قراءة في كتاب يؤرخ لعلاقة الإعلام بالقضية الفلسطينية قبل الاحتلال وأثناءه
تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT
صدر عن مركز الأبحاث ـ منظمة التحرير (رام الله، ط1، 2023)، الكتاب الموسوعي "أطلس الصحافة العربية الفلسطينية"، تحرير المؤرخ اليساري الفلسطيني عبد القادر ياسين.
وقد كانت الكاتبة الفلسطينية معالي أحمد عصمت، قد كتبت هنا في "عربي21"، في أيار مايو الماضي تعريفا بالكتاب وأهم محاوره، واليوم يسلط الكاتب والباحث الفلسطيني في الشؤون التاريخية أحمد الدبش الضوء على الدور المحوري الذي لعبه الإعلام في التعريف بفلسطين كبلد وهوية وشعب وقف في وجه كل الغازين والمحتلين.
هدف المُحرر، من وراء كتابه هذا، إلى "الاطلاع على الدور الوطني للصحافة العربية الفلسطينية". (تصدير المُحرر، ص 11) ولتحقيق هذا الهدف، كتب مُحرر الكتاب عبد القادر ياسين خمسة من فصول الكتاب الثلاثة عشر، بينما غطى الفصول الثمانية الباقية: صلاح عبد الرؤوف (مصر)، د. إلهام شمالي (فلسطين ـ غزة)، عادل عشماوي (مصر)، الراحل غسان الشهابي (فلسطين ـ سوريا)، إنشراح عاشور (فلسطين ـ هولندا)، الراحل على الخليلي (فلسطين ـ الضفة الغربية)، محمد كريم (فلسطين ـ سوريا)، منى أسعد (سوريا).
جاء تقسيم الكتاب في أربعة أبواب (313 صفحة من القطع المتوسط)، أختص أولها بالصحافة العربية الفلسطينية تحت الاحتلال البريطاني (1918 ـ 1948)؛ وضم أربعة فصول، جاء أولها تحت عنوان: "رصد صحافة الحقبة"، عدد المؤرخ اليساري الفلسطيني عبد القادر ياسين، جملة من المحدّدات لظهور الصحافة العربية في فلسطين، منها: المحدد الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. فكان أول ظهور للصحافة العربية، في فلسطين، بعد دخول الطباعة العربية إلى فلسطين بثلاثين عامًا، "ففي عام 1876، أصدرت السلطات العثمانية صحيفتي (القدس الشريف) و(الغزال)".
واتسمت الصحافة حينذاك بـ"التكلف، في الشكل والإخراج، كما في المحتوى". واتسمت موضوعات صحف المرحلة الأولى من الحركة الوطنية الفلسطينية (1918- 1929) بأنها "شاملة، ولغتها ــ بوجه عام ــ مهذَّبة، وعباراتها مفهومة، وكلامها ينطق بأدب جمّ، وغيرة وطنية مشكورة". وفتحت هبة البراق، في آب/ أغسطس 1929، صفحة جديدة في تاريخ الصحافة العربية الفلسطينية، التي اعتبرها المُحرر صحف المرحلة الثانية من الحركة الوطنية الفلسطينية، التي أظهرت "نشاطًا سياسيّاً مجدياً، رفد الحركة الوطنية الفلسطينية". فاشتدت الهجمات الصحفية على الاحتلال البريطاني، ما أدى إلى إصدار حكومة الانتداب، عام 1933، "قانون المطبوعات"، "من أجل مضاعفة القيود المضروبة على الصحافة". أما المرحلة الثالثة فهي صحف أربعينيات القرن العشرين التي وقفت على "قدم المساواة مع الصحافة اللبنانية والسورية، وإن ظلت دون مستوى الصحافة المصرية، فنياً".
وتضمن هذا الفصل جداول بـ" اسم كل صحيفة صدرت حينذاك، وتخصصُّها، واسم صاحب امتيازها، ورئيس تحريرها، وتاريخ صدورها".
في الفصل الثاني "مجلة الاقتصاديات العربية"، استعرض الباحث المصري، صلاح عبد الرؤوف، فكرة مجلة "الاقتصاديات العربية" لمؤسسها فؤاد سابا، وسماتها وتوجهاتها، فعمدت إلى نقل "ما استطاعت من الجديد في علوم الاقتصاد"، و"أولت اهتماماً كبيرًا بفلسطين"، واستنكرت تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين، و"اعتبرته إحدى النكبات التي مُنيت بها البلاد"، وينتقد عبد الرؤوف الغياب الإيديولوجي للمجلة، وتناقض الآراء على صفحاتها فيما يتعلق بالانتداب البريطاني.
تولت د. إلهام الشمالي، في الفصل الرابع، مهمة رصد "الصحافة الأدبية"، التي صدرت في هذه الحقبة، وهو فصل غني بالمعلومات عن الصحافة الأدبية في فلسطين، حيث "بلغ عدد الصحف الأدبية المتخصصّة في فترة الانتداب نحو 29 مجلة". وتستعرض المؤلفة أهم الصحف الأدبية، وتاريخ صدورها، واسم المؤسس. فقد "تميزت الصحافة الفلسطينية الأدبية، بأن معظم محرريها، وكتَّابها الرئيسيين، كانوا من الأدباء، المتعطشين للأدب".
أما الفصل الرابع "الصحافة والحياة السياسية"، ألقى المؤرخ عبد القادر ياسين حزمة من الأضواء حول السياق السياسي للصحافة العربية الفلسطينية في هذه الحقبة.
تضمن الباب الثاني "صحافة ما بين النكبة والنكسة"، ثلاثة فصول، وغطى الباب سنوات ما بين النكبة 1948 ونكسة 1967، جاء أولها تحت عنوان: "صحافة قطاع غزة 1948 ـ 1967"، حيث رصد ياسين، الصحف العربية الفلسطينية التي صدرت في قطاع غزة. وقسم هذه الصحف إلى حقبتين، الحقبة الأولى من حكم الإدارة المصرية (1948- 1956)، والحقبة الثانية ما بين سنتيْ (1957 و1967).
وفي الفصل الثاني "الصحافة في الأردن"، عالج عادل عشماوي تطور الصحافة الفلسطينية في الأردن، خلال الفترة بين العاميْن 1948- 1967، وفق مراحل ثلاث: تمتد الأولى منها ما بين نكبة 1948، وحتى توحيد الضفتيْن، الشرقية والغربية لنهر الأردن (آيار / مايو 1950)؛ بينما تمتد المرحلة الثانية إلى التحوُّلات السياسية الدراماتيكية في الأردن (ربيع 1957)؛ ومن هذه التحوُّلات إلى نكسة 1967، حيث المرحلة الثالثة.
وتضمن هذا الفصل جداول بـ" اسم كل صحيفة صدرت حينذاك، وتخصصُّها، واسم صاحب امتيازها، ورئيس تحريرها، وتاريخ صدورها".
في الفصل الثالث "الصحافة والحركة السياسية في فلسطين المحتلة عام 1948، تناول الباحث الراحل غسان الشهابي، الصحافة والحركة السياسية في فلسطين المحتلة عام 1948، ودورها في التصدي للحركة الصهيونية، فبعد احتلال فلسطين 1948، وإنشاء الكيان الصهيوني، "تبلورت التيارات السياسية، وتم إفراز الأطر، والتنظيمات، ونشأت الصحف، التي خاضت معاركها". وتضمن هذا الفصل جدول يوضح أهم الصحف العربية في فلسطين المحتلة ما بين 1948 ـ 1994.
أما الباب الثالث "تحت الاحتلال الإسرائيلي"، تضمن خمسة فصول، رصدت انشراح عاشور، في الفصل الأول تحت عنوان "في الضفة الغربية وقطاع غزة"، حركة الصحافة الفلسطينية في الضفة الغربية والقطاع، بعد حزيران/ يونيو 1967، حسب المراحل الزمنية التالية: الأولى من 1967- 1973؛ والثانية من 1974- 1978؛ والثالثة من 1979- 1987؛ أما المرحلة الأخيرة، فمن 1988- 1991. وركزت الباحثة على توضيح المعالم الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، لكل مرحلة، وتأثيرها على منحنى إصدار الصحف.
وتضمن هذا الفصل جداول بـ" اسم كل صحيفة ، وسنة صدورها، واسم رئيس التحرير، وصفتها ودوريتها".
بينما دون لنا علي الخليلي (رحمة الله) تجربته في العمل الصحفي تحت الاحتلال الإسرائيلي؛ في الفصل الثاني "شهادة في التجربة الصحفية تحت الاحتلال". واستعرض الباحث النشأة الصعبة للإعلام الفلسطيني في المرحلة المبكرة، هذه النشأة التي "أنتجت، بالضرورة، قدرات مصقولة، ومتدربة على انتاج إعلام مقروء، وجد مجاله الواسع بين المواطنين القراء، ووجد دوره في التثقيف، والتوعية، والتربية، الاجتماعية والإنسانية، رغم كل الضغوط، والصعوبات".
رصد محمد كريّم في الفصل الثالث "صحافة المقاومة في دول اللجوء"، فـ"على الرغم من عدم البيان الصحفي للمقاومة، في دول اللجوء، قبل عالم 1967، فإن هذه الفترة شهدت تشكُل أنوية صحافة المقاومة الفلسطينية في الخارج". فـ"كانت حركة فتح سباقة في إصدار نشرة شبه علنية، أطلقت عليها اسم (فلسطيننا ــ نداء الحياة)، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 1959". و"في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1964، أشرف الأديب الفلسطيني غسان كنفاني على مجلة (فلسطين ــ ملحق المحرر)، استمرت في الصدور، حتى 6/7/1967، معبّرة عن وجهة نظر التنظيم الفلسطيني في حركة القوميين العرب". وبعد هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، صدرت عدة صحف فلسطينية، يمكن التمييز بينها؛ فأولاً، ثمة صحف، والنشرات المركزية في التنظيمات الفلسطينية؛ وثانياً، الصحف، والنشرات غير المركزية؛ وصحف الاتحادات والنقابات المهنية؛ فالصخف المتخصصة؛ وأخيراً، الصحف الخاصة.
أما الفصل الرابع، فكتبه ياسين، عن "المعركة: شهادة على جريدة مقاتلة"، وهي التي صدرت إبان الحصار الإسرائيلي لبيروت (صيف 1982). وتتبع المحرر في الفصل الخامس، أيضاً مجلة "الجنى" الفلسطينية، التي صدرت في بيروت في العام 1994، واتسمت بمذاق صحفي خاص.
بينما تولت الإضاءة الأخيرة المحامية منى أسعد، حول "التشريعات الصحفية في فلسطين"، بداية من التشريعات العثمانية، في حقبة الحكم العثماني، مروراً بالتشريعات الصادرة من الاحتلال البريطاني، حتى سنة 1948، وأسفرت نكبة 1948، عن تقسيم فلسطين، إلى أراضي احتلتها القوات الإسرائيلية، وأخرى حملت اسم "قطاع غزة"، ووقعت تحت حكم الإدارة المصرية، فيما ضمت أراضي فلسطين الشرقية، إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وحملت منذئذٍ، اسم الضفة الغربية، ما أوقع هذه المناطق الثلاث تحت تشريعات متباينة. ونتيجة احتلال القوات الإسرائيلية للضفة والقطاع، إبان حرب 1967، أخضعت هاتان المنطقتان لتشريعات الاحتلال الإسرائيلي الجائرة، فيما ظلت أراضي 1948، تخضع لتشريعات من نمط آخر.
أما الملحق، فقد تمثل في نص "قانون المطبوعات والنشر للسلطة الفلسطينية".
وأخيرًا، لابد أن نسجّل ما ذكره د. عماد الأصفر، في تقديمه للكتاب، "لقد أبدع الأساتذة ـ بارك الله جهدهم ـ في تتبع ورصد وتوثيق وتحليل صحافتنا الصادرة في هذه المراحل، ورغم صعوبة ذلك بسبب غياب أو قلة المصادر وانقطاع الأجيال وغياب التوثيق واستيلاء الاحتلال الإسرائيلي على كثير من المكتبات والأرشيفات، فلقد تمكنوا من الإحاطة بأبرز المحطات وأغلبية الصحف، وأفلحوا في تعريفنا بالصحافيين الأفاضل من جيل المؤسسين، تاركين لنا مرجعاً مهماً يمكننا من مواصلة البحث في ثنايا هذه الصحف لاستجلاء واقع الحياة في تلك الأيام، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً".
*كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الفلسطينية نشرة فلسطين كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار تغطيات سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال الإسرائیلی العربیة الفلسطینیة الصحافة العربیة الفلسطینیة فی الضفة الغربیة تحت الاحتلال فی فلسطین الأولى من التی صدرت فی الفصل فلسطین ـ ما بین
إقرأ أيضاً:
نابلس 1948.. مدينة تحوّلت إلى وطن مؤقت وصمّام أمان للمنكوبين
الكتاب: التضامن في أوقات الأزمات، دروس معاصرة من النكبةالمؤلفان: جوني منصور، إيلان بابيه
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
في خضم أحداث النكبة الفلسطينية وصل مئات آلاف الفلسطينيين، الذين طردوا من بيوتهم وقراهم ومدنهم في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها العصابات الصهيونية، إلى الضفة الغربية، حيث استقبلهم أبناء مجتمعهم الفلسطيني، ووفروا لهم كل ما أمكنهم توفيره من الاحتياجات الأساسية. لكن أكثر ما كانوا يحتاجون إليه "إدارة رسمية" لحياتهم، وهي مهمّة تولتها بالفعل سلطات الحكم المحلي أي البلديات، والمحاكم الشرعية.
وفي هذا البحث يتناول جوني منصور، المؤرخ والمحاضر في تاريخ الشرق الأوسط، وإيلان بابيه، المؤرخ والناشط السياسي، ما قامت به بلدية نابلس، تحديدا، وغيرها من المؤسسات الرسمية في المدينة، لتوفير الرعاية للاجئين الذين وفدوا من حيفا ويافا وقراهما، ثم من اللّد والرملة وقراهما.
وبحسب ما يذكران في مقدمة كتابهما فإنهما يهدفان من كتابة "هذا النص التاريخي" إلى "كتابة فصل من التاريخ الفلسطيني في أبرز قضاياه وهو اللجوء واللاجئين، من منظار الاعتماد على وثائق فلسطينية وعربية في الأساس،... لا سيما وثائق فلسطينية محفوظة في قسم الوثائق في المكتبة العامة التابعة لبلدية نابلس. والكشف عن أهمية المجتمع المحلي ودوره في معالجة أزمات ليست في حدود مسؤولياته المباشرة" وهو موضوع تاريخي وأخلاقي واجتماعي يرى منصور وبابيه أن كل من اهتم بدراسة القضية الفلسطينية قد غفل عن معالجته.
القسم الأول من الكتاب يتناول سقوط المدن الفلسطينية (حيفا، يافا، اللّد، الرملة) وتدفق النازحين منها ومن قراها إلى نابلس وجنين وطولكرم. كما يناقش أوضاع النازحين المعيشية وتعامل مختلف القيادات والمستويات السياسية والعسكرية معهم. ويتناول منصور وبابيه كذلك حلول السياسيين من فلسطينيين وعرب وأجانب لكيفية استيعاب النازحين في المواقع التي وصلوا إليها، ومواقف النازحين أنفسهم. ويشرحان دور اللجنة القومية التي شكلتها الهيئة العربية العليا بدعم من الجامعة العربية لمتابعة مسألة النزوح ورعاية النازحين، واللجنة العامة للعناية بشؤون النازحين في فلسطين.
عمليات المنظمات العسكرية الصهيونية كانت موجهة بداية، بشكل واضح، نحو إبادة المدن الفلسطينية باعتبارها مراكز اقتصادية وثقافية وسياسية.يلفت الباحثان الانتباه إلى أن عمليات المنظمات العسكرية الصهيونية كانت موجهة بداية، بشكل واضح، نحو إبادة المدن الفلسطينية باعتبارها مراكز اقتصادية وثقافية وسياسية، هزيمتها وتدميرها يعني بالضرورة إضعاف القرى والأرياف المحيطة بها، وإضعاف مصادر القوة الاقتصادية للمجتمع الفلسطيني. وغني عن القول أن هذه "الإبادة" تعني خلق مساحات خالية من الوجود الفلسطيني. وكانت الخطط الصهيونية الأولى موجة نحو مدن مثل حيفا ويافا، اللتان شكلتا معا القوة الاقتصادية والمركز السياسي والفكري والثقافي الفلسطيني، وسقوط هاتين المدينتين وما تلاه من سقوط مدن أخرى شكل ضربة قاضية للحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني والتواطؤ البريطاني.
شبكة أمان
في أكتوبر 1947 أقر اجتماع جامعة الدول العربية الذي عقد في بيروت تأسيس لجان قومية من أهل فلسطين للإشراف على عمليات التنظيم الداخلي والإدارة الميدانية، إلى جانب البلديات القائمة والمؤسسات والهيئات الدينية والاجتماعية الناشطة ميدانيا. وبلغ عدد هذه اللجان 21 لجنة موزعة على المدن الكبرى والمتوسطة، وأبرزها اللجنة القومية في نابلس. وصاغت هذه اللجنة، التي ترأسها رئيس البلدية نفسه سليمان طوقان، نظامها ليشمل الأطر الفاعلة كافة على الأرض، الاجتماعية والاقتصادية والصحية والخدمية، وهي بذلك بحسب منصور وبابيه، وضعت أساسا للتعاون والتضامن في ما بينها لخدمة المواطن.
وكان الهم المركزي الذي وجه عملها، وسط غياب سلطة حكومية فعلية، هو الحفاظ على السلم الأهلي وتوفير الأمن للسكان، سيما مع زيادة كثافة المدينة السكانية الذي تبع تدفق موجات النازحين. يشرح الباحثان كيف دفعت التحولات الحاصلة بعد ذلك إلى تأسيس اللجنة العامة للعناية بشؤون النازحين ولجانها الفرعية في قرى نابلس وقرى جنين وطولكرم، التي نشطت بسرعة لتوفير المساعدات الإنسانية، إذ لم يعد بإمكان اللجنة القومية وحدها معالجة الأمور الإدارية والتنظيمية للواء نابلس.
ورغم الانتقادات التي وجهت لعمل هذه اللجنة، الذي استمر نحو عام ونصف العام، قبل الإعلان عن إقامة وكالة الأونروا، فإن جهودها منعت تفشي حالات الفقر والجوع والمرض بين النازحين والمواطنين بشكل عام. اهتمت اللجنة بشكل أساسي بشؤون النازحين، من حيث توفير المأكل والمأوى والخدمات الأخرى مثل الصحة، وحل النزاعات، وقدمت المساعدات العينية والمالية وفق جداول منظمة بعد إجراء إحصاء شامل. بحسب منصور وبابيه فإن اللجنة العامة شكلت نموذجا لمنطق التضامن والاستيعاب مؤسس على مفهوم المجتمع الفلسطيني لدعم بعضه بعضا.
ومبدأ التضامن هذا كان قائما ومتراكما عبر الزمن في المجتمع الفلسطيني، سواء الفلاحي أو المدني. لكن نجاح هذا المجتمع المتضامن، على الرغم من عظم الأزمة التي عصفت به، أكد قدرته على التعامل السريع مع الأزمة والواقع المؤلم، حيث "لم يغرق فيه منتظرا مخلصا أو منقذا من الخارج"، بل سعى عبر شبكة أمان اجتماعية ممثلة في اللجنة العامة واللجان الفرعية، ومن خلال التشبيك مع جمعيات المجتمع المدني في نابلس والمدن الأخرى لاحتواء النازحين وحفظ كرامتهم.
إعادة بناء الرواية
في القسم الثاني من الكتاب المعنون ب" دروس مستقاة من التضامن الفلسطيني" يجري الباحثان مقارنات تاريخية بين حالة نابلس وحالتين رئيسيتين في ألمانيا لسلطتين محليتين مشابهتين ببعض مركباتهما مع نابلس، هما مدينتي آلتينا وسانت بلازيان، اللتين استقبلتا في العام 2015 أعدادا كبيرة من اللاجئين السوريين والفلسطينيين ـ السوريين. ولأن الفارق الزمني كبير بين الحالتين يوضحان "أن التشابك مع أزمة تاريخية ليس من المفروض أن يكون ذا ترتيب مريح للباحث، بل على العكس فهناك تحديات كثيرة في طرح قضية اللجوء الفلسطيني مع لجوء آخر". ويضيفان إن من أبرز محاور النقاش في هذه المقارنة الحديث عن قيمة "الهبة" والموقف الإيثاري تجاه النازح الذي لا يقوم على مبدأ المعاملة بالمثل. إذ يجدان أنه "مجال مهم للبحث في الانثروبولوجيا الحديثة في التعرف إلى مثل هذه المواقف في المجتمعات التقليدية، والتأمل في إعادة تفعيلها في المجتمعات الحديثة".
وفي الاستخلاصات يشير منصور وبابيه إلى ضرورة التمييز المناسب بين طالبي اللجوء والنجاة والمهاجرين الراغبين في الاستقرار في المكان الجديد الذي لجأوا إليه. ويمثل اللاجئون الفلسطينيون عموما الفئة الأولى، بينما يمثل المهاجرون من شمال أفريقيا الفئة الثانية. غير أن الدول المضيفة لم تبذل جهدا على الإطلاق لفهم هذا الاختلاف وتوظيفه في سياساتها واستراتيجيتها. في هذا السياق فقد "امتلك النازحون واللاجؤون الفلسطينيون منذ العام 1948 إحساسا مؤكدا بصفة "المؤقت".. إذ لا تزال فكرة العودة فعالة في أوساطهم".
بحث الفلسطيني عن أوراقه ووثائقه عملية مشابهة لإعادة بناء ذاته أو بناء روايته... فأحد أركان الصراع الصهيوني-الفلسطيني يقوم على التاريخ.ويضيف الباحثان أنه على الرغم من الوعي الضئيل للتأثير النفسي للجوء فإن السياسيين والقياديين في المجتمع الفلسطيني وفي نابلس تحديدا تعاملوا مع لاجئي النكبة بطريقة تكشف عن إدراك متقدم لحاجاتهم المعنوية قبل المادية، ووجهوا عنايتهم لقضايا مهمة في حياة اللاجئين اليومية مثل قضايا الزواج والطلاق والولادة وغير ذلك، في حين أن متابعة أحوال اللاجئين اليوم في الدول الأوروبية على سبيل المثال تؤشر على تجاهل كبير لهذه المسائل، وربما كان ذلك بسبب عوامل معيقة مثل الثقافة واللغة والعادات.
يشمل القسم الثالث من الكتاب على مئات الوثائق والمستندات المرتبطة بموضوع البحث، وهي أوراق اللجنة القومية العربية واللجنة العمة للعناية بشؤون النازحين في نابلس، التي تتطرق إلى فترة زمنية لا تتجاوز العامين، بين أواخر عام 1947 ومطلع عام 1950، وتحديدا في ما عرف بلواء نابلس وفقا للتقسيمات الإدارية البريطانية. يقول الباحثان "إن بحث الفلسطيني عن أوراقه ووثائقه عملية مشابهة لإعادة بناء ذاته أو بناء روايته... فأحد أركان الصراع الصهيوني-الفلسطيني يقوم على التاريخ، إذ أدركت الصهيونية أهمية السيطرة على الوثائق والاحتفاظ بها لتكون روايتها التاريخية هي السائدة".
ويضيفان إن "الرواية الفلسطينية مازالت في طور التكوين والبلورة لأن القضية لم تحل والنكبة لم تنته، وهي تُبنى شيئا فشيئا من أنسجة دقيقة لكنها تسير إلى اكتمال صورتها"، ومن هنا كان اطلاعهما على آلاف الوثائق ذات الصلة بموضوع محدد في فترة زمنية محدودة جدا. وهي وثائق تعرضت لإهمال شديد على مدى عقود قبل أن يتم تجميعها في المكتبة العامة في نابلس.