لجريدة عمان:
2024-12-28@04:46:57 GMT

المشكلة الحقيقية التي تعيب اقتصاد الصين

تاريخ النشر: 13th, September 2023 GMT

جَـلَـبَ التباطؤ الاقتصادي الحالي في الصين مجموعة متنوعة من التفسيرات، لكن التوقعات تشترك إلى حد كبير في شيء واحد: فعلى الرغم من تقلب بيانات الأمد القريب بعض الشيء - كانت معدلات النمو السنوية مُـشَـوَّهـة بفعل سياسة خفض الإصابات بمرض فيروس كورونا (كوفيد) إلى الصِـفر - يتوقع أغلب المراقبين أن يستمر نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني على اتجاهه الهابط.

على سبيل المثال، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ النمو 4.5% فقط في عام 2024 ثم يهبط إلى 3% بحلول نهاية هذا العقد - هذا أفضل من أغلب الاقتصادات المتقدمة، لكنه بعيد كل البعد عن المعدلات التي تجاوزت 10% قبل عقد من الزمن، بيد أن النمو ليس سوى جزء من القصة الكاملة.

الواقع أن التركيز على النمو أمر مفهوم بطبيعة الحال. لعقود من الزمن، كانت الصين تمثل حصة كبيرة من نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي. علاوة على ذلك، سوف يساعد حجم اقتصاد الصين -أحد العوامل الرئيسية في تحديد مدى قدرتها على الاستمرار في توسيع قدراتها العسكرية- في تشكيل تطور توازن القوى مع منافستها الرئيسية الولايات المتحدة. لكن النمو ليس القناة الوحيدة -بل وربما ليس حتى القناة الرئيسية- التي من خلالها يؤثر الاقتصاد الصيني على بقية العالَـم. فالتوازن بين المدخرات والاستثمار مهم أيضا، وربما حتى أكثر أهمية. تتمثل إحدى الخصائص المميزة للاقتصاد الصيني في معدلات الاستثمار والادخار المرتفعة إلى حد غير عادي، والتي تتجاوز 40% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا ضعف المستوى في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأعلى حتى من المعدل في بلدان آسيا الأخرى المرتفعة الادخار، مثل اليابان وكوريا الجنوبية.

كان الاستثمار -وبخاصة في البنية الأساسية العالية الجودة- جزءًا لا يتجزأ من عملية الحفاظ على نمو الناتج المحلي الإجمالي السريع في الصين. أقامت الصين شبكة السكك الحديدية العالية السرعة الأكبر في العالَـم في وقت قياسي. واليوم، حتى المدن المتوسطة الحجم لديها خطوط مترو، والمطارات الجديدة اللامعة العديدة في الصين تجعل محطات الطيران الشائخة في الولايات المتحدة وأوروبا بجانبها تبدو سببًا للشعور بالخزي. ولكن، كما أشار كينيث روجوف من جامعة هارفارد، فإن مثل هذا الاستثمار يولد عائدات متضائلة. يتجلى هذا بأوضح صورة في نكبات قطاع البناء. على مدار العقد الأخير، جرى بناء عدد كبير للغاية من المساكن في الصين حتى أن نصيب الفرد في مساحة المساكن المبنية بلغ 40 مترا مربعا (430 قدما مربعا) - وهذا يعادل مثيله في ألمانيا أو اليابان.

بعبارة أخرى، شيدت الصين المخزون الرأسمالي الذي يضاهي الاقتصادات المتقدمة، فلبت فعليًا الطلب على الإسكان - قبل أن تصل إلى مستوى الدخل المرتبط به. هذا يحد بشدة من قدرة الاستثمار على الدفع بزيادات أكبر في الدخل. عند هذه النقطة، يُـفـضي بناء المزيد من المساكن ببساطة إلى إيجاد مزيد من مدن الأشباح - اللامعة، الجديدة، الخاوية. ولأن مدى عُـمْـر المخزون الإضافي من المساكن - والبنية الأساسية في عموم الأمر - طويل، فلن يتغير هذا بشكل كبير في أي وقت قريب.

من المؤكد أن حكومة الصين قادرة في الأرجح على إيجاد سبل جديدة لدعم قطاع البناء، بما في ذلك من خلال إيجاد مشروعات البنية الأساسية التي يمكن على الأقل جعلها تبدو مستحقة للعناء والجهد - على سبيل المثال، في الأقاليم الداخلية الريفية والأكثر فقرا. ولكن في مجمل الأمر، من المتوقع أن يتراجع الاستثمار تدريجيا من الآن فصاعدا.

واجهت اليابان مشكلة مماثلة قبل بضعة عقود من الزمن. فبعد انفجار الفقاعة العقارية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، حاولت الحكومة انتشال الاقتصاد من الركود الحاد من خلال توجيه أموال ضخمة نحو الاستثمار في البنية الأساسية. لكن معظم الطرق الجديدة لا تؤدي إلى أي مكان، وعلى هذا فقد اضطرت الحكومة إلى الاستسلام بعد بضع سنوات من الإنفاق. في الصين، قد تبدو الاستجابة لانخفاض الاستثمار بسيطة: إذ يستطيع الصينيون أن يستهلكوا المزيد. ولكن لنتذكر هنا أن نسبة المدخرات في الصين مرتفعة أيضًا إلى حد غير عادي، وأنها ظلت على هذه الحال على الرغم من الجهود التي بذلتها السلطات على مدار العقد الماضي لتعزيز الاستهلاك المحلي كمحرك للنمو.

وعلى هذا فمن غير المرجح حدوث ارتفاع كبير في المستقبل المنظور، فضلًا عن الاستهلاك، تستطيع الصين توجيه المدخرات نحو الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة مثل: الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ولكن مع اقتراب مثل هذا الاستثمار بالفعل من 300 مليار دولار سنويا -وهذا أعلى كثيرا من نظيره في الولايات المتحدة وأوروبا- تصبح قدرة مصادر الطاقة المتجددة على استيعاب المدخرات الصينية محدودة. في ظل تراجع الاستثمار، تتدفق المدخرات المرتفعة لدى الصين إلى بقية العالم عبر فوائض الحساب الجاري.

في الصين، نجد أن هذه الفوائض أكبر حتى من تلك التي تحتفظ بها بلدان أخرى لديها مدخرات زائدة، مثل ألمانيا واليابان، بسبب حجم الفائض المحتمل وحجم الاقتصاد الهائل. إذا ظلت المدخرات عند مستواها الحالي (أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي)، ولكن مع انخفاض الاستثمار إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي -وهي نسبة تظل مرتفعة- ستضطر الصين إلى الإبقاء على فائض الحساب الجاري عند مستوى عشر نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي للحفاظ على توازن الاقتصاد. ولأن الناتج المحلي الإجمالي في الصين من المتوقع أن يصل إلى 20 تريليون دولار قريبا، فإن هذه النسبة قد تعادل ما يقرب من تريليوني دولار. هذا أضخم عدة مرات من الفوائض السابقة التي حققتها ألمانيا أو اليابان، وضخم بالقدر الكافي للتأثير على توازن الادخار/الاستثمار العالمي.

الواقع أن أحد التأثيرات غير المباشرة المترتبة على فائض المدخرات لدى الصين - الضغوط الكفيلة بدفع أسعار الفائدة إلى الانخفاض - سيكون حميدا نسبيا. لكن مخاطر أخرى أكبر تلوح في الأفق: فسوف تعمل فوائض الحساب الجاري الصينية الضخمة على تغذية اتجاه متسارع بالفعل نحو حماية الصناعات المحلية ضد المنافسة الصينية. هذه الحال ليست حتمية بالضرورة. فمن خلال استثماراتهم في تكنولوجيات مثل: البطاريات، والألواح الشمسية، والمركبات الكهربائية، يصبح المصدرون الصينيون على المسار لاكتساب ميزة متزايدة الثِـقَـل في الصناعات الخضراء التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة.

وقد ترحب أوروبا والولايات المتحدة بالواردات الخضراء الرخيصة كوسيلة لخفض تكاليف سياساتهما المناخية. لكن هذا يبدو احتمالا بعيدا في ظل مناخ المواجهة الجيوسياسية الغالب اليوم. بدلا من ذلك، بوسعنا أن ننتظر مزيدا من سياسات الحماية، التي من شأنها أن تزيد من التكاليف في حين لن تفعل شيئًا لتقليص المدخرات الصينية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من الناتج المحلی الإجمالی فی الصین

إقرأ أيضاً:

اقتصاد السودان البنفسجي

الاقتصاد الثقافي، أو “الاقتصاد البنفسجي”، هو حقل جديد من حقول علم الاقتصاد، يُعنى بإضفاء الطابع الإنساني على العولمة والاقتصاد من خلال استخدام الثقافة كمساعد في ترسيخ أبعاد التنمية المستدامة، أي إنه تحالفٌ بين الاقتصاد والثقافة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة، وقد ظهر لأول مرة في فرنسا عام 2011.

إن الوسط الثقافي السوداني بحاجة إلى مشروع صناعي ينقل المحتوى الثقافي الوطني للعالمية، ويدرُّ أرباحًا تُشجِّع رؤوس الأموال على الاستثمار فيه.

لا بد من إعداد استراتيجية وطنية موجهة لإنشاء اقتصاد حقيقي في قطاع الثقافة، من أجل استغلال طاقات القطاع الثقافي التي تسمح له بإنتاج موارد لفائدة الدولة، حتى لا يكون قطاعاً مستهلكاً للميزانية فقط.

على أن يكون هناك استغلال لجميع القدرات التي يزخر بها السودان في القطاع الثقافي، من أجل استحداث اقتصاد حقيقي لهذا القطاع، مما يسمح له بإنتاج موارد جديدة لصالح تنميته الذاتية ولصالح الدولة، وحتى لا يكون مجرَّد مستهلك للميزانية.

فكيف لنا استغلال كل موارد القطاع الثقافي التي يمكن تثمينها وتقييمها اقتصادياً، عبر اقتصاد ثقافي حقيقي يضم صناعة الكتاب والسينما والمسرح وصناعة المعارض الفنية والأدبية المحلية والسياحة الثقافية؟

لابد من ضرورة الاستثمار في العلاقة الوثيقة بين الثقافة وتطوير السياحة، من خلال إعطاء محتوى ثقافي يثمن التراث والمواقع الأثرية والمتاحف والمدن السياحية (الطبيعية، الأثرية) من خلال إعداد مشروع اقتصادي للثقافة السودانية في تنوّعها وثرائها، باستعمال آليات ترقية على غرار الدبلوماسية الثقافية والسياحة الثقافية والمشاركة في التظاهرات الدولية.

فالسودان يمكن له من خلال إمكاناته السياحية وثروته الثقافية والدينية أن يصبح وجهة ثقافية بامتياز ولا بد من خطة عمل ورعاية الدولة لجعل التراث الثقافي مورداً اقتصادياً.

فالاقتصاد البنفسجي هو حقل جديد من حقول علم الاقتصاد يستخدم الثقافة كعامل مساعد على ترسيخ أبعاد التنمية المستدامة وهو يعني أن تكون الثقافة هي القوة الناعمة ذات الأثر البالغ في تنمية الاقتصاد وتحقيق أهداف الرفاه والتنمية.

وبالرغم من حداثته فإن الاقتصاد البنفسجي لا يزال يحتاج إلى المزيد من الدراسات النظرية والتطبيقية العميقة لفهم آليات تأثيره في الاقتصاد ودوره في تحقيق الاستدامة، في ظل مناخ عالمي يتسم بتعدد الثقافات وتنوعها.

القطاع الثقافي السوداني يستطيع أن يكون جاذباً للاستثمارات الداخلية والخارجية، إذا قام بتطوير خدماته وبرامجه، حتى لا يكون تقليدياً ونمطياً.

إن الاهتمام بالصناعات الثقافية وتطويرها، فضلًا عمّا تسهم به في الارتقاء بقيم المجتمع، وفضلًا عن أهميتها في مجال استخدام القوة الناعمة في علاقاتنا بالعالم، يشكِّل إضافة مهمة للاقتصاد القومي، ويتيح فرص عمل جديدة، كما أن المنتج الثقافي السوداني الحديث والتراثي يمتلك ميزة تنافسية لا تتوفر لكثير من منتجاتنا في المجالات الأخرى.

إن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق مجتمعنا هي توفير الشروط الملائمة لقيام صناعات إبداعية ثقافية قوية، والسعي إلى تشجيع الصناعات القائمة بالفعل والعمل على تدعيمها وحل مشكلاتها، والسير في اتجاه إنشاء مواقع جديدة للإنتاج الثقافي، سواء كانت مواقع حكومية أو خاصة أو أهلية أو مشتركة، واقعية أو افتراضية؛ فكل موقع جديد إضافة إلى قوتنا الثقافية ولقدرتنا على المنافسة، فكلما تعددت مواقع الإنتاج وتنوَّعت واختلفت، ازدادت الحياة الثقافية ثراءً، وتحول الإنتاج الثقافي إلى ميزة تنافسية تضيف للاقتصاد القومي وتسهم في التنمية المستدامة.

د. هيثم محمد فتحي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • اقتصاد السودان البنفسجي
  • البنك الدولي: تحرير الطلب المحلي مفتاح لإحياء زخم النمو في الصين
  • البنك المركزي: الناتج المحلي الإجمالي يدعم الانخفاض المتوقع في التضخم خلال 2025
  • الانتقالي يكشف الأسباب الحقيقية وراء انسحاب الزبيدي من "الرئاسي"
  • الصين تعدل حجم الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023 بنسبة ارتفاع 2.7%
  • البنك الدولي يرفع توقعاته للنمو في الصين
  • بالفيديو | سلطان: الترابط بين أهل الخليج هو الأساس والأخوّة الحقيقية
  • ارتفاع أسعار الأسمدة| الأسباب الحقيقية.. وهل يؤثر على ثمن المحاصيل؟ خبراء يجيبون
  • العراق الخامس عربيا باكبر اقتصاد من حيث الناتج المحلي الإجمالي
  • يشكل 50% من الناتج المحلي| الاقتصاد غير الرسمي “كنز” غير مستغل.. وخبراء يقدمون روشتة لدمجه