل "ما استطاعت من الجديد في علوم الاقتصاد"، و"أولت اهتماماً كبيرًا بفلسطين"، واستنكرت تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين، و"اعتبرته إحدى النكبات التي مُنيت بها البلاد"، وينتقد عبد الرؤوف الغياب الإيديولوجي للمجلة، وتناقض الآراء على صفحاتها فيما يتعلق بالانتداب البريطاني.
تولت د. إلهام الشمالي، في الفصل الرابع، مهمة رصد "الصحافة الأدبية"، التي صدرت في هذه الحقبة، وهو فصل غني بالمعلومات عن الصحافة الأدبية في فلسطين، حيث "بلغ عدد الصحف الأدبية المتخصصّة في فترة الانتداب نحو 29 مجلة". وتستعرض المؤلفة أهم الصحف الأدبية، وتاريخ صدورها، واسم المؤسس. فقد "تميزت الصحافة الفلسطينية الأدبية، بأن معظم محرريها، وكتَّابها الرئيسيين، كانوا من الأدباء، المتعطشين للأدب".
أما الفصل الرابع "الصحافة والحياة السياسية"، ألقى المؤرخ عبد القادر ياسين حزمة من الأضواء حول السياق السياسي للصحافة العربية الفلسطينية في هذه الحقبة.
تضمن الباب الثاني "صحافة ما بين النكبة والنكسة"، ثلاثة فصول، وغطى الباب سنوات ما بين النكبة 1948 ونكسة 1967، جاء أولها تحت عنوان: "صحافة قطاع غزة 1948 ـ 1967"، حيث رصد ياسين، الصحف العربية الفلسطينية التي صدرت في قطاع غزة. وقسم هذه الصحف إلى حقبتين، الحقبة الأولى من حكم الإدارة المصرية (1948- 1956)، والحقبة الثانية ما بين سنتيْ (1957 و1967).
وفي الفصل الثاني "الصحافة في الأردن"، عالج عادل عشماوي تطور الصحافة الفلسطينية في الأردن، خلال الفترة بين العاميْن 1948- 1967، وفق مراحل ثلاث: تمتد الأولى منها ما بين نكبة 1948، وحتى توحيد الضفتيْن، الشرقية والغربية لنهر الأردن (آيار / مايو 1950)؛ بينما تمتد المرحلة الثانية إلى التحوُّلات السياسية الدراماتيكية في الأردن (ربيع 1957)؛ ومن هذه التحوُّلات إلى نكسة 1967، حيث المرحلة الثالثة.
وتضمن هذا الفصل جداول بـ" اسم كل صحيفة صدرت حينذاك، وتخصصُّها، واسم صاحب امتيازها، ورئيس تحريرها، وتاريخ صدورها".
في الفصل الثالث "الصحافة والحركة السياسية في فلسطين المحتلة عام 1948، تناول الباحث الراحل غسان الشهابي، الصحافة والحركة السياسية في فلسطين المحتلة عام 1948، ودورها في التصدي للحركة الصهيونية، فبعد احتلال فلسطين 1948، وإنشاء الكيان الصهيوني، "تبلورت التيارات السياسية، وتم إفراز الأطر، والتنظيمات، ونشأت الصحف، التي خاضت معاركها". وتضمن هذا الفصل جدول يوضح أهم الصحف العربية في فلسطين المحتلة ما بين 1948 ـ 1994.
أما الباب الثالث "تحت الاحتلال الإسرائيلي"، تضمن خمسة فصول، رصدت انشراح عاشور، في الفصل الأول تحت عنوان "في الضفة الغربية وقطاع غزة"، حركة الصحافة الفلسطينية في الضفة الغربية والقطاع، بعد حزيران/ يونيو 1967، حسب المراحل الزمنية التالية: الأولى من 1967- 1973؛ والثانية من 1974- 1978؛ والثالثة من 1979- 1987؛ أما المرحلة الأخيرة، فمن 1988- 1991. وركزت الباحثة على توضيح المعالم الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، لكل مرحلة، وتأثيرها على منحنى إصدار الصحف.
وتضمن هذا الفصل جداول بـ" اسم كل صحيفة ، وسنة صدورها، واسم رئيس التحرير، وصفتها ودوريتها".
بينما دون لنا علي الخليلي (رحمة الله) تجربته في العمل الصحفي تحت الاحتلال الإسرائيلي؛ في الفصل الثاني "شهادة في التجربة الصحفية تحت الاحتلال". واستعرض الباحث النشأة الصعبة للإعلام الفلسطيني في المرحلة المبكرة، هذه النشأة التي "أنتجت، بالضرورة، قدرات مصقولة، ومتدربة على انتاج إعلام مقروء، وجد مجاله الواسع بين المواطنين القراء، ووجد دوره في التثقيف، والتوعية، والتربية، الاجتماعية والإنسانية، رغم كل الضغوط، والصعوبات".
رصد محمد كريّم في الفصل الثالث "صحافة المقاومة في دول اللجوء"، فـ"على الرغم من عدم البيان الصحفي للمقاومة، في دول اللجوء، قبل عالم 1967، فإن هذه الفترة شهدت تشكُل أنوية صحافة المقاومة الفلسطينية في الخارج". فـ"كانت حركة فتح سباقة في إصدار نشرة شبه علنية، أطلقت عليها اسم (فلسطيننا ــ نداء الحياة)، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 1959". و"في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1964، أشرف الأديب الفلسطيني غسان كنفاني على مجلة (فلسطين ــ ملحق المحرر)، استمرت في الصدور، حتى 6/7/1967، معبّرة عن وجهة نظر التنظيم الفلسطيني في حركة القوميين العرب". وبعد هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، صدرت عدة صحف فلسطينية، يمكن التمييز بينها؛ فأولاً، ثمة صحف، والنشرات المركزية في التنظيمات الفلسطينية؛ وثانياً، الصحف، والنشرات غير المركزية؛ وصحف الاتحادات والنقابات المهنية؛ فالصخف المتخصصة؛ وأخيراً، الصحف الخاصة.
أما الفصل الرابع، فكتبه ياسين، عن "المعركة: شهادة على جريدة مقاتلة"، وهي التي صدرت إبان الحصار الإسرائيلي لبيروت (صيف 1982). وتتبع المحرر في الفصل الخامس، أيضاً مجلة "الجنى" الفلسطينية، التي صدرت في بيروت في العام 1994، واتسمت بمذاق صحفي خاص.
بينما تولت الإضاءة الأخيرة المحامية منى أسعد، حول "التشريعات الصحفية في فلسطين"، بداية من التشريعات العثمانية، في حقبة الحكم العثماني، مروراً بالتشريعات الصادرة من الاحتلال البريطاني، حتى سنة 1948، وأسفرت نكبة 1948، عن تقسيم فلسطين، إلى أراضي احتلتها القوات الإسرائيلية، وأخرى حملت اسم "قطاع غزة"، ووقعت تحت حكم الإدارة المصرية، فيما ضمت أراضي فلسطين الشرقية، إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وحملت منذئذٍ، اسم الضفة الغربية، ما أوقع هذه المناطق الثلاث تحت تشريعات متباينة. ونتيجة احتلال القوات الإسرائيلية للضفة والقطاع، إبان حرب 1967، أخضعت هاتان المنطقتان لتشريعات الاحتلال الإسرائيلي الجائرة، فيما ظلت أراضي 1948، تخضع لتشريعات من نمط آخر.
أما الملحق، فقد تمثل في نص "قانون المطبوعات والنشر للسلطة الفلسطينية".
وأخيرًا، لابد أن نسجّل ما ذكره د. عماد الأصفر، في تقديمه للكتاب، "لقد أبدع الأساتذة ـ بارك الله جهدهم ـ في تتبع ورصد وتوثيق وتحليل صحافتنا الصادرة في هذه المراحل، ورغم صعوبة ذلك بسبب غياب أو قلة المصادر وانقطاع الأجيال وغياب التوثيق واستيلاء الاحتلال الإسرائيلي على كثير من المكتبات والأرشيفات، فلقد تمكنوا من الإحاطة بأبرز المحطات وأغلبية الصحف، وأفلحوا في تعريفنا بالصحافيين الأفاضل من جيل المؤسسين، تاركين لنا مرجعاً مهماً يمكننا من مواصلة البحث في ثنايا هذه الصحف لاستجلاء واقع الحياة في تلك الأيام، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً".
*كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الفلسطينية نشرة فلسطين كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار تغطيات سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال الإسرائیلی العربیة الفلسطینیة الصحافة العربیة الفلسطینیة فی الضفة الغربیة تحت الاحتلال فی فلسطین الأولى من التی صدرت فی الفصل فلسطین ـ ما بین
إقرأ أيضاً:
القرصنة من العمل اللصوصي إلى التوظيف السياسي والحربي.. قراءة في كتاب
الكتاب: تاريخ القرصنة في العالمالكاتب: ياتسيك ماخوفسكي، ترجمة أنور إبراهيم
الناشر: مؤسسة هنداوي عام 2022
عدد الصفحات: 278 صفحة
ـ 1 ـ
يعود الكاتب ياتسيك ماخوفسكي في أثره " تاريخ القرصنة في العالم" إلى أزمنة الإغريق والرومان والقرطاجنيين في حوض البحر الأبيض المتوسط ما قبل الميلاد. فيعرض بداية ظهور أعمال القرصنة. ثم يتدرج من القرون الوسطى إلى العصور الوسطى والحديثة في البحر الكاريبي وبحار أمريكا الشمالية والمحيط الهادي وبحار الجنوب. ويبحث في مدى إسهام القراصنة في تشكيل التحالفات بين الدّول بعد أن أصبحوا يشكلون جيوشا غير نظامية. ويحاول من وراء ذلك أن يسد فراغا في المكتبة الروسية، اللغة الأصلية للكتاب، وفق مؤلفه. فيردّ نشأة هذه الظاهرة إلى الفينيقيين أولا ثم لجأ إليها الإغريق لاحقا، خاصّة قبائلهم المقيمة على السواحل. وإليها يرد الفضل في ظهور الملاحة البحرية.
ـ 2 ـ
ورغم قيام القرصنة على النهب والاستيلاء على أملاك الغير، عدّت عند الإغريق حرفةً رفيعة المنزلة. فتغنوا بها في ملاحمهم. فأخيل بطل حرب طروادة مثلا، يعترف بفخر في الإلياذة بأنَّه احترف القرصنة. أما بوليكراتس طاغية ساموس في أواخر القرن السادس ق م، الذي اشتهر بإحسانه للمواطنين الفقراء، ورعايته للفنون والعلوم وتقريب أبرز الشعراء والمعماريين والأطباء إليه، فقد بنى مجده من القرصنة ومن سيطرة أسطوله الضخم على بحر إيجه. وبعد أن استولى على ساموس بمساعدة إخويه، قتل أولهما (بانتاجنوت)، ونفى أخاه الآخر (سيلوزدن)، ليستأثر بالسلطة كلّها وليضاعف ثرواته من الإتاوات الضخمة التي كان يفرضها على قباطنة السفن.
تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية يمكن للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة وينتهي إلى نتائج جديدةيفسر الباحث تحويل الإغريق للقرصنة إلى قيمة ايجابية، رغم ثقافتهم الروحية الرفيعة إلى فقرهم المادي مقارنة بجيرانهم الفينيقيين. "وهكذا فكلما سار تطور التجارة إلى الأفضل بالنسبة للفينيقيين، وازدادت الثروات المنقولة على مراكبهم، اشتدت عملية السطو في بحر إيجه" وكان على الفينيقيين أن يدفعوا الأموال للصوص البحر في هيئة فدية وتعويضات سخية.
ـ 3 ـ
أصبح القراصنة لاحقا من القوة والتنظيم ما خوّل لهم إنشاء دويلات ومكّنهم من عقد الاتفاقيات مع الدّول الكبيرة. وكانوا يعوّلون على الهجومات المباغتة ليلا بعد أعمال تجسس دقيقة فيسرقون الحلي الثمينة والمشغولات الفضية والذهبية، وينهبون المعابد ويختطفون النساء والأطفال، لبيعهم بأسعارٍ باهظة في أسواق الرقيق المنتشرة في بلدان البحر الأبيض المتوسط. أو يحاصرون الجزر، ويجبرون السكان على دفع الإتاوات، وإبَّان رسو مراكبهم على الشواطئ يتحوّلون إلى قطاَع طرق.
وعلى خلاف الإغريق كان الرومان أكثر صرامة مع القراصنة. يذكر الكاتب وفق سرد أدبي بيّن، تعرض يوليوس قيصر، الجنرال والقائد السياسي والكاتب الروماني وقائد الجيوش الرومانية في حروب الغال الأهلیة، لهجوم القراصنة لما نفاه لوسيوس كورنيليوس سولا القائد والديكتاتور (138 ق.م-78 ق.م) من روما، وانتقامه لاحقا بإعدام ثلاثمائة وخمسين منهم وصلب ثلاثين من قادتهم. وهذا ما خلّص شعوب البحر الأبيض المتوسط من خطرهم لزمن. ولكن بعد موته سنة 44 ق. م. ستعود القرصنة من جديد. فقد كان بأسهم يشتدّ كلما كان الإمبراطور الجالس على العرش أضعف. واستمرّ الوضع حتى سقوط إمبراطوريتهم في القرن الخامس الميلادي.
ـ 4 ـ
لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر. فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم. فيقدّر أنهم تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط بدءًا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها. فأمكن لحركة القرصنة هذه وفق الكاتب أن تستولي على معظم الموانئ الكبرى في شمال أفريقيا، شأن مواني طرابلس وتونس والجزائر. فمارسوا النهب البحري على نطاق واسع. ويردّ سطوتهم إلى إبرام محمد بن الحسن آخر حكام الدولة الحفصية، معاهدة مع الأخوين بارباروس، فقد خوّل لهما الهيمنة على جزيرة جربة مقابل مبلغ من المال وقدر دائم من الغنائم.
ينتهي الكاتب إلى أن قراصنة البربر القادمين من جزيرة جربة كان، [يحدوهم الإحساس بارتباطهم الديني والاقتصادي بالأتراك، بالوقوف ضد أعدائهم مُغيرين على السواحل الجنوبية لكلٍّ من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، حيث كانوا يُعملون النهب في الموانئ المحلية الغنية، ويأسرون الآلاف من السكان. كان الأغنياء منهم يدفعون فديةً ضخمة، بينما كان الفقراء يبقون ليرزحوا في أغلال العبودية.
على هذا النحو تعاظمت القدرة الاقتصادية والسياسية للقراصنة البربر، وما هي إلا سنوات معدودة، حتى استولوا تقريبًا على الساحل الشمالي المطلِّ على البحر الأبيض المتوسط]. ويصف تنصيب عروج (1447- 1516) لنفسه سلطانًا على الجزائر باسم بارباروس الأول بظهور أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا. ورغم انتباهه إلى الصلات العميقة بين ازدهار عمل القرصنة في المتوسط ومحاولة الأسبان التوسع شرقا على حساب بلدان شمال أفريقيا.
ـ 5 ـ
يختتم الأثر بالبحث في القرصنة في العصر الحديث. فيؤكد تراجعها مع انتهاء القرن التاسع عشر، وعدم تمثيلها خطرًا حقيقيًّا على الملاحة البحرية، مستثنيا بعض أعمال النهب البحري الفردية خاصةً في البحر الأحمر وفي البحار المتاخمة للصين. ومع ذلك يعرض تحول القرصنة في عشرينات القرن الماضي ثلاثيناته أشكالًا منظمة تجعلها شبيهة بالمؤسسات الرأسمالية، ممثلة في هيكل يستأجر بعض المرتزقة الذين يتولون البحث عن الأهداف المفترض.
وفي فترة الحربين العالميتين وما بينهما، ظهرت قرصنة من نوع جديد. فقد قصف الألمان السفينة ـ المستشفى الإنجليزية "ليندوفيري كاسل" بقذائف الطوربيد قرب شواطئ أيرلندا، رغم بروز الإشارات التي تكشف طابعها السلمي، ثم لاحقوا قوارب النجاة التي لجأ إليها الضحايا لطمس جريمتهم. وظهرت أعمال إجرامية تنفذها الأساطيل البحرية ضد السفن التجارية التابعة للدول المحايدة. وتعرضت السفينتان السوفيتيتان "تميريازيف" و"بلاجوييف"، اللتان كانتا تبحران عبر البحر المتوسط إلى هجمات لم يتم تبنيها من قبل أي طرف. ولكن السوفييت احتجوا لدي ايطاليا الفاشية واتهموها بالضلوع في الهجوم رفقة القوات الألمانية.
بالمقابل، قادت الدول البحرية الكبرى الجهود منذ نهاية القرن التاسع عشر وفي غير سياق الحرب، عمليات مشتركة، بهدف القضاء التام على النهب البحري. وتم ذلك وفق الباحث نتيجة للانتقال من الاقتصاد الإقطاعي إلى الاقتصاد الرأسمالي. فعندها بات ينظر إلى القراصنة باعتبارهم أفرادا خارجين على القانون. فصيغت مبادئ عامة، وقواعد قانونية، تدين القرصنة، وتحمي مبدأ حرية التجارة. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تقدّر عند العمل على وضع تشريع القانون الدولي في عام 1962 "أن القرصنة بهذا الشكل الذي يُعنى به القانون الدولي لم يعُد لها وجود تقريبًا؛ ولهذا فإن دراسة هذه المشكلة من وجهة نظر ضرورة معالجتها من خلال اتفاقية دولية، ليس لها في الوقت الحالي مغزًى كبيرٌ."
ولكن لم يتم القضاء عليها قضاء نهائيًّا، فبعض الأعمال لا تزال تجد اليوم هنا أو هناك. وفضلا عن ذلك ظهرت قرصنة جديد ة تُمارس بإيعازٍ من بعض الدول، فتصادر سفن بعض الدّول بطريقة غير القانونية ويتم الاستيلاء على حمولتها أو إغراقها في عرض البحر بتعلة مقاومة الإرهاب أو منع الدول المحاصرة من توريد السلع أو تصديرها. وهذا ما جعل فُقهاء القانون يعيدون تعريف القرصنة فيؤكدون أنها تشمل كل الأعمال الإجرامية التي تهدد أمن الملاحة البحرية.
ـ 6 ـ
يعرض الكتاب تاريخ القرصنة في بقاع مختلفة من العالم على مدار تاريخ البشرية إذن. ولكن يعنينا منه خاصّة ما تعلّق بـ"ـقراصنة البربر". فقد بدا ملمّا بطبيعة الصدام بين الدولة العثمانية والأسبان غير المباشر في حوض المتوسط منذ بدايات حرب الاسترداد التي أفضت إلى سقوط الأندلس وشبه الجزيرة الإيبيرية مدركا أنّ قراصنة شمال أفريقيا كانوا يمثلون قوات غير نظامية تعمل على السيطرة على البحر الأبيض المتوسط وأنّ معظم عناصرها هم من أحفاد المسلمين الذين طردوا من إسبانيا، آخذا للبعد الديني لهذه المعارك بعين الاعتبار. فما كان يجدّ من الصدام هو في الأصل "حرب ضد قوات الهلال تحت القيادة الروحية للبابا" ممثل المعسكر المسيحي.
لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر. فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم. فيقدّر أنهم تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط بدءًا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها.ولكنه مع ذلك ينتهي إلى استنتاجات متسرعة غير منسجمة مع هذا التمشي التحليلي. فالأسبان، عنده، اتجهوا إلى جربة ثم إلى الجزائر لا لبسط نفوذهم على العالم الإسلامي ضمن خططهم التوسعية وإنما " لما أصابهم الذعر من جراء النهب البحري الذي استشرى في البحر الأبيض المتوسط - بتنظيم حملة مسلحة شقَّت طريقها نحو شمال أفريقيا، واستهدفت القضاء على أوكار القرصنة فيه، على أنَّ التوفيق لم يحالفها في تدمير جربة، فيممت إلى الجزائر". والجزائر عنده تمثل "أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا".
ورغم إقراره بأن" المغاربة يقدرون أصحاب الحَرف والفنانين والأطباء تقديرا رفيعا، وكانوا كثيرا ما يُعيدون العبيد إلى حريتهم، وقد اختلط الكثير من هؤلاء بالسكان، وتزوجوا منهم، واعتنق بعضهم الإسلام، وارتدوا العمائم، وذهبوا للعمل كقراصنة"، فإنه لا يفهم من ذلك أنّ المسلمين كانوا يحسنون إلى الأسرى من منطلق قيمهم الدينية. فيرى أنهم يعاملونهم "في الغالب ببساطة كما يعاملون الماشية، معتبرين أنهم كلما أحسنوا تغذيتهم ومعاملتهم، كان هؤلاء أكثر إنتاجيةً لهم في العمل. كان هؤلاء المسلمون يتميزون كثيرا عن المسيحيين الذين كانوا يعاملون عبيدهم من المسلمين معاملتهم للمرتدين، أما ما كان يعنيه هذا الأمر إبان عصر التفتيش؛ فالأمر لا يحتاج إلى تفسير". فيؤكد ظاهرة تلازم أغلب الغربيين كلّما فكروا في الحضارة العربية الإسلامية، هي عدم بذل الجهد لفهمها والاكتفاء برؤية تبسيطية متعالية.
ـ 7 ـ
تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية يمكن للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة وينتهي إلى نتائج جديدة، ومن هنا مأتى أهمية هذا الكتاب. ولكن للأسف غلب على الأثر الطابع التجميعي من المراجع المختلفة دون تحقيق وساد سرد التفاصيل بإسهاب أقرب إلى التخييل الأدبي منه إلى النقل التاريخي الرصين المتوخي للدّقة. فكان شديد الحساسية للمراجع التي يستند إليها. فتأثر بالملاحم بجلاء في حديثه عن القرصنة عند الإغريق قبل الميلاد. وتأثر بوجهة النظر المسيحية والاسبانية خاصّة عند الحديث عن قراصنة القرون الوسطى ثم تأثر بوجهة النظر السوفييتية عند عرض القرصنة الحربية في عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته.