الخليج الجديد:
2025-04-26@22:23:32 GMT

الانسداد السياسي والإصلاح

تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT

الانسداد السياسي والإصلاح

الانسداد السياسي والإصلاح

حين تتكالب على السلطة أحوال التّأزّم السياسي تودي بها إلى حالٍ من الانسداد السّياسي المُؤْذِن بالزوال.

الخروج من الانسداد السياسي ممكنٌ وعسيرٌ معًا؛ فأمّا أنه ممكن فهو كذلك من الجهتين: السّلطة وقواها؛ والأطراف الاجتماعيّة والسّياسيّة المعارِضة لها.

يتولّد الانسداد من جملة عوامل ويتّخذ صوراً مختلفة، لكنّ الغالب عليه أن يأتيَ ثمْرةَ ضِيقٍ حادّ في قاعدة السلطة؛ في مكوّناتها وفي جمهورها الاجتماعي.

على كل سلطة تنظيف داخلَها من مراكز مقاومة الإصلاح ومن خطابهم الذي لا يقترح سوى الذّهاب إلى حتفها! فقد يكون هؤلاء أشدّ خطراً عليها من معارضيها.

الأسوأ ما يتولَّد من فاجع النّتائج من قرقعة السّلاح: من قتْلٍ ودمارٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ وتمزيقٍ لأواصر البلد الواحد والشّعب الواحد، والتي قد تستمرّ آثارها لعقود!

شهدنا انتقالة دراماتيكية من المطَالَبات السّياسيّة بإصلاحات أوضاع السّلطة إلى ركوب صهوة العنف والسّلاح ببعض البلاد العربيّة، منذ مطلع العقد الثّاني من هذا القرن.

من مصلحة أيِّ سلطةٍ أن تعالج أسباب الانسداد السياسي وتأزّم أحوالها بالمزيد من رياضة نفسها على نهج الإصلاح والتّقويم فذلك أَضْمنُ لبقائها وحيازة المقبوليّة الشّعبيّة.

* * *

كلّ سلطةٍ تحرص على استقرار أحوالها واستقرار أحوال المجتمع الذي تقوم فيه؛ وهي في سبيل ديمومة استقرارها مستعدّة لتقديم أيّ ثمن سياسي يتناسب وذلك الهدف العزيز على كلّ نخبة سياسيّة، فكيف إذا كان هذا الهدف أقلَّ كلفة عليها.

وأكثر ما يعرِّض سلطة ما إلى زعزعة استقرارها هو تنامي الاعتراض عليها في الاجتماع الوطنيّ إلى الحدّ الذي يَشْرَع فيه التّعبير عن ذلك الاعتراض في الانتقال من الضّغط المعنويّ الهادئ إلى الضّغط الماديّ العنيف ملقياً بنتائجه على تماسُك قواها وأوضاعها.

يقع ذلك، في الغالب، حين تتكالب عليها أحوال التّأزّم السياسي فتؤدّيها إلى حالٍ من الانسداد السّياسي المُؤْذِن بالزوال. يتولّد الانسداد من جملةٍ من العوامل ويتّخذ لنفسه صوراً مختلفة، ولكنّ الغالب عليه أن يأتيَ ثمْرةَ ضِيقٍ حادّ في قاعدة السلطة؛ في مكوّناتها وفي جمهورها الاجتماعي.

فلقد يتمظهر ضِيق نطاقِ السّلطة في شكل نظامٍ سياسي يحكمه حزب واحد؛ وقد يتمظهر في صورة سلطة تستند إلى عصبيّة بعينها أو إلى منطقة من دون سواها؛ وقد يأخذ شكلَ نظام تحكمه نخبة عسكريّة... إلى غير هذه من الأشكال.

وفي كلّ واحدٍ منها يتكرّر الثّابت عينه - الذي هو من تبعاتِ ضيق نطاقِ مكوّنات السّلطة ؛ أعني: ضِيق القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها تلك السّلطة فتمثّل لديها حاملَها الاجتماعيّ وحاضنتَها ومرجعَها اللّذيْن إليهما تؤول.

وما أغنانا عن بيان مَواطن الخطر في صيرورة السلطة إلى هذه الحال من الانسداد السّياسي ومن ضِيقِ نطاق قُواها ومكوّناتها وضمور جمهورها الاجتماعيّ.

من النّافل القول إنّ الخروج من هذا الانسداد ممكنٌ وعسيرٌ في الآن عينه؛ فأمّا أنه ممكن فهو كذلك - أي ممكن - من الجهتين: من جهة السّلطة وقواها، ومن جهة الأطراف الاجتماعيّة والسّياسيّة المعارِضة لها. تستطيع السّلطة أن تتدارك حالة الانسداد فيها بإصلاحات سياسيّة تقود إلى توسعة نطاق مكوناته.

وليس غير هذا الخيار متاحٌ لها، لأنّ احتمالات نجاحها في فرض إرادتها على معارضيها من غير تقديم تنازلات - أي البقاء على ما هي عليه - احتمالات ضئيلة جدّاً، وهي إذا ما نجحت في ذلك مرّة ستفشل مرّات عدّة وتكون النّتيجة أن تفتح عليها موجاتٍ متعاقبةً من العنف.

ويستطيع معارضوها، من جهتهم، أن يتخطّوا حال الانسداد إما بتغيير النّظام السّياسي، أو بفرض تنازلات على النّخبة الحاكمة والوصول إلى تفاهُمات سياسيّة على شروط تجاوُز حال الانسداد تلك.

وأمّا أنّه عسير، فلأنّ قوى عديدة من داخل السّلطة ومن داخل القوى المعارِضة قد تُفْشِل كلّ مسعًى إلى حلٍّ وسَطٍ متوافَق عليه لإنهاء التّأزّم والانسداد وفتح شرايين السّلطة لتدفُّق دماءٍ جديدة؛ إذ أنّ لمقاومة الإصلاح من طرف هذه القوى دلالة لا يُخطئها حُسن التّقدير، هي أنّها قوًى طفيليّة تتضرّر مصالحها من أيّ إصلاحٍ يضع عليها الاحتساب القانونيّ.

إنّ أيّ سلطة، بهذا المعنى، تحتفظ لنفسها بخيار حلّ أزمة الانسداد السّياسيّ بوصفه خياراً متاحاً رهْن يديْها إن هي شاءت، أي إنْ نضجت لديها إرادةُ التّصحيح والإصلاح وأفصحتْ عن نفسها لديها بشكلٍ صادق لا امتراء فيه.

لكنّها قد تفقد هذا الخيار، ومعه المبادرة، إنْ هي تلكّأت طويلاً وتردّدت في الإقدام عليه أملاً في نشوء شروطٍ جديدة ترفع عنها عبء الحاجة إلى الإصلاح أو تُسوِّغ لها سلوكَ سبيل التّملّص.

في مثل هذه الأوضاع، قد تنتقل المبادرة إلى معارضيها. ولعلّهم يعثرون في تملُّص النّخبة الحاكمة عن إجراء الإصلاحات المرجوّة على ذريعةٍ للرّجوع عن سُبُل الضّغط الاجتماعيّ والسّياسيّ السّلميّ لركوب خياراتٍ أخرى أشدّ قسوة مثل العنف الاجتماعيّ- السّياسيّ أو العنف المسلّح.

ولقد شهدنا على مثالاتٍ لهذه الانتقالة الدراماتيكيّة من المطَالَبات السّياسيّة بإصلاحات أوضاع السّلطة إلى ركوب صهوة العنف وتوسُّل السّلاح في قسمٍ من البلاد العربيّة، بدءاً من مطلع العقد الثّاني من هذا القرن.

لكنّا شهِدنا على الأسوأ من هذا بكثير: ما تولَّد من فاجع النّتائج من قرقعة السّلاح: من قتْلٍ ودمارٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ وتمزيقٍ لأواصر البلد الواحد والشّعب الواحد، والتي قد تستمرّ آثارها لعقود!

والحقُّ أنّه من مصلحة أيِّ سلطةٍ أن تعالج أسباب الانسداد السياسي وتأزّم أحوالها بالمزيد من رياضة نفسها على نهج سياسة الإصلاح والتّقويم. ذلك أَضْمنُ لها للبقاء وحيازة المقبوليّة الشّعبيّة. وعليها أن تنظّف داخلَها من مراكز مقاومة الإصلاح ومن خطابهم الذي لا يقترح عليها سوى الذّهاب إلى حتفها! فقد يكون هؤلاء أشدّ خطراً عليها من معارضيها.

*د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي

المصدر | الخليج

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: سلطة الإصلاح التقويم الاعتراض الاجتماع الوطني الانسداد السياسي الانسداد السیاسی الس یاسی ة الس لطة من هذا

إقرأ أيضاً:

توقعات ما بعد الحرب والاتفاق السياسي في السودان: فرص التحوُّل ومخاطر الانكفاء

لحظة فارقة في مسار الدولة السودانية
يقف السودان اليوم على مفترق التاريخ؛ فمع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية دولية وانتقالياً عبر مؤتمر لندن، لم يعد الحديث مجرّد نهاية للصراع المسلّح، بل هو اختبار جوهري لإمكانات إقامة دولة مدنية ديمقراطية تحتضن التنوع الإثني والثقافي بدلاً من الانكفاء في منطق الاستقطاب العسكري. إن التحدّي المركزي يكمن في ترجمة التزامات الورق إلى واقع ملموس نابض بالحقوق والحريات، وسط لعب إقليمي ودولي متضارب المصالح.
بناء السلطة الانتقالية: هشاشة في التوازن
تشتمل الصيغة المقترحة على مجلس رئاسي متعدد الأقطاب يجمع بين تمثيل المكوّن المدني من قوى الثورة وقوى التغيير وبقايا النظام السابق وأجنحة الحركات المسلحة الكبرى، مع آلية تصويت توافقي تتيح استخدام “الفيتو الجزئي” في القضايا الاستراتيجية لضمان التوازن وتقاسم المسؤوليات. أما الحقائب الوزارية، فستحافظ على السيادية منها لدى مدنيين مستقلين أو تكنوقراط، في حين تُسند الوزارات الأمنية لمن لهم خلفيات عسكرية تحت رقابة مدنية تُشرف عليها بعثة حفظ السلام الدولية. على صعيد الدستور الانتقالي، يتعيّن اعتماد مبادئ اللامركزية الإدارية لتوسيع صلاحيات الأقاليم المهمشة كدارفور والنيل الأزرق، مع تمثيل النساء والشباب بما لا يقل عن أربعين في المئة داخل لجنة دستورية تحت إشراف أممي، تُنهي مسودة الدستور خلال تسعة أشهر.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية: ثقة تحت الاختبار
يتطلب دمج ميليشيات الحركات المسلحة ضمن الجيش النظامي إدماج نحو ثلاثين في المئة من مقاتليها وترك الباب مفتوحاً أمام برامج DDR التي تشمل نزع السلاح وتسريح المقاتلين عبر حوافز اقتصادية كتدريب مهني وقروض صغيرة، في سبيل تقليل مخاطر تحول هؤلاء إلى عصابات مسلحة. أما على صعيد الضمانات الأمنية، فستُنشَر قوات حفظ سلام إفريقية في المناطق الساخنة مع دوريات مراقبة دولية لرصد أي خروقات لحقوق الإنسان، إلى جانب آلية تحقيق مشتركة تضم خبراء أمميين ومحليين لجمع الأدلة تمهيداً لإحالتها إلى محكمة يقررها مجلس الأمن.
الحركات المسلحة كفاعلين سياسيين: الإمكانات والمحاذير
تملك الحركة الشعبية اليسارية بقيادة ياسر عرمان رصيداً جماهيرياً في الريف والحضر، وتطرح نفسها حارساً للأجندة المدنية، إلا أن نجاح تحولها إلى حزب سياسي منظم مرهون بقدرتها على ترجمة شعارات المواطنة والعدالة الاجتماعية إلى سياسات تنموية فعلية. أما حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، فتعتمد على دعم شعبي قوي في دارفور، ولكن عليها تجاوز الانقسامات الداخلية وتبنّي خطاب تنموي يخاطب الشريحة الشبابية ويؤسس لحوكمة محلية فعّالة، إذ إن الثغرات التنظيمية والانقسامات الإثنية قد تحول دون بناء حزب متماسك قادر على المنافسة الانتخابية.
التوازنات الإقليمية والدولية: لعبة النفوذ
تسعى القاهرة وأبوظبي أولاً إلى ضمان أمن منابع النيل واستقرار الحدود الغربية، فتدعم جهود الاستقرار شريطة عدم الإضرار بمصالحهما الاستراتيجية. وفي المقابل، تستخدم واشنطن وبروكسل ورقة المساعدات—التي تجاوزت عشرة مليارات دولار—ورفع العقوبات كحافز لتمرير الإصلاحات الاقتصادية والشفافية، مع ربط الدعم بمؤشرات عمل مؤسسي رشيد. أما موسكو وبكين فكلاهما يسعى لتأمين استثمارات نفطية وبنى تحتية عبر دعم غير مباشر للفصائل العسكرية، ما قد يعقّد مسيرة التحوّل المدني ويعيد ترتيب الأوزان داخل السلطة الجديدة.
القنبلة الاقتصادية: تحرير أم استدامة؟
لا بدّ من تعويم الجنيه السوداني لوقف انهياره، رغم مخاطره في إطلاق موجة تضخم قد تُشعل احتجاجات شعبية. وفي الوقت نفسه، يطرح تفعيل مبادرة “الهيبك” لإعادة هيكلة الديون الخارجية التي تجاوزت ثلاثين مليار دولار أملاً بتخفيف الضغط المالي، شريطة تنفيذ إصلاحات جذرية في الحوكمة والإفصاح المالي.
سيناريوهات ما بعد الاتفاق: ما بين التفاؤل والحذر
يمكن رسم خريطة مستقبلية للسودان بوقوعه بين تفاؤل متحفظ ومخاوف متعاظمة. فمن ناحية، تنضج إمكانية نجاح التحالف المدني في فرض أجندة إصلاحية حقيقية، وإجراء انتخابات نزيهة في عام 2025 تؤسس لمرحلة انتقالية توافقية. ومن ناحية أخرى، يتهيأ سيناريو عسكرة الدولة مجدداً إذا فشل دمج المليشيات، مع تجدد الاحتجاجات وتدخل إقليمي مباشر يجرّ البلاد إلى دوامة عنف جديدة. وقد يستقر الوضع هشاً في منتصف الطريق مع تأجيل الانتخابات واستمرار السلطة الانتقالية لسنوات تحت وصاية دولية، ما يقتصر دوره على إدارة احتياجات مؤقتة دون تحقيق قفزة نوعية.
رهان المصير
ترتبط فرص السودان التاريخية بثلاثية مترابطة: تحوّل رأس المال العسكري من موقع الحَكَم إلى خادِم للعملية الديمقراطية، واتحاد القوى المدنية خلف مشروع وطني يتجاوز الانقسامات الإثنية والدينية، وضغوط دولية ذكية تربط الدعم المالي بمعايير شفافة دون وصاية مفرطة تغذي النزعات الشعبوية. إذا نجحت هذه المعادلة، فسيكون السودان نموذجاً للتغيير السلمي في القرن الإفريقي، وإن أخفقت، فقد يتحول إلى مثالٍ صارخ للدولة الفاشلة مع تداعيات تتخطى حدوده إلى شبحٍ يُثقل كاهل استقرار المنطقة والعالم.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • مخرج عراقي يرهن تطور الدراما بالاستقرار السياسي والاقتصادي
  • وزير الزراعة ومحافظ الشرقية يتفقدان مشروعات التعاون والإصلاح الزراعي بالمحافظة
  • 5 أفكار لتحويل علبة التونة لغداء أو عشاء لذيذ
  • ضبط شخص بالقاهرة يروّج للحشيش عبر مواقع التواصل الاجتماعي
  • توقعات ما بعد الحرب والاتفاق السياسي في السودان: فرص التحوُّل ومخاطر الانكفاء
  • روته يحث الحلفاء على تخصيص المزيد من الأموال والجهد السياسي لحلف للناتو
  • تفاصيل السيطرة على الحرائق في إسرائيل
  • محافظ سلطة النقد يطالب صندوق النقد الدولي بلعب دور أكبر في هذه المرحلة الدقيقة
  • مثقفو الأنبار يطلقون مبادرة عراقيون لإصلاح المسار السياسي في العراق.. وثيقة
  • محمد وداعة نموذجًا للانحطاط السياسي ومستنقع الانتهازيه