التدبر فى كتاب الله من صفات المتقين ووقد كان موقف القرآن الكريم من الحياة الدنيا -على عادته- موقفاً وسطاً، فلم يجعلها كل شيء، وأيضاً لم يلقها وراءه ظهرياً، وقد عبرت عن هذا الموقف الآية الكريمة أصدق تعبير، وذلك قوله تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص:77).

جاءت هذه الآية الكريمة بعد حديث القرآن عن قارون الذي آتاه الله {من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} (القصص:76)، فطغى وتجبر، وفرح بما آتاه الله من المال فرحاً جماً، ووصل به الأمر إلى أن {قال إنما أوتيته على علم عندي} (القصص:78).



فجاءت هذه الآية الكريمة لتبين الموقف الحق من الدنيا، وأنها ليست هي الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، بل هي في حقيقة أمرها وسيلة وممر لحياة أخرى أجل، وأعظم، وأدوم، وأبقى.

والآية الكريمة تتضمن شطرين: أولهما: قوله تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة}. ثانيهما: قوله سبحانه: {ولا تنس نصيبك من الدنيا}.

والشطر الأول من الآية يطلب من العباد أن يجعلوا مقصدهم الأول ومسعاهم الأساس الآخرة، وذلك من باب أن الدار الآخرة {خير للذين يتقون} (الأنعام:32)، ومن باب أن ما {عند الله خير وأبقى} (القصص:60). وهذا واضح لا خفاء فيه. 

والشطر الثاني من الآية {ولا تنس نصيبك من الدنيا}، ورد في المراد منه قولان مأثوران:

الأول: ما رواه الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال في معنى قوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا}: لا تترك أن تعمل لله في الدنيا. وروي عنه أيضاً قوله: أن تعمل فيها لآخرتك. وروي نحو هذا عن مجاهد وغيره من التابعين.

الثاني: روى الطبري عن الحسن في معنى الشق الثاني من الآية قوله: ما أحل الله لك منها، فإن لك فيه غنى وكفاية. 

فأنت ترى أن القول الأول المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما يفيد أن الآية تطلب من العباد أن يجعلوا من دنياهم مطية لأخراهم، ويتزودوا منها بكل ما هو خير وصالح.

والتأويل الثاني للآية يفيد أن الآية تبيح للعباد أن يتمتعوا من طيبات هذه الحياة الدنيا، ففي هذه الطيبات ما يكفيهم ويغنيهم عن سائر المحرمات، وتكون الآية بحسب هذا التأويل بمعنى قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} (الأعراف:32).

وظاهر أن كلا التأويلين تحتملهما الآية الكريمة، وتؤيدهما نصوص الشرع، فكل منهما مكمل للآخر ولازم له.

وقد مال كثير من المفسرين إلى المعنى الثاني في المراد من الشطر الثاني من الآية، فهذا ابن كثير يقرر أن الآية تفيد أن للعباد أن يتمتعوا بما أباحه الله لهم فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، بناء على قاعدة إعطاء كل ذي حق حقه.

ونقل ابن عاشور عن الإمام مالك في معنى الآية قوله: تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك.

أما الشيخ السعدي فيقرر معنى الآية بقوله: "واستمتع بدنياك استمتاعاً لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك". فهذه التفسيرات الثلاثة ترى في الشطر الثاني من الآية أنها ترخيص في التمتع بطيبات الحياة الدنيا، والاستمتاع بما أباحه الله فيها لعباده من مأكل ومشرب ومنكح ونحو ذلك من مُتَع الحياة الدنيا.

ثم إن ما نُقل عن السلف والمفسرين: لا ينبغي أن نفهم منه أن الآية تعني التوسع من طيبات هذه الحياة، وجعلها هي الأساس والقاعدة، بل إن العكس هو الموقف الصواب، وهو الذي ينبغي أن تكون عليه وجهة المسلم؛ إذ الآية سيقت أصالة لبيان ما ينبغي أن يكون عليه موقف المؤمن في الحياة من كون الآخرة هي همه الأكبر، وهي مقصده الأسمى، وتكون الدنيا تبعاً لذلك، ولا ينبغي أن يعكس فهم الآية، فيجعل التمتع بالطيبات هو الأصل الذي جاءت الآية لتقريره، مع أنه الاستثناء الذي ينبغي أن لا يكون حاكماً على الأصل، ولا عائداً عليه بالنقض والإبطال.

وعلى هذا، يمكن أن تفهم الآية بأن يقال: اجعل كل ما أعطاك الله وسيلة للآخرة. ويكون الفعل {وابتغ} هنا يعني شيئاً أكثر من الفعل (واطلب)؛ لأنه يعني: اطلب واستعمل ما آتاك الله من قلب وحس وشعور وإدراك وصحة ومال وولد، وكل ما آتاك الله من استعدادات فعلية وكامنة، واستخدمها في طلب الآخرة.
 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الحیاة الدنیا قوله تعالى ینبغی أن الله من

إقرأ أيضاً:

المندوب الروسي يهاجم مدعي الجنائية الدولية والأمريكي يشيد بدوره

هاجم مندوب روسيا بالأمم المتحدة دور المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا، قائلا إنها تنفذ أجندة سياسية.

وقال المندوب الروسي خلال جلسة مجلس الأمن إن خان يسمح بتقويض التحقيق في الحالات المحالة إليه ويتجاهل معايير القانون الدولي، مضيفا أنه من الملائم سحب ملفات ليبيا من المحكمة وإحالتها إلى السلطات القضائية الوطنية الليبية.

من جانبه أشاد مندوب الولايات المتحدة، بالتقدم في مسارات التحقيق مشددا على ضرورة بدء محاكمة واحدة على الأقل قبل نهاية 2025.

وقال المندوب الأمريكي إنه ينبغي إنهاء الإفلات من العقاب و”نحث السلطات الليبية على تعزيز المساءلة والتعاون مع المحكمة عبر توفير المعلومات وجلب المطلوبين بمذكرات توقيف”، قائلا إنهم يتذكرون الجرائم البشعة التي ارتكبتها الكانيات ومن تعاون معهم

ودعا المندوب الأمريكي إلى إقامة برامج لحماية الشهود وتوفير الدعم النفسي والتصدي لحلقات العنف، مؤكدا دعم عمل المحكمة الذي يعتبر أساسيا لتحقيق العدالة في ليبيا وفي أماكن أخرى من العالم، وفق قوله.

بدوره، أعرب مندوب الصين عن أمله في أن تحترم الجنائية الدولية سيادة ليبيا القضائية وأن تعمل بشكل وثيق مع السلطات هناك وأن تتمتع بالحيادية والموضوعية، وفق قوله.

وقال المندوب الصيني إن ولاية المحكمة على ليبيا ينبغي ألا تستمر إلى ما لا نهاية، مؤكدا أن الهدف منها دعم ليبيا في التصدي للإفلات من العقاب، بحسب قوله.

من جهته قال مندوب فرنسا إن الإستراتيجية الجديدة لخان سرعت التقدم في التحقيق ونرحب بالكشف عن مذكرات التوقيف الأخيرة والانتقال لمرحلة المحاكمات قبل نهاية 2025.

وأضاف المندوب الفرنسي أن التعاون المتزايد من السلطات الليبية أمر مهم وأنهم يشجعونها على مساعدة المحكمة في الوصول للمعلومات، مضيفا أنه من المهم أن تحظى المحكمة بالموارد المالية والبشرية اللازمة داعيا إلى تخصيص ميزانيات لها، بحسب قوله.

من جانبه، دعا مندوب المملكة المتحدة السلطات الليبية إلى تنفيذ سيادة القانون، مجددا التزامهم بالعمل مع المدعي العام، ومؤكدا دعمهم القوي للمحكمة واستقلالها، بحسب قوله.

بدوره، دان مندوب الجزائر أعمال العنف في ليبيا، قائلا إن لديهم علاقات قوية مع ليبيا ويتابعون الأزمة فيها بقلق عميق، مؤكدا أن موقفهم يستمد من قداسة العدالة وسيادة ليبيا وضرورة الاستقرار الإقليمي، وفق قوله.

وقال مندوب الجزائر إن الأزمة الراهنة هي نتيجة مباشرة لقرار مؤسف من المجلس عام 2011، مضيفا أن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية جماعية وعليه دين كبير للشعب الليبي، وفق قوله.

وشدد مندوب الجزائر على ضرورة أن تحترم المحكمة الجنائية الدولية السلطات القضائية الليبية وألا تكون بديلة لها، داعيا الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرات اعتقال ومباشرة الملاحقة القضائية لمجرمي الحرب في فلسطين والأراضي المحتلة، بحسب قوله.

المصدر: جلسة مجلس الأمن

الأمم المتحدةالمحكمة الجنائية الدوليةالولايات المتحدةروسيا Total 0 مشاركة Share 0 Tweet 0 Pin it 0

مقالات مشابهة

  • دعاء تسهيل الرزق والمال.. اللهم أعطنا من الدنيا ما تقينا به فتنتها
  • خطيب المسجد النبوي: الابتلاء سنة الحياة ليختبر الله الصبر ويزيد اليقين عند الإنسان
  • أستاذ قانون دولي: الاتحاد الأوربي معني بتنفيذ قرار اعتقال نتنياهو
  • مكافحة الأمراض: حملة تطعيمات قريبة ضد مضاعفات الإنفلونزا
  • عقوبة قطع صلة الرحم.. 20 مصيبة تنتظر قاطعها في الدنيا قبل الآخرة
  • محمود الأبيدي: الإسلام راعى حقوق الأطفال وكرمهم في كل جوانب الحياة (فيديو)
  • حكم الرجوع فيما تم شراؤه منذ مدة للاستفادة بانخفاض سعره
  • من الذي يعذب يوم القيامة الروح أم النفس.. الإفتاء تجيب
  • المندوب الروسي يهاجم مدعي الجنائية الدولية والأمريكي يشيد بدوره
  • مباريات هامة في دوري القسم الثاني.. تعرف عليها