كثير من اليساريين يكرهون الدولة ويعتبرونها أداة للقمع الطبقي ومصادرة الحريات. هذا التصور للدولة راسخ في الأدبيات الماركسية والاناركية. وهذا الرأي مشروع، ولكن فقط إذا تم النظر إليه في السياق الصحيح ووفقًا للمرحلة التاريخية المحددة لتطور المجتمع.

يحتفل بعض أهل النوايا الحسنة دائمًا بتراجع سلطة الحكومة لأنهم يكرهون الدولة.

أنا أفهم موقفهم وأتعاطف معه لأنني معارض بشكل أساسي ضد أي سلطة ما لم تكن قادرة على تبرير وشرعنة نفسها وبالذات سلطة الدولة.

لكن السياق هو كل شيء، فإن اضمحلال الدولة والحكومة الذي دعا إليه الأناركيون ويسار الماركسيين هو مرحلة تاريخية متقدمة تصلها المجتمعات بعد نضج وسائل الإنتاج والمجتمع والمؤسسات إلى مرحلة متقدمة جدًا، أعلى مما حققته هذا اليوم البلدان الرأسمالية المتطورة.

وبهذا المعنى، فإن الحد من دور الحكومة أو حتى التفكير في إلغائها هو موقف تقدمي في أماكن مثل الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والسويد وسويسرا أو بلدان مماثلة حيث توجد نقابات ومجتمع مدني ولجان احياء ومؤسسات أخرى يمكن أن تخطط وتدير مصالح وتناقضات المجتمع بأفضل مما تفعل الحكومة.

المعادلة تختلف جذريا في جنوب الكرة الأرضية – في البلدان الفقيرة والمتخلفة، حيث المشكلة هي عكس ذلك تماما. هذه الدول تعاني من ضعف ومحدودية حكوماتها، وهذا ما يسمى في العلوم السياسية باسم متلازمة الدولة الرخوة.

تمثلت مشكلتنا في السودان في العقود السابقة في محدودية وجود الحكومة وضعفها ورخاوتها عجزها عن انفاذ القانون وليس فقط في وجودها الباطش. فنفس الدولة الظالمة التي تتغول علي الحريات وتعتدي علي المواطن هي نفسها التي تحميه من القتل والسرقة والاغتصاب علي نطاق واسع القادم من خارج صفوفها في مناطق نفوذها علي الأقل.

لذلك لا ينبغي لأحد أن يحتفل بالتلاشي المستمر لسلطة الدولة السودانية وضعف جيشها لأننا لسنا مجتمعًا رأسماليًا متقدمًا، فنحن دويلة متخلفة علي شفا ريح صرصر وضعف الحكومة ينتج عنه الكثير من الألم المجتمعي بلا مكاسب مقابلة على الإطلاق في مجال الحريات.
تكمن صعوبة العلوم الاجتماعية في عدم وجود إجابة ثابتة وواحدة لكل سؤال. الإجابات دايما تعتمد على السياق فالدعوة لتقييد وجود الدولة قد تكون تقدمية مفيدة للحريات في سياق دولة بلغت شأوا بعيدا في التقدم المدني والاقتصادي والتكنولوجي ولكنها قد تكون كارثية تماما في سياق دولة السودان أو الصومال علي سبيل المثال.

علي من يري إيجابية في سقوط الدولة السودانية علي يد الجنجويد وسدنتهم في الداخل والخارج ان يصحو ويشتم القهوة المحترقة اذ ان سقوط الدولة لن ينقلنا الي فضاء حريات متسع، بل سيسلمنا الي عسف الميلشيات وتنمر دول الجوار والاستعمار والعصابات والبلطجية.

بمعني اخر, فان سقوط الدولة السودانية لن ينقلنا الي فردوس ما بعد الرأسمالية كمرحلة متقدمة من مراحل تطور الإنسانية، ولكنه سيزج بنا في جحيم ما قبل الرأسمالية. وبدلاً من أن اليتوبيا المضمرة في تصورات يسار ذاهل عن السياق سيعود مجتمع ما بعد سقوط الدولة إلى همجية بدائية عديمة الحياء يحكمها السيف الماجور للخارج والعصابات الداخل مهما حسن اسمها.

باختصار فان سقوط الدولة السودانية وجيشها (مهما كانت عيوبهما المعروفة) لن يقوم مقامها فردوس لجان المقاومة النبيلة بل ستستلم البلد ميليشيات الجنجويد والعصابات.

ورد في الحكمة ان علي الانسان ان يحترز بخصوص ما يتمني لان هناك خطر ان تتحقق امانيه فيدخل في حيص بيص وهو الشدة والاختلاط.

عيوب الدولة السودانية وجيشها لا يعني الترحيب بأي بديل حتى لو كان جنجويد في زواج عرفي مع كمبرادور. فمهما كرهنا الملاريا فان السرطان ليس بديلا مناسبا وتنبيهنا الي هذا الفرق الجوهري لا يجعلنا عازفين علي مزمار يطرب الناموس كما لا يجعلنا مغفل نافع في خدمة انثي الانوفيليس إلا في اعراف متعاطفة مع السرطان.

عموما نحن قلبا وقالبا مع فلول اليسار العريض غير المنظم وبما اننا قبيلة ضعيفة لا تري بالعين المجردة يقع علينا واجب التداول في طبيعة الحرب الراهنة والموقف منها بأريحية لا تفسد للحب قضية حتى لا ننحر بعضنا البعض فيفني هذا الجنس السياسي المهدد بالانقراض. ولا ننسي ان الخلاف داخل بيت اليسار العريض خلاف فكري امين مبني علي اختلاف تقدير بشري صادق ولا وجود فيه لعميل لخارج أو ميليشيا أو فلول ولا يوجد فيه كومبرادور ولا باحث عن مصالح وامجاد شخصية.

معتصم اقرع

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

تشقق اليسار الإسرائيلي.. أمن طريق إلى حل الدولتين؟!

يؤكد السياسي الفرنسي سامي كوهين صاحب كتاب «إسرائيل ديمقراطية هشة - 2021م» أن تعاظم نفوذ اليمين في السياسة في إسرائيل بات حقيقة اجتماعية وأن ما يؤكد ذلك هو تراجع الأصوات الداعية لإيجاد حل سلمي للصراع في الشرق الأوسط والتعايش مع الفلسطينيين في ظل نظام الدولتين، وهذا يشير إلى تحولات كبرى في العقل السياسي الإسرائيلي، ذلك أن اليسار عُرِفَ وبسبب من ليبراليته بتبني نظرة مغايرة لطبيعة الصراع العربي/ الإسرائيلي، وكان آخر اختبار عملي لنشاط هذا اليسار هو أحداث السابع من أكتوبر 2023م حين صرَّح رئيس حزب الديمقراطيين الإسرائيلي، اللواء يائير غولان للفاينشنيال تايمز في التاسع من سبتمبر العام ذاته بأن هجوم السابع من أكتوبر «عزز قناعاته بضرورة إيجاد حل دائم للصراع على أساس حل الدولتين». والحقيقة أن المجتمع الإسرائيلي يشهد تحولاً كبيرًا ومؤشر ذلك نتائج الانتخابات إذ لوحظ انتقال كبير للأصوات التي كانت محسوبة على اليسار للتصويت إلى اليمين، وهذا يؤكد أن قِيم اليمين الإسرائيلي باتت تعصف بالمجال السياسي وتمارس تأثيرًا كبيرًا في عقلية الناخب، وهذه القيم هي تلك التي تقدم إجابات نهائية حول مسائل مثل: «الأمن والتفاوض» مع الفلسطينيين بل مع العرب عمومًا، وبالعودة إلى حيثيات هذا التحول ومقدماته فإن بوادر هذا الانقسام بين يمين ويسار تعود إلى العام 1967م كما كتب الفيلسوف الإيطالي نوبرتو بوبيو في دراسة له بعنوان «اليمين اليسار: التمييز السياسي، 1996م» إذ يقول بأن الفهم السائد في إسرائيل على الأقل منذ عام 1967م جعل من مسألة الصراع العامل الرئيسي للتمييز بين اليسار واليمين فيها، وهذا ما سينتهي إلى تمييز المجال السياسي بين كتلتين «الحمائم» وهم المؤيدون للتسوية مع الفلسطينيين، و«الصقور» وهؤلاء هم المعارضون لهذا الخيار، وفي دراسة أخرى نشرها معهد الديمقراطية الإسرائيلي في العام 2008م معنونة بـ«الموقف من قضية الأمن» نقرأ بأن هذا الانقسام الذي تولد من حرب العام 1967م هو الذي صنع مجالين للرؤية السياسية في إسرائيل، المجال الأول، يتصل بالمُنَظِريِّن والفاعلين في مسألة أولوية «أمن إسرائيل» والثاني، تحلق حوله «دُعاة السلام» حتى انتهى الأمر بفضل تتابع الأحداث إلى أن أصبحت قضية الأمن جوهر سياسات اليمين، والدعوة إلى السلام توزعت بين تياري اليسار والوسط.

ويربط كوهين هذا الانتقال السريع في الفضاء الداخلي لإسرائيل بسلسلة من الأحداث شهدها العام 2000م، ومنها إجلاء القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان في يوليو، وهو الأمر الذي اعتبره اليمين إهانة كبرى، ثم فشل المفاوضات بين إيهود باراك وياسر عرفات في كامب ديفيد صيف العام ذاته، وتلا ذلك اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر، وأيضًا تزايد ما وصفت بالهجمات الانتحارية التي نُفِذْت في قلب المدن الإسرائيلية وخلَّفت ضحايا في أوساط المدنيين، كل هذه الأحداث أثَّرت تأثيرًا بالغًا في المجتمع الإسرائيلي، وشمل حتى الذين أيدوا اتفاقية أوسلو 1993م، بأن تغيرت قناعاتهم أنه لا سبيل لبقائهم آمنين إلا عبر طريق واحد والذي ليس من بينه التفاوض مع الفلسطينيين، وهنا راج شعار بين الأوساط السياسية بأنه «لم يعد هناك شريك فلسطيني» وأن النهج الوحيد للبقاء هو الاستخدام المفرط للقوة، وهذا ما عزز حظوظ أحد أكبر زعماء اليمين وأكثرهم عنفًا، إرييل شارون، للحد الذي كانت تصفه صحافة اليمين بأنه الوحيد القادر على ضمان أمن الإسرائيليين، وأن ما من أكذوبة أكبر من تلك التي ظل يرددها اليسار وهي دعوته إلى حتمية الحوار للوصول إلى سلام دائم يُفْضي إلى حل الدولتين، فالحل فقط في العنف، والمزيد منه.

وكوهين يتتبع آثار تراجع اليسار الإسرائيلي ويرى أن مسألة التحول من اليسار إلى اليمين في المجتمع الإسرائيلي تخفي أمرًا أكثر تعقيدًا مما يبدو، وأنه لكي نفهم طبيعة هذا التحول ونضعه في إطاره الصحيح فإنه ينبغي علينا أولاً فهم أنه ليس بالضرورة أن يكون السبب وراء انتقال الأصوات من الأحزاب اليسارية (حزب العمل أو حزب ميرتس) إلى الأحزاب اليمينية (مثل الليكود)، يعود إلى رؤية كل طرف لمسألة السلام، أو البرامج التي يقدمها كل حزب والتي من بينها بطبيعة الحال مسائل كـ«الأمن والتفاوض» وأننا بين موقفين واحد «معتدل» والآخر «متطرف» فللأمر صلة كذلك بموقف كل حزب من قضايا أخرى لا تقل أهمية عن قضية الصراع وعلى رأسها الاختلافات حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وكيف أن هذه القضايا أحدثت تحولاً هي الأخرى في الفضاء العام وهذا ما سمح بتزايد نشاط تيار الوسط إذ يقف في المنتصف بين دُعاة الحل التفاوضي والمتطرفين من المتدينين أنصار الاستيطان والمعارضين لأي تسوية بين الطرفين، وهذا الوسط أو ما يعرف بـ«معسكر السلام» يضم مجموعة واسعة من السياسيين المعروفين بخطهم اليساري أمثال: «لوفا إلياف، ويوسي ساريد، وشولاميت ألوني وغيرهم» ومن المثقفين الروائي عاموس عوز وهو أحد أكبر دعاة حل الدولتين للحد الذي وصل أن يُتهم بالخيانة من قِبل تيار المتشددين، لكن ونظرًا للأحداث المتتالية والتي عُدت مهددًا أمنيًّا لإسرائيل فإن المسافة لم تعد بعيدة بين أنصار «حزب العمال» مثلاً وأنصار اليمين المتشدد والسبب هو قضية «الأمن»، ولعلنا بالعودة إلى العام 1992م نجد مصداق هذا التحول وهو ما العام الذي تؤرخ به العودة الكبرى لليسار إلى السلطة حيث فاز بنسبة 49% من الأصوات، لكنه في العام 2009م لم يحصل إلا على 29%، وفي الفترة ذاتها انتقل اليمين من 49% إلى 52%، بل إن آخر انتخابات أجريت في 2022م أفضت إلى فوز أقصى اليمين بزعامة نتنياهو حيث نال معسكر أقصى اليمين 64 مقعدا من مجموع مقاعد الكنيست البالغ عددها 120 مقعدا مقابل 51 مقعدا لمعسكر التغيير بزعامة رئيس الوزراء الحالي يائير لبيد (وسط).

إنه لمن الواضح أن سبب الفشل في ملف التفاوض بين العرب وإسرائيل، وكذلك تغليب منطق القوة في التعاطي مع القضية، يعود إلى تراجع نفوذ معسكر السلام في إسرائيل، وفي الطرف المقابل فإن أزمة بنيوية في العقل السياسي العربي/ الفلسطيني ذلك الذي يصر على «تديين» القضية وعدم عرضها مجردة مثلها مثل أي صراع عَرِفه التاريخ البشري، ومن الواضح أن ملامح انهيار هذا اليسار باتت بيَّنة وأنه أصبح محاصرا داخل المجتمع الإسرائيلي، وفي ظل هذا الوضع فإنه لن يعود بالإمكان توفير حل تفاوضي إن لم تُفهم القضية كونها قضية إنسانية قبل كل شيء وليست قضية دينية فقط، والدعوة هنا إلى العقل العربي أن يعيد تكييف موقفه، هذا إن أردنا أن نعفي الأجيال القادمة من دفع كلفة الدوغما السياسية ومنحها فرصة العيش وفق رؤية أكثر واقعية، رؤية تؤمن بحق إنسان فلسطين في الحياة.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

مقالات مشابهة

  • بدون إصابات .. سقوط سقف غرفة داخل عقار بمنطقة الساحل بالقاهرة
  • البرهان يعين سفراء جدد ويطالب بحل مشاكل الجاليات السودانية
  • “الحريات النيابية” تكشف آخر التطورات على مذكرة العفو العام
  • كاتس: الحكومة ستسمح للعمال الدروز من سوريا بالعمل في الجولان المحتل
  • محاكمة مزارع قتل عامل بسبب خلافات عائلية في إمبابة اليوم
  • تحدّيات المرحلة المقبلة أمام الحكومة
  • تشقق اليسار الإسرائيلي.. أمن طريق إلى حل الدولتين؟!
  • اختل توازنه.. سقوط طفل داخل الملاهي في منشأة القناطر
  • تجديد حبس عاطل لقيامه بتأجير مدخل عقار للباعة
  • مقتل شاب على يد زوج شقيقته بسبب خلافات عائلية بالفيوم