مستـقـبل العـمل اليـدوي والذهـني
تاريخ النشر: 13th, September 2023 GMT
على أي ممـن يبدون حماسة شديـدة للذكـاء الاصطناعي فيـرون إليه من حيث الفـوائد الوفيرة التي ستـنجـم منه ومن استخدامـاته في مياديـن الحياة المختلفة، ويعقـدون عليه عظيم الآمال في تيسيـر المعسور من الأعمال، بل وينتظرون منه أمـكـنـة المستحيل... (على أي منهم) ألا يذهـل -في حـمأة حماسته غير المحسوبة- عن هـول ما يحمله هذا الذكاء في ركـابه من نتائـج انقلابيـة ستبـدل -مع الزمـن- وجـه التاريخ الإنساني وتـولـد بيـئة انحلاليـة تذهب بالشرط الإنساني في المطاف الأخير.
إذا كان الإنسان قد انفصل عن ماضيه الحيواني فصار إنسانا حين اهتدى إلى العـمـل (تتـوسـل يـده وفكـره لتوفير قـوتـه وأمنه من طريق إعادة تحديد مكانته في الطبيعة بوصفه كائـنا منـتجـا داخلها)، فإن العـمل هذا بات جوهـرا يتحدد به ويتقـرر به مصيره في العالم. والعمل من نوعيـن: يدوي -وهـو الغالب في تاريخ الإنسانيـة- وذهني (حين قامـت الدول ونشأت الصنائع الإداريـة والسياسية، وحين بدأت الكتابـة وقامت العلوم والمعارف). أضحى هذا الجوهـر الإنساني مهـددا بالإفناء من خلال ذكاء اصطناعي قادم وزاحـف بحيث سيـعطـل العمل رمـة، وفي وجـهيـه معا: اليدوي والذهنـي. وهكذا لن يكون إفنـاء العمل إلا الوجـه الثـاني لإفناء الجوهـر الإنساني بما يعنيه هذا من تعطيل كامـل لمـلكـات الإنسان التي طورها فيه لآلاف السنين. لـننظـر، سريعا، إلى ما سوف يكون عليه الوضع الاجتماعي والإنساني غـداة التـوسع في استخدام الذكـاء الاصطناعي في ميادين الإنتاج والخـدمـات والثـقافـة والفكـر والبحث العلمي.
أول ما يمكن أن نتوقـعه، في مثـل تلك الحال، أن يـشـرع العمل اليـدوي البشري في الاضمحلال التدريجي وصولا إلى الزوال. هذا ليس توقـعا افتراضيـا، بل عليه ألـف دليل من تجربة الانتقال من التصنيع المعتمد على قـوة العمل البشريـة إلى التصنيع الآلي في حقبة الأتمـتة وصولا إلى إنتاج الروبـوتات. كان هـربرت ماركيـوز قد درس ذلك الانتقال، بدقـة شديدة، قبل قرابة الستين عاما، وانتهى إلى استنتاجات خالفه فيها الكثر الكثير من الدارسين قبل أن يؤكـده الواقع. ولقد شهدنا، في مجرى ذلك التحـول، على ظواهـر جديدة من قبيل نشوء صناعات إلكترونيـة لا تحتاج إلى أيدي عاملة بمقدار احتياجها إلى التـقـنـيين والمهندسين. هكذا بدأت الخبرة العلميـة تعـوض العمـل، والقـوة الذهنيـة القـوة البدنيـة وتناقصت معـدلات تشغيل الأيدي العاملة - التي كان الطلب عليها في الميتروپـولات الرأسماليـة شديدا إلى درجة استقـدام الأيدي العاملة من بلدان المستعمـرات السابقة - في الوقـت عـيـنه الذي تعاظمت فيه، بالتـبعة، أعداد العاطلين عن العمل وارتفعت نسب البطالة في بلدان العالم كافـة. وهكذا، كلـما زادت عمليـات هـندسة الإنـتاج على القـواعـد الإلكترونيـة والآلية زادت -بالتبـعة- فـرص الاستغناء عمـن تبقى من قـوى عاملة في مؤسسات الإنتاج.
من الواضح، إذن، أن هذه سيرورة بدأت منذ عقـود. لكنها ستشهد، اليوم، على منعطـف حاسم مع البـدء في تطبيق أنظمة الذكـاء الاصطناعي؛ هذا الذي لن يكون ما قبله شيئا بالنظـر إلى نجوم ظواهـر منه غير مسبوقـة، وأشدها خطرا اضمحـلال ظاهرة العمل الإنساني. سيتولى الإنسان الآلي القيام بالأعمال جميعها التي كان الإنسان يقوم بها منذ عشرة آلاف عـام: في الأرض ابتداء، ثم في المصانـع ووحـدات الإنتاج من المستويـات المختـلفة (من الصناعات الخفيفة والتحويلية إلى الصناعات الثـقيلة والإلكترونيـة الدقـيقة)؛ في أعمال الإنشاءات (من البناء) والتهيئـة العقاريـة إلى إنجاز مشروعـات البنى التحية)؛ في الخـدمات الاجتماعيـة المختلفة (النـقل والمواصلات والخدمات المنزليـة والسياحية)... إلخ. بالنتيجـة، ستختفي - بالتدريـج - فئـات وطبقاتٌ اجتماعيـة عـدة (الطبقة العاملة وفئـات من الطبقة الوسطـى)، وستختـفي معها مؤسسات نشأت، في الماضي، بالتناسب مع حاجات تلك القـوى: من قبيل النقابات والاتحادات والروابـط ذات الطبيعة المطلبيـة.
ولن يكون مصير العـمل الزراعي أفضل حالا. كان هذا قد ضـرب في مقتـل قبل قـرون ثلاثة غـب الثـورة الصناعيـة (آخرها) وما ولـدتـه من حاجات، حيث نجحت الصناعـة في امتصاص قسـم عظيم من القـوى العاملة في الأرض والفـلح، من طريق بـلـترتها -بعد انتزاعها القسري من الأرياف والقـذف بها إلى الحـواضر- ثـم الـزج بها في العمـل الصناعـي. أما اليوم فسيذهب الذكـاء الاصطناعي بالفلاحين والمزارعين إلى العطالة الكاملة بعد أن يـخرجهـم -بقـوة التـكنولوجيا- من حقل الإنتاج كما أخرج العمـال قبلهم. وهكذا فما لن يكون في جملة عمل الإنسان الآلـي في الحقول والمزارع ستتكفـل به المختبرات. وكما أن الثـورة البيولوجيـة -قبل ثلـث قـرن- أتاحت إمكانيات مهـولة أمام تعديلات في المزروعـات وفي المواشي، الأمـر الذي نشأ منه ارتـفاعٌ كـبيرٌ في المنتوجات كان كافيا لتغطية الحاجـات المتزايـدة بتزايـد الديمغـرافيا، كذلك ستـتيح برامج الذكـاء الاصطناعي إمكانيات غير مسبوقة لإنتاج المـواد الزراعيـة في المختبرات. هكذا سنشهد على انتـقالـة دراماتيـكية -ولكنها مخيفة في الوقـت عينـه- من الطبيعة إلى المختبرات: الحـقل الجديد لـ«العـمل» والإنتـاج! وهكذا، أيضا، سنصحو على عالـم جديد ليس فيه عـملٌ يـدوي، وليس الإنسان فيه بالإنسان العامـل الصانع، كما عـرفـه التاريخ منذ آلاف السنين، بل إنسـانٌ خائـر القـوى والملكـات ومستـمرئٌ الدعـة والكسـل والتـنبلـة؛ العمل الوحيد فيه هـو «العـمل» الذي تقـوم به الآلة نيابـة عنه وقـد انتحلت صورتـه (في شكل «إنسـان» آلـي)!
لـن يكون العمل اليـدوي وحـده ضحيـة هـذا الزحـف المتمادي للذكـاء الاصطناعي، سيصيب العمل الذهـني عـين ما أصاب الأول؛ فحين سيـعـتاض عن البحث العـملي البشري، الذي يقوم بـه أفـرادٌ أو فـرق عـمل، باللـواذ بالذكـاء الاصطناعـي وتأليـفـاته؛ وحين سيستـغـنـى عن أعمال المـفكريـن بمنتوج آلـة لا تفكـر؛ وحين يستعان بهذا الذكـاء لـ«كـتابـة» روايـة أو سيناريـو فيلم، أو رسم لـوحـة تشكيليـة، أو وضـع عمـل موسيقي...، فـإن في ذلك إنهـاء بئيسـا للإنتاج الثـقافـي والفكري الإنساني المبـدع وتعبيرا صارخـا عن تحقيـر العمل الذهنـي وامتهان رمزيـة قـواه. وعندي أن هذا العدوان التكـنو- رأسمالي على العمل إجمالا، والعمل الذهـني تحديدا، إعلانٌ صارخ عن نهاية حضارة الإنسان... إن هـو نجح ولم يجـد في البشريـة الحـرة من يقاومـه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکـاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
دعم توظيف الشباب وتمكين المرأة والاستثمار في تنمية المهارات.. المملكة تعزز دورها في قيادة مستقبل العمل على مستوى العالم
البلاد- الرياض
شهدت العاصمة الرياض تجمعًا عالميًا فريدًا خلال انعقاد المؤتمر الدولي لسوق العمل 2025، الذي أقيم تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود- حفظه الله- بشعار” مستقبل العمل”، واحتضن نخبة من الخبراء والمتخصصين من أكثر من 100 دولة، بحضور إجمالي تجاوز 10 آلاف زائر من مختلف القطاعات، وجاء المؤتمر انعكاسًا لالتزام المملكة بتطوير سوق العمل وتعزيز التعاون الدولي، وتأكيدًا لدورها الريادي في قيادة مستقبل العمل على مستوى العالم.
وعلى مدار أيام المؤتمر، اجتمع القادة وصناع القرار وأصحاب المصلحة من القطاعين العام والخاص لمناقشة أبرز القضايا والموضوعات، التي تواجه سوق العمل العالمي، وقد كانت الجلسات حافلة بالحوار حول التحديات، التي تفرضها التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية المتسارعة، وسبل التكيف معها عبر إستراتيجيات فعّالة تضمن بيئات عمل عادلة ومستدامة؛ من خلال النقاشات العميقة والحوارات المتبادلة، سلط المشاركون الضوء على ضرورة تحسين القوانين العمالية، وتعزيز معايير السلامة والصحة المهنية، إلى جانب دعم توظيف الشباب، وتمكين المرأة، والاستثمار في تنمية المهارات لضمان جاهزية القوى العاملة لمتطلبات المستقبل.
لم يكن المؤتمر مجرد لقاء تقليدي، بل كان منصة ديناميكية تفاعلية استعرضت خلالها المملكة جهودها المستمرة في تطوير بيئة العمل من خلال تبنّي أحدث السياسات والمبادرات، وقد ظهر ذلك جليًا في استعراض السياسات الوطنية، التي تبنّتها المملكة للقضاء على العمل الجبري، ما وضعها في مصاف الدول الرائدة عالميًا في تحقيق بيئات عمل منصفة، كما ناقش المشاركون أهمية مواءمة المهارات مع احتياجات سوق العمل، وهو ما كان للمملكة دور بارز فيه عبر تطوير برامج تدريب وتأهيل تواكب التحولات الرقمية، ما يسهم في تمكين القوى العاملة المحلية لمنافسة الأسواق العالمية بقدرات حديثة وكفاءات متطورة.
وكانت التكنولوجيا والتحول الرقمي من أبرز المحاور التي شغلت حيزًا واسعًا في المناقشات؛ إذ ركز المؤتمر على التغيرات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي وأثرها في مستقبل الوظائف، ومدى قدرة الدول على التكيف مع هذا الواقع الجديد.
وفي سياق متصل، استعرضت المملكة استثماراتها في الرقمنة ودعم القطاعات الناشئة، لتوفير بيئة عمل مرنة تواكب التطورات السريعة وتتيح المزيد من الفرص الاقتصادية المستدامة.
من جانب آخر، لم تغفل أعمال المؤتمر أهمية السلامة والصحة المهنية، حيث جرى استعراض الجهود، التي بذلتها المملكة في هذا الجانب، التي شملت اعتماد إستراتيجية وطنية للسلامة والصحة المهنية، وإنشاء مجلس وطني مختص، وتطوير أنظمة متقدمة للإبلاغ عن إصابات وأمراض العمل.
وأكد المشاركون أن بيئات العمل الآمنة ليست مجرد مطلب تنظيمي، بل هي عنصر أساسي في بناء سوق عمل أكثر إنتاجية وتحفيزًا للاستثمار في رأس المال البشري.
وفي خضم هذا الزخم الفكري والنقاشات المثمرة، برزت المملكة بصفتها رائدة في تنظيم المنتديات الدولية، حيث أتاح المؤتمر منصة استثنائية للحوار وتبادل الخبرات حول مستقبل العمل وفق أحدث المعايير العالمية، ولم يكن الحدث مجرد لقاء بين المختصين، بل كان نقطة انطلاق لخطط وإستراتيجيات جديدة تهدف إلى بناء سوق عمل أكثر عدالة واستدامة على مستوى العالم.
ومع إسدال الستار على المؤتمر الدولي لسوق العمل 2025، خرج المشاركون برؤية أكثر وضوحًا تستشرف مستقبل سوق العمل، مدركين أن التحديات القائمة تستلزم تكاتف الجهود الدولية لإيجاد حلول مبتكرة ومستدامة، وبفضل استضافتها لهذا الحدث العالمي، عززت المملكة مكانتها؛ بصفتها قوة مؤثرة في تطوير السياسات العمالية العالمية، مؤكدةً التزامها الدائم بتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة؛ وفق رؤية المملكة 2030، التي تمضي بخطى ثابتة نحو بناء مستقبل مزدهر للجميع.