لجريدة عمان:
2025-12-14@17:59:56 GMT

مستـقـبل العـمل اليـدوي والذهـني

تاريخ النشر: 13th, September 2023 GMT

على أي ممـن يبدون حماسة شديـدة للذكـاء الاصطناعي فيـرون إليه من حيث الفـوائد الوفيرة التي ستـنجـم منه ومن استخدامـاته في مياديـن الحياة المختلفة، ويعقـدون عليه عظيم الآمال في تيسيـر المعسور من الأعمال، بل وينتظرون منه أمـكـنـة المستحيل... (على أي منهم) ألا يذهـل -في حـمأة حماسته غير المحسوبة- عن هـول ما يحمله هذا الذكاء في ركـابه من نتائـج انقلابيـة ستبـدل -مع الزمـن- وجـه التاريخ الإنساني وتـولـد بيـئة انحلاليـة تذهب بالشرط الإنساني في المطاف الأخير.

ما مـن تهويـل أو تزيـد في ما نقوله؛ لأن نـذره تطـل منذ الآن. وربـما سنكـتشف، في امتداد زمـن الذكـاء الاصطناعي، بأن هذا الأخـير سيفعل بالإنسان أضعـاف أضعـاف ما فعلتـه الصناعـة والتـقنيـة بالطبيعة والبيئة خلال الثلاثمائـة عـام الأخيرة!

إذا كان الإنسان قد انفصل عن ماضيه الحيواني فصار إنسانا حين اهتدى إلى العـمـل (تتـوسـل يـده وفكـره لتوفير قـوتـه وأمنه من طريق إعادة تحديد مكانته في الطبيعة بوصفه كائـنا منـتجـا داخلها)، فإن العـمل هذا بات جوهـرا يتحدد به ويتقـرر به مصيره في العالم. والعمل من نوعيـن: يدوي -وهـو الغالب في تاريخ الإنسانيـة- وذهني (حين قامـت الدول ونشأت الصنائع الإداريـة والسياسية، وحين بدأت الكتابـة وقامت العلوم والمعارف). أضحى هذا الجوهـر الإنساني مهـددا بالإفناء من خلال ذكاء اصطناعي قادم وزاحـف بحيث سيـعطـل العمل رمـة، وفي وجـهيـه معا: اليدوي والذهنـي. وهكذا لن يكون إفنـاء العمل إلا الوجـه الثـاني لإفناء الجوهـر الإنساني بما يعنيه هذا من تعطيل كامـل لمـلكـات الإنسان التي طورها فيه لآلاف السنين. لـننظـر، سريعا، إلى ما سوف يكون عليه الوضع الاجتماعي والإنساني غـداة التـوسع في استخدام الذكـاء الاصطناعي في ميادين الإنتاج والخـدمـات والثـقافـة والفكـر والبحث العلمي.

أول ما يمكن أن نتوقـعه، في مثـل تلك الحال، أن يـشـرع العمل اليـدوي البشري في الاضمحلال التدريجي وصولا إلى الزوال. هذا ليس توقـعا افتراضيـا، بل عليه ألـف دليل من تجربة الانتقال من التصنيع المعتمد على قـوة العمل البشريـة إلى التصنيع الآلي في حقبة الأتمـتة وصولا إلى إنتاج الروبـوتات. كان هـربرت ماركيـوز قد درس ذلك الانتقال، بدقـة شديدة، قبل قرابة الستين عاما، وانتهى إلى استنتاجات خالفه فيها الكثر الكثير من الدارسين قبل أن يؤكـده الواقع. ولقد شهدنا، في مجرى ذلك التحـول، على ظواهـر جديدة من قبيل نشوء صناعات إلكترونيـة لا تحتاج إلى أيدي عاملة بمقدار احتياجها إلى التـقـنـيين والمهندسين. هكذا بدأت الخبرة العلميـة تعـوض العمـل، والقـوة الذهنيـة القـوة البدنيـة وتناقصت معـدلات تشغيل الأيدي العاملة - التي كان الطلب عليها في الميتروپـولات الرأسماليـة شديدا إلى درجة استقـدام الأيدي العاملة من بلدان المستعمـرات السابقة - في الوقـت عـيـنه الذي تعاظمت فيه، بالتـبعة، أعداد العاطلين عن العمل وارتفعت نسب البطالة في بلدان العالم كافـة. وهكذا، كلـما زادت عمليـات هـندسة الإنـتاج على القـواعـد الإلكترونيـة والآلية زادت -بالتبـعة- فـرص الاستغناء عمـن تبقى من قـوى عاملة في مؤسسات الإنتاج.

من الواضح، إذن، أن هذه سيرورة بدأت منذ عقـود. لكنها ستشهد، اليوم، على منعطـف حاسم مع البـدء في تطبيق أنظمة الذكـاء الاصطناعي؛ هذا الذي لن يكون ما قبله شيئا بالنظـر إلى نجوم ظواهـر منه غير مسبوقـة، وأشدها خطرا اضمحـلال ظاهرة العمل الإنساني. سيتولى الإنسان الآلي القيام بالأعمال جميعها التي كان الإنسان يقوم بها منذ عشرة آلاف عـام: في الأرض ابتداء، ثم في المصانـع ووحـدات الإنتاج من المستويـات المختـلفة (من الصناعات الخفيفة والتحويلية إلى الصناعات الثـقيلة والإلكترونيـة الدقـيقة)؛ في أعمال الإنشاءات (من البناء) والتهيئـة العقاريـة إلى إنجاز مشروعـات البنى التحية)؛ في الخـدمات الاجتماعيـة المختلفة (النـقل والمواصلات والخدمات المنزليـة والسياحية)... إلخ. بالنتيجـة، ستختفي - بالتدريـج - فئـات وطبقاتٌ اجتماعيـة عـدة (الطبقة العاملة وفئـات من الطبقة الوسطـى)، وستختـفي معها مؤسسات نشأت، في الماضي، بالتناسب مع حاجات تلك القـوى: من قبيل النقابات والاتحادات والروابـط ذات الطبيعة المطلبيـة.

ولن يكون مصير العـمل الزراعي أفضل حالا. كان هذا قد ضـرب في مقتـل قبل قـرون ثلاثة غـب الثـورة الصناعيـة (آخرها) وما ولـدتـه من حاجات، حيث نجحت الصناعـة في امتصاص قسـم عظيم من القـوى العاملة في الأرض والفـلح، من طريق بـلـترتها -بعد انتزاعها القسري من الأرياف والقـذف بها إلى الحـواضر- ثـم الـزج بها في العمـل الصناعـي. أما اليوم فسيذهب الذكـاء الاصطناعي بالفلاحين والمزارعين إلى العطالة الكاملة بعد أن يـخرجهـم -بقـوة التـكنولوجيا- من حقل الإنتاج كما أخرج العمـال قبلهم. وهكذا فما لن يكون في جملة عمل الإنسان الآلـي في الحقول والمزارع ستتكفـل به المختبرات. وكما أن الثـورة البيولوجيـة -قبل ثلـث قـرن- أتاحت إمكانيات مهـولة أمام تعديلات في المزروعـات وفي المواشي، الأمـر الذي نشأ منه ارتـفاعٌ كـبيرٌ في المنتوجات كان كافيا لتغطية الحاجـات المتزايـدة بتزايـد الديمغـرافيا، كذلك ستـتيح برامج الذكـاء الاصطناعي إمكانيات غير مسبوقة لإنتاج المـواد الزراعيـة في المختبرات. هكذا سنشهد على انتـقالـة دراماتيـكية -ولكنها مخيفة في الوقـت عينـه- من الطبيعة إلى المختبرات: الحـقل الجديد لـ«العـمل» والإنتـاج! وهكذا، أيضا، سنصحو على عالـم جديد ليس فيه عـملٌ يـدوي، وليس الإنسان فيه بالإنسان العامـل الصانع، كما عـرفـه التاريخ منذ آلاف السنين، بل إنسـانٌ خائـر القـوى والملكـات ومستـمرئٌ الدعـة والكسـل والتـنبلـة؛ العمل الوحيد فيه هـو «العـمل» الذي تقـوم به الآلة نيابـة عنه وقـد انتحلت صورتـه (في شكل «إنسـان» آلـي)!

لـن يكون العمل اليـدوي وحـده ضحيـة هـذا الزحـف المتمادي للذكـاء الاصطناعي، سيصيب العمل الذهـني عـين ما أصاب الأول؛ فحين سيـعـتاض عن البحث العـملي البشري، الذي يقوم بـه أفـرادٌ أو فـرق عـمل، باللـواذ بالذكـاء الاصطناعـي وتأليـفـاته؛ وحين سيستـغـنـى عن أعمال المـفكريـن بمنتوج آلـة لا تفكـر؛ وحين يستعان بهذا الذكـاء لـ«كـتابـة» روايـة أو سيناريـو فيلم، أو رسم لـوحـة تشكيليـة، أو وضـع عمـل موسيقي...، فـإن في ذلك إنهـاء بئيسـا للإنتاج الثـقافـي والفكري الإنساني المبـدع وتعبيرا صارخـا عن تحقيـر العمل الذهنـي وامتهان رمزيـة قـواه. وعندي أن هذا العدوان التكـنو- رأسمالي على العمل إجمالا، والعمل الذهـني تحديدا، إعلانٌ صارخ عن نهاية حضارة الإنسان... إن هـو نجح ولم يجـد في البشريـة الحـرة من يقاومـه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکـاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

وزير العمل: الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يعيدان تشكيل خريطة الوظائف بمصر

أكد وزير العمل محمد جبران، أن الدولة المصرية تضع تمكين الشباب وبناء قدراتهم المهنية في صدارة أولوياتها، باعتبارهم الركيزة الأساسية للتنمية المستدامة ومواجهة متغيرات سوق العمل المحلي والدولي.

وجاء ذلك خلال مشاركة الوزير جبران، اليوم السبت، في قمة المرأة المصرية 2025، في نسختها الرابعة المنعقدة تحت رعاية دولة رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، والتي ينظمها منتدى الخمسين السيدة الأكثر تأثيرا برئاسة الدكتور دينا عبد الفتاح وبالتعاون المجلس القومي للمرأة، وجامعة النيل بعنوان " تمكين الشباب في مجال الـSTEM : المستقبل يحدث الآن"، وبحضور  الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التخطيط و التنمية الاقتصادية و التعاون الدولي، ولفيف من قيادات الدولة في فاعليات المؤتمر الذي يهدف لتوضيح الفرص المتاحة لتشغيل الشباب و استثمار قدراتهم.

وأوضح جبران، أن سوق العمل يشهد تحولات متسارعة، لم تعد فيها الشهادة وحدها كافية، بل أصبحت المهارة والتعلم المستمر والقدرة على التكيف مع التطورات التكنولوجية، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، والطاقة المتجددة، والصناعات المتقدمة، هي العامل الحاسم في بناء مستقبل مهني آمن ومستقر.

وأشار وزير العمل إلى أن الوزارة تعمل على تحديث سياسات التشغيل من خلال بناء منظومة حديثة لرصد احتياجات سوق العمل، وتفعيل مراصد متخصصة لتحليل العرض والطلب على المهارات، والتوسع في برامج التدريب المهني المرتبطة بالقطاعات كثيفة التكنولوجيا، بالتعاون مع القطاع الخاص والجهات المعنية، بما يعزز تنافسية الاقتصاد الوطني.

وأكد وزير العمل، أن الحكومة المصرية تولي أهمية خاصة لتقليص فجوة المهارات بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، لافتًا إلى إطلاق منصات رقمية للتدريب المهني، ومنصات معلوماتية لسوق العمل، تعتمد على ربط الوظائف بالمهارات الفعلية، وليس فقط بالمؤهلات، بما يسهم في تحسين فرص التشغيل ورفع كفاءة القوى العاملة.

وفيما يتعلق بمنظومة التدريب المهني، أوضح وزير العمل أن الوزارة تنفذ مشروعًا وطنيًا شاملًا لتطويرها، في إطار مشروع «مهني 2030»، من خلال تحديث المناهج وفق معايير دولية، وتطوير وتجهيز مراكز التدريب، وتطبيق نموذج التدريب القائم على العمل داخل المنشآت، فضلًا عن التوسع في الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية، لضمان مواءمة التدريب مع احتياجات سوق العمل الفعلية داخل مصر وخارجها.

كما أكد الوزير أن الوزارة تعمل على تطوير قواعد بيانات سوق العمل وربطها بالمنصات الرقمية، وتحديث دليل التصنيف المهني المصري وربطه بالتصنيفات الدولية، بما يسهم في دعم سياسات التشغيل، وتيسير اندماج العمالة المصرية في الأسواق الإقليمية والدولية.

وفي سياق دعم ريادة الأعمال، شدد وزير العمل على أن الوزارة تتبنى نهجًا متكاملًا لتمكين الشباب ورواد الأعمال، من خلال توفير برامج تدريبية متخصصة، ومعامل ابتكار داخل مراكز التدريب، وربط المشروعات الناشئة بجهات التمويل، مع تعزيز ثقافة الامتثال القانوني، وإدماج ريادة الأعمال الرقمية ضمن خطط التدريب، مع إيلاء اهتمام خاص بتمكين المرأة اقتصاديًا.

واختتم الوزير كلمته بالتأكيد على أن الاستثمار في الإنسان المصري، وبناء مهاراته، وربط التعليم والتدريب بسوق العمل، يمثل الضمانة الحقيقية لمستقبل اقتصادي أكثر استدامة، وقادر على مواجهة تحديات العصر.

كما شارك على هامش للفعاليات، في افتتاح وتفقد ملتقى التوظيف والتدريب، الذي شهد مشاركة مئات الطلاب وحديثي التخرج من التخصصات المختلفة، خاصة المجالات المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا والابتكار.

ويهدف الملتقى إلى إتاحة مساحة تفاعلية مباشرة تجمع الشباب بممثلي المؤسسات والشركات العاملة في مختلف القطاعات، بما يسهم في زيادة فرص التدريب والتشغيل، وتقديم المشورة الوظيفية والتوجيه المهني بشكل عملي، يدعم اتخاذ قرارات مهنية واعية تتوافق مع احتياجات سوق العمل.

كما يضم الملتقى مساحات مخصصة للتواصل وبناء الشراكات بين الجامعات والمراكز البحثية ومؤسسات القطاع الخاص، لعرض الابتكارات والمبادرات الطلابية، وربط مخرجات التعليم والبحث العلمي بالاحتياجات الفعلية للاقتصاد وسوق العمل.

مقالات مشابهة

  • مستقبل الفضاء الإذاعي في ظل تطبيقات الذكاء الاصطناعي
  • نشاط مكثف لوزارة العمل في محافظات الجمهورية.. تفاصيل
  • ديزني وOpenAI.. تحالف غير متوقع يعيد رسم مستقبل الذكاء الاصطناعي
  • الفتوى والواقع الإنساني.. القاهرة تحتضن الندوة الدولية الثانية لدُور وهيئات الإفتاء
  • كوثر بن هنية: أصنع الأفلام لإعادة الإنسان إلى مركز الحكاية لا لتقديم خطاب سياسي
  • بذرة فنان
  • برلمانية: الأونروا خط الدفاع الإنساني الأخير عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين ولا بديل عنها
  • وزير العمل: الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يعيدان تشكيل خريطة الوظائف بمصر
  • «أوتشا» لـ«الاتحاد»: الإمارات شريك أساسي في العمل الإنساني العالمي
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يُشارك في إطلاق صندوق الأمم المتحدة للسكان لتقرير العمل الإنساني لعام ٢٠٢٦م