صحيفة الاتحاد:
2025-03-12@23:15:26 GMT

مصطفى الكيلاني.. وأسئلة الكتابة

تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT

حوار: ساسي جبيل

أخبار ذات صلة الكتابات الأولى للتشكيليين الرواد.. «لوحات» من الإبداعات السردية والنقدية أريك فروم..  وأنْسنة التحليل النفسي

الحديث إلى الناقد والروائي الدكتور مصطفى الكيلاني يفتح أكثر من أفق، فهو صاحب تجربة إبداعية وفكرية، تخوض في أسئلة عميقة، وتبحث في كثير من المقاربات غير المطروقة، بالإضافة إلى أنه من النقاد القلائل الذين خبروا دروب الإبداع التونسي والعربي في كثير من أجناسه.

وفي حديثه لـ«الاتحاد الثقافي»، يتطرق إلى الكتابة وعلاقتها بالواقع والحرية، وعلاقة الأديب الناقد بمحيطه في ظل انحسار النقد الأدبي العربي نسبياً خلال السنوات الأخيرة.

* لنبدأ بسؤال الكتابة والحريّة.. كيف يقرؤه مصطفى الكيلاني بصفته ناقداً وروائياً؟
- سؤال الكتابة هو بعض من سؤال الحريّة، إذ لا كتابة ولا انطلاق لها ولا تنوّع ولا ثراء إلاّ بها. وسؤال الحريّة هو بعض من سؤال «ما هو الإنسان»؟ الذّي هو السؤال الرابع في مقدّمة إيمانويل كانط لـ«نقد العقل الخالص» حيث يلي سؤال المعرفة ثم سؤال الدّين (الميتا - فيزيقا فالأخلاق فالدّين ثم الأنتروبولوجيا). ولذا فالكتابة هي الردّ من موقع خاصّ «الذّات الكاتبة» على الأسئلة الأربعة، وفي مقدّمتها «من هو الإنسان؟»، الذي فتح به كانط أفقاً جديداً للفلسفة والفلسفة الجماليّة والظاهراتية والأنطلوجيّة لشوبنهاور وهيغل وماركس ونيتشه وهوسرل وهيدغر ثمّ سارتر ومرلو بونتي وبوبر وإيمانويل لفيناس وهانز جورج غادامير وجاك دريدا.. فلا كتابة، إذن إلا بالحريّة التّي هي فعل الإنّية موصولة بالغيريّة، أي بالفرد والمجموعة التي ينتمي إليها.
وكما أن الحريّة في التمثُّل الفلسفي المعاصر هي سبيل وأفق وفعل وحافز ومُحرّك وغاية وموقع وتموْقُع في العالم، واختيار وقرار والتزام (جان بول سارتر)، وهي كلّ ولا اجتزاء ومآل (مرلو بونتي) وإنّية بالغيريّة وغيريّة بالإنيّة اشتراكاً في الفعل والغاية (إمانويل لفيناس)، فالكتابة أيضاً هي فعل إنّيّ وثيق الصلة بالغيريّة لكونه فعل نداء، خطاباً موجّهاً إلى الآخر (القارئ/ القُرّاء)، وهي تحدّي القلق والسعي إلى إكساب الوجود معنى، وهي المخاطرة أيضاً، كدعوة فريديريك نيتشه على لسان «زرادشت» في «هكذا تحدث زرادشت». 
والكتابة إلى ذلك هي لحظة في مغالبة الزمن الهادر، ومحاولة تذكّر في مغالبة النسيان. هي فعل حريّة وتحررّ، لأنّ الإنسان حرّ في كلّ الأوضاع مهما كانت المُعّوقات، فيختار. وفعل الكتابة ذاته اختيار، هو «براديغم» داخل اللّغة وبها، فعل تداول كالذي تعلمناه أيضاً من تداوليّة «فتغنشتاين»، هي حدّ ولا حدّ، حد بما يشبه الخُطاطة المرجعيّة (shème) لأيّ مكتوب أي كاتب، ولا حدّ بالعفويّة الكاتبة المفاجئة الصادمة أحياناً، إذ الحريّة هي في الأصل والمرجع مزيد من الحريّة بالمزيد من الفعل ومن الإنجاز. ولأيّ شخص الحريّة في أن يكتب، ولكلّ شخص الحقّ أيضاً في القراءة، والكمّ المتراكم هو الذّي ينتج المتفرّد الإبداعي. فلا ضير في الكثرة، بل بالكثرة ينتج النوع ويتحقّق الإبداع. ولذا أجدُني من أنصار القراءة المتعدّدة، القراءة العموميّة تبعاً لتعدّد الأذواق لتوفير رأي عام أدبيّ وفكريّ وثقافيّ (وهو شبه الغائب أحياناً في حياتنا الثقافيّة التّونسيّة والعربيّة) والقراءة الإعلاميّة المختصّة، والقراءة النقديّة المختصّة أيضاً بالجامعة وغيرها من مؤسّسات البحث الأكاديميّة.

واقع النقد الأدبي العربي
* كيف ترون واقع النقد الأدبيّ العربيّ اليوم في ظل هذا الانحسار الثقافي الذي نعيشه أحياناً؟
- إنّ سؤال النقد الأدبيّ العربيّ اليوم هو بعض من سؤال الفكر العربيّ واشتغاله الراهن الذّي ما زال فكراً تجميعيّاً كمّيّاً متراكماً لا يسعى إلى التوليد المعرفيّ والإبدال، فكر نقليّ، وإن تغيّرت مراجعه ومواضعاته وأوضاعه من التراث والتقليد، تحديداً، إلى فكر الحداثة، هذه المنقوصة أو المرجأة في حياتنا العربيّة الإسلاميّة. 
لقد أمكن للنقاّد القدامى إنتاج نظريّة نقديّة، بلاغيّة ذوقيّة تنشد التّفكير بالمعنى ولأجله، مستفيدة من الدّراسات اللّغويّة الدّينيّة بمختصر مفهوم الإعجاز وجماليّة القول والسماع والإسماع (ثقافة الأذن قبل العين)، إلاّ أنّ النّقد العربيّ منذ المرحلة الإحيائيّة إلى اليوم ظلّ فكراً واصفاً اتّباعيّاً للفكر الغربيّ، وربما خاملاً، بل أحياناً متكاسلاً مكتفياً بإخراج المقولات النقديّة من مظانّها الأصليّة والزّج بها في أعمال متعسفّة على النّصوص. والسّائد النقديّ الأدبيّ ضمن السّائد الفكريّ العربيّ، لا ينفي وجود مقاربات وجهود تنظيريّة مهمّة في المقام الأول لبعد المسافة بين التنظير والتطبيق نتيجة استسهال الميل إلى التنظير أحياناً على حساب الإجراء. 
إن مشكلة النقد الأدبيّ العربيّ، شأن الفكر العربيّ عامّة، هي اجتزاء المفاهيم أحياناً لمحدوديّة معارف الناقد المختصّ الذّي يقتصر على المداخل اللّسانيّة والأسلوبيّة ويكتفي بمسبق العلوميّة (scientisme) وثابت فهمها بما شاع تسميته منذ عقود بـ «علم النصّ». فما يحتاج إليه الناقد، شأن المفكّر، هو تنوّع المراجع بالعلوم الإنسانيّة، وبالفلسفة على وجه الخصوص، مع إقرار خصوصيّة النصّ الأدبيّة، وذلك بالاشتغال على جماليّة المعنى، وليس على مفرد جماليّة الشكل، لأنّ الشكل في المُحصّل الأخير هو شكل لمعنى، كما أن المعنى لا يتحدّد أيضاً إلا بشكل وبألَق إبداعي لشكل. ولذلك حرصتُ منذ أكثر من أربعة عقود على قراءة تاريخ الفلسفة وقضاياها، بالكمّ (كمّها) بدءاً، وأي مجمل نصوصها الكبرى المرجعيّة إلى أن أدركتُ الحاجة المعرفيّة إلى قراءتها تناصّاً، منذ أعوام قليلة خَلَتْ، فتحقّقت لي الآن فائدة مزدوجة: استقدام الفلسفة إلى الأدبيّة، واستقدام الأدبيّة إلى الفلسفة بمشترك البحث في النصّ، سواء كان أدبيّاً أو فلسفيّاً وباشتراطات البحث في المعنى وجماليّته وفْقَ الخصوصيّة الأدبيّة أو الفلسفيّة.
وبهذا الجمع الحريص على التوجّه إلى التوليد المعرفيّ أدركت مواطن في النصّين الأدبيّ والفلسفيّ كانت مجهولة. أمّا الواصل بين النصّين فهو اشتغال المعنى فكراً لجمال وجمالاً لفكر وبروح التعالُق اختلافاً بين الذات المتقبّلة وذات المقروء ضمن ملفوظ له خصوصيّة أدائه. وكما يعجّ سؤال «ما هو الإنسان؟» بالكثير من الأسئلة، فالنصّ أيضاً «فسيفساء» نصوص متحركّة في داخله، بالتنادي والتصادي بين عناصر العدد، إذ لكلّ نصّ مكتبته الخاصّة، ذاكرته، ماضيه، سلالته، وله أفقه أيضاً، بل آفاقه، بالقراءة، بل القراءات.

سؤال الكتابة واللّعب؟
* كما للكتابة الأدبيّة والعمل الفنّيّ صلة وثيقة بالحريّة، فهي من اللّعب وإليه. فاللّعب صفة في الوجود عامّة، فما العلاقة بين الكتابة واللعب في مدونة مصطفى الكيلاني الأدبية؟
- حسب الفيلسوف الألمانيّ أوجن فنك (Eugen Fink) فهذا موضوع جمالي بفعل إراديّ، إذ يمارس الكاتب، شأن الفنّان عامّة، لعبة الكتابة وينكتب في الأثناء قياساً على اللّعب واللاّعب واللّعبة (jouet). ولكلّ لعب سياقه، وخانتُه الخاصّة مثل لعبة النرد، وقواعدها. ويتماهى اللاّعب ولعبه، إذ اللاّعبيّة في سياق أدائها الخاصّ تردُّد بين الجدّ والهزل، بين المأساة والملهاة، بين المعنى والعبث، بين النظام وعدم الانتظام. وكذا العمل الفنّيّ والمكتوب الأدبي شعراً أو رواية أو أقصوصة أو سيرة ذاتيّة هو ممارسة للّعب بفنّ المحاورة والمجاورة، بالمفاجئ المدهش الجديد المختلف عن سابقه من غير القطع مع الأصل/ الأصول، وإنّما اللّعب الأدبيّ والفنّي (نسبة إلى مختلف الفنون) عامّةً هو إعادة إنتاج هذه الأصول بتكرار التغيّر. ولذا تُشبّه الكتابة عند المجاورة والمحاورة بالمزح قياساً على الطبخ، كـ«مطبخ أفلاطون» توليداً لما كان وسبق من أفكار... ودليلنا على هذا المزج وهذا التوليد بما يقارب وظيفة الكيمياء، وإِنِ المادّة هنا هي لغة لأداء معنى أدبّي بأسلوب مّا وأفكار... والعمارة الروائيّة بناء، وتكثيف للحال شعراً، واقتصاد للّغة وصفاً لأحداث -أو حالات- أحداث كتابة أقصوصيّة، أو الإبداء والإخفاء تلاعباً في الكتابة السَيْر - ذاتيّة...

سؤال الكتابة والواقع؟
* ليس الواقع إلاّ مفهوماً وإِنْ كان واقعاً لحدوث، فلحظة وصفه ننتقل من الظاهرة إلى الوعي بفعل التمثُّل، فما العلاقة بين الكتابة والواقع؟
- هنا يحدث ضرب من التثبيت (fixation) الذاتيّ. ولذا فكلّ تمثّل عند الكتابة الأدبيّة هو تمثّل باللّغة وفي اللّغة، بما يصل ويُفارق معاً بين مطابقة الموصوف (dénotation) والتوسّل بالإيحاء (connotation) لمقاربته لينتفي بذلك وجود مطابقة محض أو إيحاء محض، وإنّما أساليب الكتابة الأدبيّة قائمة في الما-بين، ليظلّ الواقع حاضراً، وإنْ في العميق المختفي، بما في ذلك الموصوف الأدبيّ العبثيّ أو الغارق في سيرياليّته أو المتلبّس بالغرائبيّة أو العجائبيّة، وقد يتّضح الواقع أكثر عبثيّة وسرياليّة أدبيّة في أعمال فنيّة، مهما أغرقت في تعتيم الرمز وتجريب الأشكال والألوان غير الواقعيّة؟ فقط نحن أمام واقعيّات باختلاف الرؤى والأساليب.

لا مفرّ من الكتابة
* لماذا نكتب وهل نحن في حاجة اليوم إلى الكتابة؟
- نكتب لأنّنا في حاجة دائمة ماسّة إلى الكتابة. نكتب لأنّنا نحمل في الداخل إحساساً بنقصان أشدّ من نقصان الكيان ذاته، وبالكتابة نتوق إلى الحريّة التّي هي أفق وستظلّ أفقاً، وبنُشدانها نحيا لنكتب ونكتب لنحيا. فما أنجزناه اليوم بكتابةٍ يتجاوز الخمسين عنواناً: سبعة عشر عنواناً في القصة والرواية والشعر، واثنان وعشرون في النقد الأدبيّ والجماليّات، وعشرة في الفكر، وكتابان في المقال. وما كتبناه إلى الآن لا يفي بالحاجة إحساساً ومعرفة، لأنّه لا يؤدّي إلاّ القليل من رغبات النفس المكبوتة، كالذّي أسماه جبرا إبراهيم جبرا «المبهم الشبحي» في كتابه «الفنّ والحلم والفعل». نكتب بين ألم وسأم بمختصر فعليّة الإحساس، وِفْقَ ما خاض فيه شوبنهاور فلسفةً عند بيان حال التردّد العميق الحادّ بينهما عند التّفكير في خريطة العواطف الإنسانيّة. فنحن بالكتابة بين نفاد قوّة ونفاد، وبين فعل إنفاد قوّة وإنفاد بأفق مفتوح هو الحريّة المرجوّة، وسنظلّ ننشد هذا الأبعد الأقصى ولا ندركه، إلى آخر لحظة.
وإلى ذلك فنحن نقرأ لنكتب ونكتب لنقرأ ثم نكتب. وكأننا بمسار الكتابة (كتابتنا) نختصر، ولو قليلاً، حركة العود الأدبيّ، وإنْ بلحظتنا، ذلك أنّ الزمن في وعينا الإنسانيّ عامّة هو لحظة سرعان ما تحدث وسرعان ما تنقضي. وكما الزمن... كذا الأعمال الإبداعيّة الفنّيّة هي وجوه شتّى من المحاكاة، محاكاة حركة هذا الزمن العودويّ المتدفّق بصفة مستمرة... لذا فالكتابة، لكونها من الزمن وإليه، لها زمنيّتها الخاصّة أيضاً، فهي في الظّاهر حدّ (لحظة)، وهي في الدّلالة الخفيّة، مختصر هذا الزمن الذّي ندركه إحساساً قبل عقل.
نكتب لممارسة لعب خاصّ أيضاً، ونلعب جداً وهزلاً في الآن ذاته لندرك ما نشاء بالحياة ذاتها إلى أن يلفظنا الزمن إلى إحدى ضفافه.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الفلسفة الكتابة الإبداعية الكتابة الأدبية الكتابة الاتحاد الثقافي ة الأدبی ة ة أیضا الفن ی

إقرأ أيضاً:

"لا أرض أخرى".. عن سؤال الحرية بين ضلوع الاحتلال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

بعد تتويجه بجائزة الأوسكار، الأسبوع الماضي، أصبح الفيلم الفلسطيني "لا أرض أخرى" للمخرجين باسل عدرا، ويوفال إبراهام، وبلال حمدان، وراشيل سزور، حديث العالم والأوساط السينمائية الغربية، كونه أول فيلم في تاريخ فلسطين ينال هذه الجائزة العريقة؛ لتضاف إلى سلسلة من الجوائز التي حصدها الفيلم (68 جائزة) على مدار عام منذ بدء عرضه في مهرجان برلين السينمائي عام 2024.

ولكن ما أثار حديث الأوساط السينمائية والسياسية أيضًا، هو موجة الإزعاج الأشبه بحجر ألقى في مياه راكدة، التي سببتها رواية عدرا وإبراهام الجريئة والمؤلمة، عن الجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال في قرية مسافر يطا في الضفة الغربية ومحاولاتهم المتكررة لتهجير سكان المنطقة لبناء المستوطنات. ورغم التعنت في إصدار الفيلم في الولايات المتحدة بسبب رفض الموزعين عرض الفيلم لخوفهم من الرواية المضادة، إلا أن الفيلم نجح في اقتناص الجائزة الأرفع هناك.

يتتبع الفيلم - ذو الإنتاج الفلسطيني النرويجي المشترك - حياة الفلسطينيين في مسافر يطا، وهي منطقة قريبة من الخليل في جنوب الضفة الغربية المحتلة، والتي أعلنها الجيش الإسرائيلي "منطقة عسكرية مغلقة". تحت هذا الادعاء، يتعرض السكان الفلسطينيون باستمرار للمضايقات من قبل الجيش والمستوطنين غير الشرعيين، وتُهدم منازلهم، مما يجعلهم بلا مأوى. يروي الفيلم القصة من خلال عدسة المخرجَين المشاركين، باسل عدرا، الناشط الفلسطيني، ويوفال أبراهام، الصحفي الإسرائيلي.

وُلِد عدرا في عائلة من الناشطين، في قرية أُعلن أنها محظورة على الفلسطينيين، وتحالف سكانها مع مجموعة قانونية إسرائيلية للاحتجاج على طردهم القسري. ويبدأ الفيلم في عام 2022 عندما تحكم المحكمة العليا الإسرائيلية بشكل مشكوك فيه لصالح الإخلاء، بعد معركة قانونية استمرت 22 عامًا، لتبدأ حملة رسمية من التدمير يلتقطها عدرا ورفاقه بتفاصيل دامغة وصادمة وقاسية.

 

رواية في الوقت المناسب!

يصف الناقد جاي لودج، في مراجعته بموقع "فارايتي"، فيلم "لا أرض أخرى"، بأنه جاء في الوقت المناسب (أي بعد أحداث 7 أكتوبر، والغزو الإسرائيلي لقطاع غزة)، ولكن من خلال تصويره الممتد لسنوات للخطر المميت والضغط النفسي الناجم عن العيش تحت وطأة الاحتلال، يؤكد الفيلم أن الوضع كان في نقطة أزمة لفترة طويلة، سواء كان يتصدر عناوين الأخبار الدولية أم لا. 

بدأ المشروع في عام 2019، عندما التقى عدرا بيوفال إبراهام وراشيل سزور ، الصحفيين المقيمين في القدس الذين يغطون عمليات الإخلاء الإسرائيلية للسكان المحليين. وبالتعاون مع حمدان بلال، وهو ناشط آخر من سكان مسافر يطا، شكلا مجموعة لصناعة الأفلام، والتي على الرغم من تكوينها الفلسطيني الإسرائيلي، لا تهتم كثيراً بالجانبين. 

ولكن التجربة الفلسطينية ووجهة النظر الفلسطينية هي محور الفيلم طوال الوقت. كما تم التأكيد بشكل واضح على الهوة بين معرفة عدرا وإبراهام بالصراع.

يبدأ الفيلم في صيف عام 2019، وينقسم إلى فصول موسمية توضح الهجوم الشرس الذي يشنه الجيش الإسرائيلي على مسافر يطا - والذي يحبط باستمرار محاولات القرويين لإعادة بناء ما تم تدميره - وتأثيره التآكلي على روح عدرا، ناهيك عن مجتمعه ككل. 

ينظر عدرا إلى الجرافات وهي تتكدس في المنازل وأقلام الماشية وحتى أقفاص الحمام، مما يفسح المجال لقاعدة تدريب دبابات إسرائيلية مقترحة، ويعرب عن أمله في أن تجذب مقاومة السكان على الأرض انتباه القوى العالمية الكبرى، وتضغط على إسرائيل للتوقف.

ولكن هذا التفاؤل الساذج لا يصمد مع تقدمنا ​​سريعًا إلى شتاء عام 2020، حيث نواجه على الفور أعمال هدم مماثلة. فعندما يواجه أحد سكان القرية، هارون أبو عران، الجنود الذين يصادرون مولده، يطلقون النار عليه في صدره، مما يجعله مشلولًا من الكتفين إلى الأسفل. 

ويقدم فيلم "لا أرض أخرى" مثل هذه اللقطات المروعة برصانة صادقة، ولا يساهم إلا بقليل من التعليق حيث تتحدث الصور عن نفسها.

 ويتتبع صناع الفيلم حالة أبو عران المتدهورة على مدى العامين التاليين، حيث يجد هو ووالدته المنكوبة ملجأ مؤقتًا في كهف، بينما تتعب هي من المراسلين الدوليين الذين يزورون فقط لتوثيق مأساتهم، دون أن يقدموا أي شيء في طريق التغيير أو الإغاثة.

ومع تقدم الفيلم عبر السنوات نحو نهاية عام 2023، ينشأ نمط انتظار رهيب، حيث تصبح عمليات الهدم المفاجئة - حتى في حالة مروعة، لمدرسة أثناء انعقادها، مما أدى إلى إخلاء مذعور - أمرًا روتينيًا. تتوالى جهود إعادة بناء المجتمع، في الغالب ليلاً، وتقابلها الجرافات مرة أخرى. تواجه الاحتجاجات مرارًا وتكرارًا معارضة الشرطة العدائية، وغالبًا ما يلقي عدرا بنفسه في خضم الصراع وسحب الغاز المسيل للدموع. ببطء، يبدأ سكان مسافر يطا في الاعتراف بالهزيمة، حيث يحزم الكثيرون أمتعتهم وينتقلون إلى شقق ضيقة في المدينة، كما يصفها لودج.

إن زيارة توني بلير، بصفته مبعوثاً خاصاً للجنة الرباعية في الشرق الأوسط، تضمن تأجيلاً لواحدة من القرى التي من المقرر أن تهدمها إسرائيل، ولكن عدرا لم يبد أي انبهار. ويقول: "إن هذه قصة عن القوة"، والناس الذين يعيشون بشكل دائم في ظل هذه الأزمة لا يتمتعون بأي قوة. بل إن العلاقات تتوتر بين المخرجين الأربعة، أو هكذا تريدنا بنية الفيلم أن نصدق: يتساءل بلال بصوت عالٍ كيف يمكنه أن يحافظ على صداقته مع أي إسرائيلي في ظل هذه الظروف. ويعلن إبراهام تحالفه، ويصر على أنه يريد إنهاء الاحتلال. فيرد بلال: "كيف يساعدني هذا؟".

ويصف لودج صناعة الفيلم بأنها كانت مُحكمة ومدروسة، مع مونتاج سريع (من قبل المخرجين أنفسهم) يلتقط إحساس الوقت الذي يمر ويعود إلى نفسه في نفس الوقت. 

والتأثير المذهل للتسلسلات المكثفة من المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في الفيلم - والتي يتم تصويرها غالبًا بكاميرات الهواتف المحمولة، مما أثار ذهول المسئولين العسكريين، والتي كانت عنيفة بما يكفي لصدمة العديد من الجالسين على الحياد بشأن القضية ودفعهم إلى الوعي الغاضب - متوازن مع مشاهد أكثر هدوءاً وملاحظة لعدرا وعائلته وجيرانه وهم يحاولون عيش حياة يومية على أرض يتم سحبها من تحت أقدامهم باستمرار. يتلاشى الأمل في أن يتمكن الجيل القادم من الاحتفاظ بأرض أجدادهم؛ وإذا فعلوا ذلك، فمن المرجح أن يرثوا معها نشاط عدرا.

وتشير أدريان هورتون في مقالها بموقع "الجارديان" بأن الأدلة التي قدمها المخرجون ـ عدرا، والصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام، وصانع الأفلام والمزارع الفلسطيني حمدان بلال، والمصورة السينمائية والمحررة الإسرائيلية راشيل سزور ـ واضحة ومباشرة، وغير مبالغ فيها، ومثيرة للغضب الشديد. ولا يوجد ما يقال غير ما قيل بالفعل عن قضية السيادة الفلسطينية، وجرائم الحرب التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية، والوضوح الأخلاقي الذي يتسم به أولئك الذين ينادون بإنهاء العنف والاحتلال.

 إن فيلم "لا أرض أخرى"، إذا ما وصل إلى دور العرض سيضمن أن الناس لا يستطيعون إنكار ذلك؛ وأن هناك نموذجاً للتعايش والأمان المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ وأنه لا يوجد ما يبرر حملة التدمير العشوائي واليأس في الضفة الغربية، تماماً كما حدث في غزة والآن في لبنان.

وترى هورتون أن الفيلم يقدم لنا بإيجاز تفاصيل الحياة اليومية الريفية للمجتمعات الزراعية في الغالب في مسافر يطا، وهي مجموعة من 20 قرية فلسطينية في الحافة الجنوبية الجبلية للضفة الغربية، والنضال الجيلي للحفاظ عليها ضد الاحتلال الإسرائيلي المتزايد العنف. 

والفيلم صريح وإن كان موجزًا ​​للغاية في عرض الحقائق: في عام 1980، أعلنت الحكومة الإسرائيلية مسافر يطا "منطقة مغلقة" للتدريب العسكري، على الرغم من أن الوثائق الحكومية تكشف أن الغرض الحقيقي كان تهجير القرويين الفلسطينيين لصالح المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.

حيث يواصل عدرا عمله في تسجيل التوغلات الإسرائيلية في قرى مسافر يطا، ونشر مشاهد لا يمكن إنكارها للاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعي: جرافات تسحق منازل العائلات بينما يبكي الأطفال، وحفار يدمر عمداً مرحاض إحدى العائلات، ومسئولون يسرقون مولداً كهربائياً لعائلة أخرى، وشرطة تملأ الآبار بالإسمنت.

جنود قوات الدفاع الإسرائيلي - السود والعرب والبيض، ذكوراً وإناثاً - الذين لا يظهرون أي تلميح إلى الضعف، ينفذون عمليات هدم المنازل ببرودة النظام القانوني. العائلات مجبرة على التجمع في الكهوف بينما يحاولون إعادة بناء الهياكل البدائية في الليل. تقول امرأة مسنة بعد تدمير منزلها: "ليس لدينا أرض أخرى، ولهذا السبب نعاني من أجلها". وفي وقت لاحق، أطلق جنود إسرائيليون النار على ابن المرأة وأصابوه بالشلل، في واحدة من عدة أعمال عنف جسدي التقطها صناع الفيلم.

ففي مشهد مبكر، تم تصويره في عام 2019، يعبر عدرا ومجتمعه عن أملهم في أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا كافية على إسرائيل لوقف الطرد، وهي فكرة معقولة بما فيه الكفاية لكنها تبدو الآن غريبة ومحزنة. إن إدانة للتواطؤ الغربي لا تقل إدانة عن أي شيء قيل بعبارات أكثر صراحة في الاحتجاجات العديدة في الخارج.

ولكن من وجهة نظر هورتون، ما خلقه صناع "لا أرض أخرى" هو حالة واضحة ونموذج في خصوصيته. تتخلل مشاهد الاحتجاج محادثات متوترة وطبيعية بشكل ملحوظ بين عدرا وإبراهام حول الشكوك المتبادلة والتعقيدات وضرورة الروابط الفلسطينية الإسرائيلية التي تظهر ثقة جذابة تم اكتسابها بشق الأنفس؛ يستكشف الفيلم بمهارة اختلال التوازن في القوة بين عدرا، المكبل في تحركاته، وإبراهام، الذي يستطيع القيادة بعيدًا في الليل.

 

حرية الاحتلال المشروطة

تصف لوفيا جياركي في مقالها بموقع "هوليوود ريبورتر"، أنه من بين اللحظات المدمرة العديدة في الفيلم الوثائقي المذهل "لا أرض أخرى" الذي أنتج بواسطة مجموعة من المخرجين الفلسطينيين والإسرائيليين، مشهد هدم الجرافات للمدرسة الوحيدة في مسافر يطا، وهي قرية ريفية في الضفة الغربية المحتلة. فقبل أن تهدم الآلات الجدران مباشرة، هربت مجموعة من أطفال المدارس، الذين احتجزهم الجيش الإسرائيلي داخل المبنى، عبر النوافذ المفتوحة. 

لقد بنى أهالي مسافر يطا هذه المدرسة معًا على الرغم من المحاولات العديدة لمنعهم. وفي وقت سابق من الفيلم، يروي عدرا كيف وضعت والدته خطة للالتفاف على عداوة قوات الدفاع الإسرائيلية. فقد أمرت النساء والأطفال بالعمل في موقع البناء أثناء النهار، بينما يتولى الرجال العمل في الليل. كان الظلام يمنحهم الأمان ويحميهم من الجيش.

وعندما انتهى أهل البلدة من المشروع ــ وهي عملية بطيئة وشاقة - اكتسب المشروع اهتماما دوليا. فسافر توني بلير، رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك، إلى مسافر يطا وتجول حول الهيكل الذي أقيم حديثا. وبعد زيارته، أوقفت إسرائيل خططها لهدم المباني في المنطقة. 

ويقول عدرا بعد مشاركة هذه الذكرى: "هذه قصة عن القوة". وينطبق هذا على مواضيع متعددة، كالنضال من أجل بناء المدرسة، واحتلال مسافر يطا والضفة الغربية، ومستقبل الفلسطينيين الذين يعيشون تحت القبضة الحديدية لما يعتبر على نطاق واسع نظاما للفصل العنصري . 

وتري جياركي أن "لا أرض أخرى" يركز على المعارك القانونية التي استمرت لعقود من الزمن، والظلم المزمن والإذلال اليومي الذي يواجهه الفلسطينيون في الضفة الغربية. ويُظهِر الفيلم تأثير 75 عامًا من الاحتلال، بدءًا من نقاط التفتيش والتصاريح إلى القوانين والسياسات العنصرية. والفيلم الوثائقي، مثل المدرسة في مسافر يطا، متواضع المظهر لكنه يعكس روحًا راديكالية.

تتخلل الفيلم لقطات من الترهيب العسكري وعنف المستوطنين الإسرائيليين، والتي صورها عدرا وأبراهام والعضوان الآخران في مجموعتهما، المصور حمدان بلال والمصورة السينمائية والمحررة راشيل سزور. يتم ربط هذه العناصر معًا بلغة بصرية غير مزخرفة. فكما ترى جياركي أن الفيلم يعمل ضمن المنطق القائل بأن الأدلة البصرية ستحفز الجمهور على الاعتراف بالوحشية التي يواجهها الفلسطينيون. 

يقيس عدرا حياته بلحظات المقاومة وليس بالسنوات. ومن خلال التعليق الصوتي، نتعرف على أن المحامي الشاب ينحدر من عائلة من الناشطين. لقد ورث نضالًا، وفي فيلم "لا أرض أخرى"، نرى كيف يجب على عدرا التفاوض على حاضر محدد بنفس المعارك التي خاضها والداه. يقضي أيامه في تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات؛ وتوثيق الانتهاكات التي يرتكبها جيش الدفاع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين؛ وفي وقت لاحق، عندما تحظى قصة مسافر يطا بمزيد من الاهتمام، يجلس لإجراء مقابلات مع الصحافة الدولية.

يظل الفيلم قريبًا من موضوعاته ويشهد على قدرة مجتمع مسافر يطا على الصمود. ويتطلب الأمر الشجاعة والإقناع لإعادة البناء بعد كل عمل من أعمال التدمير. ولكن إعادة البناء تتطلب أيضاً ثمناً باهظاً، وينقل لنا فيلم "لا أرض أخرى" التأثير العاطفي والعقلي للقمع. والفيلم ليس وثيقة للحلول، ولكنه يضع نفسه في موضع خطوة في الحركة نحو مستقبل يتمتع فيه الفلسطينيون بنفس الحرية التي يتمتع بها الإسرائيليون. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟.

تضع جياركي تصوراتها في المدرسة التي ساعد والدا عدرا في بنائها، وكيف أوقفت الحكومة الإسرائيلية خطط هدمها بعد زيارة واحدة من رئيس الوزراء بلير. وأنا أزن قوة تلك اللحظة في مقابل حقيقة مفادها أن مجلس الشيوخ الأميركي وافق مؤخراً على تقديم 14 مليار دولار كمساعدات لإسرائيل في الوقت الذي يتزايد فيه عدد القتلى الفلسطينيين ويتضور الناس جوعًا.

بغض النظر عن ردود الفعل العنيفة التي صاحبت فوز الفيلم بجائزة الأوسكار من جانب حكومة الاحتلال، يمثل "لا أرض أخرى" إنجازًا كبيرًا للسينما الفلسطينية التي وصلت مرتين من قبل للقائمة النهائية بفضل المخرج هاني أبو أسعد، الذي ترشح للمرة الأولى عام 2005، بفيلم "الجنة الآن"، وتدور أحداثه حول الشابين الفلسطينيين سعيد وخالد يعيشان في مدينة نابلس في فلسطين وهم من أصدقاء الطفولة يخططان للقيام بعملية فدائية في قلب العاصمة الاسرائيلية تل أبيب بعد التنسيق مع أحد المنظمات الفلسطينية، إلا أن الأمور لا تسير كما هو مخطط لها.

وبعد 8 سنوات، وصل أبو أسعد للقائمة النهائية مرة أخرى بفيلم "عمر"، والذي تدور أحداثه حول شابٍ فلسطيني مناضل، يعشق مراوغة الرصاص المتساقط من أعلى الجدار العازل، إلى جانب عشقه المميت لإحدى الفتيات. 

وفي يومٍ ينتقل عمر إلى الجانب الآخر من الجدار حيث يصبح مقاتلًا شرسًا يعمل خبازًا ويُلاحَق في عدة مطاردات حتى يتم ضبطه أثناء تنفيذه إحدى العمليات، حينها تراوده الشكوك بخيانة رفاق دربه له أو شقيق حبيبته وهو الأمر الذي يمزقه تمامًا كما خارطة فلسطين.

مقالات مشابهة

  • إجابة سؤال الحلقة 11 من برنامج رامز إيلون مصر حلقة مصطفى أبو سريع
  • “الذكاء الاصطناعي ودوره في الأدب والفن والثقافة” أمسية للشريك الأدبي بتبوك
  • الكيلاني: داعمون لأي مقترح يعزز العمل الاجتماعي ويبرز دور المرأة
  • شهد ليو ترد على تساؤل حول سبب قص شعرها: مجنونة..فيديو
  • فن اليوميات العربية.. نبش أسرار الكتابة الذاتية في دراسة نقدية جديدة
  • إجابة سؤال الحلقة العاشرة من رامز إيلون مصر .. حلقة ريم مصطفى
  • أمير الحدود الشمالية يتسلَّم التقرير السنوي لأنشطة النادي الأدبي الثقافي لعام 2025
  • "لا أرض أخرى".. عن سؤال الحرية بين ضلوع الاحتلال
  • شوقي ضيف.. المؤرخ الأدبي الذي أعاد كتابة تاريخ الأدب العربي
  • بطل رفع أثقال: الكتابة أحد هواياتي واحترفت الرياضة بالممارسة