ثمة شيء محير في التاريخ لا أجد له تفسيرا، فما من صفحة به إلا وكان من بين سطورها سطر معنون بالخيانة!، ومع أن السيناريوهات تتكرر إلا أن أحدا لم يستطع النجاة من شراكها، أحمد عرابي من هؤلاء الذين تعرضوا لكثير من الخيانات بعضا منها لشخصه وبعضا منها خيانة للوطن في شخصه، حتى قيل إن عرابي خانه الكثير إلا جواده.


خنجر الكراهية وطعنة خنفس ورفاقه


سيرة عرابي من قريته إلى منصة الزعامة المصرية كانت مليئة بكرم الأقدار، وهنا يكمن شيطان الغيرة ينمو في النفوس، ثم يخرج خنجر الكراهية يطعن في الظهر، طعنة لا دواء لها.. لم يفرق الأربعة الذين خانوا عرابي بين كونه ضابطا زميلا لهم وبين كونه رمزا وطنيا، فنالوا من عرابي وأوقعوا الوطن فريسة بين أنياب الاحتلال.
محمد باشا سلطان رئيس الحزب الوطني، باع الوفاء بالذهب ووزعه على بدو الصحراء الشرقية، فاغترف منه خائن آخر يُدعى سعيد الطحاوي، وعم عرابي بأنه معه ولكن كان عليه إذ كان ينقل أخباره إلى الإنجليز، وكان الثالث له نصيب كبير من اسمه وهو "خنفس".
تقول كُتب التاريخ أن عرابي كان فى خيمته إذ جاءه الطحاوى يقسم له أن الإنجليز لن يهجموا قبل أسبوع، ثم ذهب لقائد الإنجليز وطمأنه أن المصريين سينامون ليلتهم ويزحف الإنجليز فى الظلام ويصل الإنجليز إلى الخط الأمامى للجيش العرابي. 
بينما كان عبد الرحمن حسن قائد فرقة السواري، هو الخائن الرابع، والذى كان يتعين على فرقته أن تكون فى المواجهة بل وكان يعلم بنبأ الهجوم، فتحرك بجنوده بعيدا عن أرض المعركة، ليمر الإنجليز بسهولة، وفى الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين انطلق ستون مدفعا وأحد عشر ألف بندقية، وألفان من الحراب، تقذف الجند النائمين فتشتتوا وكان عرابى يصلى الفجر على ربوة قريبة وسقطت قذيفة على خيمته فأسرع وامتطى حصانه ونزل لساحة المعركة، فهاله ما رأى وحاول جمع صفوفه عبثا.


توفيق يصف عرابي بـ«الكافر العاصي»


وبحسب رواية الزعيم أحمد عرابى فى معركة التل الكبير، كما نقلها المؤرخ عبد الرحمن الرافعى، فإن الزعيم الراحل التقى على باشا الروبى، أحد قادة الجيش، والذى أبدى شعوره بالخذلان إلى عرابى من تصرفات الخديوى توفيق، الذى قام ببعث رسائل يتوعد كبار الضباط، معلنا أن الجيش الإنجليزى لم يحضر إلى مصر إلا خدمة للخديوى وتأييدا لسلطانه، وكانت توزع تلك الرسائل بواسطة محمد باشا أبى سلطان رئيس مجلس النواب آنذاك.
ومما جاء في منشور توفيق: «لجميع المصريين بأن الشقي العاصي أحمد عرابي قد ارتكب آثاما فظيعة جعلت دول أوروبا ناقمة على مصر، وباتت الآن تعتبر المصريين أمة غير متمدينة، وهذه الجرائم والآثام منحصرة في عصيان عرابي المذكور وتحريضه لرعايانا على السير تحت لواء عصيانه لأوامر حضرتنا، وهي الأوامر التي صدرت إليه بالانقطاع عن إغضاب الإنجليز وعدم منعهم من نزول الإسكندرية التي أضرم فيها عرابي النار».
وتابع توفيق تهديده في بيانه للشعب المصري: « كل شخص يعرف عنه أنه ميال أو ذو ضلع مع العاصي ابن العاصي والكافر ابن الكافر أحمد بن محمد عرابي عددناه عاصيا مستحقا لجزاء العصيان. وكل من يصر على عصيانه وانقياده للشقي المذكور أعلاه سيكون مذنبا أمام الله...العساكر الانجليزية يعتبرون نائبين عنا في قطع دابر عرابي ومن معه من المفسدين العصاة».
وأقام توفيق في سبتمبر  ١٨٨٢ الولائم لجيش الاحتلال البريطاني بمناسبة هزيمة عرابي ومنح القادة البريطانيين أوسمة ونياشين منها سيف مطعم بالعقيق وطبنجة مطعمة بالزمرد والألماس.
عرابي ورفاقه في جنة آدم.. من أين إذا أتت الشياطين!
وتقول المؤرخة المصرية لطيفة محمد سالم في كتابها "عرابي ورفاقه في جنة آدم": «الحكومة البريطانية كانت ترغب في إعدام عرابي على يد الخديوي “بناء على محاكمة شكلية وأيدت الصحافة البريطانية هذا الأمر لكن التقارير القادمة من الهند سجلت التفاعل الإسلامي تجاه المحاكمة، كما لعبت المعارضة في البرلمان البريطاني دورا في التراجع عن توجيه المحكمة نحو إعدام عرابي وأدت الضغوط الى أن يطالب الرأي العام البريطاني بمحاكمة عادلة».
وبعد صدور حكم المحكمة في الثالث من ديسمبر ١٨٨٢ بإدانة عرابي ورفاقه بتهمة العصيان تذكر المؤلفة، أنه صدر الأمر بإقصائهم من الجيش الذي لم يكن له وجود بعد حله عقب دخول الجيش البريطاني القاهرة، كما صودرت أملاكهم.


مأساة أخرى في سيرلانكا


استشعر لونجدن حاكم الجزيرة أن في الهند وسريلانكا خطرا يتمثل “في إمكانية قيام حركة إسلامية والخوف من النظرة للمنفيين على اعتبار أنهم أبطال ومخلصون لوطنهم وأن عرابي يعد قائدا من قواد المسلمين، الذين كان عددهم في الجزيرة آنذاك ٢٠٠ ألف شخص يتكلمون اللغة العربية كما يتكلمها المصريون ولهذا فرضت الرقابة على تحركاته ولم يسمح للجمهور بالاتصال به أو دخول منزله، وفرضت الرقابة على مراسلاته مع ذويه في القاهرة. 
وتضيف صاحبة كتاب "عرابي ورفاقه في جنة آدم" أن عرابي عبر عما اعتبره عدالة السماء حين هُزمت بريطانيا في السودان معتبرا السودانيين “ينتقمون لإخوانهم المصريين” على حد قوله في بعض مراسلاته ومنها خطاب أرسله في فبراير شباط ١٨٨٥ إلى يعقوب صنوع الملقب برائد المسرح المصري.
وتذكر المؤلفة أن عرابي كان يتلقى بواسطة القناصل خطابات من حكام ممالك شرق آسيا وقادة أوروبيين إضافة إلى وطنيين مصريين منهم “صديقه الحميم” عبد الله النديم (١٨٤٢-١٨٩٦) الذي كتب إلى عرابي خلال سنوات اختفائه باعتباره مطلوبا للسلطات (١٨٨٢-١٨٩١) بهدف رفع الروح المعنوية لعرابي وذكر له شوق المصريين إليه وأنه عندما يصل منه خطاب إلى أحد يدور به على محبيه” كما يمجد رفاقه المنفيين.


لماذا هاجمه مصطفى كامل وشوقي؟


ثمة رأي آخر ذُكر في بعض  الوثائق الإنجليزية والمصرية أن رأى عرابي أعلن الخضوع والطاعة، ووصل الأمر إلى مطالبته بأن ينفى في لندن «أرض الحرية»، مقسمًا بشرفه ألا يتدخل في الأمور السياسية عندما يكون بعيدًا عن بلده حتى يأتي الله أمرًا كان مفعولًا»، حسبما ذكر في خطاب أرسله إلى صديقه الحقوقي البريطاني «بلنت»»
ولما استقر الأمر على نفي عرابي ورفاقه إلى سيلان، وجهوا جميعًا الشكر إلى المبعوث البريطاني لمصر، كما وجه بعضهم الشكر إلى بريطانيا على إكرامها للمنفيين ودعوا لها بالبقاء، لدى وصولهم إلى الجزيرة. 
وبحسب تلك الوثائق فإن عرابي قال في حديثه لأحد الصحفيين البريطانيين، خلال زيارته لسيلان عام ١٨٩٣، إنه في «حالة سماح الحكومة البريطانية بعودته سيذهب كصديق لبريطانيا لا كعدو، وأنه يوافق على وضعه تحت رقابة البوليس أو الحراسة العسكرية. طالبًا العفو والرحمة». ووصل الأمر ببعض رفاق عرابي إلى إرسال خطاب إلى «ولسلي»، قائد قوات الاحتلال التي غزت مصر، يناشدونه ويرجونه الوساطة في قضيتهم.
كان الدوق كورنول ويورك ولي عهد بريطانيا، في زيارة سيلان فالتقاه عرابي، وترجاه أن يتوسط له من أجل العودة إلى مصر، فأعطاه الدوق وعدًا ملكيًا بأنه سيطلق سراحه حين عودته لبريطانيا. وهو ما حدث بالفعل، إذ طلب الدوق من الحكومة البريطانية السماح بعودة عرابي إلى مصر، فسعى اللورد كرومر لتحقيق رغبة الأمير، ونجح في انتزاع تصريح من الخديوي بعودة المنفيين في مايو ١٩٠١.
عاد عرابي إلى مصر أواخر سبتمبر١٩٠١. ولدى انتشار خبر عودته، زاره العشرات من الفلاحين، ورجال الطبقة الوسطى، وبعض البشوات. وعندما كان يصلي في مسجد السيدة زينب، كان المسجد يمتلئ عن آخره بآلاف الناس الذين حضروا لتحيته وتقبيل يديه، استمر الوضع على هذه الحال لبعض الوقت، ثم سرعان ما انفض الناس عن الزعيم بسبب الحملات التي جندها مصطفى كامل للحط من شأنه مستغلًا تصريحاته المؤيدة للإنجليز، وأثمرت مجهودات الحزب الوطني وكامل عن مقاطعة عرابي بشكل جعل بعض أصدقائه يعتقد أن عودته إلى مصر كانت خطأ، وأن بقاءه في سيلان كان أفضل.
المؤرخ محمود الخفيف، يذكر فى كتابه "أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه"، أن عرابى عاد من المنفى، وكان الإنجليز تمكنوا من كل شىء فى البلاد، وكان دعاة الإنجليز وألسنتهم يلقون فى روع الناس أن حركة عرابى لم تكن إلا عصيانا أهوج بعثه الطموح الشخصى، وثبت فى أذهان ناشئة الجيل الذى أعقب الاحتلال أن عرابى هو سبب النكبة وأن "هوجة" عرابى هى التى جلبت الاحتلال.
فى هذا الجو الكئيب عاد عرابى، فلم يجد أحدا من الجيل الناشئ يذكره ويذكر ثورته إلا بالسوء من القول، ولولا بقية ممن شهدوا الثورة وعرفوا حقيقة أمرها، ما لقيه فى مصر أحد. 
عاد عرابى من منفاه إلى السويس، وهناك رفض محافظ البندر استقبالهم ونكرهم، فكتب عرابى إلى قائم مقام الحضرة الخديوية، فكتب إلى مصلحة السكة الحديد بحجز صالون لنزول عرابى ورفاقه وعائلتهم من السويس إلى القاهرة على نفقة الحكومة، وكان ذلك فى الأول من أكتوبر عام ١٩٠١. 
وعاش عرابى فى منزله بشارع خيرت كما يعيش عامة الشعب، وكانت جريدة اللواء التى أسسها مصطفى كامل تناصر الخديوى عباس نجل توفيق، فرأى أمير الشعراء أحمد شوقى أن يهاجمه ويرضى الخديوى.. بل وكتبت جريدة "اللواء": "إن اللورد كرومر جاء بنفسه إلى محطة القاهرة لاستقبال عرابى، وذلك لتلقى فى روع الناس أن عرابى من صنائع الإنجليز". 
لكن ما حدث يختلف قليلا مع ما ذكره المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فى كتابه "الزعيم الثائر أحمد عرابى" أن عرابى رغم أنه عاد بعفو من الخديوى عباس إلا أنه رجع بوساطة الإنجليز، وإدلاؤه بعد رجوعه بتصريحات فيها تأييد للاحتلال وسياسته، كان سببا فى استقباله بالفتور والسخط، وبدا الفرق بينه وبين البارودى من هذه الناحية، فقد لزم البارودى العزلة بعد عودته وامتنع عن الخوض فى الأحاديث، أما عرابى فجلب على نفسه بأحاديثه سخط الصحافة والرأى العام.
وبالعودة إلى كتاب محمود الخفيف، أكد المؤرخ أن عرابى عاش غريب فى وطنه، فقد أنكره الجميع، وخشى كبار الموظفين الاتصال بعرابى وإلا أغضبوا الخديوى، وكذلك أصدر اللورد كرومر أوامره للوزراء ألا يتصل به أحد. 
ولعل أشد ما كان يتألم منه عرابى وهو مقيم بعمارة البابلة بشارع خيرت ضيق ذات يده، فإن المعاش لم يكن يكفيه هو وأسرته كثيرة العدد، وذلك مع إصرار الخديوى على عدم عودة ممتلكاته، ورغم قيام عرابى بالكتابة إلى الخديدوى يرجوه رفع هذا البلاء عنه، لكن الخديوى لم يكن يرد عليه. 
وظل عرابى حتى السنوات الأخيرة من عمره مرتفع الهامة منتصف القامة حتى أشرف على السبعين وهو قوى البدن جم النشاط إذ كان يتريض يوميا ساعة فى الصباح، إلى أن أصيب بسرطان المثانة، وتولى علاجه الأطباء: أحمد بك عيسى، ومحجوب ثابت، وأنيس أنسى. 
وفى ٢٠ سبتمبر ١٩١١ اشتدت وطأة المرض على الزعيم الشيخ وكان قد انتقل إلى منزل فى المنيرة فأوصى أولاده بنشر مذكراته مهما قابلهم من عقبات، وغاب الزعيم الراحل عن وعيه لأكثر من ٣٠ ساعة حتى وافته المنية.
ويذكر الخفيف: ولم يكن لدى أولاد أحمد عرابى من المال ما يكفى لتجهيزه ودفته فاضطروا إلى إعلان نبأ وفاته حتى اليوم التالى، حتى قبضوا معاشه، إذ صرفت وزارة المالية المعاشات فى ذا اليوم بمناسبة عيد الفطر، وفى جنازته لم يشيعه إلى مثواه الأخيرة رجل رسمى واحد، لكن الألف من أبنائها أحاط بنعشه ساروا فى صمت من داره فى المنيرة إلى قبره بالإمام الشافعي.

المياه الجوفية تحاصر قبر عرابي


لم يسلم جثمان عرابي هو الآخر من الخيانة لتستمر مأساته حيا وميتا، فقد حاصرت المياه الجوفية قبره الذي أصبح في حالة مزرية لا تليق بزعيم مصري وقف في وجه الاحتلال، ولعل ما قيل من ضم رفا عرابي إلى مشروع مقبرة الخالدين يكون عوضا له عما طاله من خيانة فليس كل سطور التاريخ صادقة، فكما قيل التاريخ يكتبه المنتصرون وعرابي، وإن كان انتصر لوطنيته إلا أن الخيانة هزمته ونالت منه ومن سمعته، حتى أولئك الذين تركوا شجاعته في مواجهة الإنجليز واستغلوا وهنه وطلبه بحقه في عودة أمواله وصوروا الأمر بأنه باع ولاءه ومبادئه لكنه حتى هنا لم يكن يشتري لنفسه ما تبقى من حياة، وإنما كان يريد حق أبنائه في أن يعيشوا بأموال أبيهم.. ولعل تلك التفاصيل التي ذكرناه عن مصطفى كامل وما نشره عن عرابي وموقفه منه تجعل البعض يعيد قراءة التاريخ بتأنٍ وبعين قاض ليس له هوى وتوجيه لينصف القلم من يستحق الإنصاف بعد مرور تلك السنوات لعل جملة صادقة تصل إلى القادم من أجيال.
 

 


 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: خائن مصطفى كامل عرابي مصطفى کامل عرابی إلى إلى مصر ما کان لم یکن

إقرأ أيضاً:

مأساة الكلمات الكبيرة: وحدة، حرية، اشتراكية!

من وحي الكلمات الثلاث (وحدة، حرية، اشتراكية) ومقولة «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» صعد الخطاب البعثي تدريجيًا أواخر أربعينيات القرن الماضي، بعد عام تقريبًا من الاستقلال الرسمي لسوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946. كانت النواة الفكرية الأولى لحزب البعث قد بدأت مع طالبين سوريين التقيا في جامعة السوربون الفرنسية، وهما ميشيل عفلق، المسيحي الأرثوذكسي، ورفيقه صلاح الدين البيطار، المسلم السني، قبل أن ينضم لهما شاب آخر من أصول علوية هو زكي الأرسوزي، العائد هو الآخر من دراسة الفلسفة في الجامعة الفرنسية نفسها. وبعد فترة قصيرة، عام 1954، سيندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، الاندماج الذي أفضى إلى الصيغة اللغوية النهائية التي سيواصل بها البعث تبشيره الأيديولوجي باسم «حزب البعث العربي الاشتراكي».

بلوّر منظرو الحزب لغةً جديدةً كانت مزيجًا من القومية والاشتراكية والوحدة العربية ومعاداة الاستعمار، رغم أن الكثير من ذلك «التنظير» سيبدو بعد الفحص المتأني أقرب إلى لغة الأدب والشعارات التعبوية من الكلام في الفلسفة والسياسة والتاريخ. تلفتني مثلًا سطور بعينها من كتابه «في سبيل البعث» والذي عبَّر فيه ميشيل عفلق عن خلاصة أفكاره على مدى أربعة عقود حول ماهية القومية والاشتراكية العربية المنشودة إلى جانب آرائه في قضايا أخرى كالموقف من التراث والدين ومعنى الأمة. وضع عفلق أول نصوص مؤلَّفه خلال سنوات الغليان الحزبي منتصف الثلاثينيات واستمر بتأليف فصوله إلى نهاية حياته، حتى طُبع الكتاب في خمسة أجزاء بعد وفاته عام 1989، ليكون أهم وثيقة مرجعية لتتبع أصول حزب البعث وأدبياته. هذه السطور التي أتناولها -على سبيل المثال لا أكثر- تمهد للتصور البعثي عن مفهوم القومية، وفيها يحاول الأستاذ الإجابة عن تساؤل طلابه المستمر حول تعريف القومية التي ينادي بها، فيقول: «هي حب قبل كل شيء. هي العاطفة نفسها التي تربط الفرد بأهل بيته، لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تُفعم القلب فرحًا وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو أن الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق أنانيته الضيقة وتقربه من أفق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن إرادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. إذ أن الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه إلى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق إلى الإنسانية الصحيحة». (الجزء الخامس، ص 133: القومية حب قبل كل شيء).

الإنشائية الفاقعة في هذا النموذج، والرومانسية المفرطة في وصف القومية بأنها «حب قبل كل شيء»، كلها قرائن لا تفتأ تذكرنا بأن «فيلسوف» البعث كان قد بدأ علاقته مع الكتابة بمحاولات شعرية متعثرة تتوسل كتابة قصائد رومنطيقية، كما يشير إلى ذلك حازم صاغية في كتابه «البعث السوري.. تاريخ موجز» مستشهدًا بمقولة تنسب لزكي الأرسوزي عن رفيقه، عفلق، الذي لم تكن العلاقة معه وديةً في معظم الأحيان: «خسره الأدب فيما ابتُليت به السياسة».

كلمة «البعث» نفسها تنم عن فكر مسكون بالنظريات القيامية الحالمة، ولكن في سياق تبشيري على منوال كلمات مثل «الإحياء» و«النهضة» التي استنفدت معانيها النخب السياسية في مرحلة ما قبل الاستقلال خلال القرن التاسع عشر. ثمة هوس واضح بالكلمات الكبيرة عند البعثيين عمومًا، وتعميم هذه الملاحظة على سائر البعثيين لا يشوبه ظلم في نظري، بل يبدو منصفًا إلى حد بعيد. غير أن الممارسة السياسية، عبر السلطة ومن أجلها وخلالها، سرعان ما حولت هذه اللغة الجديدة إلى ألفاظ جوفاء. الكلمات الكبيرة تفسّخت على ألسنة خطباء البعث حتى صارت شعارات للتعبئة ومطايا للضبّاط الواثبين إلى السلطة في بغداد والشام.

في فبراير من عام 1958 نجح بعض الضباط البعثيين المتحمسين في الدفع بمشروع الوحدة مع مصر الناصرية. وكانت «الوحدة» هي الكلمة السحرية التي اعتبرها البعثيون مقدمةً لتوابعها: الحرية ثم الاشتراكية وصولًا إلى الحُلم .. وهو «البعث» وفقًا لعفلق ورفاقه. لكن الخلاف كان حول صيغة الوحدة مع مصر؛ أرادها بعض العقلانيين أو المترددين اتحادًا، بينما أصر الآخرون على وحدة فورية اندماجية رغم اقتراح المصريين تأجيلها لخمس سنوات. يُذكر أن المقدم البعثي أمين الحافظ وقف يومها أمام جمال عبدالناصر وخاطبه قائلًا: «بيننا وبينكم حائط يجب أن نهدمه الساعة. لماذا الاتحاد؟! لتكن وحدة». وكما هو معلوم، لم يدم حلم الوحدة البعثي الناصري طويلًا، إذ سرعان ما أطيح به في دمشق بانقلاب عسكري في 28 سبتمبر 1961. ولم يبق للمصريين منه سوى اسم «الجمهورية العربية المتحدة» الذي نُعي به جمال عبدالناصر يوم رحيله، قبل أن يعلن السادات لاحقًا عن تغيير الاسم عام 1971.

مأساة الكلمات الكبيرة، وربما نفاقها، تتجلى أكثر في العلاقة التي توترت حد العداء بين نسختي البعث، العراقية والسورية. نفس الأيديولوجيا، والمعجم اللغوي نفسه تقريبًا، والشعارات والأناشيد الحزبية هي ذاتها التي هتف بها التلاميذ الصغار في المدارس السورية والعراقية على مدى عقود، لكن الصراع بين النظام الأسدي في سوريا والنظام الصدَّامي في العراق بدد أي معنى لكلمة الوحدة، وكانت الفضيحة الكبرى في سجل هذه الأيديولوجيا؛ فقد بلغ الصراع أوجه مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، حينما حالف حافظ الأسد الخميني، عدو صدَّام اللدود، وانقشع الضباب عن زيف الكلام.

للشعارات التي تُقال على المنابر استحقاقاتها الصارمة التي لا بدَّ أن تحين يومًا ما، وللقول كلفته على القائل، والتاريخ هو المختبر الحقيقي لجدارة النظريات والنصوص المزخرفة. عبرتنا من الأنظمة العربية الشمولية التي شهدنا انهيارها المتتابع في تاريخنا السياسي المعاصر، والتي تكشَّفت عن نماذج ممسوخة للفاشيات الأوروبية في القرن العشرين، شكلًا ومضمونًا، أنها اتسمت كلها، دون استثناء، بالمبالغة في الخطاب والفوقية والتشدق بأعدل القضايا، دون أن تتعلم من مصائر بعضها البعض؛ فلم تتورع عن إغواء المبالغات اللغوية ومغبتها، ولم تتقن التواضع في التعامل مع اللغة. فأولئك الرجال الطامحون الذين خرجوا من ثكنات الضباط إلى منابر السياسة، والذين ظلوا يتعثرون في النحو والصرف على الملأ من غير أن يجرؤ أحد على تصحيح لغتهم، لم يتقنوا إلا النفخ في تلك الكلمات الكبيرة حتى استنزفوا معانيها.. ننسى أحيانًا أن «فلسطين» كانت من بين تلك الكلمات التي استهلكوها! لقد قتلهم فقرهم للبلاغة التي تنتج عن مقاربة «معقولة» بين الواقع والخيال، فاستعاضوا عن البلاغة بالمبالغة.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

مقالات مشابهة

  • 12 ألف جنيه تعيد سمع «حسن»
  • سلوى محمد علي تكشف تفاصيل هجومها على الزعيم عادل إمام
  • بعد تصريحاتها عن الزعيم.. سلوى محمد علي مطلوبة على جوجل
  • الإجابة كشفها في مذكراته.. لماذا حاصر الإنجليز بيت فريد شوقي يوم ميلاده؟
  • شاهد | قائد سابق في هيئة أركان العدو: اليمن لن يخسر المعركة
  • الحوثيون: مستعدون لأي اتجاه تذهب اليه المعركة مع الصهاينة
  • جمال سليمان يروي موقفًا حدث له مع الزعيم عادل إمام
  • مأساة الكلمات الكبيرة: وحدة، حرية، اشتراكية!
  • مصر.. رامي إمام يكشف شرط عودة “الزعيم” إلى الساحة الفنية
  • هل تدهور صحة الزعيم سبب حذف بعض مشاهد مسلسله الشهير.. أيمن بهجت يكشف مفاجأة