الخليج الجديد:
2025-03-16@09:55:06 GMT

التمييز الإيجابي أو الحقوق المدنية؟

تاريخ النشر: 13th, September 2023 GMT

التمييز الإيجابي أو الحقوق المدنية؟

التمييز الإيجابي أو الحقوق المدنية؟

المفهوم البيولوجي للإثنيات ليس سوى وهم زائف يغطي على نزعة الهيمنة الثقافية التي تتعين مواجهتها من منظور تعدد وتنوع الثقافات.

انتقل المنظور المعرفي إلى استراتيجية تفكيك خطاب الهيمنة وتعرية ضروب التمييز على أساس عرقي أو اثني في المعارف والممارسات.

هل النموذج الليبرالي قادر من داخله على تعويض ما تطمح إليه إجراءات التمييز الإيجابي من حقوق وامتيازات لصالح مجموعات ظلمت تاريخيا وغبنت اجتماعيا؟

يعتبر التصورَ العرقي البيولوجي للنوع الإنساني داخلاً في استراتيجيات الهيمنة والإلغاء، مع العلم بأن هذا النهج تشكل أساساً في سياق الإثنوغرافيا الاستعمارية القديمة.

لا يتعلق الأمر بالتمييز الإيجابي بل بمفهوم العدالة التعويضية والإصلاحية ضمن منظور ليبرالي يعيد بناءَ الشرعية والمساواة والتكافؤ دون خروج عن محددات وثوابت الفكرة الليبرالية.

* * *

ألغت مؤخراً المحكمة العليا الأميركية سياسةَ التمييز الإيجابي في الجامعات التي أصبحت معتمدةً منذ مطلع التسعينيات بغية تشجيع وصول أبناء الأقليات (السوداء خصوصاً) إلى المؤسسات التعليمية العليا.

ومع أن الولايات المتحدة اعتمدت هذا المبدأ في إطار سياسات العدالة الانتقالية لتعويض ضحايا الاستعباد والإقصاء، فإن هذا المفهوم طَرح على الدوام إشكالياتٍ نظريةً معقدةً، تتركز في جانبين: الخلفيات العرقية لهذه المقاربة التمييزية، والتعارض الظاهر مع مبدأ المواطنة المتساوية.

وبخصوص الجانب الأول، يتعين التنبيه إلى أن الدراسات الإنسانية أبطلت كلياً التصورَ العرقي البيولوجي للنوع الإنساني، مبيِّنةً تداخل وامتزاج الأعراق والإثنيات إلى حد اعتبار هذا الشكل من التصنيفات داخلاً في استراتيجيات الهيمنة والإلغاء، مع العلم بأن هذا النهج تشكل أساساً في سياق الإثنوغرافيا الاستعمارية القديمة.

وكان كتاب عالم الانتربولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس «العرق والتاريخ» الذي أصدرته منظمة اليونسكو في عام 1952 محطةً أساسيةً في هذا التفكير النقدي حول المسألة العرقية، موضحاً أن المفهوم البيولوجي للإثنيات ليس سوى وهم زائف يغطي على نزعة الهيمنة الثقافية التي تتعين مواجهتها من منظور تعدد وتنوع الثقافات.

وهكذا تحولت الدراسات الإنسانية إلى المقاربة البنائية التاريخية في النظر إلى الهويات العرقية من حيث هي حصيلة مسار اجتماعي ووعي جمعي وليست ظواهر طبيعية أو معطيات تلقائية.

بيد أن هذه القطيعة الابستمولوجية مع التصور العرقي البيولوجي لم تؤد إلى إلغاء السياسات العرقية، سواء تعلق الأمر بالخطاب الأيديولوجي أو المباحث الفلسفية والاجتماعية، وإن كان المنظور انتقل إلى استراتيجية تفكيك خطاب الهيمنة وتعرية ضروب التمييز على أساس عرقي أو اثني في المعارف والممارسات.

ذلك هو التوجه الذي نلمسه اليوم في أدبيات «اليقظة» (woke) المنتشرة في الساحة الأميركية، في دفاعها عن صورة ومصالح «الإنسان الأسود» في مواجهة إجراءات التمييز والإقصاء.

إلا أن المأزق الكبير في هذه المقاربة يكمن في أن هذه الاستراتيجية، وإن كانت تنطلق من هدف العدالة التكافؤية، فإنها في الوقت نفسه تفضي إلى تسييج الفوارق والحدود بين المجموعات والقوميات، من خلال إغلاق الأفراد في هويات قبلية جوهرية لا تتغير ولا تتبدل، بما يعني عملياً رفض الحق الليبرالي في اختيار هوية إرادية مفتوحة وحرة.

وبالرجوع إلى ثنائية الهوية لدى الفيلسوف المعروف بول ريكور، يظهر أن هوية التماثل الجامد اللامتغير تتعلق بالأشياء الطبيعية وليس بالإنسان الذي ترتكز هويته على الوعي بذاته في سياق التفاعل مع الآخر، بما يعني أن الهوية تكون ضرورة «سردية»، تحمل بصمات التداخل والتواصل الاجتماعي وتقتضي الاختيار الحر.

وفي المجتمعات الليبرالية لا تكون الهوية إلا تعددية من حيث طبيعتها الذاتية نفسها، فهي «هوية بأربعين وجه» حسب عبارة الفيلسوف الإيراني الراحل داريوش شايغان، كنبتة الريزوم تتمدد أفقياً دون مركز أو قلب في اتجاهات متحولة مشتتة.

أما مبدأ المواطنة المتساوية فهو ما يميز المجتمعات الليبرالية الحديثة في تصورها للجسم السياسي من حيث هو دائرة التفاعل والتعاون بين أفراد أحرار يتماثلون في الحقوق والفرص دون تمييز على أساس طبيعي أو ثقافي.

والأمة من هذا المنظور، ليست وحدة عضوية بل حالة قانونية مدنية تتجسد في مؤسسات عمومية والتزامات مشتركة، بما تعبر عنه صورة «العقد الاجتماعي» الذي هو استعارة رمزية وليس حدثاً تاريخياً حقيقياً.

من هذا المنطلق، لا معنى لسياسات التمييز الإيجابي باعتبار أن النظام الاجتماعي قائم على المساواة الكاملة والفرص المتكافئة، وكل خلل في العدالة التوزيعية يُحسَم في الدائرة القضائية.

إلا أن النظم الليبرالية وجدت نفسَها في العقود الأخيرة مضطرةً لبلورة نوعين من المؤسسات العمومية لمعالجة اختلالات المقاربة الاستحقاقية المجردة: مؤسسات الخدمة العمومية غير المتحيزة المستقلة عن المصالح الإدارية للدولة، ومؤسسات التضامن الاجتماعي التي تمارس نمطاً من التمييز الإيجابي لصالح الفئات الهشة والمغبونة.

إلا أن الأمر لا يتعلق في الحقيقة بسياسات التمييز الإيجابي على طريقة أميركا (بخلفياتها العرقية) وإنما بمفهوم موسع للعدالة في أبعادها التعويضية والإصلاحية ضمن منظور ليبرالي داخلي يعيد بناءَ مفاهيم الشرعية والمساواة والتكافؤ دون الخروج عن محددات وثوابت الفكرة الليبرالية.

ما يتضح من هذا التوجه هو أن النموذج الليبرالي المدني قادر من داخله على تعويض ما تطمح إليه إجراءات التمييز الإيجابي من حقوق وامتيازات لصالح المجموعات التي عانت من الظلم التاريخي ومن الغبن الاجتماعي.

*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني

المصدر | الاتحاد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: التمييز العرق الإثنية أميركا الليبرالية المحكمة العليا العدالة الانتقالية الحقوق المدنية المواطنة المتساوية من منظور

إقرأ أيضاً:

عدالة الإمارات

إسدال محكمة استئناف أبوظبي الاتحادية دائرة أمن الدولة الستار على قضية العصابة المنظمة المعروفة إعلامياً بـ "عصابة بهلول"، خلال 7 أشهر من ضبط أفرادها، حيث قضى الحكم بإدانة أعضاء ومعاقبتهم بعقوبات تراوحت بين السجن المؤبد والسجن لمدة خمس عشرة سنة، ولمدة خمس سنوات، وبراءة بعض المتهمين، يشير إلى العدالة الناجزة في دولة الإمارات، والتي تضمن الحقوق بكل عدل.
النظام القضائي في الإمارات هو أحد الأعمدة الأساسية، كونه يهدف إلى تحقيق العدالة، وحماية الحقوق، وضمان سيادة القانون. يلعب القضاء دوراً حيوياً في حل النزاعات، ومحاسبة المجرمين، مما يضمن استقرار المجتمع وحماية أفراده، وهو ما يميز الإمارات، باعتبارها دولة الأمن والأمان، لكل من يطأ أرضها للعيش والعمل، حيث يُعتبر النظام القضائي في الدولة من الأنظمة المتطورة، ويتميز باستقلاليته وفعاليته في تحقيق العدالة، وهو ركيزة أساسية في دعم الاستقرار والتنمية في الدولة.
مع تكشف جرائم «عصابة بهلول» في أغسطس 2024، والتي تضم أكثر من 100 متهم، أمر النائب العام المستشار الدكتور حمد سيف الشامسي بإحالة أعضائها مباشرة إلى المحاكمة، لارتكابهم جرائم من شأنها المساس بأمن الدولة والنظام العام والسلام المجتمعي، والذي تجسد بتكوين وإدارة والانضمام إلى عصابة إجرامية تهدف إلى ممارسة أعمال غير مشروعة وجمع أموال محرمة واقتسام حصيلتها فيما بينهم، من خلال فرض السطوة وبسط النفوذ في المناطق التي مارسوا فيها جرائمهم.
في الوقت التي تم فيه ضبط هذه العصابة الإجرامية، أكد النائب العام أن النيابة لن تتهاون في تطبيق القانون بكل حزم على من يرتكب أفعالاً تخل بأمن الدولة أو تروع المواطنين والمقيمين الآمنين في الدولة، مشدداً على أن سلطات إنفاذ القانون تعمل بيقظة وتأهب للحفاظ على أمن الدولة وسلامة المقيمين فيها، ما جاء على لسان النائب العام، يوضح قوة العدالة في الإمارات، وأنه لا تهاون مع الحقوق.
النطق بالحكم في القضية يُبرز التزام دولة الإمارات الحفاظ على أمن المجتمع الذي يتشارك فيه أبناؤها العيش بكل سلام ومودة وتسامح وتعايش مع مواطني أكثر من 200 جنسية يقطنون في إمارات الدولة، ويمارسون حياتهم مع أسرهم في بلد الأمن والأمان.
لذا فإن هذا الحكم الذي صدر عن الجهات القضائية المختصة في الدولة يبعث رسالة لهؤلاء المجرمين، أن التصدي سيكون بكل حزم وشدة، لضمان بيئة آمنة ومستقرة للجميع.

مقالات مشابهة

  • المحامي الصبيحي ..  قرار التمييز سيفتح شهية مالكي أراض لمقاضاة الحكومة
  • في اليوم الدولي لمكافحة الإسلاموفوبيا: الأمم المتحدة تحذر من تصاعد التمييز ضد المسلمين عالمياً
  • حماس: الرد الإيجابي على الوسطاء جزء من اتفاق وقف إطلاق النار
  • التمييز تؤيد إلزام الحكومة بـ 258 ألف دينار أجرة أرض في مخيم البقعة
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (12 – 20)
  • دراسة تكشف عن تأثير صيام رمضان الإيجابي على الصحة النفسية
  • عدالة الإمارات
  • اليمين الإسرائيلي من الهامش إلى الهيمنة
  • حياد لبنان الإيجابي عن حروب الآخرين يحتاج إلى توحيد سياسته الخارجية
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (11 – 20)