السيرة البارونيّة في القصائد الطائيّة (1- 3)
تاريخ النشر: 13th, September 2023 GMT
ناصر أبوعون
◄ السلطان تيمور رحب بالباروني.. والشيخ عيسى الطائي يترأس وفد استقباله
◄ سليمان البارونيّ صاحب فكرة جامعة الدول العربية والجامعة الإسلامية
◄ البارونيّ عُمانيّ الأرومة بَرْوَانيّ القبيلة إباضي المذهب ليبيّ المنشأ
◄ البارونيّ أول مُؤسس لجمهورية طرابلس المستقلة في العالم الإسلاميّ
◄ أسس البارونيّ الجيش الإسلاميّ الطرابلسيّ وكان واليًا على ليبيا
◄ أسس جريدة الأسد الإسلاميّ والمطبعة والمدرسة والمكتبة البارونية
من طرابلس الغرب وبرقة وفزان، خرج رجال أجبروا التاريخ أن يقف على رأسه، وكسروا أنف الميثولوجيا، ودفنوا الأساطير القديمة في قاع (اللاوعيَ).
أنا وأنت وهم ونحن وكلهم بلا استثناء في غيّهم يعمهون، ينسحبون من الواقع، ويغلقون الأبواب خلفهم على تاريخ وحضارة أجدادهم، ويسيرون نِيامًا مكسورة إرادتهم، ومُغيّبين قسرًا عن استقراء المستقبل، وإذا ما أفاق أحدهم من سكرة الحداثة الكذوب ورفع راية التراث- ليستعيد ماء الحضارة العربية ومجدها الإسلاميّ التليد المهراق على طريق (صدام الحضارات) تلك القنبلة الموقوتة التي صنَّعها صامويل هنتنغتون في معامل جامعة هارفارد، لنصل إلى "نهاية التاريخ" (تاريخ الأمم الأخرى) ليبقى "الإنسان الأخير"/ الأمريكيّ وحده فقط سيدًا لهذا الكون- صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وتكالبنا عليه ننهش عرضه، ونسّفه رأيه، وانبعث أشقانا فنحر ناقته وأَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ.
دعوة لإحياء تاريخنا
في هذه الحلقة من السلسة التي ندرس فيها التراث الشعريّ للشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي نستعيد مقطعًا من تاريخنا العربيّ المجيد؛ بل نذرًا يسيرًا من سيرة المجد الذي ولَّى، ولعلنا نجد مَن يلتقط الخيط، ويُحيي عبق الأيام الغابرة، ويستنهض القدوة من بطون الكتب، وينفض الغبار عن المعدن الأصيل، لتحصل الفائدة، ويكون أجره مساويًا لأجر المنفق في سبيل الله "وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (البقرة: 265). فهل من مشمِّر؟! إنها لمَهمَة صعبة ولكن ليست مستحيلة "وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا".
رأس المائة ومُجدِّد الدين
من هذا المنطلق، ومن حدود هذا الهدف نستعيد تاريخ رجل من رجالات التنوير والفكر الثوريّ مذهبه إباضيّ، رضع علوم اللغة والأدب في الزيتونة بتونس، واحتلب علوم الشريعة والفقه في أحضان الأزهر الشريف بمصر وروى ظمأه، وصدق فيه ما رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:(إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا). رواه أبو داود (رقم/4291)، إنّه القائد الإباضي مذهبًا، والبروانيّ عُمانيًا وقبيلةً، والأزهريّ شريعةَ وفقها، والزيتونيّ أدبًا ولغةً، والليبيّ منبتًا ومحتدًا، والطرابلسيّ تُربةً وتربيةً.
الخيانة اسمها خربيش
ولما استبق البارونيّ باب الحضارة، وانفلت من إسار استعباد وتبعية الرجل الأبيض قَدَّ قميصَ ثورته زُنَماءُ المستعمر، وعبيد الأنفس الأمّارة بالسوء، بقيادة العميل البربريّ "يوسف خربيش" الذي كوّن جيشًا من المرتزقة وشذاذ الآفاق، وانضم إلى الإيطاليين وفتح لهم المدن والقرى الليبية، وسلَّم لهم ليبيا كاملة على طبق من فضة وقد وصفه غراتسياني بالخادم المطيع في كتابه (رُودُلف وغراسياني، نحو فزان، ترجمة طه فوزي، ط2، دار الفرجاني، ص52) قائلا: "أمّا «يوسف خربيش» فقد قدم لنا في أعوام 1916-1917- 1918 الكثير من البراهين والأدلة على إخلاصه وشجاعته وهو يقود جماعته من البربر الذين كانوا يقومون بمساعدتنا وهو من الزعماء القلائل الذين بقوا خدامًا مخلصين لنا".
لقد عاش سليمان البارونيّ مجاهدًا بالبندقية والقلم، وصار مُطارَدًا ومطلوبًا حيّا أو ميتًا من الفاشيست الإيطاليين، والآباء المؤسسين لحركة الهوياتيّة (وهي أيديولوجية سياسية قومية أوروبية يمينية متطرفة)، وأنصار الشيفونية الفرنسية المُتعصبة، حتى وصل إلى سلطنة عُمان بعد أداء فريضة الحج في زمن السلطان تيمور مصابًا بالملاريا، حتى إذا ما اشتدت عليه آلام المرض أشار الأطباء عليه بالسفر إلى الهند، لكن الأجل قد استقر سهمه في كبده، وقضى البارونيّ نحبه ساعة وصوله، مُتَكفنًا برداء غربته على شواطئ الهند بعد أن تجرّع كأس الموت وحدةً واغترابًا.
شيشنق والباروني في مصر
يذكر لنا التاريخ في الأزمنة الغابرة أنّ القبائل الليبية توحدت تحت إمرة الملك (شيشنق) وزحفت على مصر وفلسطين، واعتلت سُدة السُّلطة وأسست الأسرة الثانية والعشرين (بالحضارة المصرية القديمة) وظلت طيلة قرنين كاملين تحكم وتسوس البلاد، وتتحكّم في رقاب العباد من القرن العاشر إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ثم عاود أحفادهم من قبائل (هوارة) و(لواتة) الكرّ على مصر في كتائب جرارة تحت قيادة جوهر الصقليّ، وشادوا دعائم الدولة الفاطمية، وشيّدوا على أكتاف عزيمتهم قاهرة المعز لدين الله الفاطمي.
وما زلت مصر تستهوي أهل ليبيا حتى يومنا هذا، فقد وقعوا أسرى هواها، ونهلوا من ينابيع علومها، واستوطنوا قراها ومدنها، وامتزجت جرثومة نُطفتهم الأمازيغية بماء الحياة المتدفق في أصلاب الفراعنة المصريين، وتداخلت أنسابهم، وتلاحمت أوطانهم، وصاروا جسدًا واحدًا، ومن ظهورهم خرج (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)، ومن أزقة طرابلس وحارتها طلع نجم المجاهد والمفكّر التنويريّ سليمان باشا البارونيّ أول من أسّس جمهورية عربية في طرابلس الغرب، وأعلن قيام حكومة مستقلة وبنى جيشًا ليبيًا حديثًا في مطلع القرن العشرين تحت سمع وبصر القوى الاستعمارية الكبرى التي تكالبت على الشرق تنهش جسده، وتُسْقِط خلافتَه العثمانية بمعاول هدم ارتدت أقنعة الوطنية الزائفة، لتخفي خلفها وجوه العِمالة والخيانة التي تربّت في زرائب الفكر التغريبيّ، ورضعت من أثداء الكولونيالية المتوحشة، فشبّوا ورؤوسهم مطأطأة تحت أقدام الإمبريالية وسدنتها.
النشأة العلمية للبارونيّ
على الطريق إلى (طرابلس الغرب) وُلِد سليمان البارونيّ من رحم مدينة جادو الليبية عام 1870، فلما انقضت طفولته، وتلقى تربيته الأولى فيها، سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا، وترحّل مبْكرًا برفقة القوافل الأمازيغية في بحر الرمال الليبية مُيممًا وجهه شطر (بني يزقن) جنوبي الجزائر قاصدًا (وادي ميزاب)، ليجلس إلى قطب الأئمة العلامة محمد بن يوسف أطَّفَيِّش (1820- 20 مارس 1914) المرجع الإباضي في علوم الشريعة، وأخذ عنه اللغة واللآداب، وقرأ عليه متون أصول الفقه، فلمّا استوفى واستوى على سوقه، شدّ رحاله إلى تونس الخضراء، وألقى عصاه في صحن جامع الزيتونة، وأقام هناك حتى سنة 1316هـ/ 1897م، ينهل من ينابيع المعرفة المتنزّلة على أساطين علوم اللغة والبلاغة العربية.
فلمّا تشوّفت- نفسه التَّوَّاقة للمعرفة، وهي في الأقاصي تداعب خيالاتِها مجالس العلماء في اليقظة والمنام – تحت أعمدة الأزهر الشريف، تتلهف الجلوس في حضرة مشايخه وأُدبائه، فضبّ أغراضه، وشدّ رحاله، وتأبّط عزيمته، وهبط إلى حلقات الدرس وتربّع مع المتحلّقين وتنقّل ما بين أعمدة المذاهب الفقهية فأخذ عنهم (الأصول والمتون) بالتلقيّ والسَّماع، وحاز شهادة (العالميّة)، ثُمَّ عكف على تأليف موسوعته الجامعة عن تاريخ ملوك وسلاطين وفقهاء المذهب الإباضيّ، في ثلاثة أجزاء، وذاع صيتها، وسمع العوام بفحواها، وطالع الخواص محتواها، وتفحّص العسس مُبتغاها.
الباروني خلف القضبان
فلمَّا قفل سليمان الباروني راجعًا إلى (طرابلس الغرب)- التي أضحت بعد صراع عسكري "صليبيّ عثمانيّ" ولايةً تابعة للباب العالي في الأستانة– استوقفته الشرطة العثمانية، وأودعته دواليب التحقيق أيامًا طوال، تُفتِّش في نواياه، وتبحث عن خطاياه، وتنبش عن ذريعة تُحيله إلى القضاء، وصادرت مخطوط موسوعته– التي لم يكن أتّمَّ جزءها الأخير- ولفّقت له تهمة "ترويج أفكار سياسية" مستقاة من مذهبه الإباضيّ؛ بل ارتأت "فرقة الاستخبارات العثمانية"– تجنيًّا وزُورًا وبُهتانًا- أنّ هذه التهمة أصل مذهبه ومحتده، وجِذْر عمود خيمته، وذُروة سِنام عقيدته، وتُبيح لكل إباضيّ مسوغات شرعية الخروج على السلطان العثماني ومناصبته العداء، فأحالت البارونيّ إلى "محكمة التفتيش العثمانية" فأصدرت قرارها بسجنه خمس سنوات، ليغيب وراء القضبان، وتنزوي سيرته. فإذا ما انقضت من مدة محكوميته اثنا عشر شهرًا، واستيقن الوالي العثمانيّ في طرابلس من براءة البارونيّ، وسماحة مذهبه، وطلاوة مأربه، وسمو أخلاقه، وعلو همّته، أفرج عنه.
الإنتاج العلمي للباروني
حين خرج البارونيّ من محبسه ولّى وجهه شطر مدينة (يفرن)، وجعل جُلّ غاياته الإصلاح وإعداد جيل من رجال ليبيا الأشداء، يستطيع بهم مجابهة المستعمر الإيطاليّ وطرده، وإعلان ليبيا دولة مستقلة، فأسّس "المدرسة البارونية"، وأوكل إدراتها إلى والده، وثم أنشأ "المكتبة البارونيّة"؛ كي يرتادها طلاب العلم والباحثون، واعتكف على القراءة والدرس والتعليم، وتوّج مسيرته الإبداعية بطباعة قصائده في كتاب واحد تحت عنوان: "ديوان الباروني"، وأنهى موسوعته تحت عنوان: "الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية" في ثلاثة أجزاء، وبدأ يدوِّن كتابه: "تاريخ الحرب في طرابلس". ولأن ولاة الحكم العثماني تلاقت أهدافهم مع المستعمر الأوربيّ فاجتمعوا على محاربة نشر العلم وتوسيع رقعة الأميّة بين الشعوب العربية، ومطاردة قادتها الإصلاحيين والتضييق لاستبقائها في ربقة السخرة والاستعباد وكسر إرادتها، وتيئيسها من نيل استقلالها، فلم يجد سليمان باشا البارونيّ البيئة المواتية لنثر بذور الإصلاح، فقرر العودة إلى إلى القاهرة عام 1906 ليستكمل أدواته في بناء الجيل الجديد فأسس مطبعة "الأزهار البارونية" التي اعتنت بطباعة كتب التراث والأدب والتاريخ الإسلاميّ وعلوم اللغة والشريعة وتصديرها إلى القطر الليبيّ، وبعدها بسنتين أصدر "جريدة الأسد الإسلامي".
جامعة الدول العربية فكرة البارونيّ
في عام 1908 صدر العدد الأول من جريدة الأسد الإسلامي، وفي صدر صفحتها الأولى كتب سليمان البارونيّ مؤسس الجريدة وصاحب امتيازها، العمود الافتتاحيّ تحت عنوان: "الجامعة الإسلامية" مستغلًا مناخ تعاطف الأقطار العربية مع النازيّ الألمانيّ، فقد كانت الشعوب الإسلامية ترى في مساندة المحور "التركي- الألماني" الطريق الأجدى للخلاص من الاستعمار الأوروبيّ. وفي هذه الافتتاحية، نادى البارونيّ بتوحيد الأقطار الإسلامية حول العالم تحت أيَّة صيغة ترتضيها الشعوب وتُجمِع عليها الأمة، ومن هذه الافتتاحية التقطت الاستخبارات الإنجليزية الفكرة، وأوصت أنطوني إيدن وزير خارجية بريطانيا بإصدار بيان في مايو 1941، يُبارك ويُساند إنشاء كيان مؤسسي ودُوليّ تحت أي مسمى يجمع الدول العربية المستقلة قائلا: "ننظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية والسياسية"، وما كان هذا الوعد إلا بمثابة الجزرة وتفاحة الغواية الاستعمارية لقطع الطريق على تعاطف الشعوب العربية مع دول المحور الألمانيّ وشركائه في الحرب العالمية الثانية ضد بريطانيا وحلفائها، وضمان استمرار مساندة الحكومات العربية ودعمها للحلفاء. ومن ثَمَّ، تمّ تمرير فكرة إنشاء جامعة الدول العربية إلى مصطفى النحاس باشا رئيس وزراء مصر- آنذاك- فتقدّم بالمشروع للذات الملكية، واجتمع للتوقيع عليها قادة سبع دول هي: مصر، وسوريا، والمملكة العربية السعودية، وشرق الأردن، ولبنان، والعراق، واليمن، في قصر الزعفرانة بالقاهرة يوم 22 مارس 1945.
الباروني رئيسًا للحكومة
لمَّا استسلم الجسد العثماني ودخل في مرحلة الاحتضار بعد أن تكاثرت عليه نصال حركة التمرد "الكمالية" (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك) في سائر الولايات والأقطار المدعومة من الإمبريالية العالمية وتجّار الحروب ولصوص الأوطان، وقفزت عليه ذئاب الكولونيالية (Colonialism) تنهش جسده المريض، وتستعبد رعاياه باسم الحرية، وتمّ تسليم ليبيا على طبق من ذهب للإيطاليين وفق بنود معاهدة (أوشي- لوزان)، فجاءت الكتائب الفاشية تترى وربضت سفن البحرية الإيطالية على شواطئ طرابلس وعزموا اقتحامها سنة 1912، فانتفض سليمان الباروني مع الأعيان وقادة القبائل ورفعوا راية الجهاد والمقاومة وأسسوا "الجيش الإسلاميّ الطرابلسيّ"، وأعلنوا تأسيس حكومة ليبية مستقلة ترأسها سليمان الباروني. وفي يوم 23 مارس 1913 زحفت الكتائب الإيطالية وحاصرت الجيش الطرابلسيّ وطاردتهم حتى الحدود التونسية التي كانت واقعة تحت الاحتلال الفرنسي الذي أجبر البارونيّ ورفاقه على تسليم أسلحتهم وإعلان الاستسلام ثم أغلق الحدود في وجوههم، فركبوا البحر إلى الأستانة.
وأد جمهورية طرابلس الإسلامية
وصل الباروني ورفاقه إلى الأستانة وكانت الأحوال قد ساءت أكثر وخاب أملهم بإعلان السلطان العثماني استقلال ليبيا عن عرشه، وإن كان استبقه بفرمان منح الباشوية لسليمان البارونيّ وتعيينه واليًا على طرابلس، وأرسله على ظهر غواصة تركية في أبريل 1916 ليتخذ من مدينة الزاوية مقرًا لحكومته، فلمّا وصلها نظَّم صفوف المقاومة وانخرط في حرب الطليان لمدة عامين، وانحسرت الحرب العالمية الأولى بهزيمة تركيا وألمانيا، انقطع عقد ولاياتها وانفرطت حباته وخرجت طرابلس من تحت رعايتها، فتشاور أعيان ليبيا واتفقوا على تأسيس مجلس شورى وحكومة مؤقتة وأعلنوا قيام الجمهورية الطرابلسية المستقلة، وكان سليمان الباروني أحد أعضائها، فلما خشي الطّليان من انفلات ليبيا من ربقة الاستعمار واشتداد وطيس المقاومة الليبية على جنودهم، احتالوا على الحكومة الوليدة بالدخول في مفاوضات أفضت إلى اتفاق صلح عُرف بـ"صلح بنيادم" يمنح الليبيين حقوقهم المدنية والسياسية وحق إعلان دستوريّ مستقل، غير أن الباروني رفض مبدأ التفاوض وقدّم استقالته من الحكومة، فقد صدق حدسه وحنث الإيطاليون في اتفاقهم وسقطت الجمهورية الطرابلسيّة الوليدة في براثن المحتل.
السلطان تيمور يرحب بالباروني
وفي عام 1919، غادر الباروني إلى الأستانة ففوجئ لدى وصوله بانقلاب مصطفى كمال أتاتورك على الخلافة العثمانية وأعلن "الكماليون" مبدأ علمانيّة الدولة، وخلعوا عن جسد تركيا كل ما هو عربيّ وإسلاميّ.
وبعد هاتيك المصيبة ظل سليمان الباروني مُطارَادًا من استخبارات القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية تتعقبه في تركيا وتونس وليبيا ومصر وبلاد الشام. وعلى الرغم من انتقادته الحادة للشريف حسين واتهامه في كتاباته وخطابته بالعِمالة للإنجليز، إلّا أنه لم يجد غضاضة في أن يتقدَّم إليه بطلب أداء فريضة الحج، وهناك طلب من السلطات السعودية التوسط لدى الإنجليز لتمكينه من الرحيل إلى العاصمة العمانية مسقط، فرحّب به السلطان السيد تيمور بن فيصل بن تركي (15 أكتوبر 1913 حتى 10 فبراير 1932م)، وأصدر مرسومًا بتفويضه في تنظيم (سياسات السلطنة وشؤنها المالية والعسكرية)، وكلّف وفدًا عُمانيًا رسميًا باستقباله ومرافقته في زياراته لسائر ولايات عُمان برئاسة قاضي قضاة مسقط الشيخ عيسى بن صالح الطائي. فلما إن رست الباخرة التي تُقلّ سليمان البارونيّ على ميناء مسقط حتى وجد سائر والوزراء والأعيان ورجال السلطان، وجماهير غفيرة في استقباله.
يُتبع...
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً: